العهد الجديد في أسفار العهد الجديد

YouTube player

 


المقدمة


 هل لاحظتَ يوماً كيفَ أن أتباعَ المسيح يستخدمونَ الكثير من المصطلحاتِ المألوفة بطرقٍ مختلفة؟ وهذا بالتأكيد هو الحال لعبارة “العهدُ الجديد”. فنحن نُكرّرُ ما قالهُ المسيح – “هذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ” – في كلِ مرةٍ نمارسُ العشاءَ الربانيّ. وتوجدُ كنائس محلية في كلِ العالم تتضمّنُ أسماؤها عبارة “العهدُ الجديد”. لكن إن سألتَ معظمَ المسيحيين، ما هو “العهدُ الجديد”؟ فستَحصُلُ على عددٍ من الإجابات بعددِ الأشخاص الذين تسألهم. أحياناً قد لا يكونُ لاختلافاتٍ كهذه أهميةً تُذكر. لكن كما سنرى في هذا الدرس، فإن مفهومَ العهدِ الجديد تركَ أثراً كبيراً على كُتّابِ أسفارِ العهدِ الجديد بحيثُ يُمكنُنا أن نشيرَ إلى لاهوتِهِم باعتبارِهِ “لاهوتِ العهدِ الجديد”. ولهذا السبب، نحتاجُ أن نبذلَ الجهد لكي نَفهم ما هو العهدُ الجديد.

هذا هو الدرس الثالث في سلسلتنا الملكوت والعهد في أسفار العهد الجديد. وقد وضعنا عنواناً لهذا الدرس هو: “العهد الجديد”. في هذا الدرس، نستكشف كيف اعتمد كتّاب أسفار العهد الجديد على مفهوم العهد الجديد لصياغة بعض أهم وجهات النظر اللاهوتية لديهم.

ينقسم درسنا إلى قسمَين رئيسيَن. أولاً نعرض كيف طبع العهد الجديد بصمته على إدارة ملكوت الله. ثانياً، نستكشف كيف يظهر العهد الجديد بعض ديناميات التفاعل بين الله وشعبه. لننظر أولاً إلى إدارة ملكوت الله في العهد الجديد.

 


إدارة الملكوت


الكلمة العبرية المترجمة في العادة “عهد” هي “بيريت” (בְּרִית). وفي السبعينية، الترجمة اليونانية للعهد القديم، تُترجَم هذه الكلمة العبرية إلى “دياثيكي” (διαθήκη). وترد “دياثيكي” (διαθήκη) أيضاً في أسفار العهد الجديد لتشير إلى العهد. وتحوي “بيريت” (בְּרִית) و”دياثيكي” (διαθήκη) دلالات إلى اتفاقية أو معاهدة رسمية. ونجد في الكتاب المقدّس عهوداً أو اتفاقيات بين أناس متساوين في المقام، بين ملوك وملوك، كما نجد عهوداً بين ملوك ورعاياهم. كذلك الله قطع عهوداً مع أمم وشعوب. في هذا الدرس، سنركّز اهتمامنا بصورة خاصة على عهود الله مع الشعب، لا سيما عهده الجديد في المسيح.

من المهم أن نعرف أن أحد أهم الإنجازات في فهمنا لعهود الله الكتابية حدث في النصف الثاني من القرن العشرين. ففي ذلك الحين، بدأ العديد من العلماء والباحثين بمقارنة العهود الكتابية بمجموعة من الوثائق الشرق الأدنى القديم التي تُسمّى عادة “المعاهدات بين السيد والتابع”. وكانت تلك الوثائق معاهدات دولية بين الأمم في أزمنة العهد القديم. وبموجب تلك المعاهدات يقوم الملوك أصحاب السيادة، أو الملوك العظماء، بإدارة ممالكهم من خلال معاهدات مع ملوك أتباع لهم، أو الملوك الأقل منهم شأناً الخاضعين لسلطتهم. وكما سنرى، فإن أوجه الشبه بين العهود الكتابية وهذه المعاهدات بين السيد والتابع تجعل من الواضح أن عهود الله في الكتاب المقدّس كانت الوسائل الرئيسية لإدارة شؤون ملكوته.

نجد في نصوص العهد القديم، لا سيما في سفر التكوين، نوعَين من المعاهدات: أولاً، نجد ما يُسمى بـ”المعاهدة المتكافئة” بين قائدين أو شعبَين لهما قدرات متساوية، وسلطة متساوية، يعقدان فيما بينهما اتفاقية مفيدة للطرفين، مثل تلك التي بين إبراهيم وأبيمالك. النوع الثاني من المعاهدات الذي نراه في الواقع بين شعوب الشرق الأدنى القديم، يُسمّى “المعاهدة بين السيد والتابع”، وهذه الاتفاقية هي في الواقع بين اثنين من أصحاب السلطة غير متكافئتَين، واحد أقوى وأعظم من الأخر الذي على الأرجح انتصر عليه وأخضعه ويرغب الآن في أن يكون له علاقة معه بحيث ينال القائد الأعظم، الملك المتسلّط، كل المنافع من التابع. لذلك فهو غالباً ما يطلب من الملك التابع الولاء المستمر له. لكن توجد فائدة بالنسبة للتابع، إذ يتعهّد القائد السيد بأن يتدّخل لينقذ التابع في حال غزا أرضه جيش عدو، وبالتالي يوجد بينهما هذا النوع من العلاقة المتبادلة التي تحمي الطرفَين.

د. دانيال كِم

نحن نرى الملوك غالباً كطغاة مستبدين، وكأسياد أثرياء يظلمون مواطنيهم. لكن في الواقع، كان المَلك، في قرينة الشرق الأدنى القديم في زمن يسوع وقبله، في تعامله مع شعبه يتصرّف إلى حدّ بعيد وفق مفهوم العهد. ولدينا أدلة على أن المعاهدات القديمة كانت عبارة عن اتفاق بين الملك، أو الحاكم، أو ما يُسمى بالسيد المتسلط، وبين بعض الناس يُبرم ليصيروا خدّامه أو تابعين له. ويضع السيد الحاكم مجموعة من الشروط تحدّد العلاقة في المعاهدة وتصونها، فيقول مثلاً: “أقدّم لك الحماية، أقدّم لك العيش الرغد، أقدّم لك الاستقلالية، في المقابل تساهم أنت معي وتشاركني بجزء من محصولك الزراعي، وتتعهّد بالولاء لي وحدي دون سائر الملوك، أو الحكام الآخرين.” وبالتالي تميل هذه الاتفاقيات، بمعنى ما، لأن تكون نوعاً من الحالة المتبادلة. وإن نحن بدأنا نفكر بوظيفة المَلك وطبيعة العهد في اتفاق مماثل، فسنجد أن أجزاء متنوعة من العهد القديم تنسجم تماماً مع العناصر ذاتها التي وردت في تلك المعاهدات مع الأسياد.

أ. برادلي جونسون

سنتناول إدارة ملكوت الله بثلاث طرق. أولاً، ملاحظة أهمية ممثلو العهد. ثانياً، النظر كيف أن عهود الله ركّزت على السياسات الملائمة لملكوت الله. وثالثاً، الإشارة إلى كيف أدار الله ملكوته من خلال التطور العضوي لسياسات العهود تلك. لننظر أولاً إلى ممثلو عهد الله.

ممثلو العهد

 كما أشرنا سابقاً، أدار الملوك المتسلطون في القديم ممالكهم عن طريق إبرام اتفاقيات مع ملوك أو أتباع أقل منهم شأناً. وكان الملوك التابعون يمثّلون أممهم ويديرون ممالكهم خاضعين للملك المتسلط. بطريقة مشابهة، يدير الله مملكته عن طريق قطع عهود بواسطة أناس اختارهم ليمثّلوا شعب عهده.

ولنبيّن ما نعنيه، سننظر أولاً كيف اختار الله ممثلو العهد في أسفار العهد القديم. ثم ننظر إلى العهد الجديد. لنبدأ بالنظر إلى أسفار العهد القديم.

العهد القديم

يمكننا أن نرى بسهولة أن الله هو من اختار ممثلو العهد في أزمنة العهد القديم. وتبيّن الفصول الثلاثة الأولى من التكوين وهوشع 6: 7 أن الله قطع العهد الأول مع آدم. أما التكوين 6: 18، والتكوين 9: 9-17 فيشيران إلى عهد الله مع نوح. وفي التكوين 15-17 قطع الله عهداً مع إبراهيم. أما الخروج 19-24 فتشير إلى أن الله اختار موسى كوسيط لعهده مع الشعب. وأخيراً، تشير مقاطع مثل المزمورَين 89 و132 إلى عهد الله مع داود.

