التعريف
يشير مفهوم الاختطاف إلى ذلك الحدث الأخروي المتعلق بأخذ المؤمنين الأموات والأحياء على حد سواء معًا في لحظة في طرفة عين للقاء يسوع في الهواء.
الموجز
الإيمان بالاختطاف هو معتقد يتبناه غالبية الإنجيليين على نطاق واسع. وأساس الاختطاف في المقام الأول هو 1تسالونيكي 4: 17 و1كورنثوس 15: 52، وهما المقطعان اللذان يشيران إلى رجاء المؤمنين في قيامة مستقبلية لأجسادهم. وهذه القيامة ستحدث في الأيام الأخيرة في وقت مجيء يسوع ثانية إلى الأرض، أو في وقت قريب من ذلك. والسؤال هو ما إذا كان الاختطاف حدثًا منفصلًا ومميَّزًا عن مجيء المسيح ثانية، أم إنه سيحدث بالتزامن مع مجيء المسيح ثانية إلى الأرض في نهاية فترة الضيقة. أولئك الذين يرون أن الاختطاف سيحدث قبل الضيقة، أو في منتصفها، أو قبل الغضب، يرون أن الاختطاف هو مجيء للمسيح منفصل أو سري، إلى الكنيسة، سيحدث قبل مجيئه الثاني الفعلي إلى الأرض بصورة علنيَّة. والذين يرون أن الاختطاف سيحدث بعد الضيقة يرون أن الاختطاف سيحدث بالتزامن مع مجيء المسيح ثانية في نهاية فترة الضيقة. سيتناول هذا المقال بعض الحجج المؤيدة لكون الاختطاف حدثًا منفصلًا، وكذلك بعض الحجج المؤيِّدة لكونه حدثًا متزامنًا مع مجيء يسوع ثانية.
يشير مفهوم “الاختطاف” إلى الحدث الأخروي الذي فيه “يُخطَف” (“يؤخَذ”) المؤمنون الأموات والأحياء على حد سواء (1تسالونيكي 4: 17) معًا “فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ” (1كورنثوس 15: 52)، للقاء يسوع في الهواء. يأتي مصطلح “اختطاف” [rapture] من استخدام ترجمة الفولجاتا اللاتينية لكلمة rapio ومعناها “يمسك بأحدهم” أو “ينتزع أحدهم بعيدًا”، وهو المعنى المكافئ لمعنى الكلمة اليونانية harpazõ التي استُخدِمت في 1تسالونيكي 4: 17 (“سَنُخْطَفُ”). وبالتالي، يتعلق الاختطاف بالرجاء في قيامة جميع المؤمنين الذين ماتوا، والتغيُّر المتزامن مع ذلك، للمؤمنين الذين سيكونون أحياء عند مجيء يسوع، إلى جسد ممجد. وفي حين أن قيامة المؤمنين هي عقيدة مثبَتة وراسخة منذ زمان طويل في الإيمان المسيحي، ومتأصلة بقوة في الكتاب المقدَّس، صار مصطلح الاختطاف تحديدًا شائعًا فقط في القرن التاسع عشر، لدى ظهور الفكر القبل ألفي، واللاهوت التدبيري.
وأشهر قضية في موضوع الاختطاف تتعلق بتوقيته. وفي هذا توجد أربعة آراء رئيسة:
- الاختطاف قبل الضيقة: يؤكد هذا الرأي أن الاختطاف سيحدث عندما يأتي يسوع بصورة سرية ليجمع الكنيسة، قبل فترة ضيقة عظيمة مدتها سبع سنين، تسبق مجيء المسيح ثانية إلى الأرض.
- الاختطاف في منتصف الضيقة: هذا الرأي شبيه بالرأي المتعلق بحدوث الاختطاف قبل الضيقة، عدا أنه يقول إن الاختطاف سيحدث بعد السنوات الثلاث والنصف الأولى، عندما يغتصب ضد المسيح السلطة.
- الاختطاف قبل الغضب: يقول هذا الرأي إن الاختطاف سيحدث في وقت قريب من نهاية فترة الضيقة، قبل انسكاب غضب الله من خلال دينونات الجامات (رؤيا 16)، وقبل مجيء المسيح ثانية.
