التعريف
إنَّ الوحدة والتنوُّع بين العهدين القديم والجديد هي دعوة لاكتشاف المزيد من الأعماق لكلمة الله.
المُوجز
الكتاب المقدَّس كتابٌ واحدٌ مؤلَّفٌ من عهدين. يتألَّف العهد القديم من تسعة وثلاثين سفرًا، وهو وعد الله المُعلَن لشعب عهده إسرائيل. أمَّا العهد الجديد، والذي يتألَّف من سبعة وعشرين سفرًا، فهو يكمِّل كلَّ وعود العهد القديم في المسيح، لكلٍّ من اليهود والأمم على حدٍّ سواء. يشرح العهد الجديد شخص المسيح وعمله بإعلان الكيفيَّة التي يكمل بها العهد القديم. يشكِّل هذان العهدان معًا وحدةً أدبيَّةً يأتي الإعلان فيها تدريجيًّا. وعلى القرَّاء المعاصرين الانتباه إلى الآفاق التي تتجلَّى في النصوص والعهود والشرائع لفهم هذا الكتاب الواحد.
التقى المسيح بعد قيامته باثنين من تلاميذه في الطريق إلى عمواس، وبينما كان يسير معهم، وبَّخ عدم إيمانهم، وعلَّمهم كيفيَّة قراءة الكتاب المقدَّس. وقال تحديدًا: “أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟ ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ” (لوقا 24: 26-27).
يصوِّر لوقا في هاتين الآيتين الطريقة التي فسَّر بها الربُّ يسوع العهد القديم، والذي لم يقرأه ككتابٍ خاصٍّ بشعب إسرائيل وحده؛ بل قرأه كشهادة موحَّدة تشير إليه. وبعد عودته إلى العلِّيَّة قال مرَّةً أخرى: “أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَالْمَزَامِيرِ” (لوقا 24: 44). في هذه المرَّة، يحدِّد الربُّ يسوع حدود العهد القديم، معلنًا أنَّ كلَّ قسمٍ من الكتاب المقدَّس العبريِّ (الناموس، والأنبياء، والكتب) يشير إليه.
ستتبع هذه المقالة نهج الربِّ يسوع نفسه وترسم ثلاث طرائق بها يرتبط العهدان بعضهما ببعضٍ. أوَّلاً، سوف نلاحظ كيف أنَّ الكتاب المقدَّس بأكمله هو وحدة أدبيَّة واحدة، يُعلَن محتواه تدريجيًّا في تاريخ الفداء. ثانيًا، سنتأمَّل في كيفيَّة فهم الرسل لتنوُّع العهد القديم في شخص يسوع المسيح. ثالثًا، سنرى ثلاث ممارسات استخدمها الرسل لربط العهد القديم بالمسيح وكنيسته. وسنختتم المقالة في النهاية ببعض الأفكار عن الكيفيَّة التي يجب أن يقرأ بها المسيحيُّون العهد القديم.[1]
وحدة الكتاب المقدَّس – إعلانٌ تدريجيٌّ
تقول رسالة تيموثاوس الثانية 3: 16: “كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ”. وبالمثل، تقول رسالة بطرس الثانية 1: 21: “لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ”. هاتان الآيتان معًا ترسِّخان عقيدة وحي الكتاب المقدَّس، وكيف أنَّه ليس نتاج بشرٍ، بل الله. وهكذا فإنَّ وحدة الكتاب المقدَّس تأتي نتيجة المؤلِّف الإلهي الواحد. هذا المصدر الإلهيُّ للتأليف يدعم العديد من الارتباطات في مادَّته المذكورة أدناه، حتَّى إنَّه يمنع أيَّ نهجٍ ضدَّ الكتاب المقدَّس يتيح للبشر الحكم على النصِّ الكتابيِّ.
بالإضافة إلى المصدر الإلهيِّ لتأليف الكتاب المقدَّس، نجد رسالة واحدة في الكتاب المقدَّس، أو بالأحرى، شخصًا واحدًا. وكما قال يسوع بفمه فإنَّ الكتب “تَشْهَدُ لِي” (يوحنَّا 5: 39). ومع أنَّ الله تكلَّم بطرقٍ كثيرة ومتنوِّعة عن طريق الأنبياء، إلاَّ أنَّ الهدف الواحد كان دائمًا ابن الله (عبرانيِّين 1: 1). وهكذا فإنَّ كلا العهدين يشيران إلى يسوع المسيح.
