ما المقصود بأننا سندين ملائكة؟

وجّه الرسول بولس العديد من التوبيخات القاسية لمؤمني كورنثوس عبر رسالته الأولى. لكن، ربَّما كان أكثر هذه التوبيخات إثارة للاهتمام هو ما جاء في 1 كورنثوس 6: 1-3. يخبرنا هذا النصُّ بأنَّه بسبب الانقسامات التي حدثت بين مؤمني كورنثوس، ومحبَّتهم للعالم، ساوموا على هويَّتهم المسيحيَّة، عن طريق اتِّباع المكسب الأنانيِّ، ومقاضاتهم بعضهم لبعضٍ في ساحات القضاء العلمانيَّة. مثل هذا السلوك يكشف عن تبنِّيهم قِيَمٍ لا تختلف كثيرًا عن قِيَم جيرانهم من الوثنيِّين. ولهذا السبب، ذكَّرهم بولس بمصيرهم النهائيِّ في المسيح، حتَّى يفضح سخافة تصرُّفهم هذا.

أَيَتَجَاسَرُ مِنْكُمْ أَحَدٌ لَهُ دَعْوَى عَلَى آخَرَ أَنْ يُحَاكَمَ عِنْدَ ٱلظَّالِمِينَ، وَلَيْسَ عِنْدَ ٱلْقِدِّيسِينَ؟ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ ٱلْقِدِّيسِينَ سَيَدِينُونَ ٱلْعَالَمَ؟ فَإِنْ كَانَ ٱلْعَالَمُ يُدَانُ بِكُمْ، أَفَأَنْتُمْ غَيْرُ مُسْتَأْهِلِينَ لِلْمَحَاكِمِ ٱلصُّغْرَى؟ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّنَا سَنَدِينُ مَلَائِكَةً؟ فَبِٱلْأَوْلَى أُمُورَ هَذِهِ ٱلْحَيَاةِ! (1 كورنثوس 6: 1-3)

هذه الحُجَّة تسمَّى حُجَّة “من باب أولَى”. فإذا كان هؤلاء سيدينون يومًا ما العالم والملائكة، أفلا ينبغي أن يكونوا قادرين على مواجهة النزاعات البسيطة نسبيًّا التي تنشأ في ما بينهم؟

الأمر الذي يجعل هذا المقطع مثيرًا للدهشة بشكل كبير هو افتراض بولس دراية قرَّائه بالفعل بالدور الذي سوف يلعبونه في الدينونة الأخيرة. فقد طرح عليهم مرَّتين السؤال البلاغيَّ التالي: “أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ؟”. لكن في حقيقة الأمر، لولا هذا النصُّ، لما أمكن لمؤمنين كثيرين أن يَعلَموا شيئًا عن هذا الدور. فما المقصود تحديدًا بأنَّنا سندين العالم والملائكة؟ وما الذي قاله الكتاب المقدَّس أيضًا عن ذلك؟ وما الذي يعنيه ذلك لنا اليوم من الناحية العمليَّة؟

قدَّم المفسِّرون عبر القرون عديدًا من التفسيرات لطبيعة هذه الدينونة التي سيمارسها القدِّيسون. ويمكن إجمال تلك التفسيرات في ثلاثة خيارات رئيسيَّة، متبوعةً بخيار رابع يُعَدُّ امتدادًا للخيار الثالث.

1. الدينونة بتقديم قدوة ومثل

يعود هذا الرأي إلى زمن آباء الكنيسة الأوائل، مثل يوحنَّا ذهبيُّ الفم، بالإضافة إلى بعض المفسِّرين المُصلَحين المبكِّرين، مثل فولفغانغ موسكولوس (Wolfgang Musculus). والفكرة التي يعبِّر عنها هذا الرأي هي أنَّ المؤمنين لن يمارسوا الدينونة بشكل إيجابيٍّ وفاعل، لأنَّ هذا، كما يُعتَقَد، حقٌّ مقصور على المسيح (انظر يوحنَّا 5: 22). بل بالأحرى، إنَّ نموذج إيمانهم هو الذي سيدين غير المؤمنين. طرح يسوع فكرة مماثلة حين قال إنَّ أهل نينوى وملكة سبأ، الذين أظهروا توبة وحكمة في توبتهم، سيقومون في يوم الدينونة ليدينوا شرَّ الجيل الذي عاصره المسيح على الأرض (متَّى 12: 41-42).