- الاختطاف بعد الضيقة: يرى هذا الرأي أن الاختطاف سيحدث بالتزامن مع مجيء المسيح ثانية، في نهاية فترة الضيقة.
رغم وجود اختلافات جادة وحقيقية بين الآراء الثلاثة الأولى عن الاختطاف، تشترك هذه الآراء جميعها معًا في المنظور نفسه التي تتبناه، ألا وهو أن الاختطاف حدث منفصل عن حدث مجيء المسيح ثانية. وبهذا، سيتناول هذا المقال في المقام الأول مسألة ما إذا كان الاختطاف حدثًا منفصلًا ومميزًا عن مجيء المسيح ثانية، أم إنه سيحدث بالتزامن مع مجيء المسيح ثانية إلى الأرض في نهاية فترة الضيقة.
الرأي الأول: الاختطاف والمجيء الثاني للمسيح حدثان أخرويان منفصلان ومميَّزان
يتميز الرأي الأخروي القبل ألفي بتركيزه على الفهم الحرفي للنبوات الكتابيَّة، بالإضافة إلى إيمانه بوجود مستقبل لأمة إسرائيل، وبمجيء فترة مستقبليَّة من الضيقة تسبق مجيء المسيح ثانية إلى الأرض ليؤسس ملكوته الألفي، ثم تعقب ذلك دينونة أخيرة. يسعى الفكر الأخروي القبل ألفي إلى التوفيق بين كل النبوات الكتابيَّة، ودمجها معًا في مخطط واحد شامل، مبني في المقام الأول على سفر دانيال، وسفر حزقيال، وسفر الرؤيا. كذلك، كان الفكر القبل ألفي هو مصدر مفهوم الاختطاف، وكون مجيء المسيح ثانية سيحدث على مرحلتين، وعمل فصل صارم بين إسرائيل والكنيسة. وهذه الآراء جميعها محورية لتلك المدرسة الفكريَّة اللاهوتيَّة التي تسمى “التدبيريَّة“، والتي جاءت من حركة الإخوة، ومن كتابات جون نيلسون داربي (John Nelson Darby)، التي اشتهرت وصارت معروفة في أمريكا من خلال س. لاركين (C. Larkin)، ود. ل. مودي (D. L. Moody)، وسكوفيلد (Scoffield)، ول. س. شافر (L. S. Chafer). ومع أنه ليس جميع الذين يصادقون على الرأي الأخروي القبل ألفي هم تدبيريُون، فإن جميع التدبيريين هم قبل ألفيين. فهم يقولون إن الكنيسة تشبه جملة اعتراضية وُضِعت بين تعاملات الله مع إسرائيل، وبالتالي إن كلًّا من الضيقة والمُلك الألفي يركز على مستقبل إسرائيل القومية والعرقية. وفي سفر الرؤيا، لم ترد كلمة “كنيسة” (ekklēsia) بعد رؤيا 4: 1 وحتى رؤيا 22: 15، ولهذا يستنتج التدبيريُّون الكلاسيكيُّون أن السبب وراء ذلك هو أن الرب سيختطف الكنيسة في بداية فترة الضيقة، بحيث يعود إلى تعامله مع إسرائيل. وهذا الفهم الخاص للاختطاف يكمن في أساس الرأي المتعلق بحدوث الاختطاف قبل الضيقة.
وإن التعليم التدبيري عن حدوث الاختطاف قبل الضيقة يقدم سلسلة من أحداث الأيام الأخيرة، فيها سيأتي المسيح ثانية لأجل كنيسته في مرحلتين منفصلتين. أولًا، سيأتي المسيح ثانية في السحاب ليخطف جميع المؤمنين الحقيقيين. والنظرة الشائعة عن هذا المجيء هي أنه مجيء سري للمسيح لأجل الكنيسة، وأنه سيكون فجائيًّا مثل لص في الليل، بحيث سيتلاشى المؤمنون فجأة، دون أي إنذار، والذين سيُترَكون على الأرض لن يعرفوا ما حدث لهم. وسيمثل الاختطاف بداية فترة ضيقة عظيمة مدتها سبع سنوات، ستكون أمة إسرائيل هي محورها، وستشهد بعضًا من الدينونات المدمِّرة. وبعد الضيقة، سيأتي المسيح ثانية بصورة منظورة إلى الأرض ليؤسس ملكوته الألفي. وهذه المرحلة الثاني من مجيء المسيح ثانية هي “المجيء الثاني”، مع أنه سيكون قد جاء بالفعل قبل ذلك لأجل قدِّيسيه. وكلتا المرحلتين من مجيء المسيح تُدرجان معًا في كثير من الأحيان تحت عنوان “المجيء الثاني”.