يمكننا باتِّباع نهجٍ استدلاليٍّ أن نجد أنَّ العهد الجديد يتمِّم وعود العهد القديم ويكمل كلَّ ما بدأه الله في الناموس والأنبياء (يوحنَّا 1: 45). هذه العبارة الضخمة تجد دعمًا من يسوع الذي قال عن خدمته: “لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ” (متَّى 5: 17). وبالمثل، يكتب بولس: “لأَنْ مَهْمَا كَانَتْ مَوَاعِيدُ اللهِ فَهُوَ فِيهِ «النَّعَمْ» وَفِيهِ «الآمِينُ»، لِمَجْدِ اللهِ، بِوَاسِطَتِنَا” (2 كورنثوس 1: 20). ويقول بولس مرَّةً أخرى إنَّ خطَّة الله كانت ولا تزال أن “يَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ” (أفسس 1: 10).
إنَّنا حقًّا نجد وحدةً واضحةً بين التأليف والقصد في كلمة الله. ومع ذلك، فإنَّ هذه الوحدة منظَّمة على أفضل تنظيم في صورة رواية كتابيَّة.[2] إنَّ وحدة الكتاب المقدَّس مثل دراما مسرحيَّة تحتوي على عدَّة فصول، وتتكشَّف بمرور الوقت، فتشكِّل وحدةً حيَّةً وحيويَّةً.[3] ما يعلنه الله في العهد القديم يتوافق مع ما يعلنه في العهد الجديد، ولكن بلا شكٍّ العهد الجديد مُعلَن بدرجةٍ أكبر من الوضوح والصراحة والكمال. هذه الوحدة العضويَّة ضروريَّة لرؤية وحدة الكتاب المقدَّس وتقدير مدى اختلاف العهد الجديد عن العهد القديم. كثيرًا ما يُذكر هذا الاختلاف من حيث السرِّ والتتميم (انظر على سبيل المثال رومية 16: 25؛ 1 كورنثوس 2: 7؛ أفسس 1: 9؛ 3: 3، 4، 9؛ 5: 32)، وكما يعلِّمنا الرسل فإنَّ الوصايا ترتبط بعضها ببعضٍ في شخص يسوع المسيح وعمله.
تنوُّع الكتاب المقدَّس – وحدة في المسيح
عندما حاول بولس شرح علاقة الناموس بالإنجيل، طرح السؤال: “مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ؟” في رومية 4: 3 وغلاطيَّة 4: 30. وهذا هو سؤالنا أيضًا عندما نحاول الربط بين العهدين: ماذا يخبرنا الكتاب المقدَّس عن نفسه؟ وبالتحديد، ماذا يخبرنا العهد الجديد عن العهد القديم؟
نجد من دراسة العهد الجديد إجابات متعدِّدة عن هذا السؤال، ولكنَّ شهادة الرسل هي أنَّ الناموس والأنبياء يجدون ضالَّتهم المنشودة في المسيح (لوقا 24: 26-27، 44-49؛ يوحنَّا 1: 45؛ 5: 39). ومن المسلَّم به أنَّ هذه العبارات لا تسلم من الجدال حولها. يحصر البعض كلمات الربِّ يسوع في مقاطع العهد القديم التي تتحدَّث عنه مباشرةً (على سبيل المثال، تثنية 18: 15-18؛ مزمور 110؛ ميخا 5: 2). هذا النهج يصل إلى نتيجة مفادها أنَّ المقاطع الأخرى لا تتحدَّث عن المسيح (مباشرةً). كثيرون ممَّن يأخذون مقصد الأنبياء في كتاباتهم على محمل الجدِّ لا يريدون إقحام الربِّ يسوع في نصوص لا تتعلَّق به مباشرةً.
من جهةٍ أخرى، يفسِّر آخرون كلمات الربِّ يسوع على أنَّ شهادة العهد القديم تشير إليه، وذلك عندما تُفهم فهمًا صحيحًا في سياقها التشريعيِّ. يعطي هذا النهج الأخير تقديرًا للوحدة الأدبيَّة للكتاب المقدَّس والطريقة التي يدمج بها كلَّ وعدٍ مسيَّانيٍّ في إطارٍ قصصيٍّ. لا يمكن قراءة آيات مأخوذة بمعزل عن بعضها البعض من دون فهم قانون الكتاب المقدَّس الكامل، والعكس صحيح. وفي حين أنَّه ليست كلُّ آية (عندما تؤخذ بمعزل عن بقيَّة الآيات) تتحدَّث عن الربِّ يسوع، فإنَّ كلَّ فقرةٍ -عندما تُقرأ في سياقها التاريخيِّ والأدبيِّ- تجد غايتها في المسيح. وكما يقول جِم هامِلتُن: “إنَّ العهد القديم وثيقة مسيَّانيَّة، مكتوبة من منظور مسيَّانيٍّ، لدعم الرجاء المسيَّانيِّ”.[4] ويبدو أنَّ هذه هي أفضل طريقة لقراءة كلمات يسوع في مواضع مثل لوقا 24: 27 ويوحنَّا ٥: ٣٩.
