في 31 أكتوبر من كل عام، يحتفل العالم المسيحي بذكرى الإصلاح الإنجيلي. ارتبط ذلك تاريخيًا باليوم الذي سمر فيه مارتن لوثر اعتراضاته من خمس وتسعين نقطة على باب الكاتدرائيّة الرئيسية في ڤيتنبرج، لتشتعل بذلك شرارة الإصلاح البروتستانتي والذي شكل أعنف صدام تاريخي مع الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في القرن السادس عشر. ولعل هذا السياق يفتح المجال لتساؤل مشروع: ما الذي يدفعنا كمسيحيين نحيا في سياق شرق أوسطي للاهتمام بالإصلاح الإنجيلي بعد مرور أكثر من خمسمائة عام؟
يقلل البعض من ضرورة الاكتراث بالإصلاح الإنجيلي، إذ يُعد الإصلاح الإنجيلي حدثًا فريدًا غير قابل للتكرار، ارتبط بظروف سياسية ودينية فريدة وغريبة عن واقعنا هيمنت فيها الكنيسة الكاثوليكية على السلطة السياسية والدينية والاجتماعية على مدار قرون. وهو أمر لم تختبره شعوبنا العربية، بل ربما لا تستطيع حتى أن تستوعبه.
ولكني، أرى أنه رغم اختلاف الظروف وبُعد الزمان والمكان، تظل القضايا التي أثارها المُصلحون ومبادئ الإصلاح وثيقة الصلة بالمسيحي وملهمة للكنيسة في كل زمان ومكان. الأمر الذي يستدعي النظر إليها بعين الاعتبار. فمن لا يتعلم من دروس التاريخ، يكرر أخطاءه. وعن مبادئ الإصلاح الإنجيلي وتأثيرها على حياة الكنيسة يدور حديثنا التالي.
الكتاب المقدس وحده: الأساس الراسخ للإيمان المٌصلح
أثار صدام لوثر مع الكنيسة الرومانية واعتراضاته الشهيرة سؤالًا جوهريًا: “لأي سلطة تحتكم الكنيسة لحسم أي جدال حول أمور الإيمان والسلوك المسيحي؟ أدرك لوثر مع المُصلحين أن للكتاب المقدس كلمة الفصل، بينما أجابت كنيسة روما – ولا تزال – على نفس السؤال بأن للتقليد الكنسي المتراكم سلطة مساوية للكتاب المقدس.
واليوم، تواجه الكنيسة نفس التحدي، جنبًا إلى جنب مع إعلاء سلطة الاختبار الشخصي الشعوري للكلمة المقدسة وكذا إعلاء سلطة العقل غير الخاضع لكلمة الله. وكلاهما وجهان لعملة واحدة يحتكم فيها الإنسان لسلطة أعلى من السلطة الإلهية في الكلمة المقدسة. فإن كنا جادين في فهم المشورة الإلهية وطاعة الُمشير، فلا بديل عن الإصغاء للكتاب المقدس وحده، والكتاب المقدس كله. إنصات ملتزمة بدراسة جادة ورغبة صادقة في أن يقودنا الله بكلمته.
العبادة المسيحية
انطلاقًا من الإيمان بالكتاب المقدس وحده كالمعيار الحاكم للإيمان والحياة المسيحية، آمن المُصلحون بضرورة أن تكون العبادة المسيحية متسقة مع الكيفية التي أرادها المعبود لا استحسان العابد، شرع المُصلحون في تصحيح مسار العبادة الكنسية وتنقيح الصلوات من شوائب التقليد غير الكتابي التي انحرفت بالعبادة الكنسية عن هدفها ومغزاها. وبدلًا من عبادة مركزها الذات، غير كتابية رغم مظهرها المسيحي، صار التعديل حتميًا.
أعلم مدى صعوبة إقناع العالم بأن الله لا يوافق على جميع طرق العبادة التي لا تسمح بها كلمته صراحة. ولكن الله لا يعتبر ذلك عديم الجدوى فحسب، بل يعتبر أيضًا رجسًا واضحًا، فكل ما نتعهد به من غيرة وحماسة لعبادته، إذا كان مخالفاً لأوامره الكتابية، يسير بنا لطرق مسدودة. فما الذي يمكن أن نربحه من السير في اتجاه معاكس لما تقوله كلمة الله عن العبادة؟
واليوم، أصبحت العبادة البروتستانتية في يومنا هذا مجالًا لاستعراض الاختراعات الموسيقية والدرامية والفنية. غالبًا ما يُنظر إلى الترنيمة الكتابية والصلوات الكتابية وقراءة الكلمة والعظة على أنها غير كافية لإلهام وإشباع المتعبدين. أضحت العبادة الجادة – يا للأسف – كاجتماع شعب العهد مع إلههم لسماع كلمته مرنمة وموعوظه موضة قديمة. وحلت الحكمة البشرية محل الحق الإلهي المعلن في الكلمة، تمامًا كما حدث في العصور المظلمة. وإن كنا حقًا جادين في سعينا لتقديم ذبائح روحية لله، فعلينا أن نعود لنهج الإصلاح في العبادة حسب الكلمة.
