المسيح، الأمم، وآية يونان

إن تأملنا في سفر يونان لا يقتصر على قصة نبي تمرد، ثم عاد فأطاع، أو مدينة أممية كبيرة تابت فنجت. بل يكشف هذا السفر القصير عن عمقٍ نبوّي ولاهوتي كبير، يربط بين عمل الله في التاريخ، وعمل المسيح الكامل في الفداء، وامتداد رحمته لجميع الشعوب. في هذا المقال، نستعرض كيف كان يونان آية نبوية أشار إليها المسيح، ونتأمل في علاقة الأمم بخطة الله منذ البدء، وصولًا إلى زمن الكنيسة، حيث تتجلى شمولية النعمة الإلهية.

أولًا: آية يونان والمسيح – موت وقيامة معًا

عندما طلب بعض القادة الدينيين من المسيح أن يصنع آية تُثبت صدق دعوته، جاء رده قاطعًا في إنجيل متى 12: 39–41:

“جيلٌ شِرّيرٌ وفاسِقٌ يَطلُبُ آيَةً، ولا تُعطَى لهُ آيَةٌ إلّا آيَةَ يونانَ النَّبيِّ. لأنَّهُ كما كانَ يونانُ في بَطنِ الحوتِ ثَلاثَةَ أيّامٍ وثَلاثَ لَيالٍ، هكذا يكونُ ابنُ الإنسانِ في قَلبِ الأرضِ ثَلاثَةَ أيّامٍ وثَلاثَ لَيالٍ. رِجالُ نينَوَى سيَقومونَ في الدّينِ مع هذا الجيلِ ويَدينونَهُ، لأنَّهُمْ تابوا بمُناداةِ يونانَ، وهوذا أعظَمُ مِنْ يونانَ ههنا!”

بهذا التصريح، قدّم المسيح تفسيرًا نبوِّيًا لسفر يونان. فوجود يونان في بطن الحوت لثلاثة أيام وثلاث ليالٍ لم يكن فقط واقعة تاريخية، بل كان رمزًا لما سيحدث للمسيح نفسه: موته، ودفنه، ثم قيامته في اليوم الثالث.

ومن المهم التنويه هنا أن هذا الزمن لا يعني بالضرورة 72 ساعة حرفيًا، بل بحسب التقليد اليهودي، يُحسب أي جزء من اليوم يومًا كاملًا.

التشابه والاختلاف بين يونان والمسيح

في السياق النبوي، يُمثّل يونان ظلًّا للمسيح، لكن مع وجود فروق جوهرية:

  • يونان عصى أمر الله وهرب، فكانت نجاته من الموت نتيجة لرحمة الله، لكن المسيح أطاع حتى الموت، وقيامته كانت إعلانًا لبره وكمال عمله.
  • يونان أُلقي في البحر، فكان الحوت بمثابة “القبر” الذي حفظه حيًّا. أما المسيح فقد مات حقًا ودُفن، لكنه قام منتصرًا على الموت.
  • وجود يونان في الحوت أنهى الغضب الإلهي عن البحارة، ووجود المسيح في القبر أنهى الغضب الإلهي على كل من يؤمن به، لأنه حمل عنا الدينونة.

هكذا، تتحوّل قصة يونان إلى إعلان نبوّي: موت المسيح لم يكن مجرد مأساة، بل ذبيحة بديلة حملت عقوبة الخطية، وقيامته كانت تأكيدًا أن الذبيحة قد قُبلت من الله، وأن الغضب قد أُزيل عن المؤمنين.

ثانيًا: الرحمة الإلهية نحو الأمم – من نينوى إلى أقاصي الأرض

سفر يونان ليس عن نبي فقط، بل عن مدينة أممية عظيمة: نينوى. دعوة يونان للذهاب إلى نينوى تُعد من أوائل الإعلانات الواضحة عن اهتمام الله بالأمم، حتى قبل مجيء المسيح وبدء الكنيسة. لكن يونان، كشخص ينتمي إلى الشعب المختار، لم يكن مستعدًا لتقبّل فكرة أن الله قد يرحم شعبًا “نجسًا” في نظره.