اعتاد التدبيريُّون تفسير 1تسالونيكي 4: 13-18 (بالإضافة إلى 1كورنثوس 15: 51-52) بطريقة تؤيِّد إيمانهم بحدوث الاختطاف قبل الضيقة. وهم يقولون إن الاختطاف هو قيامة جميع المؤمنين الحقيقيين من يوم الخمسين وحتى وقت الاختطاف. وهذه القيامة تختلف وتتفرد عن القيامة الموصوفة في العهد القديم، وكذلك عن القيامة الموصوفة في ختام سفر الرؤيا.[1] بالإضافة إلى ذلك، الالتقاء بالمسيح في السحاب معناه أن الاختطاف يختلف عن مجيء المسيح المنظور إلى الأرض. ويربط التدبيريُّون ذلك بما جاء في يوحنا 14: 1-3، ليقولوا إنه إذا كان الاختطاف سيحدث في نهاية فترة الضيقة، فإن تلاميذ يسوع إذن سيرجعون إلى الأرض، وليس إلى بيت الآب كما وعدهم يسوع.[2] وبمجرد استقرار الكنيسة في السماء، ستَمثُل أمام الآب، وتواجه محاكمة كرسي المسيح (كرسي البيما) (2كورنثوس 5: 10)، وتتزوج من المسيح عريسها.[3] ولا بد للاختطاف أن يحدث قبل الضيقة لإتاحة وقت كاف لوقوع هذه الأحداث.
يقول التدبيريُّون إن الاختطاف والمجيء الثاني للمسيح هما حدثان منفصلان، لأنهم يركزون على أوجه الاختلاف بين ما يسمى بنصوص الاختطاف، وما يسمى بنصوص المجيء الثاني. وبالتفرقة التي يجرونها بين النصوص التي تصف مجيء المسيح ثانية لأجل كنيسته، ومجيئه ثانية إلى الأرض في دينونة، هم يحاولون دعم فكرة وجود مرحلتين منفصلتين للمجيء الثاني للمسيح. وبهذا، نجح التدبيريُّون في إجراء قدر كبير من البحث للتمييز بين ما لا يقل عن اثنين وعشرين نصًّا كتابيًّا عن الاختطاف، وبين ما لا يقل عن عشرين نصًّا كتابيًّا عن المجيء الثاني. فإن سبب تقسيم مجيء المسيح ثانيةً إلى مرحلتين يعود إلى كون العديد من النصوص المتعلقة بمجيء المسيح ثانية هي إيجابية ومليئة بالرجاء للمؤمنين، لكن العديد من النصوص الأخرى سلبية ومليئة بلغة الغضب لغير المؤمنين. ويصف رؤيا 6: 16 الدينونات الشديدة التي ستقع في الأيام الأخيرة بأنها غضب المسيح، في حين يصف رؤيا 19: 7-9 الكنيسة بأنها امرأة الخروف، وبالتالي فإنها لن تتعرض لغضبه الذي سينسكب على العالم غير المؤمن.