ثمَّة مقاطع أخرى كثيرة تؤكِّد كلمات الربِّ يسوع عن العهد القديم. على سبيل المثال، يتحدَّث الربُّ يسوع عن الطريقة التي تكلَّم بها موسى وإبراهيم عنه. يقول الربُّ يسوع: “لأَنَّهُ هُوَ [موسى] كَتَبَ عَنِّي” (يوحنَّا 5: 46) و”إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ” (يوحنَّا 8: 56). وبالمثل يستشهد يوحنَّا نفسه بإشعياء قائلاً: “قَالَ إِشَعْيَاءُ هذَا حِينَ رَأَى مَجْدَهُ وَتَكَلَّمَ عَنْهُ” (12: 41). تقدِّم هذه النصوص معًا شهادةً واحدةً جوهرها أنَّ أنبياء إسرائيل كانوا يتطلَّعون إلى اليوم الذي سيأتي فيه المسيح ويحقِّق الخلاص لشعبه.
يلاحظ جُن سِلهَمر هذه النقطة عندما يقول إنَّ العهد القديم كُتِبَ “كتعبيرٍ عن الرجاء المسيَّانيِّ المترسِّخ في أذهان مجموعة صغيرة من الأنبياء الأمناء وأتباعهم”.[5] وبعبارة أخرى، لا تعتمد رسالة العهد القديم المسيَّانيَّة على قدرة شعب إسرائيل على فهم ما قاله الأنبياء. فالشعب في كثيرٍ من الأحيان رفض الأنبياء! بل إنَّ المعنى المسيَّانيَّ للعهد القديم يمكن إيجاده باقتفاء أثره، إذ يشرح الرسل المنقادون بالروح القدس كيف حقَّق المسيح كلَّ الشهادات النبويَّة.[6]
إنَّ صحَّة هذا الادِّعاء بأنَّ الأنبياء تكلَّموا عن المسيح، يدعمه بطرس عندما يقول إنَّ الأنبياء خدموا الأجيال القادمة بحديثهم عن آلام المسيح ومجده العتيد (1 بطرس 1: 10-12). ويقول بطرس مرَّة أخرى في أعمال الرسل 2: 31 إنَّ داود “سَبَقَ فَرَأَى وَتَكَلَّمَ عَنْ قِيَامَةِ الْمَسِيحِ”. ففي أعمال الرسل 2، يطبِّق بطرس المزمور 16 على قيامة المسيح وحجَّته أنَّ داود نبيٌّ عرف “أَنَّ اللهَ حَلَفَ لَهُ بِقَسَمٍ أَنَّهُ مِنْ ثَمَرَةِ صُلْبِهِ يُقِيمُ الْمَسِيحَ حَسَبَ الْجَسَدِ لِيَجْلِسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ” (أعمال الرسل 2: 30). ونتعلَّم من كلام بطرس كيف كان يقرأ العهد القديم. ومن دون أن يلغي بطرس السياق التاريخيَّ للمزامير، قرأ المزمور 16 على أنَّه يشير إلى المسيح.
