يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلاَ يُمَلَّ (لوقا ١:١٨-٨)
في أكتر من مناسبة، علمنا الرب عن الصلاة مقدمًا نموذجًا للكيفية التي نخاطبه بها كأبناء قائلين “أبانا الذي في السماوات..” (متى٩:٦؛ لوقا ٢:١١). ومن الجدير بالذكر أن سياق هذه الصلاة في إنجيل متى تحديدًا يكشف قصور فاضح في صلوات الأمم، إذ يكرر المصلون الكلام باطلًا…أي بلا فائدة، مجرد تكرار لكلمات تخلو من حرارة الروح وانشغال الفكر فيمن توجه له الصلاة. الأسوأ من ذلك، هو اعتقاد هؤلاء المصليين من الأمم أن كثرة الكلام وتكراره هو علة الاستجابة، وكأن مقدم الصلاة أدرى باحتياجاته من الله، وحاشا أن يكون هذا إله العهد الذي نعبده. لذا، فقد ختم الرب تحذيره من هذا النموذج السلبي لصلوات الأمم قائلًا: “فَلاَ تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ.” (متى ٨:٦).
والآن نتحول للمثل الذي علمه ربنا في إنجيل لوقا (لوقا ١:١٨-٨) وفيه يشير لجانب آخر وإيجابي لللجاجة والتكرار في الصلاة. لنقرأ معًا لنتكشف علة التميز في مثل الأرملة وقاضي الظلم من خلال ثلاث ملاحظات حول مقدمة المثل، ومحتواه، وأخيرًا خاتمته.
مقدمة المثل
في آية واحدة فقط، يقدم البشير لوقا مَثَلاً “فِي أَنـَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلاَ يُمَلَّ” (لوقا ١:١٨)، هو مثل الأرملة وقاضي الظلم. فعبر أعداده الثمانية، وجه الرب تحديًا لقراء الإنجيل وكأنه لطمة موجعة خاطفة تتناغم ما يطلبه قراء عصر القراءة السريعة، والعظات القصيرة، وأخيرًا وليس آخرًا، عصر البحث عن صلوات فورية الاستجابات لصلوات متخمة بالكلمات الرنانة!
فالمفارقة الصارخة، هي أن هذا المثل القصير نسبيًا، يقلب توقعات قارئة رأسًا على عقب: فالبطل أرملة مظلومة، ومحتوى الصلاة ثلاث كلمات لا غير “أنصفني من خصمي!” (ع٣) لكنها تكررت مرات ومرات، “إِلَى زَمَانٍ” (ع٤) حتى أزعجت مستمعها والذي وصف نفسه في المثل قائلاً: “لاَ أَخَافُ ٱللّٰهَ وَلاَ أَهَابُ إِنـْسَاناً” (ع٤)، وانتهى المثل بالاستجابة للأرملة من قاضي الظلم! فهل يناقض الرب ما عمله قبلًا في متى ٦، ونصوص تكاد تطابقه فيما يتعلق بسرعة الاستجابة في نفس الإنجيل بحسب لوقا؟ (لوقا٥:١١-١١)؟
لنرى الآن، من خلال بعض الملاحظات، كيف يمكن أن نستوعب هذا المثل في انسجام مع متي ٦، ولوقا ١١.
الأرملة المظلومة
تمثل الأرملة المظلومة والمتضررة من خصمها نموذجًا صارخ لحال الإنسان في احتياجه للرحمة، بل قُل عجزه التام عن تغيير حالته بنفسه واحتياجه لمساعدة تأتيه خارجًا عن امكانياته وقدرته شبه المنعدمة. ففي سياق القرن الأول الميلادي وامتدادًا لاستخدام صورة الثكل والترمل في أسفار الأنبياء (راجع إشعياء ٦:٤٧-١١)، يتأكد لنا كونها: (١) ضعيفة وفقيرة (٢) حقها منهوب، وليس من نصير. الأمر الذي دفعها دفعًا للاحتكام لقاضي ظالم (٣) ولاستحالة الحياة دون أن ينصفها أحد. لم يكن لها سوى حل واحد ووحيد: “كَانَتْ تَأْتِي إِلَيْهِ قَائِلَةً: أَنـْصِفْنِي مِنْ خَصْمِي” (لوقا ٤:١٨). ورغم علمها بعدم اهتمامه، لم تمل! ظلت تتردد مكررة نفس الطلبة مسببة إزعاجًا لم يحتمله قاضي الظلم حتى قال في نفسه: “وَإِنْ كُنْتُ لاَ أَخَافُ ٱللّٰهَ وَلاَ أَهَابُ إِنـْسَاناً فَإِنِّي لأَجْلِ أَنَّ هَذِهِ ٱلْأَرْمَلَةَ تـُزْعِجُنِي، أُنـْصِفُهَا، لِئَلاَّ تَأْتِيَ دَائِماً فَتَقْمَعَنِي” (لوقا ٥:١٨)
من هنا يبدو أن لجاجة المرأة في الصلاة تختلف جوهريًا عن تكرار الأمم لكلمات صلواتهم باطلًا. إذ يتعلق إنصافها وخلاصها من الضغطة والمحنة التي تواجهها كليةً باستجابة ذلك القاضي الظالم تحت ضغط الإلحاح. باختصار، كان قلبها وعقلها، بل وكل رجاءها متعلقًا برجاء الاستجابة من ذلك القاضي. فالاحتياج حقيقي، ولا بديل أمامها. ليست هذه إذًا لجاجةً باطلةً بلا هدف أو دافع مقنع!
