مصداقيَّة العهد الجديد

تعريف

تتعلَّق مصداقيَّة وثائق العهد الجديد بتاريخيَّتها، وأصالتها، ودقَّتها، وكذلك بتصريحاتها الفائقة للطبيعة.

ملخَّص

تواجه مصداقيَّة وثائق العهد الجديد العديد من التحدِّيات. أوَّلاً، هل يسوع الذي تتحدَّث عنه الأناجيل الإزائيَّة (إنجيل متَّى، ومرقس، ولوقا) شخصيَّة حقيقيَّة وتاريخيَّة، أم إنَّ هذه الروايات لا تزيد عن كونها قصصًا خياليَّة؟ ثانيًا، هل الإنجيل بحسب يوحنَّا يتعارض مع يسوع المشار إليه في الأناجيل الإزائيَّة؟ ثالثًا، هل تاريخ الكنيسة الأولى، كما دوَّنه سفر أعمال الرسل، دقيق ومترابط منطقيًّا من الناحية التاريخيَّة؟ رابعًا، هل رسائل العهد الجديد كتبها الأشخاص الذين يُزعَم أنَّهم كُتَّابها؟ خامسًا، هل توجد كتابات أخرى كان ينبغي إدراجها ضمن قائمة الأسفار القانونيَّة للعهد الجديد؟ سادسًا، كيف يمكن أن نتأكَّد من أنَّ الوثائق الأصليَّة نُسِخَت بأمانة حتَّى وصلت إلينا اليوم؟ وأخيرًا، هل يمكننا الوثوق بمصداقيَّة الأسفار التي تروي أحداثًا فائقةً للطبيعة من قبيل قيامة يسوع من بين الأموات؟


كثيرون اليوم يرون أنَّه لا يمكن الوثوق بما تعلِّمه الأسفار المسيحيَّة التي تكوِّن معًا كتاب العهد الجديد. ومن المفارقة العجيبة أنَّه لم توجد يومًا براهين أكثر من تلك البراهين المتاحة بسهولة التي تؤيِّد مصداقيَّة أسفار العهد الجديد. لا يستطيع التحقيق والبحث التاريخيُّ بالتأكيد أن يثبت أو يدحض الادعاءات اللاهوتيَّة (على سبيل المثال، أنَّ يسوع مات لأجل خطايا البشر)، لكن دون الحقائق التاريخيَّة (على سبيل المثال، يسوع عاش ومات)، لا أساس لعلم اللاهوت.

تاريخيَّة الأناجيل الإزائيَّة

تحتوي الأناجيل الإزائيَّة (إنجيل متَّى، ومرقس، ولوقا) على المحتوى الرئيسيِّ الذي يستخدمه العلماء في حركة “البحث عن يسوع التاريخيِّ”. وعلى الأرجح، كُتِبت هذه الأناجيل خلال جيل واحد بعد موت يسوع في عام 30 ميلاديًّا، بينما كان شهود العيان على خدمته لا يزالون على قيد الحياة، وكتبها أناسٌ إمَّا كانوا مرافقين ليسوع عن قرب، وإمَّا كانوا على صلة وثيقة بهؤلاء المرافقين. ويوحي لوقا 1: 1-4 بأنَّ عمليَّة كتابة دقيقة وتاريخيَّة قد اتُّبعَت. والنوع الأدبيُّ العامُّ للأناجيل الإزائيَّة كثير الشبه بسير الحياة القديمة، وليس بالروايات أو القصص الخياليَّة. وقد عزَّزت الثقافات الشفهيَّة التي كانت سائدة في العالم اليهوديِّ والعالم الرومانيِّ في القرن الأوَّل من مهارات الحفظ والتذكُّر، الأمر الذي مكَّن أولئك الذين أرادوا تسليم معلومات دقيقة بكلام الفم أن يفعلوا ذلك على فترات زمنيَّة طويلة بطرق لا مثيل لها إلى حدٍّ كبير في عالمنا اليوم. والاختلافات بين الأناجيل الإزائيَّة تتوافق مع المرونة التي اعتاد رواة القصص أن يقصُّوا بها تلك المعلومات شفهيًّا، هذا بالإضافة إلى التفاصيل وبؤر التركيز اللاهوتيَّة المختلفة التي أراد كلُّ كاتب على حدة تسليط الضوء عليها. ويمكن تعليل التناقضات الظاهريَّة بين الروايات المتوازية في الأناجيل عادةً من خلال الأعراف التاريخيَّة لذلك العصر. ففي عالم لا يعرف علامات التنصيص، ولا يحتاج إليها على الأرجح، كان توصيل أحدهم كلام شخص آخر بأسلوبه الخاصِّ أمرًا مقبولًا تمامًا. وفي بعض الأحيان، كان كلُّ كاتب من كُتَّاب الإنجيل يقتطف أجزاءً مختلفة من مجموعة أكبر، وفي أحيان أخرى، كانوا يستعملون درجات مختلفة من الدقَّة، وينسِّقون محتواهم باستمرار بحسب الموضوع، وكذلك بحسب الترتيب الزمنيِّ.