مع ذلك، أرسل الله يونان، وتابت نينوى، فغفر الله لها. هذا يُظهر أن النعمة لم تكن محصورة بإسرائيل أبدًا، بل كانت دائمًا تتجه إلى العالم كله، حتى إن ظهر ذلك جزئيًا في العهد القديم.

في العهد الجديد، يتضح هذا البُعد الشامل للخلاص بشكل كامل، خاصة بعد حادثة يوم الخمسين.

ثالثًا: سكيب الروح القدس وبداية كرازة الأمم

في سفر أعمال الرسل، نقرأ عن سكيب الروح القدس على التلاميذ يوم الخمسين، حيث بدأوا يتكلمون بألسنة شعوب مختلفة، وهو ما مثّل بداية الإرسالية نحو الأمم. الروح القدس لم يُعطَ فقط لليهود، بل امتد ليشمل السامريين، ثم الأمم، كما حدث مع بيت كرنيليوس.

بطرس، الذي كان مترددًا أولًا في الذهاب إلى بيت رجل أممي، رأى رؤيا من الله تُعلن له أن ما طهّره الله لا يدعوه هو دنسًا. ولما بدأ يكرز للأمم، حلّ الروح القدس عليهم، الأمر الذي جعله يقول:

“فَتَذَكَّرْتُ كَلامَ الرَّبِّ كَيْفَ قَالَ: إِنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِمَاءٍ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ” (أعمال 11: 16).

وهكذا فهِم الرسل أن الأمم ليسوا في مرتبة أدنى، بل هم شركاء في الميراث، تمامًا كاليهود. ومعمودية الروح القدس، كما شرح بولس، هي العمل الذي به يُضمّ كل مؤمن إلى جسد المسيح الواحد:

“لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضًا اعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ، يَهُودًا كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ، عَبِيدًا أَمْ أَحْرَارًا، وَجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحًا وَاحِدًا” (1 كورنثوس 12: 13).

لماذا كان سكيب الروح ضرورة؟

رغم وجود الروح القدس في العهد القديم، إلا أن سَكبه يوم الخمسين كان ضروريًا لسببين:

  1. إعلان بداية مرحلة جديدة في التاريخ الفدائي، حيث اتضح أن شعب الله لم يعد مقصورًا على إسرائيل.
  2. تأهيل الكنيسة لتقوم بالإرسالية الشاملة، ولتدرك أنها جسد المسيح الذي يضم مؤمنين من كل الأمم.

رابعًا: بين يونان والكنيسة – فارق في القلب والرسالة

يونان أطاع في النهاية، لكنه لم يُرد في قلبه خلاص أهل نينوى. أما الكنيسة، فقد دُعيت لتحب وتخدم وتكرز لكل الشعوب. هذه النقلة لم تكن فقط في الإرسالية، بل في عمق الفهم: أن الله يطلب الجميع للخلاص، وأن لا تمييز بعد في المسيح يسوع.

إن سفر يونان إذًا يرمز إلى ما سيحدث لاحقًا في الكنيسة:

  • كرازة بالأمم.
  • دعوة للتوبة.
  • إعلان عن رحمة الله.
  • وصورة عن المسيح المرسل، الذي أطاع حتى الموت.

خاتمة: الباب ما زال مفتوحًا

المسيح الذي أشار إلى “آية يونان” قد أكمل بنفسه العمل الفدائي، ومات كبديل عن الخطاة، وقام ليبرر كل من يؤمن به. دعوة الخلاص مفتوحة اليوم لكل الأمم، ولكل شخص، دون استثناء.

“فالله الآن يأمر جميع الناس في كل مكان أن يتوبوا” (أعمال 17: 30). إن شعرت أن الرب يدعوك اليوم، فلا تتردد. تعال إليه بتوبة صادقة، وآمن أن المسيح مات بديلًا عنك، وقام لتنال أنت حياة جديدة. هو مستعد أن يسكب روحه في قلبك، ويضمّك إلى جسده، الكنيسة، ويقودك في طريق القداسة والحق.

شارك مع أصدقائك

أستاذ الدراسات الكتابيّة واللغة اليونانية في كليّة نيوجينيفا للاهوت. وحاصل على درجة الماجستير الرعويّ (MDiv) من كلية نيوجينيفا، ويدرس حاليًا درجة الماجستير (ThM) في كلية يونيون للاهوت.