وقد تعامل الله مع كل من هؤلاء الرجال بطريقة مختلفة حين قطع عهوده. لكنهم جميعهم مثّلوا آخرين أمام الله في الأحكام التي صدرت من البلاط المَلَكي السماوي لله. ويمكن أن نسمّي العهدَين مع آدم ونوح العهود العالميّة لأن آدم ونوح مثّلا كل الجنس البشري كشعب العهد مع الله. ويمكن وصف العهود مع إبراهيم وموسى وداود بالعهود القوميّة. ففي هذه العهود مثّل هؤلاء الرجال شعب إسرائيل والأمم التي انضمّت لإسرائيل كشعب العهد.

وبينما نبقي ممثلو العهد في أسفار العهد القديم في أذهاننا، لننظر كيف أدار الله العهد الجديد من خلال ممثل للعهد.

العهد الجديد

تقدّم أسفار العهد الجديد بشكل متكرر المسيح بأنه ممثل العهد الجديد. وقد تعامل الله معه بطرق مميّزة بالنيابة عن كنيسته، وهي تتألف من كل يهودي وأممي عرفهم الله في المسيح. وكما نقرأ في العبرانيين 9: 15:

وَلأَجْلِ هذَا هُوَ وَسِيطُ عَهْدٍ جَدِيدٍ، لِكَيْ يَكُونَ الْمَدْعُوُّونَ ­ ­يَنَالُونَ وَعْدَ الْمِيرَاثِ الأَبَدِيِّ. (عبرانيين 9: 15)

وتظهر تعاليم مشابهة في مقاطع مثل رومية 8: 34، و1 تيموثاوس 2: 5 و6.

إن حقيقةَ كونِ المسيح مُمثّلُ العهدِ المختارُ من الله للكنيسةِ تُساعدُنا على فهمِ إحدى أهمِ خصائصِ لاهوتِ أسفارِ العهدِ الجديد. فكما أشارَ الكثيرُ من مُفسّري الكتاب المقدس، فإن لاهوتَ أسفارِ العهدِ الجديد “يتمركزُ حولَ المسيح”. بكلماتٍ أخرى، كلُ جانبٍ من جوانبِ لاهوتِ أسفارِ العهدِ الجديد مرتبطٌ بقوّةٍ بشخصِ المسيحِ وعملِه. لكن لماذا يُعدُ هذا الأمرُ صحيحاً؟ على سبيلِ المثال، لماذا تُعلّمُ أسفارُ العهدِ الجديد أنه يَجبُ أن نُؤمنَ بيسوع لننال الخلاص؟ لماذا نُصلّي ونُقدّمُ الإحسانَ باسم يسوع؟ لماذا تُدعى الكنيسةُ “جسدُ المسيح”؟ الإجابةُ واضحةٌ. يَلعبُ المسيحُ هذا الدور الرئيسي في لاهوتِ أسفارِ العهدِ الجديد، لأنَّ الله يُديرُ كلَ جانبٍ من جوانبِ الحياةِ في العهدِ الجديد، من خلال المسيح كمُمثّلِ للكنيسة. وإغفالُ هذه الميزة في لاهوتِ أسفارِ العهدِ الجديد يعني إهمالَ إحدىَ أهمِ خصائصِ هذا اللاهوت.

بعد أن رأينا أن الله أدار ملكوته من خلال ممثلو العهد، خاصة من خلال المسيح في العهد الجديد، لننتقل إلى ميّزة ثانية من ميّزات إدارة الملكوت: السياسات الملائمة التي أقرّتها العهود الكتابيّة في فترات مختلفة من التاريخ الكتابيّ.

السياسات الملائمة

كل المعاهدات بين السيد والتابع في الشرق الأدنى القديم كانت تتضمّن عناصر مشتركة، لكنها اختلفت أيضاً في نواحٍ عدة. وذلك لأن كل معاهدة فرديّة تناولت قضايا محدّدة وثيقة الصلة بكل علاقة دوليّة. وبالطريقة ذاتها، كل عهود الله كان بينها الكثير من الأمور المشتركة، لكن سياسات كل عهد كانت مصمّمة من أجل قضايا محدّدة كانت مهمّة في مراحل مختلفة من التاريخ الكتابيّ.

ولكي نرى كيف أن سياسات عهود الله كانت ملائمة للمراحل التاريخية المختلفة، سننظر مرة أخرى إلى عهود أسفار العهد القديم، ومن ثم إلى سياسات العهد الجديد. لننظر أولاً إلى سياسات العهد في أسفار العهد القديم.

العهد القديم

قراءة سريعة لبنود عهود أسفار العهد القديم تكشف تركيزاً على سياسات كانت ملائمة في مراحل خاصة في ملكوت الله.

  • فعهد الله مع آدم يمكن أن يُدعى عن حق “عهد الأساسات”. وهو يركّز على أهداف ملكوت الله ودور البشر في ملكوته قبل دخول الخطية إلى العالم وبعده.
  • بعد الطوفان قطع الله عهداً مع نوح يمكننا أن نسميه بـ”عهد الاستقرار”. وركّز هذا العهد على استقرار الطبيعة كالبيئة الآمنة التي فيها يمكن للبشرية الآثمة أن تخدم مقاصد ملكوت الله.
  • يمكننا الإشارة إلى العهد مع إبراهيم كـعهد اختيار إسرائيل”. وهو يركّز على امتيازات ومسؤوليات إسرائيل كشعب الله المختار.
  • والعهد مع موسى يُدعى غالباً “عهد الناموس” لأنه يركّز على ناموس الله، وهو يوحّد أسباط إسرائيل كأمة واحدة. في هذا العهد قاد الله شعب إسرائيل نحو وطنهم الموعود.
  • وأخيراً، يمكننا اعتبار العهد مع داود “عهدَ المَلَكيّة”. فهذا العهد ثبّت إسرائيل كمملكة حقيقية وركّز كيف يجب على سلالة داود الحاكمة أن تقود إسرائيل في خدمة المملكة.
  • عندما ننظر إلى السياسات الملائمة التي وضعتها العهود في أسفار العهد القديم، يجب ألا يفاجئنا أن نجد أن العهد الجديد أيضاً أقرّ سياسات للملكوت ملائمة لعصر العهد الجديد.

العهد الجديد

يأتي العهد الجديد في الفترة الأخيرة من التاريخ الكتابي – بعد عهود الله مع آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وداود. ولهذا السبب، يمكن وصف العهد الجديد “بعهد الإتمام” أو التحقيق. وعلى هذا النحو، فقد وضع سياسات كانت مصمَّمة لتغيّر إخفاقات الماضي، واستكمال أو تحقيق مقاصد ملكوت الله في المسيح.

يُشار إلى العهد الجديد في الكتاب المقدس لأول مرة في إرميا 31: 31 حيث ترد هذه الكلمات:

هَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ الرَّبُّ وَأَقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْداً جَدِيداً. (إرميا 31: 31)

في القرينة الأوسع لهذا العدد تشير العبارة “هَا أَيَّامٌ تَأْتِي” إلى الفترة بعد نهاية سبي إسرائيل. وكما رأينا في درس سابق، فإن رسالة البشارة المسيحية – أو “الإنجيل” – هي أن ملكوت الله سيصل إلى انتصاره النهائي الشامل بعد نهاية سبي إسرائيل. وهكذا نرى في أول إشارة إلى العهد الجديد ارتباطه بالتحقيق الانتصاري لملكوت الله.

لهذا السبب، أعلن الله في إرميا 31: 33-34 سياسات العهد الجديد، وهي سياسات كانت ملائمة لهذه المرحلة الأخيرة من الملكوت في المسيح. استمع إلى ما قاله الله:

بَلْ هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَقْطَعُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ … أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً. وَلاَ يُعَلِّمُونَ بَعْدُ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ قَائِلِينَ: [اعْرِفُوا الرَّبَّ] لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ سَيَعْرِفُونَنِي مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ… لأَنِّي أَصْفَحُ عَنْ إِثْمِهِمْ وَلاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْدُ. (إرميا 31: 33-34)

لاحظ في هذا المقطع أن العهد الجديد سيأتي بملكوت الله إلى نهايته القصوى حين “يصفح الله عن إثم شعبه ولا يذكر خطيتهم فيما بعد”. في زمن البركات النهائيّة الأبديّة لشعب الله “يجعل شريعته فِي دَاخِلِهِمْ وَيكتبها عَلَى قُلُوبِهِمْ”. في الواقع، لقد وعد الله بهذه الحقيقة لكل شخص في العهد الجديد، إذ قال: “سَيَعْرِفُونَنِي مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ”.

في مقاطع مثل التثنية 10: 16، وإرميا 4: 4، كثيراً دعا الله شعب إسرائيل ليتحرّكوا أبعد من ارتباطهم الخارجي بعهوده، وأن يختنوا قلوبهم. بعبارة أخرى، كان عليهم أن يحبّوه بقوة عن طريق كتابة شريعته على قلوبهم. لكن في سياسات عصر العهد الجديد، وعد الله بأن يتدخل بحيث يصبح ذلك حقيقة واقعيّة لكل شعبه في العهد.