وهم يكافحون لإبعاد الكنيسة عن الغضب الإلهي، ويقولون إن الكنيسة ستنجو من الضيقة بواسطة الاختطاف. وإن المفهوم المتعلق بحدوث اختطاف قبل الضيقة (بالإضافة إلى الرأي المتعلق بحدوث الاختطاف في منتصف الضيقة وقبل الغضب) يعني أن الكنيسة المسيحيَّة ستُرفَع بصورة مادية عن الأرض قبل أي من الضيقات المتصلة بالضيقة العظيمة. ويؤكد هؤلاء أيضًا أن الضيقة العظيمة مرتبطة بعودة تعامل المسيح مع إسرائيل، بصفتهم شعبه المختار، ولهذا يجب إزاحة الكنيسة من الطريق أولًا. كما يقولون إن الضيقة العظيمة هي غضب الخروف (رؤيا 6: 17-18؛ 11: 18؛ 14: 10؛ 15: 1، 7؛ 16: 1؛ 19: 15). وبسبب مساواة الضيقة بغضب الله، فإنها مختلفة تمامًا عن أي ضيق ربما تكون الكنيسة قد اختبرته خلال “عصر الكنيسة”. إلا أن الرأي المتعلق بحدوث الاختطاف قبل الضيقة ليس ضروريًّا لإنقاذ الكنيسة من غضب الله. فلا داعي بالتأكيد أن يخاف الذين هم في المسيح على الإطلاق من غضب الله (1تسالونيكي 1: 10). فلن يقع غضب الله البتة على المؤمنين، لأن المسيح حمل غضب الله عوضًا عنهم. فدون شك، سينجو المؤمنون من غضب الله، لكن هذا لا يستلزم انتزاعهم عن الأرض خلال فترة الضيقة لحمايتهم من دينونات الله (2بطرس 2: 5-9). فإن الله قادر تمامًا أن يحفظ أو يختم (رؤيا 7) شعبه من غضبه (مثلما حدث في الضربات العشر التي وقعت على أرض مصر، والتي لم تسقط على أرض جاسان؛ خروج 8: 22؛ 9: 26).
الرأي الثاني: الاختطاف والمجيء الثاني للمسيح سيحدثان بالتزامن، في نهاية فترة الضيقة
يؤكد رأي آخر أنه لا يوجد سوى مجيء ثانٍ واحد فقط للمسيح. وعند مجيئه هذا، سيقوم المؤمنون، سواء الذين سيكونون قد ماتوا بالفعل، أو الذين سيكونون لا يزالون أحياء، للقائه في الهواء فيما هو نازل. ويسمى هذا الرأي “الاختطاف بعد الضيقة”، لأنه يقول إن الاختطاف سيحدث في نهاية فترة الضيقة. والذين يؤيِّدون هذا الرأي يرفضون فكرة حدوث المجيء الثاني على مرحلتين، أو حدوث مجيء سري منفصل للمسيح لأجل كنيسته، قبل فترة الضيقة. بل في المقابل، يؤكد هذا الرأي أن المسيح سيأتي ثانية مرة واحدة فحسب، ويرى أن الاختطاف، الذي هو قيامة للقديسين، حدثٌ علنيٌّ. وحتى ظهور التدبيريَّة القبل ألفيَّة، كان هذا هو الفهم التقليدي والمعتاد عن الكنيسة، وبعض التفسيرات الأخروية اللاألفيَّة، والبعد ألفيَّة، والقبل ألفيَّة القديمة للكتاب المقدَّس تؤيِّد في المعتاد شكلًا من أشكال هذا الرأي.
وفي حين أن مصطلح الاختطاف مشتق من فهمٍ لما جاء في 1تسالونيكي 4: 13-18، ما يسمَّى عادة بالاختطاف هو فعليًّا إشارة إلى عقيدة قيامة القديسين بالجسد. والتركيز على مصطلح الاختطاف قد حلَّ إلى حد كبير محل المعنى المتعلق بقيامة المؤمنين بالجسد، بل وأحدث خلطًا في هذا المعنى، عن طريق إضافة رأي أخروي آخر عن مجيء للمسيح على مرحلتين، أو بصورة سرية، وهو الرأي الذي لا يعلمه العهد الجديد صراحةً. وبهذا، توجد العديد من الأسباب التي تدعو إلى رفض أي فكرة تتعلق بمجيء ثان للمسيح على مرحلتين، وفي المقابل تأكيد أن ما يسمى بالاختطاف يحدث بالتزامن مع مجيء ثان واحد للمسيح في نهاية الزمان.