من هنا يأتي السؤال الصعب في سرد المثل: “لم اختار الرب هذا التشبيه؟” هل تخلى في هذا المثال عن طبيعته الحانية واستجابته السريعة لصلوات أبناءه، والتي علم هو نفسه عنها “لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ” (متى ٨:٦).
مفتاح الإجابة يكمن في الملاحظتين التاليتين: أولهما، فهم طبيعة الأمثال كقصة تصويرية لا تنطبق كل تفاصيلها بحرفية على الواقع. وثانيهما، استدراك المسيح الختامي والذي صاغه في سؤال استنكاري: “وَلَكِنْ مَتَى جَاءَ ٱبْنُ ٱلْإِنـْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ ٱلْإِيمَانَ عَلَى ٱلْأَرْضِ؟” (لوقا٨:١٨)
ابن الإنسان وقاضي الظلم!
كما قلنا للتو، من الضروري أن نعرف طبيعة المثل كقصة تصويرية لا تنطبق كل تفاصيلها على شخص الرب. وهذا أمر ليس غير شائع في أمثال المسيح له المجد، فعندما شبه مجيئه بمجيء اللص في الليل لم يقصد أبدًا أنه لص. حاشا! فقط أراد أن يوضح عنصر المفاجأة.
على نفس القياس، فالعنصر المشترك الوحيد بين قاضي الظلم وابن الإنسان هو أن لهم وحدهم سلطة إنصاف المظلوم. فلقب ابن الإنسان مرتبط بسلطان المسيح كالديان القاضي الذي وحده يملك سلطان المغفرة وسلطان الدينونة (كمثال: لوقا ٢١:٥؛ متى ٦:٩، مع دانيال ١٣:٧-١٧).
أما عن الاختلاف بين قاضي الظلم وابن الإنسان، يقول السيد شارحًا الغرض الأساسي:
قارن: “ٱسْمَعُوا مَا يَقُولُ قَاضِي ٱلظُّلْمِ. أَفَلاَ يُنْصِفُ ٱللّٰهُ مُخْتَارِيهِ، ٱلصَّارِخِينَ إِلَيْهِ نَهَاراً وَلَيْلاً، وَهُوَ مُتَمَهِّلٌ عَلَيْهِمْ؟ أَقُولُ لَكُمْ إِنـَّهُ يُنْصِفُهُمْ سَرِيعاً!” (لوقا ٦:١٨-٨).
الله قاضي بار وعادل. أب ينصف مختاريه الصارخين إليه، لا يستعذب صوت صراخهم، ينصفهم سريعًا.
الانتقال من شخصية قاضي الظلم وصولًا لشخصية الله ديان العالم الذي ينصف مختاريه الصارخين إليه سريعًا هو أسلوب أدبي شائع في الأدب اليهودي يسمي بالانتقال من الأدنى للأعظم (from lesser to greater)،[1] لإظهار التفاوت الواضح بين:
- قلب قاضي الظلم الذي لم يرق قلبه، لكنه استجاب تفاديًا لإزعاج الأرملة اللحوحة، ليس إلا: “لأَجْلِ أَنَّ هَذِهِ ٱلْأَرْمَلَةَ تـُزْعِجُنِي، أُنـْصِفُهَا، لِئَلاَّ تَأْتِيَ دَائِماً فَتَقْمَعَنِي” (لوقا ٥:١٨).
- وقلب الله الذي ينصف مختاريه، بل ينصفهم سريعًا! (لوقا ٧:١٨)
استدراك ختامي وتحذير!
وصلنا الآن للملاحظة المفتاحية الثانية لفهم المثل، فما العلاقة بين ضرورة الصلاة كل حين، ودون ملل وبين سؤال الرب الاستنكاري: “َلَكِنْ مَتَى جَاءَ ٱبْنُ ٱلْإِنـْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ ٱلْإِيمَانَ عَلَى ٱلْأَرْضِ؟” (لوقا ٨:١٨)
تكمن الإجابة في فهم طبيعة الإيمان والتي، يا للأسف، كثيرًا ما تغيب عن أذهاننا كمسيحيين.
