إن عقيدة الكفارة الاستبدالية (أو البدليّة العقابيّة) هي محور سِفر اللاويين. فمن الواضح في هذا السِفر، وهو ثالث أسفار الكتاب المقدس، أن الكفارة تُنجز بواسطة بديلٍ، إذ إنَّ موته وسفك دمه يحقّقان الغفران، لأنهما يُبذلان فداءً لحياة الخاطئ. فهذه الفكرة ليست دخيلة أو مستوردة من فلسفات لاحقة.
فتتضافر ثلاثة محاور رئيسة لتنسج صورة بديعة للفداء في سِفر اللاويين. أولًا، اتحاد الخاطئ بالبديل من خلال وضع الأيدي. ثانياً، الموت العقابي للبديل الذي يأخذ مكان الخاطئ. وثالثًا، تقديم دم البديل على مذبح الله، وهو ما يُثمر تكفيرًا عن خطايا الخاطئ. هذه المحاور تعلمنا أن نتطلع إلى يسوع الذي “أَحَبَّنَا . . . وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَانًا وَذَبِيحَةً للهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً” (أفسس 5: 2).
لنتأمّل في ثلاثة مقاطع من سفر اللاويين تظهر فيها هذه المحاور بوضوح.
البدليّة من خلال وضع الأيدي
يبرز موضوع البدليّة منذ الآيات الأولى من السفر. فقد أوصى الله موسى أن يأمر العابد بأن “يَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِ الْمُحْرَقَةِ”. إنَّ هذا العمل رمزيٌّ مقصود، إذ يُعبّر عن اتحاد المقرِّب بالذبيحة، ونتيجته أن ذلك الحيوان “فَيُرْضَى عَلَيْهِ لِلتَّكْفِيرِ عَنْهُ” (لاويين 1: 4)
إنَّ كلمة “عَنْهُ” هنا محوريّة للغاية، إذ تُشير بوضوح إلى فكرة البدليّة، حيث يحل طرف مكان آخر. فمبدأ البدليّة العقابيّة متجذّرٌ حتى في بنية العبارة اللغويّة التي تصف الذبيحة. فالحياة الموضوعة على المذبح تقف أمام الله في مكان العابد.
لا توجد في هذا العدد عبارة صريحة تربط بين وضع اليدين ونقل الخطية، لكن ثمة إشارتان توحيان بذلك.
أولًا، نقرأ عن ذبح الحيوان مُباشرة بعد وضع الأيدي (آية 5). وهذا النمط يتكرّر مرارًا في سفر اللاويين (مثلًا: 3: 2، 8، 13؛ 4: 4، 15، 24، 29، 33؛ 8: 14–15، 18–19، 22–23؛ 16: 21). صحيح أن النص لا يوضح صراحة سبب التتابع المنطقي للذبح بعد وضع الأيدي، ولكن من المرجح أن المقصود منه هو تذكير العابدين بإنذار الله في سِفر التكوين بأن الموت هو عقوبة عصيانه (التكوين 2: 16-17).
ثانيًا، إنَّ نتيجة الذبيحة هي “لِلرِّضَا عَنْهُ [أي عن العابد] أَمَامَ الرَّبِّ” (لاويين 1: 3). وهكذا، يصور النص الحيوان المذبوح كبديلٍ عن الخاطئ بتلقيه العقوبة المستحقة وهي الموت. إنَّ البدليّة يُعبَّر عنها رمزيًا بوضع الأيدي، ويتّضح هذا المبدأ بشكلٍ أعمق وأجلى في تعليمات الله الخاصة بيوم الكفّارة العظيم.
الاعتراف بالآثام وحملها
في يوم الكفارة (يوم كيبور)، كان بنو إسرائيل يمارسون طقساً يشمل تيسين (اللاويين 16: 15–22). يعرض هذا الطقس منطق الكفّارة بالبدليّة العقابيّة بوضوحٍ في جانبين رئيسين. عندما يُذبح التيس الأول كذبيحة خطيئة، يُحمَل دمه إلى داخل الحجاب ويُرَش بسبب “نَجَاسَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ . . . وَسَيِّئَاتِهِمْ مَعَ كُلِّ خَطَايَاهُمْ” (آية 16). فالموت العقابي يُقدَّم لله استجابةً وجوابًا على ذنب خطايا شعبه، وذلك لاستعادة قداسة مكان عبادتهم.
