لم يسع هنري فورد إلى إنشاء كنائس ضخمة (megachurches). ولكن قبل اختراع السيارة الشخصيّة، لم يكن أمام المسيحيّين سوى حضور الكنيسة التي ينتمون لطائفتها والأقرب من حيث المسافة لمنازلهم. ولكن بعد ظهور السيّارة، تمكّن المسيحيّين فجأة من حضور أي كنيسة لديها أفضل البرامج والموسيقى أو العظات أو خدمات الأطفال والشباب. فأصبحنا مستهلكين. وناشدت فينا الكنائس نزعتنا الاستهلاكية عبر تقديم قائمة ضخمة من الأنشطة أكبر بكثير من قائمة الأطعمة لدى أفضل المطاعم العالميّة!
لم تكن هذه هي المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي غيّرت فيها التكنولوجيا وجه الكنيسة. ورغم بعض السلبيات التي اتعبت وأرهقت الكثير من الكنائس، فإن ما نراه حتى الآن ليس سوى القليل من التغيّر الرقميّ. أما التغيير الحقيقيّ، الذي سيُغيّر حقًا تصوراتنا العقليّة، والروحيّة، والكنسيّة، سيأتي قريبًا: ألا وهي الميتاڤيرس (Metaverse).
ما هي الميتاڤيرس؟
أغلبنا سمع كلمة “Metaverse” أول مرة عبر إعلان مارك زوكربيرج عزم شركة فيسبوك تغيير اسمها إلى “Meta”. وهذا الاسم الجديد هو إشارة للمستقبل، حيث ستضع شركة “Meta” نفسها كأول مُحرّك للكون الرقميّ الجديد.
والميتاڤيرس ليست عالمًا رقميًّا فحسب. إنما هي عالم رقميّ من العوالم التي يمكن للناس من خلالها السفر بسلاسة، مع الاحتفاظ بمظهرهم وممتلكاتهم الرقميّة أينما ذهبوا.
ماذا تعني الميتاڤيرس للكنيسة وللمسيحيّين؟
عندما ظهر الفيسبوك لأول مرة عام 2004، وتم لإصدار أول آي فون عام 2007، لم نكن نعرف ما يخبئه لنا المستقبل. ولكن اليوم بعد أكثر من 14 عامًا، بدأنا نُدرك وتمكنت الكنيسة أخيرًا من اللحاق بالركب. سيكون الأمر مختلفًا بخصوص الميتاڤيرس. فنحن لا يُمكننا الانتظار لعقدٍ من الزمن ثم التنبه بعد أن تكون الميتاڤيرس قد تمكنت من إعادة تشكيل ثقافتنا. لذا، يجب أن نُعدّ تلاميذ المسيح من الآن ونحن نُدرك أن الميتاڤيرس لن تؤدي سوى إلى تفاقم المُشكلات الحالية الناتجة عن الإنترنت.
لحُسن الحظ، لا يزال أمام الميتاڤيرس على الأقل من 5 إلى 10 سنوات. لذا، يُمكننا توقع التغييرات المُحتملة، وإعداد تلاميذ المسيح لحياة أمينة في ظِل هذا العالم المُستقبليّ.
فيما يلي ثلاثة مواضيع علينا أن نبدأ في التركيز عليها اليوم، حتى نتمكّن من تكوين تلاميذ مرنين في الغد.
1. مَنح الهويّة لعالمٍ مُختلق تمامًا
إذا كُنت تعتقد أن عالمنا يُصارع الآن أو أن لديه أزمة هويّة، فالقادم يُمثّل تحديًّا أكبر بكثير. فالأشخاص سيتمكنون من التعبير عن أنفسهم كما يريدون وكما يعتقدون عن أنفسهم من خلال الأڤتار الذي يخترونه. على سبيل المثال، أثناء العرض الذي قدمه مارك زوكربيرج في إعلانه عن الميتاڤيرس، عرض مثال لصديقٍ يظهر كإنسانٍ آليّ في الفضاء.
والسؤال هنا، ماذا يحدث عندما نستمد هويتنا من نسخة افتراضيّة عن أنفسنا أكثر من أنفسنا الحقيقيّة؟ قد تبدأ هويتنا الحقيقيّة في التماهي مع تلك التي صنعناها بأنفسنا في الميتاڤيرس. فنحن على أعتاب عصر ما بعد الإنسانية (transhumanism)، وما يتضمنه ذلك من صراعات فكريّة، وصدام بين صورة الله التي في الإنسان (the imago Dei)، وصورة التي ستصنعها الميتا (the imago meta).
في ظل عالم سيتمكّن فيه الإنسان من إعادة تشكيل كل جانب من جوانب هويته، فإن الإصرار والتمسك بهويتنا الأصليّة—التي منحها الله لنا ذكورًا وإناثًا، لنكون حاملين صورته من أجل العناية بهذا الكون—سيكون بشكلٍ جذريّ مُعاد لثقافة العصر.
وإن كانت الأجيال الشابة الحالية في حالة ذُعر من إمكانية خلق ذواتهم الخاصة، فقد تكون الكنيسة هي آخر ملاذ يقبلك كما خُلقت، وليس كما تُصوّر نفسك أو يُصوّرك الآخرون.