في حين أن خطف المؤمنين للقاء الرب في الهواء، بحسب 1تسالونيكي 4: 17، قد يشير إلى اختطاف من نوع ما، ثمة أهمية أن نتذكر أن بولس في هذا السياق كان يتناول موضوع قيامة المؤمنين الذين ماتوا قبل مجيء المسيح ثانية، ولا يمت كلامه بصلة لأخذ الكنيسة من الأرض قبل الضيقة أو في أثنائها. فقد أوضح بولس أن المؤمنين الذين ماتوا سيُقامون من الموت عند مجيء المسيح ثانية، والأحياء آنذاك سيحصلون على أجسادهم الممجدة بصورة تلقائية، عندما ينزل المسيح من السماء (1تسالونيكي 4: 16). أشار بولس على الأرجح إلى هذا الحدث نفسه في 1كورنثوس 15: 51-42 بقوله: “لَا نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلَكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ ٱلْبُوقِ ٱلْأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ ٱلْأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ”. ومرة أخرى، يأتي هذا النص ضمن سياق أكثر تعاليم بولس تفصيلًا وشمولًا عن قيامة الأموات بالجسد.
وأفضل فهم لتوقيت قيامة القديسين أو اختطافهم هو أنه سيحدث عند المجيء الثاني المنظور للمسيح، وليس في مجيء سري قبل ذلك ببضع سنوات، والسبب في ذلك هو أن بولس أوضح الأمر هكذا في 1تسالونيكي 4: 15-17. فإن الكلمة اليونانية parousia، التي معناها “حضور”، أو “وصول”، أو مجيء”، تستخدم للإشارة إلى المجيء الثاني للمسيح طوال العهد الجديد (متى 24: 27؛ 1كورنثوس 15: 223؛ يعقوب 5: 8؛ 1يوحنا 2: 28). في 1تسالونيكي 4: 15، وهو نص الاختطاف، قال بولس إن الذين سيبقون أحياء “إِلَى مَجِيءِ ٱلرَّبِّ” سيُخطَفون مع الذين سيقامون من الموت، للقاء الرب في الهواء. والكلمة المُحددة التي استخدمها بولس في الآية 15 هي كلمة Parousia. والذين يؤيِّدون مجيئًا سريًّا للمسيح لاختطاف الكنيسة قبل الضيقة أو في أثنائها، يرون أن هذا “المجيء” هو مرحلة أولى منفصلة من مجيئه الثاني. والمشكلة التي تكمن في هذا التفسير هي أنه في كل موضع آخر وردت فيه كلمة Parousia في الرسالتين إلى تسالونيكي، كانت تشير دائمًا وبوضوح إلى المجيء الثاني المنظور للمسيح إلى الأرض (1تسالونيكي 2: 19؛ 3: 13؛ 5: 23؛ 2تسالونيكي 2: 1، 8). يشير 1تسالونيكي 3: 13 إلى “مَجِيءِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مَعَ جَمِيعِ قِدِّيسِيهِ”، وهو ما يشير بوضوح إلى المجيء الثاني. بالإضافة إلى ذلك، استُخدِمت كلمة Parousia في 2تسالونيكي 2: 8، عندما قال بولس إن الرب يسوع سيبيد الأثيم “بِنَفْخَةِ فَمِهِ، وَيُبْطِلُهُ بِظُهُورِ مَجِيئِهِ”. إذا كان كلا هذين المثالين يشير إلى مجيئه الثاني الفعلي إلى الأرض، فلا يوجد في سياق 1تسالونيكي 4: 16-17 أي شيء على الإطلاق يدفعنا إلى افتراض أنه يجب أن يُفهَم بأي طريقة مختلفة عن كل الاستخدامات الأخرى لكلمة Parousia في الرسالتين إلى تسالونيكي. وبهذا، يبدو واضحًا أن بولس يرى أن قيامة القديسين، وخطف المؤمنين للقاء الرب في الهواء، هما حدثان يقعان بالتزامن مع مجيء المسيح بصورة منظورة إلى الأرض، وليسا رفعًا سريًّا للكنيسة قبل مجيئه الثاني الفعلي في نهاية الزمان بعدة سنوات.