بالطريقة نفسها يفهم بولس العهد القديم. على سبيل المثال، يقول عن وعد الله لإبراهيم: “وَلكِنْ لَمْ يُكْتَبْ [تكوين 15: 6] مِنْ أَجْلِهِ وَحْدَهُ أَنَّهُ حُسِبَ لَهُ، بَلْ مِنْ أَجْلِنَا نَحْنُ أَيْضًا” (رومية 4: 23-24). وتتحدَّث مرَّة أخرى رسالة كورنثوس الأولى 10 عن خطايا إسرائيل كتحذيرات لكنيسة العهد الجديد: “كُتِبَتْ لإِنْذَارِنَا نَحْنُ الَّذِينَ انْتَهَتْ إِلَيْنَا أَوَاخِرُ الدُّهُورِ” (١ كورنثوس 10: 11). تقول رسالة رومية 15: 4 أيضًا: “أنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ فَكُتِبَ كُتِبَ لأَجْلِ تَعْلِيمِنَا، حَتَّى بِالصَّبْرِ وَالتَّعْزِيَةِ بِمَا فِي الْكُتُبِ يَكُونُ لَنَا رَجَاءٌ”، وتصف رسالة تيموثاوس الثانية 3: 14 أسفار العهد القديم بأنَّها “الْكُتُبَ الْمُقَدَّسَةَ، الْقَادِرَةَ أَنْ تُحَكِّمَكَ لِلْخَلاَصِ، بِالإِيمَانِ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ”. عمومًا، يسوع المسيح هو هدف العهد القديم، وبدونه يبقى العهد القديم ناقصًا.
بل إنَّ بولس يقول إنَّ قراءة الناموس “قانونيًّا” تعني قراءة الناموس كوسيلة لإيجاد النعمة في الإنجيل (1 تيموثاوس 1: 8-11). ولصياغة هذا بعبارةٍ أوضح، فإنَّ قراءة الناموس بمعزلٍ عن المسيح هي قراءة خاطئة للناموس (راجع رومية 3: 20). وهذا يعني أنَّ العهد القديم له أهمِّيَّة دائمة من جهة التعليم والتوبيخ والتقويم والتأديب الذي في البرِّ (2 تيموثاوس 3: 16-17)، ولكن فقط عندما يقود إلى إعلان المسيح وعمله الكامل.
إنَّ وحدة إعلان الله، كما ذكرنا سابقًا، هي وحدة حيَّة، أي إنَّها تنمو مع مرور الوقت. وفي الوقت نفسه، فهي وحدة شخصيَّة –وحدة تحقِّق تماسكها في شخص يسوع المسيح وعمله. هذه هي الطريقة التي يرسم بها الإصحاح الأوَّل من الرسالة إلى العبرانيِّين العلاقة بين العهدين. كلَّم الأنبياء الآباء عن الابن، والآن جاء الابن وهو الكلمة الأفضل (1: 1-2). وبما أنَّ الكلمة صار جسدًا، فإنَّ الربَّ يسوع هو الذي يتمِّم جميع وعود الله على تنوُّعها. ولهذا السبب، يجب أن نتعلَّم كيف نقرأ العهدين معًا، إذ يكلِّمنا القديم عن الجديد، وينير الجديد القديم، وكلاهما يتماسكان معًا في المسيح.
ممارسات العهد الجديد
ثمَّة طرائق متعدِّدة يستخدمها العهد الجديد للإشارة إلى العهد القديم، لكنَّنا هنا سننظر في ثلاثة مسارات بارزة توحِّد الأسفار المقدَّسة: (١) الوعد والتتميم، (٢) العهود الكتابيَّة، (٣) الرمزيَّة.[7] وكما سنرى، ثمَّة تقدُّمٌ تدريجيٌّ في هذه المسارات، إذ تنتقل من الأبسط (الوعد والتتميم) إلى الأعقد (الرمز والمرموز إليه).
الوعد والتتميم
أوَّلاً، كلُّ ما وعد به الله في العهد القديم تحقَّق ويتحقَّق وسيتحقَّق في المسيح وكنيسته. وكما يقول بولس في 2 كورنثوس 1: 20: “لأَنْ مَهْمَا كَانَتْ مَوَاعِيدُ اللهِ فَهُوَ فِيهِ [المسيح] «النَّعَمْ»”. وبالمثل، يصف متَّى كيف “يتمِّم” يسوع نماذج العهد القديم ووعوده.[8] يعتمد الإنجيل نفسه في واقع الأمر على هذا البناء من الوعد والتتميم. على سبيل المثال، في أعمال الرسل 13: 32-33، يسجِّل لوقا العظة الأولى لبولس الذي يقول: “نَحْنُ نُبَشِّرُكُمْ بِالْمَوْعِدِ الَّذِي صَارَ لآبَائِنَا، إِنَّ اللهَ قَدْ أَكْمَلَ هذَا لَنَا نَحْنُ أَوْلاَدَهُمْ، إِذْ أَقَامَ يَسُوعَ”. نجد في هذه الكلمات أنَّ الإنجيل (“الخبر السارُّ”) يتحدَّد ويُعرَّف بنموذج الوعد والتتميم.