توجد عشر إشارات على الأقلِّ من خارج الكتاب المقدَّس، جاءت في مصادر غير مسيحيَّة (يهوديَّة، ويونانيَّة، ورومانيَّة) تعود إلى القرون الأولى للحقبة المسيحيَّة (يوسيفوس، وثالوس، وسويتونيوس، وبليني، ومارا بن سرافيون، ولوسيان، وعديد من المقالات الواردة في التلمود)، تؤيِّد الملامح الرئيسيَّة للأناجيل الإزائيَّة، مثل ميلاد يسوع خارج إطار الزواج، وتداخل خدمته مع خدمة يوحنَّا المعمدان، ووجود يعقوب أخيه، وجمعه للتلاميذ الذين ذُكِرت أسماءُ خمسة منهم، ودخوله في مشاحنات مع رؤساء اليهود بشأن تفسيراتهم للناموس، وصنعه “مآثر عجيبة”، واعتباره “ساحرًا أضلَّ إسرائيل”. ونعلم أيضًا أنَّه صُلِب في عهد بيلاطس البنطيِّ (وهكذا بين 26-36 ميلاديًّا)، وأنَّ أتباعه آمنوا بأنَّه هو المسيَّا، وآمنوا بأنَّه أُقيمَ من بين الأموات، وبأنَّ موته لم يضع نهاية لتلك المعتقدات، بل على النقيض، سرعان ما ابتدأ أتباعه يجتمعون معًا و”يرنِّمون له كما لو كان إلهًا”.

تاريخيَّة إنجيل يوحنَّا

غالبيَّة إنجيل يوحنَّا يحوي معلومات مختلفة عمَّا تقدِّمه الأناجيل الإزائيَّة، لكنَّها ليست متناقضة معها في الآنِ ذاته. ففي حين كان متَّى ولوقا على الأرجح يعرفان بإنجيل مرقس، واستخدماه، وأضافا إليه، يبدو أنَّه لم توجد أيَّة علاقة أدبيَّة بين إنجيل يوحنَّا وأيٍّ من الأناجيل الإزائيَّة. كُتِب هذا الإنجيل الرابع على الأرجح بعد الأناجيل الإزائيَّة بجيلٍ (في تسعينيَّات القرن الأوَّل وليس في ستينيَّاته)، على يد واحد من أقرب أتباع يسوع، بحسب تعبيره هو نفسه، تأثَّر بفترة طويلة من الكرازة عن يسوع، وانتقى معلومات لم يُسلَّط الضوء عليها كتابةً من قبل. وكتب ذلك لأجل جماعة من المسيحيِّين في أفسس وحولها، كانوا يواجهون تحدِّيَين تمثَّلا في معاداة المجامع المحليَّة لهم، التي كانت تعزل على نحو متزايد الأعضاء الذين يعترفون بأنَّهم يعبدون يسوع، وكذلك في تسلُّل حركة يونانيَّة “مسيحيَّة” توفيقيَّة إليهم، عُرِفت باسم الغنوسيَّة، وهي الحركة التي أنكرت ناسوت يسوع الحقيقيَّ. وفقط من خلال إنجيل يوحنَّا، نعرف، على سبيل المثال، أنَّ خدمة يسوع دامت نحو ثلاث سنوات، لأنَّ الإنجيل يَذكُر عديدًا من رحلاته إلى أورشليم في فترات الأعياد، تلك الرحلات التي يمكن تحديد تاريخها. لكن، لم يفعل يوحنَّا ذلك كي يساعدنا على بناء تسلسل زمنيٍّ لحياة يسوع، بل بسبب قناعته اللاهوتيَّة بأنَّ تعليم يسوع في تلك المناسبات أثبَتَ أنَّه هو التتميم للمعنى الحقيقيِّ للأعياد اليهوديَّة المختلفة. وما نعرفه عن التسلسل الزمنيِّ لحياة يسوع يبرز عرضًا. ومن ثمَّ، فإنَّ هذه التفاصيل على الأرجح ليست ملفَّقة، بل دقيقة. كذلك، الإشارات الجغرافيَّة والتضاريسيَّة كانت أكثر وفرة في إنجيل يوحنَّا، وقد أُثبِتت جيِّدًا من خلال الاكتشافات الأثريَّة (على سبيل المثال، بركة بيت حسدا، وبركة سلوام، وبئر يعقوب، ورواق سليمان، ودار الولاية، وبيت عنيا، إلى آخره). وحتَّى الأسلوب والمحتوى المختلف لتعليم يسوع، فيظهر من آنٍ لآخر في الأناجيل الإزائيَّة (بالأكثر في متَّى 11: 27؛ لوقا 10: 22). وترد تشابهات في المفاهيم بين إنجيل يوحنَّا والأناجيل الإزائيَّة في كلِّ صفحة من صفحات الإنجيل الرابع.

