التَّجسُّد وطَبِيعتي المسيح

التعريف

يُشير مُصطلح التَّجسُّد إلى الحدث الفائق للطبيعة حيث اتحد أقنوم الابن الأزلي بالطبيعة البشريّة الكاملة (بمعزل عن الخطية) من خلال عمل الروح القدس. وكنتيجة لذلك الحدث، يبقى الابن، يسوع المسيح، مِن الآن وإلى الأبد، شخصاً واحداً ذا طبيعتين، رَبّنا ومُخلصنا الوحيد.

المُلخّص

يُناقش هذا المقال مَن هو يسوع، الله الابن المُتجسد، في ضوء تعاليم الكتاب المقدّس وإقرارات الإيمان القويم التي أقرتها الكنيسة. سنصف عبر المقال هويّة يسوع وطبيعة التَّجسُّد مِن خلال عرض خمس حقائق عن التَّجسُّد، بدءًا مِن أُلوهِيَّة يسوع الكاملة باعتباره الابن الأزليّ في علاقته بكل من الآب والروح القدس، إلى عمله مِن الأزل إلى الزمن. ثم سنتناول هويّة المسيح وطبيعة التجسد. فلكي نصل إلى معرفة حقيقية لشخص يسوع بحسب الكتاب المقدّس، يتعين علينا فهم هويّتهُ في ضوء عقيدة الثالوث، وسبب تجَّسُّدهُ في ضوء خطة الفداء الكاملة التي يُعلنها الكتاب المقدّس.


يبقى السؤال الذي طرحهُ يسوع على تلاميذهُ محوريًا حتى اليوم: “«مَنْ يقولُ النّاسُ إنّي أنا؟»” (مرقس 8: 27). كما كان الحال في القرن الأول، يبقى حتى اليوم الكثير مِن الالتباس حول هويّة يسوع، حتى وإن أقر الجميع أن يسوع هو أحد أعظم الشخصيات في التاريخ. أجاب التلاميذ على سؤال يسوع بسردهم لبعض الإجابات المتنوعة، ولكنها جميعها أظهرت أنهم يرون يسوع كمجرد إنسان. واليوم، تمامًا مثل أيام يسوع، لا يزال الناس يُجيبون على سؤال يسوع بإجابات مشوشة مختلفة.

مع ذلك، وباختلاف تام عن وجهات النظر هذه عن يسوع، يُقدم الكتاب المقدّس، مع إقرار الإيمان النيقاويّ (325) والخلقدونيّ (451)، إجابةً مختلفةً حول هويّة يسوع. فمَن هو يسوع؟ يسوع هو الله الابن، الأقنوم الثاني في الثالوث القدوس، رب المجد، الذي اتخذ في الزمان المُعَيَّن طبيعة بشرية، حتى أنه صار مِن وقتها وسيبقى إلى الأبد “الكلمة المُتجسد” الأبديّ (يوحنا 1: 14). لهذا السبب، يندرج يسوع في فئة لا يُشاركهُ فيها آخر لأنه هو الرب والمُخلص الوحيد القدوس (يوحنا 14: 6؛ أعمال الرسل 4: 12). ولذلك أيضًا يجب ألا نرى التشويش حول هويّة يسوع على أنه أمر فرعيّ، فلا يوجد شيء أهم مِن معرفة من هو يسوع. هذا ليس مجرد نقاش أكاديمي، أو موضوع يُفكر فيه اللاهوتيون فحسب، إنه سؤال حيويّ وأساسيّ للجميع، وخاصةً للكنيسة.

دعونا نتفحص بعمق هويّة يسوع، الابن المُتجسد، مِن الكتاب المقدّس وإيمان الكنيسة القويم بصياغتنا لخمس عبارات موجزة عنه.

(1) يسوع هو الله الابن، الأقنوم الثاني في الثالوث القدوس، الذي شارك منذ الأزل في الطبيعة الإلهية الواحدة غير المٌنقسمة مع الآب والروح القُدُس، ولذا فهو الله بالكامل.