إنَّ بولس يأخذ الإنجيل على أنَّه رسالة لها محتوى محدَّد (انظر 1 كورنثوس 15: 1-8)، ويقول في غلاطيَّة 3: 8 إنَّ الله “سَبَقَ فَبَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ”. ومن ثمَّ فإنَّ البشارة ليست شيئًا يأتي في العهد الجديد على أنَّه أمرٌ جديدٌ. بل بالأحرى، سبق الله وبشَّر عن طريق الوعود التي وعد بها شعب إسرائيل بالإنجيل للأشخاص الذين فحصوا الوعود ليروا الابن المنتظر. وهذا يعني أنَّ الإنجيل يعود إلى البدء (تكوين 3: 15)، وتحمله عهود مختلفة تُطوِّر تدريجيًّا وعد الله الأوَّل (أي البشارة الأولى). وهكذا، عندما نجمع الكتاب المقدَّس معًا، يجب أن نعير اهتمامًا وثيقًا لبنيته الداخليَّة القائمة على الوعد والتتميم، لأنَّنا في هذا البناء الكتابيِّ نجد حجر الأساس لإنجيل الله (راجع رومية 1: 1-7).
العهود القديمة والجديدة
ثانيًا، الكتاب المقدَّس منظَّم حول سلسلة من العهود الموحى بها من الله.[9] وبملاحظة العهود المتعدِّدة في الكتاب المقدَّس، يحدِّد بيتر جينتري وستيفن ويلام العهود على أنَّها “العمود الفقريُّ” للكتاب المقدَّس.[10] كما يصف مايكل هورتون العهود بأنَّها “البنية المعماريَّة” للكتاب المقدَّس، والتي توفِّر “السياق الذي ندرك به وحدة الكتاب المقدَّس وسط تنوُّعه الرائع”.[11]
نجد في الكتاب المقدَّس ما بين خمسة إلى سبعة عهود إلهيَّة.[12] تأخذ هذه العهود في العهدين القديم والجديد القصَّة الكتابيَّة إلى الأمام وتقودنا إلى العهد الجديد. ويمكن أن نقول عمومًا إنَّ كتابي العهدين القديم والجديد يجمعان معًا العهد الذي قطعه الله قديمًا، والذي كان موسى وسيطًا له (انظر 2 كورنثوس 3: 14)، والعهد الجديد الذي بدأه المسيح (إرميا 31: 31-34؛ عبرانيِّين 8).[13] ومع ذلك، ثمَّة ثلاثة امتيازات ينبغي مراعاتها.
أوَّلاً، يظلُّ العهد الذي قطعه الله قديمًا ساريًا في الوقت الذي يبدأ فيه العهد الجديد. وهذا يعني أنَّه حتَّى وقت موت المسيح وقيامته، إلى جانب حلول الروح القدس في يوم الخمسين، تظلُّ الأناجيل سجلاًّ للأحداث التي تقع تحت مظلَّة العهد الذي قُطع قديمًا. وهذا يشمل حياة يسوع الأرضيَّة بأكملها ومعظم الأحداث التي تسجِّلها الأناجيل.
ثانيًا، يمكن إيجاد العهد الجديد في كتاب العهد القديم؛ إذ يرد ذكر “العهد الجديد” في إرميا 31: 31-34، لكنَّ الرجاء في عهدٍ جديدٍ يعود إلى موسى، الذي يتكلَّم في سفر التثنية عن اليوم الذي يختن فيه الله القلبَ (تثنية 30: 6). وبالمثل، فإنَّ النصوص الواردة في إشعياء 53-55، وحزقيال 36-37، ويوئيل 2، وزكريَّا 9-14، على سبيل المثال لا الحصر، تتحدَّث جميعها عن حقائق ستتمُّ في العهد الجديد. إذًا، كتاب العهد الجديد يصف بداءة العهد الجديد، لكنَّ محتوى هذا العهد موصوف في كتاب العهد القديم.
ثالثًا، العلاقة بين العهد الذي قُطع قديمًا والعهد الجديد هي علاقة رمزيَّة. وبعبارة أخرى، فإنَّ عهد المسيح الجديد هو الجوهر الذي تظهر كلُّ عهود العهد القديم كظلٍّ له (راجع كولوسِّي ٢: ١٧؛ عبرانيِّين ١٠: ١). لذلك، عندما نولي انتباهنا إلى بنية العهود في الكتاب المقدَّس، فإنَّها تعيننا على فهم كيفيَّة تنظيم الكتاب المقدَّس.