تاريخيَّة سفر أعمال الرسل

يتضمَّن العهد الجديد سفرًا واحدًا فقط ينتمي إلى النوع الأدبيِّ لسفر أعمال الرسل. كان هذا عملاً تاريخيًّا يتَّسم بالخصب اللاهوتيِّ والرقيِّ الفنِّيِّ. وإنَّ العدد الذي أُثبِتت صحَّته بالفعل من الشخصيَّات والأماكن التي جاءت في هذه الرواية الانتقائيَّة لأحداث رئيسيَّة وقعت في الجيل الأوَّل من تاريخ الكنيسة إنَّما هو صادم ومذهل. فمن خلال كتابات غير مسيحيَّة، نعرف عن حنَّان، وكلوديوس، وغمالائيل، وقيافا، ويعقوب، وغاليون، وأغريباس الأوَّل والثاني، وسرجيوس، وفيلكس، ودروسيللا، وفستوس، وبرنيس، وآخرين. وقد تبيَّن بالتنقيب الأثريِّ أنَّ كلَّ مدينة أو مكان وصفه سفر أعمال الرسل هو كما وصفه السفر تمامًا، بمجامعه، ومسارحه، وأروقته، وموانيه، وطرقه، وأنهاره، بل وأكثر من ذلك أيضًا. وما يمثِّل أهميَّة خاصَّة هو دراية لوقا الدقيقة بأسماء وألقاب الحُكَّام في المدن والمواضع المختلفة، ولا سيَّما لأنَّ هذه الألقاب اختلفت في بعض الأحيان إلى حدٍّ كبير من منطقة إلى الأخرى أو من فترة زمنيَّة إلى الفترة التالية لها. تضمَّن ذلك، على سبيل المثال، مجمع السنهدرين (مجمع رؤساء اليهود)، والكتيبة الإيطاليَّة (أعمال الرسل 10)، ورؤساء الربع (أعمال الرسل 13: 1)، والولاة (أعمال الرسل 13: 7)، وأريوس باغوس، والكاتب (أعمال الرسل 19: 35)، و”المقدَّم” (فوق جزيرة مالطة، أعمال الرسل 28: 7). وإنَّ حقيقة نجاحنا في توفيق سفر أعمال الرسل مع الإشارات والتلميحات الأكثر تفرقًا والعَرَضيَّة أحيانًا إلى حياة بولس في رسائله إنَّما تميِّز سفر أعمال الرسل عن الروايات التاريخيَّة الأخرى، سواء الحديثة أو القديمة. وقدرتنا على رسم تسلسل زمنيٍّ معقول وتفصيليٍّ للأحداث المقدَّمة في سفر أعمال الرسل، مرَّة أخرى بالمقارنة برسائل بولس، وقدرتنا أيضًا على تحديد مسار رحلاته التبشيريَّة بشكل مترابط ومعقول، إنَّما توحي أيضًا بتاريخيَّة سفر أعمال الرسل.