يوضح يوحنا تلك النقطة عندما يُذكرنا قائلًا: “الكلِمَةُ كانَ عِندَ اللهِ” (وبالتالي فهو “أقنوم” مميز)، ولكن يقول أيضًا “وكانَ الكلِمَةُ اللهَ” (وبالتالي فهو مُساويًا لله)، مما يؤكد على العلاقة بين أقانيم الثالوث ويُظهر الطبيعة الإلهية المشتركة بينهم (يوحنا 1: 1). لذا، فالمسيح هو ابن الله، وكابن، فهو ليس مخلوق. بل هو بالأحرى الابن الأزلي الذي به كل الأشياء خُلقت وتقوم (كولوسي 1: 15-17؛ العبرانيين 1: 1-3). هذا هو الابن الذي صار جسدًا وحَلَّ بيننا (يوحنا 1: 14) وبفضل تجسده وعمله الفدائي على الصليب، صار مُخلصنا وربنا.

يوجد العديد مِن المقاطع الكتابيّة التي تؤكد ألوهيّة الابن. فالعهد الجديد بأكمله، يُقدِّم يسوع باعتباره يهوه من خلال تأسيسه لملكوت الله، وتتميمه لعمل الله (إشعياء 9: 6-7؛ إرميا 31: 31-34؛ حزقيال 34: 1-31). ولهذا السبب فإن معجزاتهُ لا تُعتبر مجرد أعمال بشريّة مُنقاده بقوة الروح القُدُس، بل بالأحرى هي دليل على سلطانهُ الإلهيّ باعتبارهُ مؤسس ملكوت الله (متى 8: 23-27؛ 14: 22-23)، ومَن له كل السلطان على الشيطان (متى 12: 27-28)، وعلى كل ما في السماوات وما على الأرض (أفسس 1: 9-10؛ 19-23).

ويشترك الابن بشكلٍ كاملٍ ومُتساوٍ مع الآب والروح القدس في ذات الاسم والطبيعة (متى 28: 18-20؛ يوحنا 8: 58؛ فيلبي 2: 9-11؛ كولوسي 2: 9). فيستخدم العهد الجديد اسم الله باللغة اليونانية (ثيوس) للإشارة على الابن (يوحنا 1: 1، 18؛ 20: 28؛ رومية 9: 5؛ تيطس 2: 13؛ العبرانيين 1: 8؛ 2 بطرس 1: 1) لأنه هو صورة الله الآب ورسم جوهره (كولوسي 1: 15؛ العبرانيين 1: 3). كما أنه يشترك مع الآب والروح القُدُس في الأعمال الإلهيّة، والسيادة، وقبول العبادة (مزمور 110: 1؛ أفسس 1: 22؛ فيلبي 2: 9-11؛ كولوسي 1: 15-20؛ العبرانيين 1: 1-3؛ الرؤيا 5: 11-12). ولهذا السبب لدى يسوع السلطان ليغفر الخطايا (مرقس 2: 3-12)، وليُعلن أنه فيه تتم نبوات الكتاب المقدّس (متى 5: 17-19)، وليُؤكد أنه الابن الذي مِن الآب، وهو أيضًا الابن المساو للآب (متى 11: 25-27؛ يوحنا 5: 16-30؛ 10: 14-30؛ 14: 9-13).

لتفسير ما يُعلنهُ الكتاب المقدّس عن يسوع وعلاقته بالآب والروح القُدُس، ميزت الكنيسة بين مصطلحين هما: مصطلح “أقنوم” (أو شخص أو موضوع) التجسد، و”الطبيعة” التي يسكن فيها. كان ذلك التَّمييز بين الأقنوم والطبيعة تمييزًا لاهوتيًا ضروريًا للالتزام بإعلان الكتاب المقدّس عن الإله الواحد الثالوث. لتفسير كل الأدلة الكتابيّة، مَيَّزت الكنيسة بين الآب والابن والروح القُدُس دون فصلهم إلى ثلاثة آلهة. بل أكد اللاهوت المسيحيّ عبر الأزمنة أن هناك ثلاثة “أقانيم” يشتركون بالكامل في “الطبيعة” الإلهية الواحدة غير المُنقسمة وأن الطبيعة الإلهية موجودة بالكامل في كلٍ مِن الأقانيم الثلاثة حيث أن كل أقنوم هو الله بالكامل وبالتساوي (على عكس البدعة الأريوسية التي أنكرت ألوهية المسيح).

تُشير كلمة “الطبيعة” (باليونانيّ: ousia؛ وباللاتينيّ: essential, substantia) إلى ماهية الشيء. إن الطبيعة الإلهية تُظهر مَن هو الله في جوهره الواحد غير المُجزأ، التي نُعبر عنها مِن خلال صياغة صفات الله. إن الطبيعة البشريّة هي في الأساس ما يُشكل الإنسانية، وهي مُركبة مِن جسد وروح وقدرات منسجمة، مثل الإرادة والعقل والمشاعر. في المسيح، يوجد “أقنوم” واحد (باليونانيّ: hypostasis؛ باللاتينيّ: persona)، الابن، الذي له “طبيعتان” يحيا ويتصرف مِن خلالهما. “الأقنوم” هو “الفاعل” وليس الطبيعة. ومع ذلك، فإن ما ينطبق على كل طبيعة ينطبق على الأقنوم.