ليس الإيمان هو امتلاك شعور باطني قوي يطغى على فكر الإنسان وعقله ويمنحه يقينًا بالتفوق على الآخرين كونه جديرًا بامتلاك ما يطلبه من الله لقوة في ذاته، أو لتميز ينفرد به عن غير المؤمنين. كلا البتة!
على النقيض من ذلك، فالقراءة الأمينة لمثل الأرملة وقاضي والظلم وموضوعه الصلاة دون ملل، تعلمنا أن مضمون الإيمان هو إدراك عجز الإنسان الكامل عن تغيير حالته، وخلاص نفسه. هذا الإدراك يقوده لصراخ لا ينقطع وانكسار قلب يطلب النجاة من الله الذي يملك وحده القوة على الإنصاف والخلاص. فكل من اقترب إلى الله بقلب منكسر يعرف معنى أن يلقى الإنسان المكلوم بكل ثقته ورجاءه على إله خلاصه بلا ملل ولا كلل. فذَبَائِحُ ٱللّٰهِ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ. ٱلْقَلْبُ ٱلْمُنْكَسِرُ وَٱلْمُنْسَحِقُ يَا اَللّٰهُ لاَ تَحْتَقِرُهُ. (مزمور ١٧:٥١). في كلمة واحدة: الملل في الصلاة هو شعور الواثقين بِأَنـْفُسِهِمْ أَنـَّهُمْ أَبْرَارٌ (لوقا ٩:١٨).
فهل من قبيل المصادفة أن يكون المثل التالي مباشرة هو مثل “الفريسي والعشار.”، وأن يوجهه لِقَوْمٍ وَٱثِقِينَ بِأَنـْفُسِهِمْ أَنـَّهُمْ أَبْرَارٌ، وأن يستهله بالتعقيب على إنسانين صعدا للهيكل ليصليا (لوقا ٩:١٨-١٠)؟ لست أظن!
فيا كل من يؤمن ويعلم عن التبرير بالإيمان، هل تصلي بروح الأرملة، كل حين، وبلا ملل؟ أم تصلي متفاخرًا بإيمان وهبه الله لك بالنعمة وحدها؟ ولمجده وحده؟
إن كنا قد فقدنا حقاً حرارة الصلاة بغير انقطاع فلنسمع ختام الأمر كله من فم الرب الآتي ثانيةً لعله يجد الإيمان على الأرض في قلوبنا نحن، مِن هنا نَعْلَمُ أَنـَّهَا ٱلسَّاعَةُ ٱلْأَخِيرَةُ (يوحنا الأولى 18:2).
لأَنـَّكَ تَقُولُ: إِنِّي أَنَا غَنِيٌّ وَقَدِ ٱسْتَغـْنَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ لِي إِلَى شَيْئٍ، وَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنـَّكَ أَنـْتَ ٱلشَّقِيُّ وَٱلْبَئِسُ وَفَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ. أُشِيرُ عَلَيْكَ أَنْ تَشْتَرِيَ مِنِّي ذَهَباً مُصَفًّى بِـٱلنَّارِ لِكَيْ تَسْتَغـْنِيَ، وَثِيَاباً بِيضاً لِكَيْ تَلْبَسَ، فَلاَ يَظْهَرُ خِزْيُ عُرْيَتِكَ. وَكَحِّلْ عَيْنَيْكَ بِكُحْلٍ لِكَيْ تـُبْصِرَ. إِنِّي كُلُّ مَنْ أُحِبُّهُ أُوَبِّخُهُ وَأُؤَدِّبُهُ. فَكُنْ غَيُوراً وَتـُبْ. (رؤيا يوحنا ١٧:٣-٢٠)
[1] كمثال أنظر على سبيل المثال لا الحصر: “فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنـْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تـُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِـٱلْحَرِيِّ ٱلْآبُ ٱلَّذِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ، يُعْطِي ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ؟” (لوقا ١٣:١١) وكذلك تعبير الرسول بولس الشهير لشرح يقين الخلاص في الأصحاح الخامس من رسالة رومية “إن كنا… فبالأولى كثيرًا”: “وَلَكِنَّ ٱللّٰهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنـَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا. فَبِـٱلأَوْلَى كَثِيراً وَنَحْنُ مُتَبَرِّرُونَ ٱلْآنَ بِدَمِهِ نَخْلُصُ بِهِ مِنَ ٱلْغَضَبِ. لأَنـَّهُ إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ ٱللّٰهِ بِمَوْتِ ٱبْنِهِ، فَبِـٱلأَوْلَى كَثِيراً وَنَحْنُ مُصَالَحُونَ نَخْلُصُ بِحَيَاتِهِ.” (رومية ٨:٥-١٠)