الرمز والمرموز إليه
ثالثًا، إنَّ الرموز الكتابيَّة هي طريقة أساسيَّة أعلن بها الله عن نفسه بمرور الوقت. إذا عرَّفنا الرمزيَّة على أنَّها “دراسة التطابقات النمطيَّة في الكتاب المقدَّس”، فالرموز هي أشخاص وأحداث وكيانات تاريخيَّة تنكشف تدريجيًّا في تاريخ العهد وتنتهي بالمسيح وكنيسته.[14] يسوع هو المرموز إليه –أي الشخص الذي يتمِّم النماذج السابقة التي وردت في العهد القديم.[15] ومن المهمِّ أن نرى الطريقة التي تسهم بها النماذج الكتابيَّة (“الرموز”) في إعلان الله التدريجيِّ في الكتاب المقدَّس. لذا، إليك ثلاثة مبادئ أساسيَّة للرمزيَّة والتي تساعدنا على رؤية كيف تسهم الرموز في العلاقة بين العهدين القديم والجديد.
أوَّلاً، الرمزيَّة فكرة كتابيَّة نجدها في كلا العهدين. تُستخدم الكلمة اليونانيَّة typos في العهد الجديد للحديث عن نموذج أو رمز أو مثال من العهد القديم. والفكرة الأساسيَّة هي أنَّ ثمَّة رموزًا تقدِّم نموذجًا سيتطابق معه لاحقًا مرموزٌ إليه أعظم منه ويحلُّ محلَّه. تُستخدَم الرموز للحديث عن آدم كرمزٍ للمسيح (رومية 5: 14)، والمسكن كرمزٍ للسماء (عبرانيِّين 8: 5)، وعبور نوح في الطوفان كصورة من صور المعموديَّة المسيحيَّة (1 بطرس 3: 20-21). يمكننا من هذه الاستخدامات أن نميِّز كيف مهَّد فهم كُتَّاب الكتاب المقدَّس للرموز التاريخيَّة الطريقَ للكيانات المرموز إليها التي ستأتي لاحقًا.[16]
ثانيًا، الرموز الكتابيَّة موحًى بها من الله كرموز نبويَّة تمهِّد الطريق للمسيح وكنيسته. يشير جي كيه بيل في كتابه ” Handbook on the New Testament Use of the Old Testament” إلى عدد الرموز التي يمكن التعرُّف عليها “باقتفاء أثرها”. فكلُّ رموز العهد القديم، الموحى بها من الله، وُجدت بهدف الإشارة إلى المسيح وكنيسته. بمعنى آخر، من الأفضل فهم الرموز على أنَّها سمة من سمات عمل الله التدبيريِّ في تاريخ الفداء.[17] أقام الله في إسرائيل رموزًا مختلفة لتمهيد الطريق لابنه. بمعنى أنَّ الرموز هي نظرة مستقبليَّة، وقد صمَّم الله رموزًا مختلفة للفداء حتَّى تكتمل في المسيح.
ثالثًا، تتبع الرموز طبيعة العهود الكتابيَّة. لا تشير رموز العهد القديم إلى المستقبل فحسب، بل إنَّها تصعد وتهبط أيضًا مع تاريخ العهد المُعلَن في الكتاب المقدَّس.[18] وبصياغة أكثر تحديدًا، فإنَّ أيَّ بنية رمزيَّة (على سبيل المثال، ملك أو ذبيحة أو هيكل) تتكوَّن من “رموز” متعدِّدة. وبصياغة منفيَّة يمكن أن نقول إنَّ الرمزيَّة لا تنشأ من مجرَّد علاقة سطحيَّة بين الرمز والمرموز إليه. بل إنَّ النموذج الكتابيَّ هو سلسلة متصاعدة من الأشخاص أو الأماكن أو الأحداث أو الكيانات، والتي تجد في النهاية اكتمالها في المسيح، الذي هو الجوهر، بينما الرموز هي الظلال (راجع كولوسِّي ٢: ١٧؛ عبرانيِّين ١٠: ١).