هويَّة كُتَّاب رسائل العهد الجديد

السؤال المهمُّ الذي يحيط برسائل العهد الجديد هو ما إن كانت هذه الرسائل كُتِبت بيد الأشخاص الذين نُسِبت إليهم أم لا. يتَّفق جميع العلماء والباحثين تقريبًا على أنَّ الرسالة إلى رومية، والرسالتين الأولى والثانية إلى كورنثوس، والرسالة إلى غلاطية، والرسالة إلى فيلبِّي، والرسالة الأولى إلى تسالونيكي، والرسالة إلى فليمون هي رسائل بولسيَّة أصيلة. بعض الشكوك تحيط بالرسالة إلى كولوسي، والرسالة الثانية إلى تسالونيكي، بينما يحيط مزيدٌ من الشكِّ بالرسالة إلى أفسس. أمَّا الشكُّ الأكبر، فيحيط بالرسائل الرعويَّة (الرسالتان الأولى والثانية إلى تيموثاوس، والرسالة إلى تيطس). لكن في حقيقة الأمر، يمكن مع ذلك تقديم حُججٍ جيِّدة تؤيِّد كون بولس هو كاتب كلِّ رسالة من هذه الرسائل. من المثير للاهتمام أنَّ الاعتراضات بشأن الرسالة الثانية إلى تسالونيكي والرسالة إلى أفسس تمحورت عادةً حول كون هاتين الرسالتين شبيهتين أكثر من اللازم بالرسالة الأولى إلى تسالونيكي والرسالة إلى كولوسي، على التوالي؛ في حين يقال إنَّ أسلوب الرسائل الرعويَّة مختلف أكثر من اللازم عن تلك الرسائل التي لا نزاع على كونها بولسيَّة. كذلك، يجب أن نضع في اعتبارنا استخدام بولس لكتبة (رومية 16: 22)، أو كُتَّاب مشاركين (لاحظ أسماء الأشخاص المذكورين بالإضافة إلى بولس في الآيات الأولى من الرسالتين الأولى والثانية إلى كورنثوس، والرسالة إلى كولوسي، والرسالتين الأولى والثانية إلى تسالونيكي)، ولا سيَّما لأنَّ الكتبة كانوا يُمنَحون الحريَّة في بعض الأحيان ليكتبوا بأسلوبهم أفكار الذين استخدموهم للكتابة.

من الأبعاد المثيرة للاهتمام لبعضٍ من رسائل بولس، التي كُتِبت في خمسينيَّات القرن الأوَّل، ولا سيَّما الرسالة إلى رومية، والرسالة الأولى إلى كورنثوس، والرسالة الأولى إلى تسالونيكي، هي الاقتباسات والإشارات إلى تعاليم يسوع، التي لم يكن بإمكان بولس الوصول إليها بالرجوع إلى أحد الأناجيل، لأنَّه لم يكن أيٌّ من الأناجيل قد كُتِب بعد. ومن ثَمَّ، تبيِّن هذه الإشارات أنَّه كان يوجد تداول شفهيٌّ موثوق لتعاليم يسوع. وتراوحت موضوعات هذه الإشارات بين الطلاق والزواج الثاني (1 كورنثوس 7: 10؛ راجع متَّى 19: 9)، وتلقِّي المال مقابل الخدمة (1 كورنثوس 9: 14؛ راجع لوقا 10: 7)، و”منطوق تأسيس العشاء الأخير” (1 كورنثوس 11: 23-25؛ راجع لوقا 22: 19-20)، ومجيء يسوع ثانية (1 تسالونيكي 5: 2-4؛ راجع متى 24: 42-44)، وعدم الانتقام للنفس بل محبَّة الأعداء (رومية 12: 17-20؛ راجع لوقا 6: 27ب-28أ)، وذلك على سبيل المثال لا الحصر. في أحيان أخرى، كانت التشابهات بين تعليم بولس وتعليم يسوع هي تشابهات في المفاهيم وليس تشابهات لفظيَّة، لكنَّها مع ذلك تشابهات وثيقة بما يكفي لدحض الفكرة القائلة إنَّ بولس كان المؤسِّس الحقيقيَّ للمسيحيَّة، وإنَّه حرَّف رسالة يسوع بشكل كبير. ومن الأمثلة على ذلك هو تركيز بولس على التبرير بالإيمان (رومية 3: 21-25؛ غلاطية 2: 15-21) مقارنةً بمَثَل يسوع عن الفريسيِّ والعشَّار (لوقا 18: 9-14)، وكذلك حديثه عن كون المحبَّة هي التتميم للناموس (غلاطية 5: 14؛ متَّى 22: 37-40)، فضلاً عن تأييده، على خلاف الثقافة السائدة، لتولِّي النساء أدوار مختلفة كانت قاصرة في المعتاد على الرجال (لوقا 10: 38-42؛ رومية 16: 1، 7).