بعد قيامة يسوع وصعوده، لم يتغيّر نظام ملكوت الله بل بقي كما هو من حيث إن الله يسود على شعبه في مكان يخصّه، لكن النظام الخاص بذلك المكان تغيّر بالكامل. والأمر الأهم في جلوس المسيح عن يمين الله هو – كما نادى الرسول بطرس في يوم الخمسين في أعمال الرسل الفصل الثاني – أنه سكب روحه القدوس على شعبه كما أَنبأ في كتاب يوئيل. وسُكنى الروح القدس في اليهود، ثم بحلوله على الأمم أيضاً بشكل أدهشهم أولاً، ثم شكّل صدمة لهم، يدلّ على أن ملكوت الله سيتألف فيما بعد لا من شعب إسرائيل، ذريّة إبراهيم البشرية، بل من نسل إبراهيم بالإيمان، كما يقول الرسول بولس في رومية الفصل الرابع. وهكذا فإن ملكوت الله يتألف من شعب اجتمع من كل قبيلة وأمة ولغة، كل من له إيمان في المسيح ينال روحه، وكل من عنده الروح القدس يحيا الله فيه ويسود على حياته.

د. كونستنتين كامبل

كما رأينا في درسنا السابق، علّم يسوع أن عصر العهد الجديد سينكشف مع الوقت على ثلاث مراحل: أولاً، تأسيسه وقد بدأ مع المجيء الأول للمسيح. في هذه المرحلة، تمّم يسوع العديد من التوقعات المتعلقة بالعهد الجديد، لكن ليس كلها. ثم، في مرحلة استمراره، يسير عصر العهد الجديد لفترة غير محدّدة في تاريخ الكنيسة. في هذه المرحلة، يتمّم يسوع المزيد من توقعات العهد الجديد لكن ليس كلها بعد. وأخيراً، يصل عصر العهد الجديد إلى اكتماله عند المجيء الثاني للمسيح حيث تتم كل التوقعات بشكل كامل.

وهذا التحقيق الثلاثي للعهد الجديد يساعدنا أن نتعرّف على خاصية ثانية أساسية للاهوت أسفار العهد الجديد. فهو لم يتمركز فقط حول المسيح. بل كان لاهوت أسفار العهد الجديد أيضاً مخصّصاً لشرح سياسات العهد الجديد كما استُعلنت في هذه المراحل الثلاث.

في الواقع، كان على كتّاب العهد الجديد أن يصرفوا وقتهم في ضبط توقعاتهم للحياة في العهد الجديد. على سبيل المثال، بخلاف التوقعات التي نشأت عن إرميا 31، تشرح لنا مقاطع مثل متى 6: 12، ورسالة 1 يوحنا 1: 9 أنه ما زال على أتباع المسيح أن يطلبوا الغفران لأنهم ما زالوا يكسرون شريعة الله. كما أننا نرى في مقاطع مثل 2 كورنثوس 11: 13 وغلاطية 2: 4 أن المؤمنين غير الحقيقيين يبقون بين المؤمنين الحقيقيين في كنيسة العهد الجديد. كيف تأثرت هذه العوامل وغيرها باستعلان سياسات العهد الجديد؟ بطريقة أو بأخرى، كل بعد من أبعاد لاهوت أسفار العهد الجديد عكف على الإجابة عن هذا السؤال.

الآن وقد رأينا كيف أدار الله ملكوته من خلال ممثلو العهد وعبر التاريخ من خلال السياسات الملائمة، لننتقل إلى البحث في التطور العضوي للسياسات في العهود الكتابيّة.

التطور العضوي

عندما نتحدّث عن سياسات العهود وهي تتطور عضوياً، فنحن نعني بذلك شيئاً ينمو مثل نمو الشجرة. فالشجرة تتغير بينما تنمو من بذرة إلى النضوج الكامل، لكنها تبقى الكائن الحي ذاته. يمكننا أن ننظر إلى عهود العهد القديم بالطريقة ذاتها. كل عهد من عهود العهد القديم كان له ممثل مختلف للعهد ويركّز على سياسات كانت ملائمة لوقت معيّن في التاريخ. لكن مثل الشجرة، كان هناك وحدة عضوية على الرغم من هذه الاختلافات.

سننظر إلى التطور العضوي لعهود الله، أولاً في أسفار العهد القديم. ثم سنتناول التطور العضوي من أسفار العهد القديم إلى العهد الجديد. لنبدأ مع عهود العهد القديم.

العهد القديم

يمكننا أن نرى التطور العضوي لعهود العهد القديم عندما نُبقي في أذهاننا كيف أن سياسات العهود استمرت بتأثيرها عبر كل تاريخ العهد القديم. على سبيل المثال، منذ زمن آدم، قرّر الله أن الجنس البشري، كصورة الله، سينشر ملكوته في كل الأرض. وهذه السياسة تطوّرت مع الوقت، ولم يتم نبذها تماماً.

  • ومن أيام نوح، أسّس الله استقرار الطبيعة كمكان آمن للبشر صورته الساقطين في الخطية ليخدموا مقاصد ملكوته. وهذه السياسة الإداريّة تغيّرت بطرق متنوعة مع العهود اللاحقة، لكن الله لم يبطلها قط.
  • ومن زمن إبراهيم أُعطي بنو إسرائيل امتيازات ومسؤوليات خاصة كشعب الله المختار. وهذا الدور المميّز في التاريخ تطوّر مع إضافة عهود أخرى، لكنه لم يستبعد من إدارة ملكوت الله.
  • ومن زمن موسى، خدمت الشريعة كدليل لبني إسرائيل. وقد تغيّر تطبيق الشريعة مع إضافة عهود أخرى، لكنها لم تلغَ إطلاقاً.
  • ومن زمن داود، قادت سلالة داود الملكية شعب الله في خدمتهم للمملكة. وعلى الرغم من أن هذه القيادة تغيّرت مع العهد الجديد ومُلك يسوع، لكنها لم تُطرح جانباً.

ونمط التطور العضوي الذي نراه في أسفار العهد القديم استمر مع العهد الجديد في المسيح. فقد تطوّر هو أيضاً عضوياً من العهود السابقة.

العهد الجديد

لننظر من جديد إلى إرميا 31: 31 حيث يقول الله:

وَأَقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْدًا جَدِيدًا. (إرميا 31: 31)

في كثير من الأحيان اتّخذ المسيحيون المصطلح العهد الجديد على أنه يعني أن العهد الجديد هو جديد كليًّا، وغير مرتبط بالعهود السابقة في الكتاب المقدس. لكن من المهم أن نعرف، أن الكلمة “جديد” هي ترجمة للكلمة العبرية “حَدَش” (חָדַשׁ). ومقاطع مثل إشعياء 61: 4، وحزقيال 36: 26 وأيوب 29: 20 توضّح أن هذا المصطلح، وصيغ الأفعال المرتبطة به، لا تعني “جديداً تماماً”، بل إن ما تعنيه هذه المصطلحات ومشتقّاتها هو: “مُجدّد”، “مُصلح”، “أعيد بناؤه”، “مُستحدث”.

ويدعم هذا الرأي قول الله إن العهد الجديد سيقطعه مع “بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا”. بعبارة أخرى، العهد الجديد هو تجديد لعهد قومي مع نسل إبراهيم والأمم الذين تم تبنّيهم في عائلته بعد انتهاء السبي.

بالطبع، مثل كل عهد في العهد القديم سبقه، وضع العهد الجديد سياسات كانت ملائمة لموقعه في التاريخ. وقد أُعلن عن هذه السياسات الجديدة من خلال المسيح ومن خلال رسله وأنبياءه. لكن مثل كل عهد من العهود التي وردت في العهد القديم، جدّد العهد الجديد السياسات التي وضعها الله في إدارة العهود السابقة، أو أعاد بناءها، أو أصلحها، أو استحدثها.