وهكذا فإنَّ البنيات النموذجيَّة تمتدُّ من الناموس، مارَّةً بالأنبياء، إلى يسوع المسيح، وهي تتوافق وتزداد تدريجيًّا مع تقدُّم تاريخ إسرائيل. وعن طريق تتبُّع رمز معيَّن في كلِّ الشريعة، نكتشف مدى وحدة الكتاب المقدَّس التي تتحقَّق في سلسلة من البنيات الرمزيَّة. من المؤكَّد أنَّ الرمزيَّة لا تُبطِل الطرائق التي يرتبط بها كلا العهدين، ولكنَّها طريقة مهمَّة لربط العهدين القديم والجديد معًا.[19]
ليفهم القارئ
في النهاية، هذه المقدِّمة لوحدة العهدين القديم والجديد وتنوُّعهما هي دعوة للمجيء إلى كلمة الله ورؤية المزيد منها. ومثلما قال فيلبُّس لنثنائيل: “وَجَدْنَا الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءُ يَسُوعَ ابْنَ يُوسُفَ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ”، ثمَّ دعاه عندما شكَّ نثنائيل قائلاً: “تَعَالَ وَانْظُرْ” الربَّ (يوحنَّا 1: 45-47)، تدعونا الدراسة المتأنِّية لكلا العهدين إلى المجيء ورؤية المزيد عن المسيح في الكتاب المقدَّس أيضًا. في الواقع، تُشَنُّ العديد من المعارك التفسيريَّة عن هذا السؤال بالذات: كيف نجمع الكتاب المقدَّس معًا؟ ومع ذلك، كما نتعلَّم من دعوة فيلبُّس لنثنائيل، فإنَّ الهدف من قراءة كلا العهدين ليس أكاديميًّا بحتًا، بل إنَّها دعوة لرؤية يسوع، الكلمة الذي صار جسدًا.
على الرغم من وجود اختلافات في الرأي بشأن كيفيَّة ارتباط العهدين بالضبط، فإنَّه توجد القليل من فروع المعرفة ذات الفائدة الأكبر من تعلُّم قراءة الكتاب المقدَّس بشروطه الخاصَّة حتَّى تقودنا كلمة الله إلى الربِّ يسوع. لأنَّ معرفة المسيح معرفة حقيقيَّة هي محور الكتاب المقدَّس، وعندما يكون المسيح هو حلقة الوصل الذي يجمع الكتاب المقدَّس معًا، فإنَّ الربَّ يسوع لا يسلِّط الضوء على كلِّ ما يحمله الكتاب المقدَّس فحسب، بل يجمع أيضًا شعبًا ربَّما يكون منفصلاً بعضه عن بعضٍ بطرق مختلفة للتفسير. مثل هذه القرارات التفسيريَّة مهمَّة، لكنَّ المسيح أهمُّ. فالمسيح هو الشخص الذي يجد فيه العهد القديم والعهد الجديد علاقتهما الكاملة.
[1] يمكن أن تركِّز مقالة أخرى عن العلاقة بين العهدين على أنظمة التفسير (على سبيل المثال، لاهوت العهد، اللاهوت التدبيري، لاهوت العهدي الجديد، لاهوت العهد التقدُّميِّ، وما إلى ذلك). ليس هذا هو الهدف من هذه المقالة. للحصول على آراء تعكس أنظمة التفسير اللاهوتيَّة الكتابيَّة، انظر مايكل هورتون، God of Promise: Introducing Covenant Theology (غراند رابيدز: بيكر، 2006)؛ دي. جيفري بينغهام وجلين آر. كريدر (محرِّران)، Dispensationalism and the History of Redemption: A Developing and Diverse Tradition (شيكاغو: مودي، 2015)؛ توم ويلز وفريد زاسبيل، New Covenant Theology (فريدريك، ماريلند: وسائل إعلام العهد الجديد، 2002)؛ بيتر جيه. جينتري وستيفن ويلوم، Kingdom through Covenant: A Biblical-Theological Understanding of the Covenants (ويتون، إلينوي: كروسواي، 2018).
[2] في ما يتعلَّق بالوحدة القصصيَّة في الكتاب المقدَّس، انظر كريج جي بارثولوميو، Introducing Biblical Hermeneutics: A Comprehensive Framework for Hearing God in Scripture (غراند رابيدز: بيكر أكاديمي، 2015)، 51-84.
[3] جيرهاردوس فوس، Biblical Theology (كارلايل، بنسلفانيا: راية الحقِّ، 1975)، 7.
[4] جيمس إم هاميلتون، ” The Skull Crushing Seed of the Woman: Inner-biblical Interpretation of Genesis 3:15″، SBJT 10.2 (صيف 2006): 30.
[5] جون سيلهامر: “The Messiah and the Hebrew Bible”، JETS 44 (2001): 23. استشهد به هاميلتون، ” The Skull Crushing Seed of the Woman”، 44.
