في قصَّة الكتاب المقدَّس، من شأن قائمة الممثِّلين أن تشمل إسرائيل –نسل إبراهيم العرقيُّ– ضمن أهمِّ أبطال القصَّة. لكنَّ السؤال الذي يُطرَح باستمرار هو ما إذا كانت هذه الشخصيَّة –أو هذا الشعب– تلعب أيَّ دورٍ مستمرٍّ في حبكة القصَّة الآن وقد بلغت القصَّة ذروتها بمجيء يسوع الأوَّل. وهذا السؤال –”هل لإسرائيل دورٌ مستمرٌّ، أو مُستقبليّ، في قصَّة الله؟”– هو ما سنحاول (البدء في) إجابته في هذا المقال.
ملخَّص
للعثور على جواب، سنتَّجه إلى مقطعٍ واحدٍ من العهد الجديد يتناول هذه المسألة بطريقة مباشرة، وهو رومية 9-11. وما سنراه في هذا المقطع هو أنَّ إسرائيل، بصفتها كيانًا جماعيًّا، أو شعبًا، لها بالفعل مكانٌ مستمرٌّ في قصَّة الله، حتَّى في زمن العهد الجديد. فإنَّ الله يَعِد، في حقيقة الأمر، بأنَّه سيخلِّص إسرائيل بطريقة مدهشة.
المقدِّمة
هل لإسرائيل مُستقبَلٌ؟ هذا سؤال ضخم يتعلَّق بكيفيَّة فهم وتفسير الكتاب المقدَّس ككلٍّ. وفي حقيقة الأمر، كي نقدِّم لهذا السؤال جوابًا أقرب إلى أن يكون مرضيًا، سيستلزم منَّا هذا جمع مئات النصوص معًا، بعضها مباشر وصريح أكثر من الأخرى. ولهذا السبب، كان هذا السؤال مثارَ جدلٍ طوال التاريخ المسيحيِّ، إذ أصرَّ البعض على أنَّه لا يوجد مستقبل لإسرائيل، وأنَّ الكنيسة في حقيقة الأمر قد حلَّت محلَّ إسرائيل؛ ويقول آخرون إنَّ لإسرائيل مستقبلاً، حتَّى إنَّهم في بعض الأحيان يقولون إنَّه سيكون لها مهمَّةٌ خاصَّةٌ وموقعٌ جغرافيٌّ خاصٌّ؛ وآخرون أيضًا يتبنَّون رأيًا وسطيًّا بينهما. علاوةً على ذلك، هذا السؤال هو المسؤول، جزئيًّا على الأقلِّ، عن تقسيم اللاهوت المسيحيِّ إلى التدبيريِّ والعهديِّ، بالإضافة إلى بعض التسميات الأخرى مثل اللاهوت العهديِّ التقدُّميِّ.
لا يمكننا بالتأكيد أن نعرض كلَّ الحجج المؤيِّدة لهذه الآراء هنا، ناهيك بسرد ومناقشة النصوص التي تشكِّل أساس كلِّ واحدٍ منها. لكن ما يمكن أن نفعله هو أن ننظر إلى موضعٍ واحدٍ في الكتاب المقدَّس نوقشت فيه هذه المسألة بصورة مباشرة وعلى فم رسولٍ –أي على فمِ واحدٍ من مفسِّري العهد القديم الموحى لهم– وهذا الموضع هو رومية 11. وفي حين أنَّنا لن ننجح ولو قليلاً في تقديم جوابٍ شاملٍ عن هذا السؤال، نستطيع مع ذلك أن نرسي أساسًا يمكن (بل ويجب) أن يقوم عليه هذا الجواب الشامل.
رومية 11
يتناول رومية 9-11 مشكلةً كبيرةً كانت موجودة في القرن الأوَّل، على الأقلِّ بالنسبة إلى بولس (انظر بصفة خاصَّة رومية 9: 2؛ 10: 1): فقد كان هناك عددٌ قليلٌ جدًّا من المسيحيِّين اليهود. وهذه الملاحظة متَّفقة مع ما نقرأه في الأناجيل وسفر أعمال الرسل، التي تقول إنَّ مسيَّا الله، يسوع، رُفِض بشكلٍ كبيرٍ من خاصَّته أو شعبه. وبالنسبة إلى بولس، كانت هذه مشكلة عويصة، وذلك في ضوء المرَّات الكثيرة التي وعد بها الله نسل إبراهيم بأن يكون إلههم وبأن يكونوا شعبه (انظر كلمة “المواعيد” في رومية 9: 4؛ انظر أيضًا إرميا 31: 31-34 المُقتبَس منه جزئيًّا في رومية 11: 27). وفي حقيقة الأمر، لهذا السبب كانت المشكلة بالنسبة إلى بولس أكبر من مجرَّد كونها تتعلَّق بعدم إيمان اليهود، فقد كانت المشكلة تتعلَّق بطبيعة الله. فكيف يمكن أن يكون اليهود أعداء الله (رومية 11: 28) في حين وعد الله بأن يكونوا شعبه؟ ولهذا السبب، لم تكن هذه المشكلة عويصة فقط بالنسبة إلى بولس والشعب اليهوديِّ، بل للمسيحيِّين من الأمم أيضًا. ففي النهاية، كيف يمكن للمسيحيِّين من الأمم أن يثقوا بوعود الله لهم، إذا كان قد حنث بوعوده لإسرائيل؟ ولهذا، سأل بولس في رومية 9-11 إن كانت كلمات الله لإسرائيل قد سقطت أم لا (رومية 9: 6).