(2) يسوع هو أقنوم الله الابن المُتَجَسِّد.

تأتي كلمة “التَّجسُّد” (بالإنجليزيّة: incarnation) مِن اللاتينيّة (in + carnes)، والتي تعني “في الجسد”. يُعلمنا الكتاب المقدّس أن أقنوم الابن، الذي يتشارك في الطبيعة الإلهيَّة منذ الأزل وإلى الأبد مع الآب والروح، أخذ طبيعة بشريّة مِن دون “شخص أو ذات” بشرية (على عكس النسطورية التي نادت بوجود “شخصين” في المسيح). ونتيجة لذلك، تجسد الله الابن.

إنه لأمرٌ محوريٌ أن ننظر إلى التَّجسُّد على أنه عمل إضافة، وليس انتقاصًا (متى 1: 18-25؛ لوقا 1: 26-38). إذ اتخذ الابن مِن الآب وبقوة الروح القُدُس المُقدّسة والخارقة للطبيعة، طبيعة ثانية تتكون مِن جسدًا ونفسًا بشريًا دون تغيير أو فقدان طبيعتهُ الإلهية (يوحنا 1: 14، فيلبي 2: 6-8). كنتيجة، صار للابن بُعدٌ بشريٌ لحياته الإلهية بشكلٍ دائم، وأصبح حاضرًا في وسطنا في نمط جديد كليًا مِن الوجود كالابن المُتجسد.

إن سلطان الابن وعملهُ موجودان الآن في كلتا الطبيعتين مما يجعل الابن قادرًا على التصرف وفقًا لكل طبيعة. لذا، بصفته الابن المُتجسد، كان يسوع قادرًا على تقديم الطاعة البشرية الكاملة (لوقا 2: 52؛ 22: 29-44؛ العبرانيين 5: 8-10) بدلًا منا، كآدم الأخير (العبرانيين 2: 5-18؛ رومية 5: 12-21)، وقادرًا على تتميم خلاصنا الأبديّ (أفسس 1: 7-10)، وعلى تبريرنا بالكامل أمام الله كمُمثل العهد وبديلنا (رومية 3: 21-26؛ 4: 25؛ بطرس الأولى 3: 18).

كما يوجد الكثير مِن الأدلة الكتابيّة التي تؤكد على إنسانية المسيح الكاملة أيضًا. فنرى يسوع يُقدَّم على أنه رجل يهوديّ وُلِدَ وخضع لعملية النمو والنضج الطبيعية (لوقا 2: 52)، جاز في العديد مِن الخبرات البشريّة (متى 8: 10، 24؛ 9: 36؛ لوقا 22: 44؛ يوحنا 19: 28) بما في ذلك النمو في المعرفة (مرقس 13: 32)، واختبار الموت (يوحنا 19: 30). وبصرف النظر عن أنه لا تسكن فيه خطية، كما يُعلمنا الكتاب المقدّس بوضوح (يوحنا 8: 46؛ كورنثوس الثانية 5: 21؛ عبرانيين 4: 15؛ بطرس الأولى 1: 19)، فيسوع واحدٌ معنا في كل شيء.

(3) إن الطبيعة البشريّة التي اتخذها ابن الله غير ساقطة وبلا خطية.

امتلك جسد المسيح البشريّ وروحه كل القدرات البشريّة الحقيقية، مما مكّنهُ مِن أن يكون إنسانًا بالكامل وأن يعيش ويختبر حياة بشرية كاملة، وذلك عكس الدوسيتيّة (التي ادعت أن المسيح كان يُشبه الإنسان فحسب) وكذلك الابولينارية أيضًا (التي ادعت أن المسيح اتخذ طبيعة بشرية غير كاملة). يتعين علينا أن نُفكر في جسد المسيح ونفسه على أنهما غير ساقطين وغير مشوهين بالخطية أو بالتعديّ. يتعارض هذا التأكيد مع مَن يؤمنون بأن المسيح اتخذ طبيعة بشرية ساقطة بينما ظل بلا خطية، وهو المعتقد الذي يُمثل إشكالية حقيقية لعدة أسباب.