عندما نفكّر في ملكوت الله في أسفار الكتاب المقدس القانونيّة وعبر تاريخ الفداء، نجد، ونحن ندرس العهود الكتابية ونصل إلى ذروتها في المسيح، أنه يوجد تغييرات في إدارة الملكوت. فعلى سبيل المثال، وخصوصاً في العهد القديم بينما يتمّم الله خطته الخلاصية من خلال شعب إسرائيل، كان يعمل بصورة رئيسية من خلال حكم ديني ثيوقراطي، من خلال أمة تمثّل الله ومنها سيأتي المسيّا، أي مجيء الرب يسوع. وترى الكثير من إدارة ذلك الملكوت مرتبطة بتلك الأمة في مكان وموقع وأرض محدّدة، تحت حكم وحكومة محدّدين، إلى ما هنالك. ثم عندما تفكّر في إتمام هذا الملكوت في المسيح، حيث يتحقّق هذا الملكوت في العهد الجديد مع بعض التغييرات. فالمسيح بلا شك هو الملك. وهو الذي يتمّم رمز العهد القديم وظلاله. حيث يتمّم دور داود وموسى. وهو الذي أسس الملكوت بحياته وموته وقيامته، وأتى بمُلك الله الخلاصي إلى العالم، وأنشأ جماعة من كل الشعوب – التي ندعوها الكنيسة، الإنسان الجديد الواحد، من يهود وأمم معاً – بحيث يملك هو الآن في كنيسته ومن خلالها. إنه الحُكم والمُلك الروحيان للمسيح من خلال شعبه إذ يُقبل رجال ونساء وفتيان وفتيات إلى التوبة والإيمان بالمسيح. وهم إذ يؤمنون يدخلون ذلك الملكوت، ويختبرون ملك الله الخلاصي. فذلك الملكوت هو الآن عالمي حيث يجذب ملكوت الله إليه شعباً من كل قبيلة وأمة وشعب ولسان. ويتجلّى هذا الملكوت في الكنيسة المحليّة حيث يوجد نوع من الثيوقراطية أو حكم الله، حيث يسود المسيح على شعبه في الكنيسة المحليّة، لكن ليس تماماً بالطريقة ذاتها التي كانت بالنسبة لشعب إسرائيل قديماً.

د. ستيڤن ولَم

 من هنا، عندما نفكّر بإدارة الله لملكوته وكيف يمكن أن تتغيّر، بالتأكيد لا نريد أن نفكر في الله كموظف قديم يسعى إلى اختلاق مخطط تنظيمي جديد لأن المخطط الأول لم ينجح، ولذلك هو يأتي بخطة البديلة. بكل بساطة لا يمكن أن يكون الأمر كذلك. فأهدافه ثابتة. لذا أعتقد من الأفضل برأيي أن نفترض أن مبادئ إدارته تكون متشابهة نسبيّاً، ومن ثم نميّز أي تغييرات قد تكون نشأت. في هذه الحالة، أعتقد أن صعود يسوع إلى السماء أمر مهم لكي يأتي الروح القدس، لتتأيد الكنيسة بالقوة بحيث لا يعود التركيز على يسوع بالجسد في مكان معيّن، بل تصبح حرة أن تنتشر بروح يسوع لتوصل رسالته إلى العالم أجمع. طبعاً هناك هذا التحوّل في العهود، فما كان يتم في الماضي في الجسد تأيّد الآن بقوة الروح القدس بحيث إن هدف العهد القديم – أن تحبّ الله من كل قلبك ونفسك وفكرك وقدرتك، وتحب قريبك كنفسك – نال المؤمنون الآن القوة ليقوموا به.

د. شون ماكدونَف

تقدّم لنا هذه التطورات العضوية بين عهود العهد القديم والعهد الجديد منظوراً أساسياً ثالثاً حول لاهوت أسفار العهد الجديد. فعلاوة على كون لاهوت أسفار العهد الجديد يتمركز حول المسيح ويرّكز على سياسات كانت ملائمة للاستعلان الثلاثي لملكوت المسيح، فقد ارتكز هذا اللاهوت أيضاً على لاهوت أسفار العهد القديم.

في جوهره، لم يكن لاهوت العهد الجديد إيماناً جديداً، بل بدلاً من ذلك، طبّق كُتّاب العهد الجديد تعاليم العهد القديم على ضوء إعلان الله في المسيح. لهذا السبب، العهد الجديد صغير نسبياً. حيث يفترض الشرعية الثابتة للعهد القديم. ولهذا السبب أيضاً احتكم كُتّاب العهد الجديد إلى العهد القديم مئات المرات ليدعموا وجهات نظرهم اللاهوتية. من هنا، عندما نقول إن لاهوت أسفار العهد الجديد يتمركز حول لاهوت العهد الجديد، لا نعني بذلك أنه منفصل عن أسفار العهد القديم. بل على العكس، فإن كل جانب من جوانب لاهوت أسفار العهد الجديد يندمج ويعتمد على لاهوت أسفار العهد القديم.

إلى هنا في درسنا حول العهد الجديد، بحثنا في إدارة ملكوت الله. والآن يجب أن ننتقل إلى موضوع رئيسي ثان في هذا الدرس: ديناميات التفاعل بين الله وشعبه في العهد الجديد.

 


ديناميات التفاعل


 

وصفَ كُتّابُ العهدِ الجديد تعاملاتَ الله وشعبَه في العهدِ بطرقٍ لا تُحصى. فهُم أشاروا إلى نعمةِ الله وكذلكَ إلى غضبِهِ. وقد طالبوا بالطاعةِ، وحَذّروا من العِصيان. كما وَصفوا كيفَ يَحمي اللهُ البعضَ من الضررِ وكيفَ يدعو آخرين للألم. تَطرحُ هذه الأمثلة، وأخرى كثيرة مباشرة وغيرُ مباشرة لتعاملاتِ الله مع شعبِه بعضَ الأسئلةِ الهامة. ما هي الآراءُ اللاهوتيّة التي تَقِفُ خَلفَ هذا التنوّع؟ كيف فَهِمَ كُتّابُ العهدِ الجديد كلَ ذلك؟ كيف تعاملوا مع أبعادِ التفاعلِ بين الله والبشر؟

مرة أخرى، سنبدأ بخلفية المعاهدات بين السيد والتابع للشرق الأدنى القديم. بصورة عامة، ركّزت هذه المعاهدات على ثلاث خصائص للتعاملات بين الملك الأعظم والملك الأدنى. أولاً، ادّعى الملك الأعظم دائماً أنه أظهر الإحسان نحو تابعيه. ثانياً، وضع الملك الأعظم شروطاً معيّنة يبرهن تابعوه من خلالها عن ولائهم. وثالثاً، أوضح الملك الأعظم نتائج البركات واللعنات التي يجب أن يتوقعها التابعون مقابل الطاعة والعصيان. وهنا يجب أن نقول إن الملك الأعظم احتفظ دائماً بحقه في فرض شروط عهده بالطريقة التي يراها ملائمة له. لكن بصورة عامة، شكّل الإحسان، والولاء، والنتائج المبادئ الأساسية التي حكمت العلاقات في تلك المعاهدات.

وكما سنرى، فإن هذه العناصر ذاتها تظهر في دينامية التفاعلات الإلهيّة البشريّة في العهود الكتابيّة. ويجب أن نُبقي في ذهننا أن الله، باعتباره الملك الأسمى، هو من حدّد كيف ستنجح تفاعلات عهوده. وقد قام بذلك وفق حكمته التي لا تضاهى، وليس وفق مقاييس التوقعات البشريّة. ولهذا السبب يوضّح الكتاب المقدس أن تعاملات الله مع شعبه هي غالباً فوق الإدراك البشري. لكن كما تذكّرنا مقاطع مثل التثنية 29: 29، وإشعياء 55: 8 و9 وعدد من المزامير، وأسفار كاملة مثل أيوب والجامعة، أن الطرق التي من خلالها نفّذ الله ديناميات العهد كانت دائماً صالحة وحكيمة.

سوف نبحث في ديناميات التفاعل بين الله والشعب عن طريق ملاحظة أولاً الإحسان الإلهي لله نحو شعبه. ثانياً، سننظر كيف تضمّنت العهود الكتابيّة امتحانات الولاء لشعب الله في العهد. وثالثاً، سنتناول نتائج البركات واللعنات للطاعة والعصيان. لنبدأ بالإحسان الإلهي.

الإحسان الإلهي

 سننظر في عنصر الإحسان الإلهي في كلا من عهود أسفار العهد القديم وكذلك في العهد الجديد. لننظر أولاً في الإحسان الإلهي في عهود أسفار العهد القديم.

 العهد القديم

تبيّن أسفار العهد القديم بصورة واضحة جداً أن إحسان الله، أو لطفه، قد استهل وعزّز العلاقات التي نشأت عن عهوده. أولاً، أظهر الله الإحسان الإلهي نحو آدم كممثّل عهده في عهد الأساسات. فقبل سقوط آدم في الخطية، أظهر الله اللطف نحو آدم بخلقه جنة عدن، ووضعه هناك باعتباره صورة لله. كما أن الله سكب نعمته المخلّصة على أبوينا الأولَين، آدم وحواء، بعد سقوطهما في الخطية. بالإضافة إلى ذلك، مثّل آدم كل البشرية في بلاط الله. من هنا، انتقل لطف الله نحو آدم إلى شعب العهد الذين مثّلهم. بطريقة أو بأخرى استمر الله في إظهار نعمته العامة لجميع الشعوب، بما في ذلك غير المؤمنين. وللمؤمنين الحقيقيين مثل هابيل، وشيث، وللعديد غيرهم أظهر الله نعمته المخلّصة.