لا تثير الأسفار من الرسالة إلى العبرانيِّين وحتَّى سفر الرؤيا هذا القدر نفسه من المشكلات، مع أنَّ مسألة الكتابة باسم مستعار تُثار وتُبرَز بصفة متكرِّرة. ومع ذلك، يمكن مجدَّدًا تقديم حجج جيِّدة تؤيِّد كتابة أخويْ يسوع غير الشقيقين لرسالتي يعقوب ويهوذا، ربَّما في وقت مبكِّر، يعود إلى أواخر أربعينيَّات القرن الأوَّل، وحتَّى ستينيَّات القرن الأوَّل. كانت رسالة يعقوب مليئة بالإشارات إلى تعاليم يسوع، ولا سيَّما تلك المستمَدَّة من العظة على الجبل، والتي مرَّة أخرى كُتِبت على الأرجح قبل أن يتمكَّن يعقوب من الاستعانة بأيَّة أناجيل مكتوبة. وإنَّ كاتب الرسالة إلى العبرانيِّين مجهول الهويَّة في كلِّ المخطوطات القديمة للرسالة. وتجادلت الكنيسة الأولى بخصوص ما إن كان يجب نسبها إلى بولس أم إلى أحد رفقائه. لكن الإشارات الواضحة التي جاءت في الرسالة إلى طرد اليهود من روما في عام 49 ميلاديًّا (عبرانيِّين 10: 34)، وحقيقة أنَّ لا أحد من المسيحيِّين الرومانيِّين كان قد استشهد بعد (عبرانيِّين 12: 4)، الأمر الذي لم يَعُد هو الحال بعد عام 64 ميلاديًّا، يوحي بوجوب نسب تاريخ كتابة هذه الرسالة إلى وقت ما بين هاتين السنتين المحدَّدتين. ويوجد اختلاف شاسع في الأسلوب والمحتوى بين رسالتي بطرس الأولى والثانية، الأمر الذي أوحى لكثيرين بأنَّ الرسالة الثانية كتبها شخص آخر غير بطرس، في بيئة وظروف مختلفة، وفي تاريخ أحدث كثيرًا من الرسالة الأولى. لكن ربَّما كان أحد الكتبة هو المسؤول عن اللغة اليونانيَّة الجذَّابة والبرَّاقة لرسالة بطرس الأولى، في حين تبدو رسالة بطرس الثانية مصاغة عن عمد بأسلوب منمَّق وأسيويٍّ، وذلك بسبب تركيزها الخطابيِّ. وربَّما يوحي 2 بطرس 1: 15 بأنَّ واحدًا من تلاميذ بطرس أكمل الرسالة بعد موته. كذلك، إنَّ كاتب رسالة يوحنَّا الأولى مجهول الهويَّة تمامًا، في حين تُنسَب الرسالتان الثانية والثالثة ببساطة إلى “الشيخ”، وكان أسلوب ومحتوى الرسائل الثلاث متشابهين كثيرًا. ويُنسب سفر الرؤيا إلى نبيٍّ يُدعَى يوحنَّا (رؤيا 1: 1؛ 4: 9؛ 22: 8). وعلى الرغم من الاختلافات، التي تتعلَّق غالبيَّتها بالمحتوى والنوع الأدبيِّ، لا يزال هذا السفر أشبه في الأسلوب بالكتابات الأخرى التي نسبتها الكنيسة الأولى إلى يوحنَّا. ولا يزال الاعتقاد بأنَّ كاتب هذا السفر هو يوحنَّا، ابن زبدي وتلميذ يسوع المدعو بهذا الاسم، اعتقادًا معقولاً ومقبولاً للغاية.

