يعد مثل الفريسي والعشار في لوقا ٩:١٨-١٤ أحد أكثر أمثال السيد المسيح استخدامًا لشرح خطورة البر الذاتي. ولكون المثل شائع الاستخدام في اجتماعاتنا الكنسية، مصحوبًا بشروحات وأمثلة من واقع الحياة، بل وآيات كتابية مقتبسة من أسفار كتابية أخرى، لاسيما رسالة رومية باعتبارها رسالة التبرير بامتياز. لذلك، فإن الأمر يتطلب من جانبنا التدقيق، حتى لا نحمل المثل ما لا يحتمل. خاصةً في توصيفنا لخطورة “البر الذاتي”، تلك العبارة التي توضح سبب استخدام الرب لهذا المثل بحسب لوقا في قوله عن السيد المسيح: “وَقَالَ لِقَوْمٍ وَٱثِقِينَ بِأَنـْفُسِهِمْ أَنـَّهُمْ أَبْرَارٌ، وَيَحْتَقِرُونَ ٱلْآخَرِينَ هَذَا ٱلْمَثَلَ” (لوقا٩:١٨). أما في ختام المثل، فقد عاد الرب نفسه وأوضح كيف عكست صلاة الفريسي كبرياءه: “أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ هَذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّراً دُونَ ذَاكَ، لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ، وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ.” (لوقا١٤:١٨).
إذًا، مدخل المثل ببساطة يوضح موضوعه: “البر الذاتي”، قصة المثل ذاتها تكشف ما في قلب “الفريسي” وهو يقترب إلى الله مصليًا على النقيض من صلاة العشار. أما خاتمة المثل فتوضح النتيجة المرعبة لصلاة كليهما: العشار نزل إلى بيته مبررًا دون الفريسي (المُدان).
ملاحظتان تفسيريتان لتجنب القراءة الخاطئة للمثل
- القصة غير مكتملة. ما نقرأه في المثل ليس القصة الكاملة، وليس شرحًا عقائديًا وافيًا لعقيدة التبرير في المُطلق…لا حديث مثلًا عن أساس تبريرنا أمام الله (القبول أمام الله) بنعمته وعلى أساس الفداء الذي قدمه بحياته البارة وموته الكفاري وقيامته المُحيية.”مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِـٱلْفِدَاءِ ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِـٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ ٱلصَّفْحِ عَنِ ٱلْخَطَايَا ٱلسَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ ٱللّٰهِ. لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي ٱلزَّمَانِ ٱلْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ ٱلْإِيمَانِ بِيَسُوعَ.” (رومية ٢٤:٣-٢٦).
- المثل يتحدث عن “ـقال لقَوْمٍ وَٱثِقِينَ بِأَنـْفُسِهِمْ أَنـَّهُمْ أَبْرَارٌ، وَيَحْتَقِرُونَ ٱلْآخَرِينَ” (لوقا٩:١٨) ليحدد مصدر ثقتنا أمام الله كمؤمنين واقفين أمامه في الصلاة. لاحظ كيف يأتي المثل مباشرة بعد مثل الأرملة وقاضي الظلم عن ضرورة الصلاة كل حين دون ملل. فعلينا:
– أن نقرأ المثل ضمن رسالة الإنجيل كله. كأي قصة شفاء أو تعليم في أي إنجيل.
– لا نضع تفاصيل لم يكملها المثل، كالكيفية التي أكمل العشار بها حياته مثلًا.
أما عن طبيعة البر الذاتي للفريسي. فمن الضرورة بمكان مراعاة ما يلي:
بكلمات السيد المسيح: كان الفريسي: أولًا “يثق في نفسه أنه بار.” وثانيًا: “يحتقر الآخرين.”
طبيعة بر الفريسي
- كان بره دينيًا. بر طقسي. فهو يصوم مرتين في الأسبوع ويعشر كل ما يقتنيه.
- وكان بره أخلاقيًا أيضًا: ليس مثل الخاطفين الظالمين الزناة. الحقيقة أنه لا يوجد أدني إشارة في حديثه الذاتي تشير لحياة مزدوجة كما يحلو للبعض أن يتصوره باعتباره مدعي للفضيلة في العلن، وفاجر في السر.
- والأهم من كل ذلك، فقد كان مقتنعاً تماماً أن بره هذا هو بشكل ما هبة من الله! نعم، ما قرأته للتو صحيح أيها القارئ. يتضح ذلك من أولى كلمات ترج فيها المثل لسان حاله: “اللهم أنا أشكرك…” (ع١١) لا يشكر الإنسان الله عادةً إلا على شيء تقبله منه بالكامل أو مكنه الله منه بقوته، حتى وإن اجتهد هو بقوته ليستثمره وينميه. بعبارة أخرى، ليس الفريسي شخصًا يعتقد أنه يستطيع جعل نفسه صالحًا بدون مساعدة الله. هو يعرف أنه يحتاج معونة من الله، لذلك يشكره.
مرة أخرى، أين تكمن المشكلة؟
لا تكمن المشكلة فيما إذا كان الإنسان قد أنتج البر الذي لديه أم أن الله قد أنتجه. المشكلة هي أنه يثق في قدرته على استثمار هذا البر، والذي منحه الله إياه، على عكس الآخرين الذين احتقرهم كالخاطفين الظالمين والزناة، وكالعشار (ع١١).
لكن الإشكالية الكبرى هي في ثقته في ذاته باعتباره قادر على استثمار نعمة الله والاجتهاد في أعمال صالحة. يتضح ذلك تمامًا من مركز صلاته. اللهم أشكرك “أني.” كان صلاحه وبره هو موضوع صلاته، حتى وهو يشكر الله على منحه هذا الصلاح أو مساعدته على تحقيقه. لذلك كان محتقرًا للآخرين: “وقال لقَوْمٍ وَٱثِقِينَ بِأَنـْفُسِهِمْ أَنـَّهُمْ أَبْرَارٌ، وَيَحْتَقِرُونَ ٱلْآخَرِينَ” (لوقا٩:١٨).
في النهاية اهتم ببره هو، تطلع إلى بره هو – ليس لأنه مصدره بقوته البشرية، لكن لأنه في أخلاقياته وأعماله رأى نفسه أفضل من الآخرين فاحتقرهم. وانتهى به الأمر مدانًا من الله، حتى وهو يصلي!
المؤمن الحقيقي المتكل على الله كونه مصدر البر ومُكمله لا يمكن أن يرى الأفضلية في ذاته ويركز صلاته حولها.
مثل العشار هذا النوع من البشر. لم يتطرق العشار للأخرين مقارنًا ذاته بهم. عينه كانت مرتكزةً بالكامل على الله ورحمته، فنزل بيته مبررًا.
في النهاية نقول
الإيمان الخلاصي الذي يتبرر به الإنسان ويحيا وينمو في النعمة، هو إيمان دائمًا ما ينظر لله باتضاع في الصلاة – لا الذات وقدرتها على استثمار نعم الله. الإيمان الخلاصي لا ينظر للذات باعتبارها المركز أو مصدر الثقة والاقتراب لله، حتى لو كان ما بداخلنا هبة من الله. الإيمان الحقيقي إيمان متضع لا يقارن نفسه بالآخرين ليحكم من هو الأفضل ومن الأسوأ. بدلًا من ذلك، فإن الإيمان هو التطلع نحو الله والثقة فيه ورؤية الذات في عيونه، الأمر الذي يقود حتمًا لقرع الصدر طلبًا للرحمة ليخرج المؤمن من محضر الله مبررًا.