حظي نوح أيضاً طوال حياته بالإحسان الإلهي – النعمة العامة والنعمة المخلّصة على حد سواء – باعتباره ممثّل عهد الله في عهد الاستقرار. وكما كانت الحال في العهد مع آدم، فإن اللطف الذي أظهره الله نحو نوح انتقل إلى شعب العهد الذي مثّله نوح: أي كل الجنس البشري. وبطرق متنوعة، أظهر الله لكل الشعب نعمته العامة. وللمؤمنين الحقيقيين، لا سيما الذين من ذريّة شيث، أظهر الله لهم أيضاً نعمته المخلّصة.

واختبر إبراهيم أيضاً الإحسان الإلهي للنعمتَين العامة والمخلّصة كممثّل عهد الله في عهد اختيار إسرائيل. واللطف الذي أظهره الله نحو إبراهيم أظهره أيضاً نحو شعب العهد الذي مثّله: أي بني إسرائيل والأمم الذين سيتم تبنّيهم في إسرائيل. وأظهر الله كما شاء نعمته العامة نحو الشعب في هذا العهد، بمن فيهم غير المؤمنين مثل عيسو. لكن الله سكب أيضاً نعمته المخلّصة على الأمناء أمثال يعقوب، ويوسف، وكثيرين غيرهم.

وكما تُبيِّن سيرة حياة موسى، أظهر الله إحسانه الإلهي لنعمته العامة والمخلّصة بطرق فريدة لموسى نفسه كممثّل العهد، في عهد الشريعة. واللطف الذي أظهره الله نحو موسى انتقل إلى الذين مثّلهم: أي شعب إسرائيل، والذين تم تبنّيهم في إسرائيل. وقد استفاد كل بني إسرائيل من نعمة الله العامة، حتى أولئك الذين لم يكن لديهم الإيمان المخلِّص. وقد بيّن الله أيضاً نعمته المخلّصة لكثيرين ممن كانوا في إسرائيل، والذين تم تبنّيهم في إسرائيل.

وأخيراً نال داود الإحسان الإلهي لنعمة الله العامة والمخلّصة بطرق خاصة كممثّل العهد الذي اختاره الله في عهد الملكيّة. واللطف الذي أظهره الله نحو داود انتقل إلى شعب العهد الذي يمثّله: أي أولاده الملوك، وشعب إسرائيل، وكل الأمم الذين تم تبنّيهم في شعب إسرائيل. ووفق حكمة الله الفائقة الإدراك، اختبروا جميعهم النعمة العامة بمن فيهم غير المؤمنين في إسرائيل. لكن المؤمنين الحقيقيين نالوا أيضاً نعمة الله المخلّصة.

هيّأ الإحسان الإلهي لله نحو شعبه في عهود أسفار العهد القديم الأجواء للطرق التي أثّر فيها إحسان الله على ديناميات العهد الجديد أيضاً.

العهد الجديد

في المقام الأول، تجذب أسفار العهد الجديد الانتباه إلى إحسان الله نحو المسيح، الذي هو ممثّل العهد الجديد. يجب أن نكون واضحين بأن يسوع مثل آدم قبل السقوط، لم يكن أبداً بحاجة إلى الرحمة، أو الغفران، أو النعمة المخلّصة من الله. مع ذلك تشير مقاطع مثل متى 3: 16 و17؛ ومتى 12: 18؛ ولوقا 3: 22 أنه عند تأسيس يسوع لملكوته مسحه الآب بالروح القدس مؤيّداً إيّاه بالقوة في خدمته. في الحقيقة، وفق رومية 8: 11، أقام الآب يسوع من الموت بقوة الروح القدس. علاوة على ذلك، وفق المزمور 2: 4-6؛ ومتى 28: 18؛ وأعمال الرسل 2: 31-33، رفّع إحسان الآب نحو يسوع إلى مركزه الحالي من السلطان والقدرة خلال استمرار ملكوته. وهذا اللطف سيقود إلى الامتيازات والمجد التي سينالها المسيح عند اكتمال ملكوته.

في المقام الثاني، تركّز أسفار العهد الجديد أيضاً على ما يسمّيه اللاهوتيّون المسيحيّون عادةً “الاتحاد مع المسيح”. يوضّح هذا التعليم أن إحسان الله نحو المسيح يؤثّر أيضاً في الكنيسة، أي شعب العهد الذي يمثّله المسيح.

اتحاد المؤمنين مع المسيح مزدوج. فمن جهة، نحن “في المسيح”. هذا يعني أنه بسبب كون المسيح ممثّلاً لنا في العهد، فإن شعب العهد الجديد متحدون مع المسيح في بلاط الله السماوي. من هنا، من عدّة نواح، ما يصحّ عن المسيح يعتبر صحيحاً بالنسبة إلى كل الذين يُمثّلهم في بلاط الله. وهذا ما كان في فكر بولس عندما قال في أفسس 1: 13:

الَّذِي فِيهِ أَيْضاً أَنْتُمْ، إِذْ سَمِعْتُمْ كَلِمَةَ الْحَقِّ، إِنْجِيلَ خَلاَصِكُمُ. (أفسس 1: 13)

لكن من جهة أخرى، لا يتحدّث العهد الجديد فقط عن وجود المؤمنين “في المسيح”. بل يتحدّث أيضاً عن “المسيح فينا”. أي أن المسيح حاضر ويعمل في المؤمنين من خلال الروح القدس في اختباراتنا اليومية على الأرض. استمع إلى رومية 8: 10-11:

وَإِنْ كَانَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ، فَالْجَسَدُ مَيِّتٌ بِسَبَبِ الْخَطِيَّةِ، وَأَمَّا الرُّوحُ فَحَيَاةٌ بِسَبَبِ الْبِرِّ. وَإِنْ كَانَ رُوحُ الَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَاكِناً فِيكُمْ، …سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ الْمَائِتَةَ أَيْضاً بِرُوحِهِ السَّاكِنِ فِيكُمْ. (رومية 8: 10-11)

وكما يشير هذا المقطع، رغم إقرار كتّاب العهد الجديد بأن الكنيسة متحدّة مع المسيح في السماء، فقد أدركوا أيضاً أن عصر العهد الجديد لم يصل إلى اكتماله بعد. ونتيجة لذلك، فالحياة في العهد الجديد الآن تختلف عمّا ستكونه عند رجوع المسيح. على سبيل المثال، ما زال شعب الله في العهد الجديد يخطئون اليوم. علاوة على ذلك، ما زال المؤمنون غير الحقيقيين – الذين ليس لهم الإيمان الخلاصي- في الكنيسة المنظورة إلى جانب المؤمنين الحقيقيين. فقط عند التحقيق النهائي سيكتمل عمل المسيح فينا.

لهذا السبب، تعلّم أسفار العهد الجديد أنه قبل رجوع المسيح، يُظهر الله نعمته العامة لجميع الناس في الكنيسة المنظورة، بمن فيهم المؤمنين غير الحقيقيين. في الواقع، توضّح مقاطع مثل يوحنا 15: 1-6 والعبرانيين 6: 4-6 أنه على الرغم من أن غير المؤمنين كثيراً يختبرون مراحم عظيمة وقتيّة من الله، فهم لا ينالون النعمة الخلاصيّة. لكن في الوقت نفسه، قد أظهر الله نعمته الخلاصيّة للمؤمنين الحقيقيين حتى في الوقت الحاضر. فلا عجب إذن إن كل أوجه لاهوت أسفار العهد الجديد مقدّمة باعتبارها إحساناً إلهيّاً.

نجد في العهدَين القديم والجديد أن الرب يعلن لطفه نحو كل البشر، نحو الصالح والطالح، نحو العادل والظالم، نحو الذين هم أولاده والذين ليسوا كذلك. الله لطيف بالطريقة التالية: في المقام الأول إنه لا يهلكنا فوراً على الرغم من أننا جميعنا خطاة. فهو يسمح لنا أن نعيش بنعمته. في المقام الثاني، إنه يعطينا نعمة المطر، ويُغدقه على مزارع الأشرار والصالحين. ويُعلن الكتاب المقدس أن الشمس تُنمي المزروعات وتجعلها غذاء للأبرار والظالمين. وهذا يعني أن الله يظهر لطفه نحو جميع المخلوقات: الصالحة والطالحة. وهو يعطي الجميع الفرصة ليتعرّفوا إليه. كما يُعلن الرب لنا أنه من خلال رحمته يعطي الفرصة للذين لا يتبعونه أو حتى من ينكرونه الفرصة ليستمعوا إلى رسالته، ويدرسوا كلمته، وينالوا الخلاص. وبالتالي، يُظهر الرب لطفه حتى على أولئك الذين ينكرون وجوده. أما الذين يخصّونه، فقد وعد بأن يباركهم دائماً وإلى الأبد.

د. آلڤن پاديّا

وكما قال بولس في أفسس 2: 8:

لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. (أفسس 2: 8)

والآن بعد أن رأينا كيف أن ديناميات التفاعل بين الله والشعب تتضمّن إظهار الإحسان الإلهي لهم، لننظر كيف أن الحياة في العهد مع الله تستلزم أيضاً امتحانات للولاء. ومتطلبات الطاعة هذه تكشف حالة قلوب الذين في عهد مع الله.