السبب الثالث الذي يدعونا إلى اعتبار الاختطاف متزامنًا مع مجيء المسيح ثانية إلى الأرض هو أنه في حديث جبل الزيتون (متى 24)، أشار يسوع إلى أن المؤمنين سيجتازون تلك الفترة المعروفة باسم الضيقة العظيمة، وسيُجمَعون للقائه عندما يأتي ثانية. في متى 24: 21-22، قال يسوع إنه سيكون “ضِيقٌ عَظِيمٌ”، وحقيقة أن المؤمنين سيكونون على الأرض خلال هذه الفترة ظاهرة بوضوح من خلال قوله إن تلك الأيام ستقصَّر “لِأَجْلِ ٱلْمُخْتَارِينَ” (متى 24: 22). ولم يرد أي ذكر لشيء مماثل ولو من بعيد للاختطاف، إلا عندما قال يسوع: “فَيُرْسِلُ مَلَائِكَتَهُ بِبُوقٍ عَظِيمِ ٱلصَّوْتِ، فَيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ ٱلْأَرْبَعِ ٱلرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ ٱلسَّمَاوَاتِ إِلَى أَقْصَائِهَا” (متى 24: 31)، وذلك بعد ظهور علامة ابن الإنسان في السماء مباشرة، ومجيئه “عَلَى سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ” (متى 24: 30). وهذا الجمع للمختارين سيحدث، بحسب متى 24: 30، عند مجيء المسيح ثانية بصورة منظورة. قال يسوع بوضوح إن مجيئه (Parousia) سيحدث بعد الضيق العظيم الذي أشار إليه في متى 24: 29 (“وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ ٱلْأَيَّامِ”). والطبيعة المنظورة لهذا المجيء تتجلى بوضوح في قوله إنه سيكون مثل البرق الذي يكون منظورًا في كلٍّ من الشرق والغرب (متى 24: 27)، وهو سيأتي بقوة عظيمة “عَلَى سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ” (متى 24: 30). ومن المثير للاهتمام أن يسوع وصف مجيئه ثانية وجمع المختارين مستخدمًا كلمات مماثلة بصورة لافتة للنظر لتلك المستخدمة في 1تسالونيكي 4: 16-17، لأن كلا النصين يشير إلى ضرب “بوق”، ومجيء يسوع في “السحب” (1كورنثوس 15: 52 يذكر أيضًا “بوقًا”). من المُرجَّح إذن على ما يبدو أن بولس بنى تعليمه الأخروي في 1تسالونيكي 4: 16-17 على دراية بتعليم يسوع في حديث جبل الزيتون. يقول البعض إن الحديث عن الذين سيؤخذون والذين سيُترَكون في متى 24: 40-41 يقدم دليلًا على الاختطاف: “حِينَئِذٍ يَكُونُ ٱثْنَانِ فِي ٱلْحَقْلِ، يُؤْخَذُ ٱلْوَاحِدُ وَيُتْرَكُ ٱلْآخَرُ. اِثْنَتَانِ تَطْحَنَانِ عَلَى ٱلرَّحَى، تُؤْخَذُ ٱلْوَاحِدَةُ وَتُتْرَكُ ٱلْأُخْرَى”. إلا أن لغة “الأخذ” لا تشير في المعتاد إلى الخلاص، بل إلى الأخذ إلى الدينونة، في حين يشير “الترك” إلى الذين سينجون من الهلاك (إشعياء 3: 1-3؛ 4: 2-4؛ صفنيا 3: 11-12؛ متى 13: 41-43؛ 24: 38-39).[4] فإن تعاليم حديث جبل الزيتون ككلٍّ لا تؤيد فكرة حدوث مجيء سري للمسيح لاختطاف الكنيسة قبل الضيقة أو في أثنائها.