أولًا، يفتقر التَّجسُّد الساقط إلى الدعم الكتابيّ. فالتعبيرات الكتابيّة مثل “صائرًا في شِبهِ النّاسِ” (فيلبي 2: 7)، “وإذ وُجِدَ في الهَيئَةِ كإنسانٍ” (فيلبي 2: 8)، “في شِبهِ جَسَدِ الخَطيَّةِ” (رومية 8: 3) تُشير في الأساس إلى طبيعتنا البشرية التي اشترك ابن الله فيها معنا وليس طبيعتنا البشرية الفاسدة والساقطة. إن موضوع التجسد الأساسيّ هو الإنسانية، وليس الخطية. تَجسَّدَ المسيح ليُمثل إنسانية جديدة، بدلًا مِن مُمثل البشرية الساقطة: آدم الأول، الذي أخطأنا جميعًا سيرًا في خُطاه ووقعنا تحت طائلة الموت (رومية 5: 12). المسيح ليس “في آدم” كما نحن، ولذلك هو ليس فاسدًا.

ثانيًا، يوحي التَّجسُّد الساقط أن الفساد جزءٌ أساسيٌ مِن الإنسانية وإن المسيح لا يمكن أن يكون مثلنا بالكامل ما لم يتخذ طبيعة بشريّة ساقطة. بكل تأكيد نؤمن أن جميع البشر قد سقطوا ويعيشون الآن في عالم فاسد، ولكن يجب علينا أن نتذكر دائمًا أن هذا انحراف عن خطة الله لخليقتهُ وإرادتهُ لتمجيدنا. إن الفساد ليس جزءًا محوريًا بالنسبة لنا، ونشكر الله مِن أعماق قلوبنا أن المسيح كان إنسانًا كاملًا ولكن بلا خطية ولا فساد، ولذا فهو رأس الخليقة الجديدة (كورنثوس الثانية 5: 17)، وهو صورة إنسانيتنا المُمجدة (كورنثوس الأولى 15: 35-58).

ثالثًا، يتطلب التَّجسُّد الساقط أن نفصل بين السقوط والخطية كما نفصل بين شخص المسيح والطبيعة البشريّة التي اتخذها، وهذا أمرٌ يصعُب إثباتهُ كتابيًا ولاهوتيًا. نفهم مِن نصوص الكتاب المقدّس أن الطبيعة الساقطة هي نتيجة خطيتنا وتمرُدنا على الله مما وضعنا تحت دينونته (تكوين 2: 17؛ رومية 5: 12-21؛ 6: 23؛ أفسس 2: 1-3). ولكن المسيح ليس “في آدم” مثلنا، ولا يسكن ابن الله الكامل أي ذرَّة فساد.

لهذه الأسباب، يتعين علينا تأكيد أن طبيعة المسيح البشريّة هي بلا خطية وليست فاسدة بسبب قوة الروح القُدُس السياديَّة. لم يكن ميلنا الفطريّ إلى التمرد على الله جزءًا مِن التركيبة البشريّة التي ليسوع. كان يسوع بالحق إنسانًا بالكامل وعانى مِن آثار العيش في عالم ساقط، لكنه لم يُشارك بأي شكل مِن الأشكال في ذنب خطية آدم الذي ورثناه. لم يرتكب يسوع خطية قط، كما أن ذلك كان من المحال (متى 3: 15؛ يوحنا 8: 46؛ العبرانيين 4: 15؛ 7: 26؛ بطرس الأولى 1: 19). لقد جُرِّب مثلنا، لكنه أطاع أبيه بالكامل حتى في موته، بصفته وسيط العهد، وبذلك تمم خلاصنا كالإنسان الكامل يسوع المسيح (تيموثاوس الأولى 2: 5؛ العبرانيين 5: 5-10).

لكن، إذا كان يسوع معصوم مِن الخطأ، فهل كانت التجربة التي خاضها حقيقية؟ بالرغم مِن أن يسوع لم يخطئ، كيف يكون مثلنا إذن إن لم يكن قابلًا للوقوع في الخطية؟ للإجابة على سؤال في أهمية هذا، يجب علينا تذكر النقاط التالية.