امتحانات الولاء

يجب أن نشير هنا إلى أنه في القرن العشرين بدأ العديد من علماء اللاهوت بمقارنة العهود الكتابيّة مع مجموعة أخرى من نصوص الشرق الأدنى القديم، وتُدعى غالباً “المنح الملكيّة”. في هذه المنح، يُعطي الملك السيد منافع للملك التابع، أو الخاضع له. وقد قادت الدراسات الأولى الكثيرين للاستنتاج أنه لم يكن هناك أي واجبات أو متطلبات، ولا امتحانات ولاء للذي نال المنحة. ونتيجة لذلك، أشار بعض مفسّري الكتاب المقدس إلى أن العهود الكتابيّة لا تتطلّب الولاء من شعب الله. لكن أبحاثاً حديثة أكثر بيّنت عكس ذلك. فنحن نعلم اليوم أنه حتى المنح الملكية تتطلّب الخدمة المخلصة من قبل مستلميها. من هنا، يجب ألا نتفاجأ عندما يخبرنا الكتاب المقدس أن الله امتحن ولاء شعبه في كل عهد كتابيّ، ومن ضمنها العهد الجديد.

عندما نقول إن اللهَ يَمتحنُ ولاءَنا كجزءٍ من حياتِنا في ظلِ العهدِ الجديد، نحتاجُ أن نَتجنّبَ بعضَ إساءاتِ الفهم الخطيرة. أولاً، في كلِ الكتابِ المقدس، لم ينل خاطئٌ واحدٌ الخلاصَ من خلالِ أعمالِه الصالحة. فلن نصلَ أبداً إلى الكمالِ المطلوب لننالَ بركاتَ الله الأبديّة من خلال جهودِنا الشخصيّة. ثانياً، كلُ عملٍ صالحٍ نقوم به هو بفضلِ نعمةِ الله العاملةُ فينا. فنحنُ لا نُتمّمُ أيَّ عملٍ صالحٍ دونَ رحمةِ الله وقوةِ روحِه القدوس. وثالثاً، ما زلنا نحتاجُ أن ندركَ أن الله دعا دائماً شعبَه في العهدِ إلى الطاعة. في كِلا العهدين القديم والجديد، امتحنَ اللهُ أو أثبتَ الحالةَ الحقيقيّة لقلوبِ شعبِه من خلال استجاباتِهم لوصاياه.

ما أريد أن يعرفه كل المؤمنين في المسيح هو أن العلاقة الشخصية مع الله لم تبدأ في العهد الجديد. بل كانت تحقيقاً للإعلان منذ القديم: “وَيَكُونُونَ لِي شَعْباً وَأَنَا أَكُونُ لَهُمْ إِلهاً”. وهذه الصيغة هي منذ فجر البداية، من جنة عدن، هي من التكوين الفصل الثاني عشر، منذ تكوين شعبٍ في العهد. وهكذا، الإخلاص القلبي هو بداية الطاعة، وليس نتيجة الطاعة. هو ليس منفصل عن الطاعة. فنحن نطيع الله لأنه أحبّنا، ولأنه جذبنا إليه، ولأنه شكّلنا، ولأنه كان معنا في كل واد، وفي كل بريّة، وفي كل انتصار. من هنا، الطاعة هي نتيجة علاقة، وليست نتيجة قانون أو نظام.

د. جويل هَنتر

ولكي نوضّح ما نعنيه، سنوجز كيف أن امتحانات الولاء تظهر في عهود أسفار العهد القديم. ثم سننظر إلى امتحانات الولاء في العهد الجديد. لنبدأ بأسفار العهد القديم.

العهد القديم

كل من يطالع الكتاب المقدس يعرف أن الله امتحن آدم بصفته ممثّل العهد مع الله من خلال توجيهات الله في جنة عدن. كما نعرف أيضاً أن الله طالب بولاء شعبه في العهد في آدم: أي الجنس البشري بكامله.

نوح أيضاً امتُحن من خلال توجيهات الله له باعتباره ممثّل العهد مع الله قبل الطوفان وبعده. ويشير الكتاب المقدس إلى أن الله استمر في امتحان قلوب شعبه في العهد في نوح – أي الجنس البشري بكامله.

وتصوّر لنا سيرة حياة إبراهيم كيف امتحن الله ولاء أبينا إبراهيم بطرق عدّة كممثّل لعهده. ونعطي مثلاً واحداً فقط، يرد في التكوين 22: 1-19 بوضوح أن الله امتحن إبراهيم عندما أمره بأن يقدّم ابنه إسحاق ذبيحة. في التكوين 22: 12، قال ملاك الرب لإبراهيم:

الآنَ عَلِمْتُ أَنَّكَ خَائِفٌ اللهَ، فَلَمْ تُمْسِكِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ عَنِّي. (تكوين 22: 12)

يمكننا أن نرى في هذا المقطع السبب وراء أمر الله لإبراهيم. فقد امتحنه ليكشف عن حالة قلبه الحقيقية.

بطريقة مشابهة، يعلّم الكتاب المقدس أن الله امتحن ولاء شعبه في العهد من خلال إبراهيم: أي بني إسرائيل والأمم الذين تم تبنّيهم في إسرائيل.

امتُحِنَ موسى بوصايا الله كل حياته كممثّل للعهد لإسرائيل. وأعلن الله بوضوح أنه أعطى شعبه إسرائيل في العهد الشريعة ليمتحنهم. استمع إلى التثنية 8: 2 حيث قال موسى لشعبه:

سَارَ بِكَ الرَّبُّ إِلهُكَ هذِهِ الأَرْبَعِينَ سَنَةً فِي الْقَفْرِ، لِكَيْ يُذِلَّكَ وَيُجَرِّبَكَ لِيَعْرِفَ مَا فِي قَلْبِكَ: أَتَحْفَظُ وَصَايَاهُ أَمْ لاَ؟ (تثنية 8: 2)

وبالطريقة ذاتها إلى حد بعيد، تبيّن قصص حياة داود أن الله امتحن ولاء داود كالملك ممثّل العهد لإسرائيل. وكما توضّح بقية أسفار العهد القديم تكراراً، استمر الله في امتحان شعبه في العهد، أبناء داود وشعب إسرائيل عبر أجيالهم.

بعد أن أشرنا إلى امتحانات الله للولاء في عهود أسفار العهد القديم، لنبحث الآن طريقة امتحان الله لولاء شعبه في العهد الجديد.

العهد الجديد

كما رأينا، انسكبت نعمة الله في العهد الجديد كما لم يحدث من قبل في التاريخ الكتابيّ. لكن من الواضح أيضاً أن أسفار العهد الجديد تتضمّن عدداً لا يُحصى من وصايا الله وتوجيهاته. لماذا هذا صحيح؟ في الحقيقة كما هو الحال بالنسبة إلى العهود في أسفار العهد القديم، كذلك تطلّب العهد الجديد أيضاً امتحانات ولاء.

لهذا السبب، تلفت أسفار العهد الجديد الكثير من الانتباه إلى ولاء المسيح كممثّل العهد الجديد. وتخبرنا أنه خلال فترة تأسيس الملكوت، نجح يسوع في كل امتحانات الولاء التي طلبها منه الله. في العبرانيين 4: 15 نقرأ:

مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ. (عبرانيين 4: 15)

واستمع إلى فيلِّبي 2: 8 حيث يشير بولس إلى طاعة المسيح المذهلة:

وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. (فيلِّبي 2: 8)

في لاهوت أسفار العهد الجديد، كانت قمة ولاء يسوع في خدمته لله هي بموته الطوعي على الصليب. لكن لماذا كان عمل الطاعة هذا مهماً للغاية؟

منذ دخول الخطية إلى العالم، اتخذ الله تدابير وقتيّة للتعامل مع خطايا شعبه في العهد عن طريق دم الذبائح الحيوانيّة. لكن كما تعلّم الرسالة إلى العبرانيين 10: 1-14، كانت هذه الذبائح عاجزة عن ضمان الغفران النهائي الدائم للملكوت الظافر لله. من هنا، مع اقتراب سبي إسرائيل، أعلن الله في إشعياء 53: 1-12 مطلبه بالموت الطوعي لعبد الرب، المسيّا، ككفارة عن خطايا شعبه. ومن خلال موته سيُدخِل الملك ممثّل العهد شعب الله إلى أمجاد ملكوته الظافر الأبدي. وقد تمّم يسوع هذا الدور في مرحلة التأسيس عندما قدّم نفسه طوعاً للموت على الصليب. ونجد ذلك في مقاطع مثل متى 8: 17؛ وأعمال الرسل 8: 32-33؛ ورومية 6: 10؛ و1 بطرس 2: 22-25. وباجتيازه امتحان الولاء بنجاح، كممثّل العهد الجديد، قدّم يسوع كفارّة دائمة وغفراناً أبدياً لجميع الذين يؤمنون به.