أجاب بولس عن هذا السؤال في ثلاث خطوات، شغلت كلُّ واحدة منها ما يقرب من أصحاحٍ كاملٍ (رومية 9: 6-29؛ 9: 30-10: 21؛ 11: 1-32)، وفي خطوته الأخيرة، تناول مسألة مستقبل إسرائيل بصورة مباشرة. بدأ بولس كلامه بالدفاع عن نزاهة الله، عن طريق الإصرار على أنَّه لم يَعِد قط بأن يخلِّص كلَّ فردٍ يهوديٍّ. فصحيح أنَّ الله أفرز إسرائيل كشعب (انظر على سبيل المثال، كلمة “إِسْرَائِيلِيُّونَ” في رومية 9: 4)، لكن هذا الإفراز، أي الاختيار الجماعيُّ أو القوميُّ، لم يضمن خلاص كلِّ مواطنٍ يهوديٍّ. فالخلاص، في النهاية، لم يكن مبنيًّا على العرق، بل على النعمة (رومية 11: 6)، أو على “الرحمة” كما قال بولس (رومية 9: 15). ثمَّ دافع بولس عن نزاهة الله عن طريق الإصرار على أنَّ عدم إيمان إسرائيل هو تحديدًا ما توقَّعه الله. وبالتالي، فبعيدًا تمامًا عن حقيقة أنَّ إخفاق إسرائيل هو أمر جلبه هو على نفسه (بعدم إيمانه)، كان الله قد توقَّع هذا الإخفاق من البداية. فقد تنبَّأ به، وهو ما يعني أنَّ حالة إسرائيل الحاليَّة لم تكن تتعارض مع كلمة الله، بل بالأحرى هي تؤكِّدها.
ثمَّ في رومية 11، دافع بولس عن نزاهة الله عن طريق الإصرار على أنَّ لإسرائيل مستقبلاً. وتحديدًا، قال إنَّ إسرائيل كشعب، أو ككيانٍ جماعيٍّ أو قوميٍّ، سيخلص. يقول بولس إنَّه في حين لم يعد الله قط بأن يخلِّص كلَّ مواطنٍ إسرائيليٍّ، فإنَّه وعد مع ذلك بأن يخلِّص إسرائيل.
خلاص إسرائيل الجماعيُّ
الاسم “إسرائيل” في رومية 11 هو اسم لشعب أو كيان جماعيٍّ. نرى ذلك بأشدِّ وضوحٍ في رومية 11: 7 (انظر أيضًا كلمة “إسرائيليٌّ” والإشارة إلى “سبط” في رومية 11: 1-2). في هذه الآية، أشار بولس إلى ثلاث فئات، هي: “إِسْرَائِيلُ”، و”الْمُخْتَارُونَ” (أي البقيَّة، بحسب رومية 11: 5)، و”الْبَاقُونَ” الذين تقسَّوا.
“مَا يَطْلُبُهُ إِسْرَائِيلُ ذَلِكَ لَمْ يَنَلْهُ. وَلَكِنِ الْمُخْتَارُونَ نَالُوهُ. وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَتَقَسَّوْا”.
الاسم إسرائيل ينقسم إلى فئتين فرعيَّتين: بقيَّة مختارة، وأغلبيَّة تقسَّت. وما يصفه بولس في هذه الآية يُذكِّرنا بما قاله عن ردِّ الفعل الأوَّل من إسرائيل تجاه يسوع في رومية 9: 30-33. فلأنَّ إسرائيل سعت “فِي أَثَرِ نَامُوسِ الْبِرِّ”، أي طلبت الناموس كوسيلة لنوال البرِّ، لم تبلغ هدفها. فقد عثروا في يسوع في عدم إيمانٍ لأنَّهم في شرِّهم أساؤوا فهم الغرض من الناموس (رومية 10: 1-4). لكن ما يضيفه بولس هنا هو أنَّ هذا لم ينطبق على كلِّ يهوديٍّ في القرن الأوَّل. فالبعض، أي “المختارون” من بين شعب إسرائيل، لم يعثروا في يسوع، بل آمنوا به ونالوا البرَّ الذي بالإيمان. إلاَّ أنَّ “إسرائيل”، ككلٍّ، لم تنل هذا البرَّ لأنَّ آخرين من غير البقيَّة المختارة –أي “الباقون”– لم يؤمنوا. ولذلك، تقسَّوا.