عقيدة التبرير
كانت دراسة لوثر الجادة لعقيدة التبرير بالإيمان، وإعادة اكتشاف بر الله الذي يُبرر الفاجر على أساس شرعي عادل بدم المسيح نقطة محورية في الإصلاح الإنجيلي. ولذلك اعتبرها “العقيدة التي تقوم أو تسقط الكنيسة بسببها”. ورغم وجاهة الاعتراضات التي طالت تصريح لوثر السابق بالنسبة لعقائد مركزية كالثالوث والتجسد. إلا أن فكر الإصلاح الإنجيلي في الأساس رأى في حقيقة التبرير على أساس النعمة وحدها ومن خلال الإيمان وحده بدم المسيح وحده لمجد الله وحده ما يعود بالإيمان والعبادة لمركزية الله المُخلص.
واليوم، تم استبدال عقيدة التبرير الكتابية في العديد من الدوائر الإنجيلية الحديثة بحديث غامض عن محبة الرب يسوع وتجديد الذهن. الأكثر من ذلك، تذخر العبارات المسكونية بمشاعر غامضة لا تدعم حق الإنجيل الذي شرحه الرسول بولس بوضوح ولاسيما في رسالتي غلاطية ورومية في مواجهة الإنجيل الآخر. وبدون الحق الكتابي للتبرير، ستسقط الكنيسة عن مركزية الله في الخلص باعتبارها عامود الحق وقاعدته.
الفرائض المسيحية
في كنيسة العصور الوسطى، تضاعفت أسرار الكنيسة وصارت مركزًا وغاية للعبادة المسيحية في حد ذاتها ودعم الفن المسيحي البعد النفسي لهذه التجربة الدرامية. وعندما شرع الإصلاح الإنجيلي في إعادة الإنجيل لمكانته المركزية في الحياة والعبادة المسيحية، عاد الإصلاح إلى الفريضتين باعتبارهما علامتي العهد الجديد اللتين أسسهما الرب يسوع نفسه ومارستهما الكنيسة الأولي في سفر الأعمال: المعمودية المسيحية ومائدة الرب. في المعمودية وعشاء الرب يُجسد أمام أعيننا عمل المسيح المصلوب والمقام، ونحن مدعوون للتمتع بحياة المسيح المقام وموته مع كل بركاته.
واليوم، لازالت الكنائس الإنجيلية تمارس هاتين الفريضتين، لكن قليلاً ما يُعلم المعنى الكتابي لمضامين المعمودية والمائدة الغنية وثيقة الصلة بمفهوم الإنجيل والكنيسة كجماعة العهد. فمثلًا، لا يستقيم المضمون الكتابي للمعمودية دون انضمام لكنيسة محلية، وما ينطوي عليه ذلك من امتيازات ومسئوليات. أما عن مائدة الرب، فلا يحق لأي جماعة منفصلة عن حياة الكنيسة المحلية، أن تجتمع في معزل عن أعضاء عائلة الكنيسة ككل، حتى لو كانت اجتماعًا فرعيًا.
الكنيسة
عارض المُصلحون استبداد كنيسة روما، واستعادوا أهمية الدور الحيوي للرعاة القساوسة في تعليم شعب الرب وحماية الخراف من انحرافات الذئاب الخاطفة التي لا تشفق على الرعية. فمثلًا، علم چون كالڤن عن أهمية أن يكون للراعي صوتين متمايزين: صوت يجمع الخراف (للعبادة والنمو في النعمة وفي معرفة الرب يسوع المسيح)، وآخر يطرد الذئاب (من خلال تمييز التعاليم المُضلة كالزوان الذي زرعه العدو في الظلام).
واليوم، حلت التنمية البشرية وعلوم الإدارة وعلم النفس محل الوعظ التفسيري للكلمة والرعاية الشخصية والمشورة الحكيمة المبنية على أساس كتابي والمطلعة على العلوم البشرية، لكن بتمييز ونظرة كتابية ثاقبة. كذلك، يمكن أن تدمر البراغماتية مضمون الكنيسة عندما تقيس صحة الأمور بمدي تحقيقها للنتائج – دون تحري الدقة في قيمة النتائج ذاتها. للتوضيح، يقول المُبشر المعاصر بول واشر:
“إن كنا سنلجأ لوسائل بشرية جسدانية لاجتماعاتنا الكنيسة، فقد ننجح في جذب الجداء، لكن الخراف ستتضور جوعًا بحثًا عن اللبن العقلي عديم الغش الذي هو كلمة الله. وإن لم تجد، سيصيبها الهزال، أو ترحل بحثًا عن مراعي اُخر. وسينتهي بنا الحال لكنائس يسيطر عليها غير المجددين من مدعي الإيمان.”
يمكنك ببساطة – عزيزي القارئ- أن تتوقع النتيجة النهائية لهذا التوجه. مع مرور الوقت، يتضاءل تأثير الكنائس وتبتعد عن النموذج الكتابي. لهذا نحتاج لروح الإصلاح.
نحتاج لأساسيات الإصلاح الإنجيلي رُغم اختلاف المكان والزمان، ببساطة لاحتياجنا لإنجيل الله ومركزه يسوع المسيح، والذي ندركه فقط بعمل الروح القدس المُحيي لكنيسة الله. نحيا في الشرق الأوسط، في بيئة بعيدة الزمان والمكان عن الإصلاح، لذا نحن في أمس الاحتياج لأن يمد الإصلاح جذورًا قوية في أرضنا. لتكن هذه صلاتنا ونحن نحيا ذكرى الإصلاح. آمين.