تجلي الذات الإلهية في حياة المسيح الأرضية

تقدم لنا الأناجيل سردًا عن حياة المسيح على الأرض. أنهت حياته سلسلة كاملة من تجليات الله وظهوراته في العهد القديم. إن الظهورات الوقتيَّة قد مهدت لذروة الظهور الدائم. الله صار إنسانًا بالتجسد.

اكتمل حضور الله، الذي اختبره شعب الله عبر العهد القديم، في شخص المسيح. فالمسيح هو “عمانوئيل”، “الله معنا” (متى ١: ٢٣)، الذي بظهوره أعلن حضور الله في ذُروة التاريخ.

من المُسلم به أن الله حاضر بقوة في الأناجيل، لذا نستطيع ملاحظة حقيقة أنه في أوقات خاصة تجلى حضوره بطرق خاصة مُدهشة.

معجزات مرتبطة بميلاد الرب يسوع

نرى معجزات أُجريت مرتبطة بميلاد الرب يسوع. المعجزة الرئيسية هي معجزة التجسد ذاته. نزل الله إلينا وصار إنسانًا (“عمانوئيل”). من الطبيعي حدوث عدد من المعجزات الأخرى حول هذا الحدث المحوري تدلل على أهمية التجسد.

مُعجزيًا، قد أُبِكَم زكريا (لوقا ١: ٢٢)، ثم أُعيد صوته إليه (آية ٦٤)، وتنبأ عن ابنه يوحنا وعن المسيح (الآيات ٦٧-٧٨). فمن هذا السياق، تخدم هذه المعجزات كإعلان عن حضور الله، دافعة الجيران أن تتوقع ما سيغدو عليه يوحنا (الآيات ٦٥-٦٦).

استبق النجم الذي ظهر للمجوس بزوغ مجد الله في شخص المسيح (إشعياء ٦٠: ١). فالمعجزات المرتبطة بميلاد المسيح كانت مجرد بداية. فجميع المعجزات المدونة في الأناجيل تبرز حضور الله بطرق متنوعة.[1]

معمودية الرب يسوع

ينطوي حدث معمودية الرب يسوع على ظاهرة مرتبطة بظهور الذات الإلهية، فنقرأ:

فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللهِ نَازِلًا مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِيًا عَلَيْهِ، وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلًا: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. (متى ٣: ١٦-١٧)

تلمح عبارة “وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ” ضمنًا إلى رؤية حضور خاص لله من السماء. ظهر روح الله “نَازِلًا مِثْلَ حَمَامَةٍ”. وسُمع صوتًا — صوتًا إلهيًّا.

مثل هذا الظهور الإلهي مناسب تمامًا لإعداد الطريق لبدء خدمة الرب يسوع العلنية. فيه يُصدِّق الآب على دور الابن بصفته المسيح المُخلص. والروح يحل ليؤازره ويقويه. والصوت يشير، بالدلالة على موضوعات من مزمور ٢: ٧ وإشعياء ٤٢: ١، إلى تحقيق الرب يسوع لنبوات العهد القديم المسيانيَّة. مهدت هذه الأحداث لإدراك أن الآب حاضر في الابن من خلال الروح القدس طوال خدمة الرب يسوع.

المشي على الماء

من المؤكد أن مشي الرب يسوع على الماء ذكَّر التلاميذ بمقاطع العهد القديم التي تشير إلى سلطان الله على البحر (خروج ١٥: ٨؛ مزمور ٢٩: ١٠؛ ١٠٧: ٢٣-٣٢). إظهار قدرة الرب يسوع هذه يمثل ظهورًا إلهيًا فيه يُظهر سلطانه على البحر:

“وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ”. (تكوين ١: ٢)

“… وَالْمَاشِي عَلَى أَعَالِي الْبَحْرِ”. (أيوب ٩: ٨)

“سَلَكْتَ الْبَحْرَ بِخَيْلِكَ، كُوَمَ الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ”. (حبقوق ٣: ١٥)

يمتلئ العهد القديم بمقاطع شبيهة (مزمور ٧٧: ١٩؛ ١٠٧: ٢٥-٣٠). فعلى خلفية العهد القديم، تؤكد حقيقة مشي يسوع على الماء على إلوهيته وقدرته على إخضاع أي اضطراب أو تمرد.

التجلي

ذُكر حادث التجلي في الأناجيل الثلاثة الإزائية الثلاثة: متى ١٧: ١-٨؛ مرقس ٩: ٢-٨؛ لوقا ٩: ٢٨-٣٦. وفي لُب روايات الأناجيل الثلاثة حدثان يتسمان بوقع إضافي للظهور الإلهي. الحدث الأول، ظهور الرب يسوع في بياض ناصع:

وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كالنور. (متى ١٧: ٢)

يُذَكِّر هذا المشهد بمجد ظهورات الذات الإلهية في العهد القديم. ويشير هذا الظهور اللامع في حادث التجلي إلى المجد الأزلي الذي يعود للرب يسوع بصفته الابن، كما يعود أيضًا إلى حالة مجده عقب قيامته. فالتجلي إحدى صور معاينة مجده. لكن أثناء حياته الأرضية، في حالة اتضاعه، هذا النوع من إعلان المجد يعد استثناءً.