يشير بولس إلى إسرائيل ككيانٍ جماعيٍّ، أو كشعبٍ، ويقول بأنَّ “قساوتهم الجزئيَّة” الحاليَّة كانت نتاج عدم إيمانهم. (لم يقل بولس، على الأقلِّ هنا في رومية 11، إنَّ القساوة كانت سبب عدم إيمانهم). يعني ذلك أنَّ كلَّ إسرائيل في القرن الأوَّل (أي إسرائيل المُمثَّلة في الذين في اليهوديَّة ممَّن رأوا يسوع؛ انظر على سبيل المثال، يوحنَّا 1: 11؛ أعمال الرسل 3: 13-16) واجهت يسوع. والذين آمنوا خلصوا، والذين لم يؤمنوا تقسَّوا. ومن المهمِّ أنَّه لاحقًا، وصف بولس الذين تقسَّوا بأنَّهم “قُطِعوا” من الزيتونة (رومية 11: 17، انظر أيضًا رومية 11: 19، 20؛ وكذلك كلمة “سَتُقْطَعُ” في الآية 22)، ممَّا يدلُّ على أنَّ كلاًّ من البقيَّة والباقين كانوا في وقتٍ ما جزءًا من الشجرة أو الزيتونة نفسها، وأنَّ ردَّ فعلهم تجاه يسوع هو الذي حدَّد ما إذا كانوا سيبقون على الشجرة أم يُقطَعون (أي يتقسَّون). ثمَّ عندما تحدَّث بولس عن الخلاص اليهوديِّ، لم يقل إنَّه سيكون إضافةً إلى البقيَّة، بل سيكون تغييرًا وتبديلاً في قساوة الباقين. يعني ذلك أنَّ بولس قال إنَّه يريد أن يخلِّص “أناسًا من بني جنسه” (رومية 11: 14)، وعندما تحدَّث عن المجموعة التي سيأتي منها هؤلاء أو يضافون إليها –إذا كانت البقيَّة المختارة أم الباقين (الآية 7)– قال بصورة حصريَّة إنَّهم سيأتون من المجموعة الثانية، أي من الباقين. فقد تحدَّث عن إعادة تطعيم للأغصان التي قُطعَت (الآية 23؛ انظر أيضًا الآية 24)، وعن تبديل في حالة الذين تقسَّوا (انظر الآية 25، “الْقَسَاوَةَ قَدْ حَصَلَتْ جُزْئِيًّا إِلَى…”؛ انظر أيضًا الآية 31).
وبالتالي، إذا كانت إسرائيل كيانًا جماعيًّا، مؤلَّفًا من بقيَّة مختارة وأغلبيَّة متقسِّية (رومية 11: 7)، وإذا كان خلاص إسرائيل لن ينطوي على زيادة في عدد البقيَّة، بل على الاسترداد التدريجيِّ للأغلبيَّة المتقسِّية (انظر الآية 14 في ضوء الآية 23)، فعندما تحدَّث بولس إذًا عن مِلْؤُهُمْ”، أي عن ملء إسرائيل (الآية 12)، ولا سيَّما عن خلاص “جميع إسرائيل” (رومية 11: 26أ؛ راجع “يعقوب” في الآية 26ب)، كان يتحدَّث إذًا عن خلاص، وبالتالي استرداد، الجماعة ككلٍّ. فهو يقول في الأساس إنَّه في حين لم يَعِد الله قط بأن يخلِّص كلَّ مواطنٍ يهوديٍّ، لكنَّه وعد بأن يخلِّص الشعب، أي الكيان الجماعيَّ، أو الأمَّة. فليس كلُّ غصنٍ قُطِع سيُطعَّم ثانيةً (من المؤكَّد أنَّ بولس كان يعرف بعض اليهود الذين ماتوا في عدم إيمان في القرن الأوَّل)، لكنَّ الجزء من الزيتونة الذي كان مجدبًا بسبب عدم إيمان الغالبيَّة سيمتلئ مرَّةً أخرى، ليس بمزيدٍ من البقيَّة (أو فقط بأمم)، بل بأغصان طُعِّمت مرَّةً أخرى، أي بيهود كانوا غير مؤمنين في ما سبق، وبالتالي، متقسِّين.