بالإضافة إلى موت يسوع على الصليب، تشير مقاطع مثل العبرانيين 8: 1 و2 إلى أن المسيح، كابن داود، يقوم بخدمة مطيعة في السماء خلال فترة استمرار ملكوته. وتعلّم 1 كورنثوس 15: 24 أنه عند رجوع المسيح في المجد عند الاكتمال النهائي، سيسلّم الملكوت إلى الله الآب كعمل خدمة متواضع.

وبقدر ما يركّز لاهوت أسفار العهد الجديد على الولاء الكامل للمسيح كممثّل العهد الجديد، فهو يشدّد أيضاً على أن امتحانات الولاء ما زالت سارية المفعول بالنسبة للكنيسة، شعب العهد الجديد.

مرة أخرى، من المهم أن نفهم امتحانات الولاء بالنسبة للكنيسة من حيث اتحاد الكنيسة بالمسيح. فمن جهة، الكنيسة هي “في المسيح” بمعنى أننا متحدّون به أمام الله في بلاطه السماوي. وبحسب 1 تيموثاوس 3: 16، كان المسيح هو من اجتاز في امتحان اختبار الولاء بصورة كاملة وتزكَّى عندما أقامه الروح القدس من الموت. لهذا السبب، كما تعلّم مقاطع مثل رومية 4: 23-25، فإن هذه التزكية القانونيّة للمسيح في بلاط السماء احتُسبت إلى جميع الذين لهم الإيمان الخلاصي فيه. ففي المسيح يقف المؤمنون الحقيقيون أمام كرسي المحاسبة كأشخاص نجحوا في الامتحان، لأن المسيح نجح في الامتحان نيابة عنا. وهذه الحقيقة الرائعة عن المسيح في البلاط السماوي لله هي الأساس لوجهة النظر اللاهوتيّة لأسفار العهد الجديد التي يدعوها اللاهوتيّون الإنجيليّون “سولا فيدي” “Sola Fide” أو التبرير بالإيمان وحده.

لكن من جهة أخرى، يشير الاتحاد بالمسيح أيضاً إلى الاختبار اليومي “للمسيح فينا”. ففي الوقت الذي ما زالت فيه الكنيسة موجودة على الأرض قبل رجوع المسيح بمجد، يختبر الناس داخل الكنيسة امتحانات ولاء تبيّن حالة قلوبهم. ويعمل روح المسيح داخل المؤمنين الحقيقيين ليقدّسهم. وهذا الجانب من اتحادنا بالمسيح يتوافق مع عقيدة التقديس الإنجيليّة، أو السعي التدريجيّ في القداسة. ويعلّم الكتاب المقدس أن الامتحان هو الطريقة التي من خلالها يدفعنا الله إلى الأمام في القداسة. وكما يشير يعقوب 1: 2 و3:

اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ، عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْراً. (يعقوب 1: 2 -3)

مرّة أخرى، يجب أن نتذكّر أنه في فترة تأسيس واستمرار ملكوت المسيح، تتألّف الكنيسة المنظورة من مؤمنين غير حقيقيين ومؤمنين حقيقيين. ومن خلال امتحان الولاء يتبيّن إن كان للمجموعتين إيمان خلاصي أو لا. فالمؤمنون غير الحقيقيين يخفقون في امتحان الولاء ويتحولون عن خدمة المسيح. أما المؤمنون الحقيقيون على عكس ذلك، رغم أنهم غير كاملين في هذه الحياة، فهم يثابرون في ولائهم للمسيح بقوة الروح القدس. وكما نقرأ في 1 يوحنا 2: 19 حول المؤمنين غير الحقيقيين:

مِنَّا خَرَجُوا، لكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَّا، لأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنَّا لَبَقُوا مَعَنَا. لكِنْ لِيُظْهَرُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا جَمِيعُهُمْ مِنَّا. (1 يوحنا 2: 19)

وكما يبيّن هذا المقطع، يحتوي لاهوت أسفار العهد الجديد على العديد من الوصايا من الله كامتحانات للولاء لتبرهن من هم الذين ينتمون حقاً إلى جماعة المؤمنين الحقيقيين.

في الليلة التي أُسلم فيها للموت، أسّس يسوع المسيح عهداً جديداً. ومثل كل العهود، تضمّن هذا العهد التزامات وواجبات متبادلة. وأحد التزاماتنا الرئيسيّة في هذا العهد الرائع هو الاعتراف بيسوع المسيح رباً، والالتزام بطاعة إرادته واتباع خطواته، وإخضاع نفوسنا لربوبيته الحقيقية، فنعيش له بأمانة، من كل قلوبنا، ونكون مستعدين لننقاد بمحبة الله في العالم. لكن أحد الأمور التي من الضروري أن نضيفها هنا هي أن إتمام واجبات عهدنا اليوم هي إنجازات نعيشها بقوة الروح القدس وبحضوره فينا. فالروح القدس يحسّن استعدادنا لنطيع ويسمو به فوق ثقل الواجب الساحق بحيث يصبح بلغة الكتاب المقدس عهد سرور متبادل. فالشخص الذي يعتني بنا يُسرّ بنا ونحن نُسرّ به. وهذا يعطيك فكرة ما لماذا يمكن للرسول أن يقول إن ملكوت الله ليس واجباً ساحقاً بثقله، بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ. ويخبرنا بعض أعظم القديسين أن هذا الواجب الذي وجد ليجعلنا أمناء ومخلصين لربّنا هو أمر لا نقوم به على مضض، بل بحماسة من كل قلوبنا لأنه جذبنا إليه، فتبعناه ووجدنا طرقه مصدر بهجة لنا.

د. ﭼلِن سكورجي

الآن بعد أن رأينا ديناميات التفاعل في العهد الجديد بعلاقتها بالإحسان الإلهي وامتحانات الولاء، يجب أن ننتقل إلى عنصر ثالث. لنفحص نتائج البركات واللعنات بالنسبة للطاعة والعصيان.

النتائج

 سننظر في نتائج الطاعة والعصيان في العهد مع الله كما فعلنا في بحثنا السابق. فسنفحص بإيجاز عهود أسفار العهد القديم، ثم ننتقل إلى العهد الجديد. لننظر أولاً في نتائج البركات واللعنات في عهود أسفار العهد القديم.

العهد القديم

قبلَ تأسيسِ العهدِ الجديد، كانتْ نتائجُ البركاتِ واللعناتِ أبعاداً أساسيّة لتعاملاتِ الله مع مُمثّلي العهد، ومع شعبِه في العهدِ ككل. وكما سبقَ وذَكرنا، كثيراً ما نَفّذَ اللهُ شروطَ عهودِه بطرقٍ تفوقُ الفَهمَ البشري. من هنا، كثيراً نجدُ الله في الكتابِ المقدس يُسرّعُ، أو يَزيدُ، أو يُخفّفُ، أو يُؤخّرُ، أو حتى يُلغي بركاتِ ولعناتِ عهودِه في أوقاتٍ معيّنة بطرقٍ تفوقِ الإدراكَ البشري. لكنه كان دائماً يفعلُ ذلك بحسبِ حكمتِه وصلاحِه الكاملَين.

في عهد الأساسات، لعن الله آدم ممثّل عهده، بالعذاب والموت نتيجة عصيانه. لكننا نرى أيضاً بركات الله لآدم. ففي التكوين 3: 15، وعد الله بانتصار البشرية على نسل الحية. وقد انتقلت لعنة الموت ورجاء الانتصار كلاهما، كما وجد الله مناسباً، إلى شعب العهد الذين مثّلهم آدم، أي الجنس البشري.

وفي عهد استقرار الطبيعة، نال نوح ممثّل العهد البركات لخدمته الأمينة. استمر أيضاً في مواجهة اللعنات، مثل مشاكل في عائلته بعد الطوفان. وكانت بركات ولعنات مشابهة من نصيب الأجيال اللاحقة من البشر، أي شعب العهد الذين مثّلهم نوح.

وفي عهد اختيار إسرائيل، نال إبراهيم أيضاً نتائج البركات واللعنات كممثّل عهد الله. وهذه النتائج انتقلت إلى شعب العهد إسرائيل، وإلى الذين تم تبنّيهم في بني إسرائيل في الأجيال اللاحقة.

وبطريقة مشابهة، في عهد الشريعة تلقّى موسى بركات ولعنات الله في حياته كممثّل العهد. علاوة على ذلك، أوضحت شريعة موسى الكثير من البركات واللعنات المحدّدة التي هي من نصيب شعب إسرائيل في العهد، ومن نصيب الأمم الذين تم تبنّيهم في شعب إسرائيل.