[6] في ما يتعلَّق بالحاجة إلى القراءة واقتفاء الأثر، انظر غريغوري كيه بيل: Handbook on the New Testament Use of the Old Testament: Exegesis and Interpretation (غراند رابيدز: بيكر أكاديمي، 2012)، 13-27.
[7] لمزيد من الطرائق الأخرى لربط العهد، انظر سيدني غريدانوس، Preaching Christ from the Old Testament: A Contemporary Handbook (غراند رابيدز: إيردمانز، 1999)، 203-77، الذي يسرد ستَّ طرائق للانتقال من العهد القديم إلى المسيح.
[8] متَّى 1: 22؛ 2: 15، 17، 23؛ 3: 15؛ 4: 14؛ 5: 17؛ 8: 17؛ 12: 17؛ 13: 35؛ 21: 4؛ 26: 54، 56؛ 27: 9.
[9] في ما يتعلَّق بطبيعة العهد في الكتاب المقدَّس، انظر ميريديث جي كلاين، The Structure of Biblical Authority (يوجين، أوريغن: Wipf and Stock، 1989).
[10] بيتر جيه جينتري وستيفن جيه ويلام، God’s Kingdom through God’s Covenants (ويتون، إلينوي: كروسواي، 2015)، 17.
[11] يستشهد جينتري وويلام (المرجع نفسه) بهورتون، God of Promise، 13.
[12] إجماليُّ عدد العهود في الكتاب المقدَّس يشمل العهود مع (1) آدم، (2) نوح، (3) إبراهيم، (4) إسرائيل، (5) لاوي، (6) داود، (7) المسيح. ثمَّة جدل عن العهد مع آدم، والذي يحمل عنوانًا بديلاً وهو العهد مع الخليقة أو عهد الأعمال. من الواضح أنَّ عهد لاوي كتابيٌّ (ملاخي 2: 1-9)، ولكن كثيرًا ما يُهمل للأسف. من الناحية الفنِّيَّة، فإنَّ العهد مع نوح ليس “عهدًا فدائيًّا”. إنَّه يُعَدُّ بالحفاظ على عالم واقع دينونة الله، حتَّى تتمكَّن العهود الأخرى من الإتيان بالخلاص.
[13] من الناحية الفنِّيَّة، في الموضع الوحيد الذي يستخدم فيه الكتاب المقدَّس عبارة “العهد القديم” (2 كورنثوس 3: 14)، يتحدَّث بولس عن العهد السينائيِّ (راجع عبرانيِّين 8: 7، 13). وفي موضعٍ آخر يتحدَّث بولس عن العهود المتعدِّدة، أي “عهود الموعد” (أفسس 2: 12).
[14] جي كيه بيل، 14، يعطي هذا التعريف الشامل للرمزيَّة: “دراسة التوافقات التناظريَّة بين الحقائق المعلنة عن الأشخاص والأحداث والبنيات وأشياء أخرى ضمن الإطار التاريخيِّ لإعلان الله الخاصِّ، والذي، من وجهة نظر استرجاعيَّة، فهي ذات طبيعة نبويَّة ومتصاعدة في معناها”.
[15] بشأن مكانة العهد ومركزيَّة المسيح في الرمزيَّة، راجع كتابي ” What Designates a Valid Type? A Christotelic, Covenantal Proposal. STR 5.1 (صيف 2014): 3-26.
[16] للاطِّلاع على دراسة استقرائيَّة لكلمة typos، انظر ريتشارد إم ديفيدسون، Typology in Scripture: A Study of Hermeneutical TYPOS Structures (بيرين سبرينغز: مطبعة جامعة أندروز، 1981).
[17] لا يتوقَّف الجدال بشأن هذه العبارة، ولكن انظر برنت إي. باركر، ” The Israel-Christ-Church Relationship” في Progressive Covenantalism: Charting a Course between Dispensational and Covenantal Theologies. ستيفن جيه ويلام وبرنت باركر (ناشفيل: B&H Academic، 2016)، 47-52.
[18] ديفيد شروك، “From Beelines to Plotlines: Typology That Follows the Covenantal Topography of Scripture” SBJT 21.1 (ربيع 2017): 35-56.
[19] راجع. غرايم غولدزورثي، Gospel-Centered Hermeneutics (داونرز غروف، إلينوي: مطبعة إنترفارسيتي، 2006)، 251.