يصف بولس الأمَّة بشجرة، وهي شجرة غير متوازنة في الوقت الحاليِّ بسبب الغالبيَّة غير المؤمنة المقطوعة عنها. وأصرَّ على أنَّ وعد الله ينطوي على الخلاص، وإعادة التطعيم، لعدد كافٍ من الأغصان المقطوعة حاليًّا، بحيث، في النهاية، ما يخلص سيكون شجرة متوازنة، أي إسرائيل الجماعيَّة.
خلاص إسرائيل الجماعيُّ، والإرساليَّة إلى الأمم، والمجيء الثاني
لم يكتفِ بولس بالإصرار على أنَّ مستقبل إسرائيل يشمل خلاصًا جماعيًّا، لكنَّه يخبرنا أيضًا كيف ومتى سيحدث ذلك. وعند هذه المرحلة، يصير رومية 11 مشوِّقًا بحقٍّ. فإنَّ خلاص إسرائيل الجماعيَّ سيحدث من خلال وسيلة مذهلة ومدهشة، وهي خلاص الأمم. يقول بولس إنَّ عدم إيمان اليهود أدَّى إلى الإرساليَّة إلى الأمم، وبالتالي، إلى إيمان الأمم، الذي كانت نتيجته بعد ذلك هو إثارة غيرة اليهود وتحفيزهم على الإيمان (انظر بصفة خاصَّة رومية 11: 11-14). ويخبرنا بولس بأنَّ هذه العمليَّة ستنتهي بالقيامة أو المجيء الثاني (انظر رومية 11: 15)، وهو على أيِّ حالٍ أمرٌ متوقَّع لأنَّنا نقرأ في موضعٍ آخر في العهد الجديد أنَّ الله يتأنَّى في مجيئه ليتيح وقتًا للخلاص (2 بطرس 3: 9، وفي ما يتعلَّق بالصلة بين القيامة والمجيء الثاني، انظر 1 كورنثوس 15: 23). وما قد يوجِّهنا في هذا الاتِّجاه أيضًا هو اقتباسات بولس من العهد القديم في رومية 11: 26ب-27، التي يرى كثيرون أنَّها تصف مجيء يسوع ثانيةً.
من المحتمل، لكن ليس من المؤكَّد بأيِّ حالٍ، أنَّ بولس تنبَّأ هنا أيضًا عن ذروة أخيرة للتبدُّل التدريجيِّ لقساوة إسرائيل. إلاَّ أنَّ حقيقة التبدُّل الحاليِّ تقلِّل كثيرًا من أهمِّيَّة التوصُّل إلى قرارٍ بشأن حدوث ذروة من التبدُّل في المستقبل. يعني ذلك أنَّنا ما لم نصرَّ على أنَّه لن يكون هناك تبدُّل لقساوة إسرائيل الحاليَّة حتَّى النهاية –حتَّى يدخل ملء الأمم– فسواء ستكون هناك ذروة تبدُّل أخيرة تختتم التبدُّل التدريجيَّ الحاليَّ أم لا ربَّما يكون أمرًا مثيرًا للاهتمام، لكنَّه لا يمثِّل أهمِّيَّة إلى هذا الحدِّ. وكما رأينا، هذا الفهم للأمر لا يأخذ في اعتباره قول بولس بأنَّ إرساليَّته إلى الأمم كان هدفها هو خلاص الأغلبيَّة المتقسِّية حاليًّا. فعندما تحدَّث عن الخلاص اليهوديِّ بعد الآية 7، تحدَّث تحديدًا عن إعادة تطعيم (الآية 23؛ انظر أيضًا الآية 24)، وتبدُّل (الآية 25)، وليس عن زيادة في عدد البقيَّة.
الخاتمة
هل لإسرائيل مُستقبَل؟ يجيب بولس عن هذا السؤال في رومية 11 بنعم مدوِّية. فإنَّ إسرائيل، كشعبٍ أو ككيانٍ جماعيٍّ أو كأمَّة، ستخلص. وقساوة إسرائيل تتبدَّل الآن، ولدى ضمِّ كلِّ الأمم، ستتبدَّل تلك القساوة بالكامل. من المؤكَّد أنَّ جواب بولس عن هذا السؤال ليس شاملاً. فهو لم يقل شيئًا، على سبيل المثال، عن أرض إسرائيل أو عن ملكٍ ألفيٍّ. لكن ما يقوله بالفعل هو إنَّ (1) إسرائيل ستخلص؛ (2) هذا الخلاص يحدث الآن وسينتهي بمجيء يسوع ثانيةً؛ (3) سيؤدِّي إلى القيامة من الموت؛ (4) هو يحدث كنتيجة للإرساليَّة إلى الأمم؛ (5) هو إعادة تطعيم لليهود غير المؤمنين في شجرتهم (تزامنًا مع تطعيم الأمم في الشجرة نفسها).