أخيرًا، يُفترَض في كثير من الأحيان أن هؤلاء القديسين الذين إما سيكونون أحياء وإما سيقامون من الموت سيرجعون إلى السماء مع يسوع. إلا أن الرأي القائل إن القديسين سيرجعون مع يسوع إلى الأرض يحظى بتأييدٍ أكبر من خلال براهين العهد الجديد. يقول 1تسالونيكي 4: 17 إن المؤمنين سوف “يلاقون” ( apantēsis) الرب في الهواء. الكلمة اليونانية apantēsis كانت تُستخدَم في العالم القديم عندما يقوم شخص رفيع المقام بعمل زيارة رسمية (Parousia) إلى مدينة ما، فيخرج مواطنو تلك المدينة إلى الخارج “لملاقاته”، ومرافقته إلى داخل المدينة في موكبٍ. وربما كان هذا المفهوم متصلًا بما جاء في متى 25: 6، حيث طلب من العذارى “الخروج للقاء” (apantēsis) العريس، حتى يرافقنه بمصابيحهن إلى موضع الوليمة. أو ربما كان متصلًا بما جاء في أعمال الرسل 28: 15 عن المؤمنين في رومية الذين ” خَرَجُوا … إِلَى فُورُنِ أَبِّيُوسَ وَٱلثَّلَاثَةِ ٱلْحَوَانِيتِ”، لاستقبال (apantēsis) بولس ورفقائه، لمرافقتهم في رحلتهم إلى رومية. وبالتالي، فإن 1تسالونيكي 4: 13-18 لا يتحدث عن اختطاف سري إلى السماء، بل عن مجيء ثان منظور لابن الإنسان إلى الأرض في جلبة عظيمة ومجد. فإن الكنيسة ستتألم بسبب الاضطهاد (كما تألمت طوال التاريخ)، لكن مختاري الله سيبقون أمناء، وسيلاقون الرب في الهواء، حتى يرافقوه مرة أخرى إلى الأرض ملكًا عظيمًا.
الخاتمة
هل يُعلِّم الكتاب المقدَّس بوضوح بكون الاختطاف سيحدث قبل الضيقة، أو بمجيء ثان للمسيح يقع على مرحلتين؟ ربما أفضل إجابة على هذين السؤالين هي “ليس تمامًا”. ومع ذلك، فإن الكثير من المؤمنين الأمناء، الذين يوقِّرون الكتاب المقدَّس، يتبنُّون الرأي القائل إن الكنيسة ستُرفَع من المشهد قبل الضيقة، أو في أثنائها، لإنقاذها من غضب الله. وهم يدعمون هذا الرأي ببعض الحجج الكتابيَّة واللاهوتية التي لها وزنها. ولكن، إذا كان الإثبات الوحيد لحدوث المجيء الثاني للمسيح على مرحلتين، وللاختطاف أيضًا، مصدره فقط النظام اللاهوتي للتدبيريَّة التقليديَّة، أو المنهجيَّة التفسيريَّة التي يتبعها هذا النظام، فيكون لدينا حق في التشكك بعض الشيء. من ناحية أخرى، توجد وفرة من الأسباب التاريخيَّة، واللاهوتيَّة، والكتابيَّة التي تدعو إلى النظر إلى المجيء الثاني للمسيح على أنه حدث واحد، وليس حدثًا منقسمًا إلى مرحلتين. فإن فكرة حدوث المجيء الثاني على مرحلتين لم تعلَّم صراحة في الكتاب المقدَّس، وهي عقيدة جديدة نسبيًّا في علم اللاهوت المسيحي. الأكثر من ذلك أيضًا أن عقيدة قيامة المؤمنين وتغيُّرهم إلى جسد ممجد لها إثباتات قوية في علم اللاهوت المسيحي، لكن قد حل محلها في كثير من الأحيان فكر لاهوتي عن الاختطاف، من الممكن أن ينتقص من الرجاء العظيم في قيامة مستقبليَّة بالجسد. وبغض النظر عما نؤمن به بشأن الاختطاف، أو بشأن توقيته، ليست هذه مسألة تندرج تحت الهرطقة أو تحت الفكر القويم إذا اختلف المؤمنون بشأنها. فإن إخلاص الشخص للمسيح، وللاستقامة اللاهوتيَّة، لا يتوقفان على الإيمان بمجيء المسيح ثانية على مرحلتين، أو مرحلة واحدة. فعندما يأتي المسيح ثانية، والكنيسة معه في مجد، لا أحد سيصاب بخيبة أمل، أو يتجادل بشأن طريقة حدوث كل هذا، أو توقيته.
[1] Walvoord, John F. Walvoord, The Prophecy Knowledge Handbook (Wheaton: Victor, 1990), 481–84.
[2] Ibid., 421.
[3] Pentecost, Things to Come, 219–228.
[4] Benjamin L. Merkle, “Who Will Be Left Behind? Rethinking the Meaning of Matthew 24:40–41 and Luke 17:34–35,” WTJ 72, no. 1 (2010): 169–79.