أولًا: لقد جُرّب المسيح مثلنا حقًا ولكنه بقي “بلا خَطيَّةٍ” (العبرانيين 4: 15). منذ بداية خدمته وحتى الصليب، بصفته الابن ذا الطاعة الكاملة، واجه يسوع الكثير مِن التجارب والآلام مِن أجلنا (لوقا 4: 1-13؛ 22: 39-46). ولكن هذا لا يعني أن تجاربه كانت مطابقة لتجاربنا في كل النواحي. قد تتساءل، لماذا؟ ببساطة لأنه وبالرغم مِن أن يسوع إنسانٌ كاملٌ، فهو أيضًا ابن الله ويجب أن تعكس تجاربه ذلك. على سبيل المثال، جُرّب يسوع ليحول الحجر إلى خبز (وهو شيئًا لا نُجرّب به نحن)، في محاولةٍ لاستخدام قوته الإلهيّة دون الطاعة لإرادة الآب، حتى يحسب لنا طاعته الكاملة (العبرانيين 2: 5-18؛ 5: 8-10؛ وانظر رومية 5: 12-21). كما على عكسنا أيضًا، لم يُجرّب المسيح قط بأي شيء يسكن داخله. لم تجذبه الرغبات الفاسدة التي تتعارض مع أُسُس الله الأخلاقية لأنه لم تكن فيه خطية، ولا ميل للخطية، بسبب عمل التقديس الذي للروح القُدُس. وبالرغم مِن ذلك، جُرِّب يسوع بالضعفات البشريّة العادية أو الحروب الخارجية التي لا تتضمن الخطية. لقد جُرِّبَ بالجوع، والخوف مِن الألم، وعانى مِن مشاعرهُ المُقدّسة. كما صارع أيضًا في شركته الكاملة مع الآب في جثسيمانيّ. وفي الواقع، نستطيع أن نقول إن تجارب يسوع لم تكن حقيقية فحسب، بل كانت حقيقية بشكلٍ لا نقدر أن نتخيله أو نتوقعه لأنه لم يستسلم للتجارب كما نفعل نحن. لقد كان دائمًا طائعًا لإرادة أبيه برسوخ عميق وفرحٍ وبتكلفة عظيمة في سبيل خلاصنا.

ثانيًا، إن يسوع معصوم مِن الخطأ لأنه ابن الله المُتخذ لنفسه طبيعة بشرية، وعلى هذا الأساس، إن طبيعتهُ البشريّة لم تتواجد أبدًا بمعزل عن اتحادها بطبيعته الإلهية (أي الاتحاد الأقنوميّ). ويسوع ليس آدم آخر فحسب؛ بل هو رأس الخليقة الجديدة، الابن الأزليّ المُتجسِّد. وكابن الله، يستحيل عليه أن يقع في الخطية أو يستسلم للتجربة لأن الله، قبل كل شيء، لا يستطيع أن يُخطئ. في الواقع، يُرسخ ذلك الحق في داخلنا أن خطة الله لا يُمكن أن تفشل ويُظهر لنا لماذا آدم الأخير أعظم مِن آدم الأول.

ثالثًا، على الرغم مِن إيماننا بعصمة يسوع مِن الخطأ بسبب طبيعته الإلهية، فإننا نؤمن أيضًا أنه، بصفته مُمثل العهد، كان عليه أن يُقدم طاعة إنسانيّة حقيقية بدلًا منا. ولكون الطبيعة اللاهوتيّة الكاملة التي للابن فلم يطرأ عليها أي تغير من جرّاء الأعمال التي قام بها بطبيعته البشرية؛ فلقد عاش، وتصرف، وواجه كل التجارب كإنسان حقيقيّ ليفدينا. كما يُذكرنا الكتاب المقدّس بروعة حقيقة أن يسوع لم يؤَمِّن خلاصنا الأبديّ فحسب، بل صار أيضًا المُخلص الذي يَرثي لضَعفاتنا (العبرانيين 2: 18؛ 4: 14-16). يجب أيضًا ألا نتغاضى أبدًا عن عمل الروح القُدُس في طبيعة المسيح البشريّة. إن يسوع معصوم مِن الخطأ لأنه في الأساس ابن الله الذي عاش وتصرف وفقًا لكلتا الطبيعتين، ولكنه لم يُخطئ بسبب خضوعهُ التام للروح القُدُس العامل فيه. منذ الحبل بِه، قدس روح الله إنسانيته وشدده وأعطاه القدرة على الطاعة مِن أجلنا كإنسان.