في عهد الملكية، نال داود نفسه، بصفته ممثّل العهد، نتائج البركات واللعنات وفقاً لأمانته أو عدم أمانته. والأمر نفسه انطبق على شعب العهد الذين مثّلهم، أي نسله الملوكي وشعب إسرائيل والأمم الذين تم تبنّيهم في شعب إسرائيل.

تطرّقنا بإيجاز إلى نتائج البركات واللعنات في عهود أسفار العهد القديم. وقد هيأت هذه العهود الأجواء لما علّمه كُتّاب العهد الجديد عن نتائج الطاعة والعصيان المرتبطة بالعهد الجديد في المسيح.

العهد الجديد

يشدّد لاهوت أسفار العهد الجديد على أن المسيح، كممثّل العهد الجديد، اختبر كلا من لعنات الله وكذلك بركات الله. فكما أشار بولس في غلاطية 3: 13، احتمل يسوع لعنة الله على خطايا كل الذين يؤمنون به، حين ذاق الموت على الصليب.

لم يقع يسوع تحت لعنة الله بسبب إخفاقاته الشخصية. فهو لم يكن لديه خطايا شخصية. لكن إتماماً لما جاء في إشعياء 53: 1-12، احتمل دينونة الله كالملك البريء بديلاً عن شعب الله في كل عصر. لكن في المقابل، بسبب برّه الشخصي، نال المسيح أيضاً بركات الله. فيسوع هو الإنسان الوحيد الذي خدم الله بشكل كامل واستحق مكافأة بركات الله الأبدية. استمع إلى الربط بين طاعة المسيح وبركة الله في فيلبي 2: 8-9:

وَأَطَاعَ [المسيح] حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. لِذلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ اسْماً فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ. (فيلبي 2: 8-9)

في لاهوت أسفار العهد الجديد، كانت قيامة يسوع وصعوده في تأسيس الملكوت المكافأة العادلة لطاعته الكاملة لله. ويتمتّع المسيح ببركة الله طوال فترة استمرار ملكوته اذ هو يملك على كل الخليقة عن يمين الآب. وسينال بركة أعظم عند اكتمال ملكوته حين ينال ميراثه الأبدي بالمُلك على الخليقة الجديدة.

وبقدر ما تمدح أسفار لاهوت العهد الجديد يسوع لاكتسابه بركة المُلك على كل الخليقة، نعلم أن نتائج العهد الجديد ستُؤثر أيضاً في الكنيسة، شعب العهد الجديد.

مرة أخرى، تشير عقيدة الاتحاد بالمسيح في أسفار العهد الجديد إلى ناحيتَين لهذه الحقيقة. من جهة، لأننا في المسيح، فكل بركة أبدية من الله هي بالفعل من نصيب المؤمنين الحقيقيين. يُمكن للمؤمنين الحقيقيين أن يطمئنوا إلى حقيقة أنهم لن يختبروا أبداً لعنة الله الأبدية. وبركاتهم الأبدية مضمونة لأن المسيح هو ممثّل عهدهم. وقد عبّر بولس عن هذه الفكرة عندما كتب تسبيحته الشهيرة في أفسس 1: 3:

مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ. (أفسس 1: 3)

بسبب اتّحادنا بالمسيح في السماء، نلنا بالفعل كمؤمنين حقيقيين “كل بركة روحية”. فكما حمل المسيح لعنات الله الأبديّة نيابة عنا، نال أيضاً البركات الأبدية مكافأة من الآب من أجلنا.

لكن من جهة أخرى، اتحادنا بالمسيح يعني أن المسيح فينا. أي أنه يعمل في المؤمنين الحقيقيين لكي يختبروا نتائج الطاعة والعصيان في حياتهم اليومية.

مرة أخرى يجب أن نتذكّر أنه إلى حين عودة المسيح بالمجد، تتألف الكنيسة المنظورة من مؤمنين غير حقيقيين ومؤمنين حقيقيين. ويشرح لاهوت أسفار العهد الجديد كيف أن نتائج البركات واللعنات، في هذه الحياة وفي الأبدية، تنطبق على هاتَين المجموعتَين.

فتشرح لنا مقاطع مثل لوقا 12: 45-46 ورومية 2: 4-5، أنه مع استمرار المؤمنين غير الحقيقيين في عصيانهم على الله، فإن البركات التي ينالونها في هذه الحياة تزيد من لعنات الله الأبديّة عليهم في الدينونة الأخيرة. كما أن المشقّات واللعنات التي يعانونها في هذه الحياة ما هي إلا عيّنات مسبقة للعنات الأبديّة التي ستنزل عليهم عند رجوع المسيح.

على نقيض ذلك، ينال المؤمنون الحقيقيون أيضاً كلا من البركات واللعنات في هذه الحياة. لكن البركات التي يحصل عليها المؤمنون الحقيقيون في هذه الحياة هي عيّنات مسبقة للبركات الأبديّة التي ستأتي عند اكتمال الملكوت. فبالنسبة للمؤمنين الحقيقيين، كما تُعلن مقاطع مثل العبرانيين 12: 1-11، فإن الشدائد الوقتية، أو اللعنات، هي بمثابة تأديب أبوي من إلهنا المحب. فهذه الصعوبات تُقدّسنا وتزيد البركات الأبدية التي سننالها عند عودة المسيح. وكما نقرأ في الرؤيا 21: 6-8، يقول الله:

أَنَا أُعْطِي الْعَطْشَانَ مِنْ يَنْبُوعِ مَاءِ الْحَيَاةِ مَجَّاناً. مَنْ يَغْلِبْ يَرِثْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَكُونُ لَهُ إِلهاً وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْناً. وَأَمَّا الْخَائِفُونَ وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالرَّجِسُونَ وَالْقَاتِلُونَ وَالزُّنَاةُ وَالسَّحَرَةُ وَعَبَدَةُ الأَوْثَانِ وَجَمِيعُ الْكَذَبَةِ، فَنَصِيبُهُمْ فِي الْبُحَيْرَةِ الْمُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ. (رؤيا 21: 6-8)

في ذلك اليوم، يُعاقَب المؤمنون غير الحقيقيين في كنيسة العهد الجديد بالدينونة الأبدية. لكنَ المؤمنين الحقيقيين سينالون ميراثهم الأبدي في الخليقة الجديدة المجيدة.

إن أردنا أن نرى البركات التي ينالها شعب الله بعد الدينونة النهائية، نحتاج أن ننظر إلى فصلَي الرؤيا الحادي والعشرين والثاني والعشرين، حيث نجد تلك الصورة المدهشة عن الخليقة الجديدة في العالم. وأنا أحبّ هذا الوصف للخليقة الجديدة هناك لأنه ليس مجرد إعادة للتكوين، وعودة للجنَّة. بل هو في الحقيقة ارتقاء للجنة. وهذا الوصف مليء بالحركة. فالخليقة الجديدة أفضل من جنة عدن. ففي عدن، كان على آدم وحواء مسؤولية الحكم تحت سلطة الله، والاعتناء بالجنة وأن يكونا وكيلَين على الأرض. أما في الخليقة الجديدة فهذا ما سنفعله أيضاً وهو بركة لنا. لكننا لن نخطئ أبداً. كان بإمكان آدم وحواء أن يُخطئا. لكن في الخليقة الجديدة، لن يسقط شعب الله أبداً في الخطية. في عدن، لم يكن يسوع موجوداً هناك بالجسد. أما في الخليقة الجديدة فيسوع سيكون حاضراً. من هنا، البركة التي نرثها كشعب الله، شعب العهد الجديد، هي حقاً خليقة جديدة أفضل من أي شيء عرفه العالم.

د. ستيڤِن وِتمِر

 


الخاتمة


 

في هذا الدرس حول العهد الجديد في المسيح، درسنا إدارة ملكوت الله، ورأينا كيف أدار الله ملكوته من خلال ممثلي عهده، وكيف وضع سياسات ملائمة لعهوده وهي تتطور عضوياً. كما بحثنا أيضاً كيف أن ديناميات التفاعل بين الله وشعبه في العهد تضمّنت إحسانه الإلهي، وامتحانات الولاء له، ونتائج الطاعة والعصيان.

بينما نسعى لفهمِ أسفارِ العهدِ الجديد بصورةٍ أفضل، يَجبُ أن نَضعَ في اعتبارِنا أن العهدَ الجديد في المسيح لم يَكن جزءاً صغيراً من لاهوتِ أسفارِ العهدِ الجديد. فلكونِه أخرِ عهودِ الله مع شعبِه، أثّرَ العهدُ الجديد بعمقٍ على كل ما كَتبَه كُتّابُ العهدِ الجديد. فقد قَطعَ اللهُ مِيثاقاً مُقدّساً مع شعبِه في المسيح، من خلال العهدِ الجديد. وبقدرِ ما نفهمُ هذا العهد الجديد أكثرَ، بقدرِ ما نَتمكّنُ من رؤيةِ أهمِ السماتِ في لاهوتِ أسفارِ العهدِ الجديد.

شارك مع أصدقائك