أسفار خارج قائمة الأسفار القانونيَّة للعهد الجديد

تؤثِّر مسائل أخرى في العهد الجديد ككلٍّ، وليس في مجرَّد سفر واحد أو مقطع واحد منه. فلِمَ يوجد تمييز بين الأسفار القانونيَّة السبعة والعشرين والكتابات الغنوسيَّة، أو تلك التي تُسمَّى أبوكريفا العهد الجديد؟ توحي المناقشات المسيحيَّة المبكِّرة بأنَّ المعايير الرئيسيَّة للأسفار القانونيَّة كانت تشمل “رسوليَّة” السفر (أي أن يكون مصدر هذه الأسفار رُسُلاً أو رفقاء مقرَّبين لهم، بمعنى آخر، أنَّها كتابات تعود إلى القرن الأوَّل)، و”استقامة العقيدة” (أي أن تواصل الأسفار سرد قصَّة الأسفار الإسرائيليَّة، وأن تكون متوافقة مع أقدم التعاليم الرسوليَّة المعروفة)، و”الإجماع” (أي أن تكون الأسفار مقبولة على نطاق واسع بصفتها موثوقة وموائمة، وليست فقط مقبولة في مكان واحد أو من طائفة واحدة في المسيحيَّة الناشئة)، و”وحيها” (أي أن تحمل الأسفار نبرة الحقِّ، وأن يكون الروح القدس قد استخدمها للبنيان والتكميل). المعيار الأخير من هذه المعايير دون شكٍّ هو الأقلُّ موضوعيَّة، لكن المعايير الثلاثة الأولى ميَّزت بشكل واضح ومعقول قائمة الأسفار القانونيَّة عن كتابات أخرى متنافسة. فكثير من الكتابات الغنوسيَّة تزعم منح يسوع أتباع مختارين تعاليمَ سريَّةً وخاصَّة بعد قيامته من الموت، تعلَّقت في المعتاد بعلم الكونيَّات، وغير شبيهة إلى حدٍّ كبير بالأفكار الواردة في النصوص القانونيَّة، ولا تتَّخذ الشكل القصصيَّ المتَّصل الذي يميِّز أناجيل العهد الجديد. وكثير من كتابات الأبوكريفا تملأ بعض الفجوات في الروايات القانونيَّة عن حياة يسوع وخدمة الرسل، عادةً باستخدام معلومات أسطوريَّة واضحة.

نقل مخطوطات العهد الجديد

ماذا عن نقل نصِّ العهد الجديد، ولا سيَّما في ضوء إشارة العلماء إلى وجود نحو 400000 اختلافٍ نصيٍّ في القصاصات، أو أجزاء من المخطوطات، أو المخطوطات الكاملة التي يبلغ عددها 25000 من تلك النصوص المكتوبة باللغة اليونانيَّة أو بلغات قديمة أخرى يعود تاريخها إلى ما قبل اختراع آلات الطباعة بما يزيد على ثلاثة عشر قرنًا؟ يعني ذلك بالتأكيد أنَّه في المتوسِّط يوجد ستَّة عشر اختلافًا نصِّيًّا في المخطوطة الواحدة، وأغلبها اختلافات في هجاء الكلمات، أو في استخدام أو عدم استخدام أداة تعريف أو أداة ربط أو حرف جرٍّ، أو بعض الاختلافات الطفيفة الأخرى في بناء الجمل. الغالبيَّة العظمى من هذه الاختلافات جاءت أيضًا من القرون الأحدث خلال فترة نسخ النصوص باليد. وفقط نحو 1500 اختلافٍ نصِّيٍّ جدير بالإدراج في الهوامش النصِّيَّة للعهد الجديد اليونانيِّ التابع لجمعيَّات الكتاب المقدَّس المتَّحدة، في حين تدرج الترجمات الإنجليزيَّة المعروفة عادةً في هوامشها نحو 300-400 اختلاف مثير للاهتمام. ويمكن للقرَّاء أن يلاحظوا بأنفسهم أنَّ القليل جدًّا من هذه الاختلافات يؤثِّر في قضايا تخصُّ المعنى. والاختلافان الوحيدان اللذان يشغلان ما يزيد على آية أو آيتين هما مرقس 16: 9-20؛ يوحنَّا 7: 53-8: 11، ويبدو واضحًا أنَّ هذه النصوص لم تكن تنتمي في الأصل إلى الأناجيل التي تحتوي عليها اليوم. والأهمُّ من ذلك أنَّه ما من تعليم عقيديٍّ أو أخلاقيٍّ من تعاليم المسيحيَّة يعتمد حصريًّا على نصٍّ واحد أو أكثر من النصوص المتنازع عليها.