الحدث الثاني، نزلت سحابة وخرج صوت منها:

وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا سَحَابَةٌ نَيِّرَةٌ ظَلَّلَتْهُمْ، وَصَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلًا: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ اسْمَعُوا». (متى ١٧: ٥)

من الواضح أن هذه المجموعة من الأحداث تشير إلى السحابة وصوت الرب على جبل سيناء. أو بما أن المسيح هو في مركز مقاصد الله، يمكننا قول إن الله هو من قصد أن يكون جبل سيناء بمثابة استباقًا وظلاً لمجيء المسيح وتجليه. كما أن دخولهم في السحابة في لوقا ٩: ٣٤ يشبه دخول موسى في السحابة في خروج ٢٤: ١٨. ولكن، بخلاف على جبل سيناء، لا يُطيل صوت الرب في التجلي، ولا يُعطي رسالة طويلة، توازيًا مع الوصايا العشر على جبل سيناء. بل يجذب الصوت انتباه التلاميذ إلى الرب يسوع وتعليمه قائلاً: “لَهُ اسْمَعُوا”.

فنتيجة هذا التوجيه هو الدلالة ضمنًا على الأقل أن الرب يسوع نظير موسى. لكن بعدم وجود إعطاء لأي رسالة طويلة، يمكننا أن نتقدم خطوة ونستنتج أن تعاليم الرب يسوع هي إتمام الصوت الإلهي على جبل سيناء. لذا كلمات الرب يسوع هي صوت الله، لا صوت موسى فحسب. وتتوافق هيئة مجده مع لقبه “ابْنِي الْحَبِيبُ”. وبالاستناد إلى بقية نص متى (متى ٢٨: ١٩)، يوضح هذا اللقب حقيقة إلوهيته. لذا فمظهره اللامع أقوى إعلانًا على ماهيته الدائمة أي إنه الله. فظهوره على الأرض هو التجلي الأخير للذات الإلهية.

الصلب كونه تجليًا للذات الإلهية

يُظهر الصلب مظاهر تجلي الذات الإلهية في صورتين متباينتين.

الصورة الأولى، حلول الظُلمة. دوَّن متى حلول الظلمة أثناء ما كان الرب يسوع على الصليب: “وَمِنَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى كُلِّ الْأَرْضِ إِلَى السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ” (متى ٢٧: ٤٥؛ قارن مرقس ١٥: ٣٣؛ لوقا ٢٣: ٤٤). فالظلام هنا موازي للظلام والضباب الذي كان على جبل سيناء في (خروج ٢٠: ٢١؛ تثنية ٤: ١١؛ ٥: ٢٢-٢٣). فالظلمة مظهر مناسب لدينونة الله على الخطية، ولذلك مناسبة أيضًا للرب يسوع حامل الخطية. يربط كلًا من متى ومرقس الظُلمة بصراخ الرب يسوع لترك الآب له (متى ٢٧: ٤٦؛ مرقس ١٥: ٣٤). تُرك لأن غضب الله انسكب عليه جراء خطايانا (١ بطرس ٢: ٢٤). كان قضاء الله نهائيًا بطبيعته. دفعت ذبيحة الرب يسوع ثمن الخطية كاملًا، بخلاف عدم كفاية ذبائح ثيران وتيوس العهد القديم (العبرانيين ١٠: ١-١٤).

الصورة الثانية، يسلك إنجيل يوحنًا نهجًا مكملًا بصب التركيز على إعلان مجد الله في الصليب. أي أننا نرى مجد الله في الصليب بمجرد إدراكنا لأهميته اللاهوتية. فقد أُعلن مجد الآب والابن، لأن الله أظهر حكمته وعدله ورحمته وآية خلاصه عبر ألم الصليب وعاره وفيه. فيوحنا يُعدِّنا لهذا الإدراك بالإشارة إلى أن الصليب هو إعلان مجد:

«أَيُّهَا الْآبُ، مَجِّدِ اسْمَكَ!». فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ: «مَجَّدْتُ، وَأُمَجِّدُ أَيْضًا!» … «اَلْآنَ دَيْنُونَةُ هَذَا الْعَالَمِ. اَلْآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هَذَا الْعَالَمِ خَارِجًا. وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الْأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ». قَالَ هَذَا مُشِيرًا إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يَمُوتَ. (يوحنا ١٢: ٢٨-٣٣)

لقد تمجد الآب حين ارتفع المسيح عن الأرض. فقد رُفع في الصلب (موته؛ آية ٣٣) وفي صعوده (قارن يوحنا ١٤: ٢-٣). إن معنى انتصار المسيح وصعوده هما انعكاسًا تصاعديًا، يوضحان أهمية الصلب، لذا في النهاية نرى هذه الأهمية المجيدة: صنع الله خلاصًا بالموت ذاته.


تم ترجمة هذه المقالة بعد الحصول على الإذن من مؤسسة (Crossway).

[1] See also Vern S. Poythress, The Miracles of Jesus: How the Savior’s Mighty Acts Serve as Signs of Redemption (Wheaton, IL: Crossway, 2016)

شارك مع أصدقائك

فيرن بويثرس

حاصل على درجة الدكتوراة (PhD) من جامعة هارفارد، ودكتوراة (DTh) من جامعة ستيلينبوش بجنوب إفريقيا، وهو يعمل كأستاذ تفسير العهد الجديد في كليّة وستمنستر للاهوت.