في حين أنَّ هذا الرأي قد يكون جزءًا ممَّا كان يقصده بولس، لكن يبدو أنَّه لا يعبِّر عن الصورة كاملة. فإنَّ دور أهل نينوى وملكة سبأ في الدينونة الأخيرة سيكون شبيهًا بدور شهودٍ يشهدون ضدَّ الأشرار، وليس قضاة. لكن في المقابل، افترض بولس أنَّ المؤمنين سيلعبون دورًا ذو سُلطان بدرجة أكبر في الدينونة الأخيرة. فقد كان عليهم أن يتعلَّموا كيف يواجهون مشكلاتهم الدنيويَّة الآن، لأنَّهم يومًا ما سيكونون مسؤولين عن التعامل مع قضايا كونيَّة.

2. الدينونة بالإنابة

هذا الرأي مفضَّل لدى بعض المفسِّرين المعاصرين، مثل أنتوني ثيسلتون (Anthony Thiselton). وهو يسلِّط الضوء على تعليم بولس المتعلِّق باتِّحاد المؤمن بالمسيح: فكما نشترك في موت المسيح، سنشترك أيضًا في قوَّة قيامته، وسلطانه (رومية 6: 3-11؛ 1 كورنثوس 15: 49). ومن ثَمَّ، يمكن أن نقول إنَّه عندما يأتي المسيح ثانيةً ليدين العالم، سنشترك نحن المؤمنين به أيضًا في الدينونة التي سيوقعها، لكن بالمعنى الخاصِّ باشتراكنا روحيًّا في كلِّ أعماله الخلاصيَّة، بصفته رأسنا التمثيليَّ الذي يعمل نيابةً عنَّا.

ربَّما كان هذا الرأي أقرب إلى الحقيقة من الرأي الأوَّل. لكن مجدَّدًا، يبدو أنَّه لا يعبِّر عن قصد بولس كاملاً. فلو كان بولس يقصد فقط الإشارة إلى دينونة مستقبليَّة بالإنابة، لكان هذا تبريرًا أضعف لوجود مسؤوليَّة موضوعة على عاتق مؤمنو كورنثوس بأن يقضوا لأنفسهم.

3. دينونة بسلطة مفوَّضة

بقدر كون هذا الرأي يبدو صادمًا، كان بولس يشير على الأرجح إلى دور إيجابيٍّ مفوَّض للمؤمنين في الدينونة الأخيرة. وهذا التفسير مقبولٌ على نطاق واسع في تاريخ الكنيسة، وله سند كتابيٌّ، في حال انتبهنا جيِّدًا إلى النصِّ الكتابيِّ.

واحدٌ من أوضح نصوص العهد القديم التي تشير إلى دور المؤمنين في الدينونة الأخيرة هو الذي جاء في رؤيا دانيال لابن الإنسان: “وَأُعْطِيَ ٱلدِّينُ لِقِدِّيسِيِ ٱلْعَلِيِّ، وَبَلَغَ ٱلْوَقْتُ، فَٱمْتَلَكَ ٱلْقِدِّيسُونَ ٱلْمَمْلَكَةَ” (دانيال 7: 22). وفي العهد الجديد، تحدَّث يسوع عن تولِّي تلاميذه دورٍ في إدانة أسباط إسرائيل:

ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي، فِي ٱلتَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى ٱثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ ٱلِٱثْنَيْ عَشَرَ” (متَّى 19: 28).

فضلاً عن ذلك، في مَثَل الوزنات، أَلمَح يسوع إلى درجات السلطة التي ستُمنَح للمؤمنين في اليوم الأخير: “فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلصَّالِحُ وَٱلْأَمِينُ! كُنْتَ أَمِينًا فِي ٱلْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى ٱلْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ” (متَّى 25: 21).

لا يتحدَّث أيُّ نصٍّ من هذه النصوص، بالتأكيد، عن إدانة القدِّيسين لملائكة. ومع ذلك، تشير بعض النصوص الأخرى إلى الدينونة المستقبليَّة للملائكة الساقطين (مثل إشعياء 24: 21؛ متَّى 25: 41؛ 2 بطرس 2: 4). وفي حين تقول هذه النصوص بوجه عامٍّ إنَّ الله نفسه هو مَن سيدين الملائكة، يمكن أن يُفهَم منها ضمنًا على الأقلِّ وجود دور مفوَّض للمؤمنين.