2. صلاح الخليقة في عالمٍ بلا جسد
سنبدأ في عيش أغلب حياتنا بلا تواصل جسديّ، إما كأڤتارات في فضاء العالم الافتراضي (VR)، أو الصور المُجسّمة (holograms) باستخدام تقنيّة الواقع المُعزز (AR). سوف تزداد الهوّة التي نشعر بها—بين أجسادنا الماديّة ومُحيطنا الافتراضيّ الجديد. وسنتمكّن بسهولة من رؤية الفرص والإمكانيات اللانهائيّة التي يمنحنا إياها العالم الافتراضي على أنها أفضل وربما أكثر واقعيّة من العالم الماديّ.
لقد خابت آمال العالم في العلمانيّة الماديّة، إذ جرّدته من وجود معنى سرائري ومتسام. ولكّن الميتاڤيرس ستُقدّم نُسخة مُقلَّدة لهذا التساميّ عندما تنجح في تحقيق حُلم البشر من مئات السنين بالدخول إلى عالمٍ خياليّ تمامًا.
ولكن بصفتنا تلاميذ للمسيح، فإننا نُصر على صلاح أجسادنا والعالم الماديّ الذي خلقه الله. كانت مهمة آدم الأولى والأساسيّة الموكلة إليه هي إعمار الأرض. ودعا يسوع أتباعه للاهتمام بالمرضى، والذين يُعانون من الوحدة والاكتئاب، وأن يهتموا بالعالم من حولهم كوكلاء صالحين لله. ونحن نعرف أن العالم الافتراضيّ الذي ستُخلقه شركات ربحيّة لن يكون أبدًا أكثر واقعيّة ولا أهميّة من العالم الذي خلقه الله وقال عنه أنه “حَسَنٌ جِدًّا”.
علينا كأتباع للمسيح مقاومة هيمنة التواصل الرقميّ هذا عبر الإصرار على تشكيل مجتمعات وتجمعات ينفصل فيها الناس عن عمد كلما أمكن عن الواقع الافتراضيّ، لنكون حاضرين مع الآخرين: نعانقهم، ونجاذبهم الحديث وجهًا لوجه، ونكون ببساطةٍ معهم. سيكون هذا هو أفضل طريقة لمواجهة هذه الثقافة الجديدة. ليس المقصود هو الدخول إلى كهف مظلم، وإنما عدم الانجراف إلى ما تفرضه علينا هذه الثقافة الجديدة.
3. نعمة الحدود في عالم بلا قيود
ستمنحنا الميتاڤيرس الفرصة لتجربة لمحات من القوّة التي يمتلكها الله فقط. فقد تمنحنا إتاحة ووفرة المعلومات بسهولة لمحة عن كون الشخص كليّ المعرفة. كما ستُعطينا القدرة على خلق عوالم وهويّات لمحة عن كون الشخص كليّ القدرة. سيتيح لنا الإبحار عبر الحدود الجغرافية—أن نكون في أي مكان وفي أي وقت نريده—الاقتراب أكثر عمّا نعنيه بأن الشخص كليّ الوجود؛ بل وسيمنحنا ذلك لمحة عن معنى الخلود. يُغرينا برج بابل هذا الذي ينتظرنا في المستقبل بوعودٍ لا حد لها.
إن نوع المقاومة التي يحتاج تلاميذ المسيح إليها هي قبول الحدود التي منحها الله لهم. يمكننا أن نكون حاضرين في مجتمعاتنا المحليّة وأن نُركّز على النمو التدريجيّ البطيء للأنظمة والأمور التي تؤدي إلى الازدهار الماديّ والافتراضيّ للناس، والتمسك باستخدام تلك العبارة القديمة التي سيتقلّص استخدامها في المستقبل: “لا أعرف”. يمكن لحياتنا أن تشهد أننا لا نستطيع أن نكون في كل مكان، ولا يمكننا أن نكون أي شيء نريده، وأن هذه هبه من الله الذي وحده يستطيع ذلك.
الأمانة في ظِل آفاق جديدة
في حين أنه لا يُمكننا التنبؤ بكل الطرق التي ستتيح للميتاڤيرس تغييرنا، فإننا نعلّم على مدار التاريخ أن الشِهادة للمسيح هي دائمًا تقف ضد الثقافة السائدة. ربما ستعد الميتاڤيرس البشر بمنحهم قوة ومعرفة أشبه بقوة الآلهة، ولكنها مثل كل الأصنام ستسلب منك أكثر مما ستعطيك. وعلى الرغم من جاذبيتها، فإن الميتاڤيرس سوف تُشير في النهاية إلى ما وراء إمكانياتها وقدراتها، إلى الملك المتساميّ الحقيقيّ الذي بكلمةٍ منه جعل العالم غير الواقعيّ حقيقة وواقع!
وككل الاختراعات والابتكارات التكنولوجيّة، فإن الميتاڤيرس سوف تجلب معها عشرات الفرص والمخاطر في آنٍ واحد. ولكن إذا أخذنا على عاتقنا اليوم عمل التلمذة الشاق، فقد يُثمر هذا في النهاية تلاميذ مرنين للمسيح يقودون بأمانةٍ على حافة تلك الآفاق الجديدة، ويعملون من أجل ازدهار الجميع سواء على الصعيد المادي أو الافتراضيّ، بتواضعٍ وثقةٍ في مواجهة هذا التغيير الهائل.