قضيَّة المعجزات

هل يمكننا أن نؤمن بوثائق مليئة بالمعجزات مثل وثائق العهد الجديد؟ إذا تبنَّينا مسبقًا فلسفة حياتيَّة مضادَّة لكلِّ ما هو فائق للطبيعة، فالإجابة ستكون بالنفي، لكنَّنا حينئذٍ لن نكون بصدد ممارسة بحث وتحقيق تاريخيٍّ. فالادِّعاء بأنَّ التفسيرات الطبيعيَّة هي الأرجح دائمًا، حتَّى وإن لم نستبعد التفسيرات الفائقة للطبيعة بشكل صريح، هو في حدِّ ذاته اعتقاد لا يمكن إثباته تجريبيًّا، وينتقص بلا داعٍ من دور الشهادة الجديرة بالثقة باعتبارها أساس التأريخ. كما يتعارض ذلك مع آلاف الخبرات في العصر الحديث لأناس في كلِّ أنحاء الكرة الأرضيَّة كانوا شهود عيان على أعمال شفاء لحظيَّة (وأحداث أخرى مماثلة) وقعت بعد صلاة مسيحيَّة جماعيَّة ومنظَّمة. ينبغي ألاَّ تُستبعَد الادِّعاءات بشأن المعجزات مسبقًا، وكذلك ألاَّ تُقبَل دون فحص، بل لا بُدَّ من اختبارها مثلها مثل أيَّة تصريحات تاريخيَّة أخرى. وما يميِّز معجزات العهد الجديد عن روايات أخرى جاءت في كثيرٍ من الكتابات الأخرى هو صلتها الثابتة بمجيء حُكم الله أو بدء هذا الحُكم في شخص يسوع، ومن خلال الحركة التي ابتدأها (متَّى 12: 28؛ لوقا 11: 20). والادِّعاءات بشأن وجود أوجه شبهٍ بين تلك المعجزات والقصص المعجزيَّة القديمة تنهار بمزيد من الفحص المدقّق. وتنتمي أوجه الشبه الأقرب جميعها إلى عصور ما بعد مسيحيَّة، أي إلى فترات أحدث من أن تكون قد أثَّرت في كُتَّاب العهد الجديد. والتشابهات الجزئيَّة مع هذه المعجزات، التي تنتمي إلى عصور ما قبل مسيحيَّة، تتمحور عادةً حول آلهة أو آلهات أو أبطال أسطوريِّين وخرافيِّين، وليست حول بشرٍ عاشوا حيوات بشريَّة حقيقيَّة. ينطبق ذلك بصفة خاصَّة على فحص حدث قيامة يسوع، الذي يُعَدُّ من أهمِّ وأروع المعجزات المسيحيَّة الأساسيَّة.

إجمالاً، نقول إنَّ الأدلَّة على مصداقيَّة العهد الجديد قويَّة ودامغة بما يكفي للحفاظ على الإيمان المسيحيِّ، حتَّى وإن لم تكن كافية لإقناع ودفع أحدهم إلى أن يؤمن.

شارك مع أصدقائك

أستاذ العهد الجديد بكليّة دينفر للاهوت بولاية كولورادو الأمريكيّة.