4. تغيير نظام الحُكم؟

يوجد احتمال رابع، مَبنيٌّ على الاحتمال الثالث. هذا التفسير، الذي افترضه أوسكار كالمان (Oscar Cullmann)، قد حظى مؤخَّرًا بتأييدٍ من مايكل هيزر (Michael Heiser)، مؤلِّف كتاب The Unseen Realm (“العالم غير المنظور”). وفقًا لهذا الرأي، خصَّ الله طبقةً حاكمةً من الملائكة بسلطة قضائيَّة مؤقَّتة على الأمم الوثنيَّة، وهؤلاء يُعرَفون باسم “بنو الله” في العهد القديم.

تحظى هذه الفكرة بتأييدٍ في تثنية 32: 8 الذي يقول: “حِينَ قَسَمَ ٱلْعَلِيُّ لِلْأُمَمِ، حِينَ فَرَّقَ بَنِي آدَمَ، نَصَبَ تُخُومًا لِشُعُوبٍ حَسَبَ عَدَدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ [بني الله]” (راجع دانيال 10: 13، 20). لكن بعد ذلك، أصدر الله حُكم إدانة على هؤلاء الملائكة بسبب حُكمهم الظالم: “أَنَا قُلْتُ: إِنَّكُمْ آلِهَةٌ وَبَنُو ٱلْعَلِيِّ كُلُّكُمْ. لَكِنْ مِثْلَ ٱلنَّاسِ تَمُوتُونَ وَكَأَحَدِ ٱلرُّؤَسَاءِ تَسْقُطُونَ” (مزمور 82: 6-7).

ويتمثَّل جزءٌ من خطَّة الله للفداء في الإطاحة بهذه الممالك الشيطانيَّة، وإقامة ملكوت ابنه في محلِّها، ذلك الملكوت الذي سيملك فيه المؤمنون بصفتهم وارثين مع الابن (2 تيموثاوس 2: 13؛ رؤيا 2: 25-28).

وبحسب رأي هيزر: “ما أن تعود الأمم ثانيةً إلى يهوه بواسطة الإنجيل، سيطيح المؤمنون بالكائنات السماويَّة التي تتسلَّط في الوقت الحاليِّ على الأمم، وسوف يحكمون بدلاً منهم، بصفتهم أولاد يهوه، وشركاءه في الحُكم” (صفحة 311).

وضع مشكلة النصِّ في الاعتبار

لو كان هذا ما يقصده بولس بالفعل، فإنَّنا نستطيع أن نرى المفارقة المؤسفة في سلوك مؤمني كنيسة كورنثوس. ففي ضوء أنَّهم يومًا ما سوف يدينون القوَّات السماويَّة الكامنة وراء حُكَّامهم الأرضيِّين، لِمَ يلجأون إذًا إلى هؤلاء الحكَّام الأرضيِّين أنفسهم ليَقضوا في شؤونهم؟

قطعًا، هذا لا يعني أنَّ المؤمنين يجب ألاَّ يحتكموا البتَّة إلى المحاكم العلمانيَّة. ففي بعض الأحيان، يستلزم تحقيق العدالة إخضاع مؤمنين اسميِّين آخرين للمساءلة لارتكابهم إساءات خطيرة. لكن في نزاعاتنا العادية واليوميَّة مع مؤمنين آخرين، علينا أن نتذكَّر هويَّتنا الأساسيَّة، بصفتنا وارثين مع المسيح، وشركاء معه في الحُكم. فعلينا ألاَّ نستخدم الأساليب الدنيويَّة لتحقيق أهداف دنيويَّة؛ بل بالأحرى، في كلِّ شيء، يجب أن نكون مميَّزين، كأناسٍ تحكمهم كلمة الله، ويؤيِّدهم روح الله بالقوَّة.

 

شارك مع أصدقائك

حاصل على درجة ماجستير اللاهوت من كلية كوفننت للاهوت، وهو راعي مساعد في الكنيسة المشيخية المصلحة بولاية تينيسي الأمريكية.