تدل كل تلك النقاط على أن تجارب يسوع كانت صادقة بالرغم مِن استحالة سقوطه في الخطية. باعتباره الإنسان الوحيد الذي لم يُخطئ ولا يستطيع أن يُخطئ، كان لا يزال مُطالب بالتنازل عن حقوقه وامتيازاتهُ لنا، وأن يَخضع لموت الصليب (فيلبي 2: 8؛ العبرانيين 12: 2-3). ومِن خلال قيامهُ بذلك، تمم المسيح إرادة الآب كاملةً بالروح القُدُس، وضمن خلاصنا، وأصبح في بشريتهُ صورة لإنسانيتنا المُمجدة (كورنثوس الأولى 15: 45-49).

(4) نتيجةً لتَّجسُّده، يحيا ابن الله الآن ويعمل مِن خلال الطبيعتين دون تغيير أي منهما، أو حدوث اختلاط يجعلهما مزيجًا جديدًا نتج عن تداخل الطبيعة الإلهية والبشرية. ولكن يجب أن نتذكر أيضًا أن أفعال الابن لم تقتصر على طبيعته البشريّة فحسب، بل استمر في العمل مِن خلال طبيعتهُ الإلهية كما فعل منذ الأزل.

إن الابن يحيا ويعمل مِن خلال القدرات الجسدية والعقلية والنفسية التي تمتلكها طبيعته البشريّة غير ساقطة. فقد اختبر يسوع، كابن الله، عجائب الحياة البشريّة وضعفاتها أيضًا. فقد نما جسديًا وعقليًا (لوقا 2: 52)، واختبر الحزن والفرح، وذاق مرار الموت وتمجيد القيامة مِن أجل شعبه وخلاصهم (يوحنا 11: 33، 35؛ 19: 30؛ كورنثوس الأولى 15: 3-4).

وبجانب اختبارهُ لكل هذه الأشياء كإنسان، يستمر الابن في أن يحيا ويعمل بصفته الله. نرى تلك الحقيقة في إعلان الكتاب المقدّس أن الابن المُتجسد يحمل كل الأشياء بكلمته وبه يقوم كل شيء (كولوسي 1: 16-17؛ العبرانيين 1: 3)، كما نراها أيضًا في أعمال المسيح الإلهية من خلال حياته وخدمته. تبقى طبيعتا المسيح متميزتان، محتفظة كلُ منهما بخصائصها (وذلك عكس مَن يُنادون بالطبيعة الأُحادية التي مزجت طبيعتيّ المسيح). فالابن إذن، غير “محدود” بطبيعته البشريّة؛ فهو قادر أن يتصرف مِن خلال طبيعته الإلهية كما كان دائمًا. ولا يزال الابن، الذي لا يتصرف أبدًا بمعزل عن الآب والروح يفعل ذلك. ولكن الآن، بسبب تجسُدهُ، يعمل الابن مِن خلال الطبيعتين مِن دون تغيير أو تقليل أيً منهما.

(5) بتجسُده، صار ربنا يسوع المسيح بكر الخليقة الجديدة، ووسيطنا العظيم، ورأس العهد الجديد.

مِن خلال تجسُده وعمله، نقض يسوع ابن الله المُتجسد، عمل آدم وأصبح هو ربنا ومُخلصنا (رومية 1: 3-4؛ العبرانيين 2: 10). كما أصبح مؤهلًا للوفاء بكل ما نحتاجه، وبالأخص حاجتنا لغفران خطايانا (إرميا 31: 34؛ العبرانيين 7: 22-28؛ 9: 15-10: 18). مع وضع طبيعة الله في الاعتبار، إن الابن المتجسد هو بحق الوحيد القادر على فدائنا مِن خلال قيامهِ بعمل إلهيّ-بشريّ بكونه مُخلصنا. بصفته ابن الله، فهو الوحيد القادر على استرضاء دينونته ومُطالبته بالطاعة الكاملة (رومية 5: 12-21). وبصفته ابن الله، فهو الوحيد الذي يرثي لنا كمُمثلنا وبديلنا (العبرانيين 5: 1). إن رجاء خلاصنا لتسديد ثمن خطايانا واستعادتنا الكاملة لصورة الله التي خُلقنا عليها يتحقق فقط مِن خلال المسيح وحده (رومية 3: 21-26؛ العبرانيين 1: 5-18). نصل في النهاية إلى اليقين بأن ربنا يسوع المسيح وحده يستحق كل إيماننا، ومحبتنا، وطاعتنا.

شارك مع أصدقائك

ستيڤن ويلوم

أستاذ اللاهوت المسيحيّ بالكليّة المعمدانية الجنوبيّة للاهوت، ومؤلف العديد من الكتب في مجال اللاهوت النظاميّ.