وبأسلوب مغاير، يظهر التيس الثاني أيضاً نقل الخطية إلى ذبيحةٍ بديلة، لكن هذه المرّة من خلال الاعتراف. فيُصرِّح هذا النص بانتقال الخطية إلى الحيوان، بقوله:
وَيَضَعُ هَارُونُ يَدَيْهِ عَلَى رَأْسِ التَّيْسِ الْحَيِّ وَيُقِرُّ عَلَيْهِ بِكُلِّ ذُنُوبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكُلِّ سَيِّئَاتِهِمْ مَعَ كُلِّ خَطَايَاهُمْ، وَيَجْعَلُهَا عَلَى رَأْسِ التَّيْسِ، وَيُرْسِلُهُ بِيَدِ مَنْ يُلاَقِيهِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ (لاويين 16: 21)
من الواضح في هذا النص أن الاعتراف بآثام الشعب مرتبط ارتباطاً لا ينفصم بوضع الأيدي ونقل الخطية. والنتيجة أنّ الحيوان يحمل خطايا الشعب بعيدًا إلى البرّية.
وعند التأمّل في منطق ذبيحة التيسين هذه، يصعب علينا ألا نرى الصورة الكاملة لعقوبة تُقدَّم عن الخطية، وبديلٌ يقف مكان المذنبين، والكفارة الناجمة عن ذلك التي يتحدث عنها النص. ويصبح هذا المعنى أكثر وضوحاً عندما نتأمل في الترابط اللاهوتيّ بين الدم والحياة في سِفر اللاويين.
الحياة في الدم
إلى جانب تعليمات الذبائح، يورد الله أيضاً في سِفر اللاويين توجيهات للعيش بقداسة. فعلى سبيل المثال، يحظر الله على شعبه أن يأكلوا “دَمَ جَسَدٍ مَا”، مشدداً على أن “كُلُّ مَنْ أَكَلَهُ يُقْطَعُ” (17: 14).
إن التفسير لهذا التحريم يرد في النص نفسه، ويوضح منطق ومفهوم الذبيحة في سِفر اللاويين، بقوله: “لأَنَّ نَفْسَ الْجَسَدِ هِيَ فِي الدَّمِ، فَأَنَا أَعْطَيْتُكُمْ إِيَّاهُ عَلَى الْمَذْبَحِ لِلتَّكْفِيرِ عَنْ نُفُوسِكُمْ، لأَنَّ الدَّمَ يُكَفِّرُ عَنِ النَّفْسِ” (آية 11). وهكذا يُصرّح الله بوضوح عن العلاقة الرمزيّة بين الدم والموت والتكفير.
قد يعترض البعض بأن الكفارة تتم “بواسطة حياة” الحيوان، لا بموته فقط. غير أنّ حرف الجرّ المترجَم إلى “عن” في قوله في الآية السابقة “لأَنَّ الدَّمَ يُكَفِّرُ عَنِ النَّفْسِ”، يحتمل في العبرية معانيَ متعدّدة، منها التعبير عن المماثلة بين شيئين (مثل خروج 6: 3). وقد تكون الترجمة الأفضل للنص هي: “الدم… يكفِّر بصفته الحياة” أو “الدم… يكفِّر لأنه الحياة”. وهذا يعني أن الدم هو الحياة، وهذه الحياة تُسفك حتى الموت، ومن ثم تتحقق الكفارة.
إن هذا الترادف بين الدم والموت— أو الحياة التي أتُسكب سكيبًا— يتّسق تمامًا مع باقي تعليم سفر اللاويين. فمن البديهي أن الدم ينبع من عملية الذبح. فعلى سبيل المثال، كان على العابد أن “يَذْبَحُ ذَبِيحَةَ الْخَطِيَّةِ” (لاويين 4: 29)، ومن ثم يضع الكاهن “مِنْ دَمِهَا” على مذبح الله (الآية 30). في يوم الكفارة، كان على هارون أن “يَذْبَحُ تَيْسَ الْخَطِيَّةِ . . . وَيَدْخُلُ بِدَمِهِ إِلَى دَاخِلِ الْحِجَابِ” (16: 15).
إن الدم لا يرمز لمجرد الحياة، بل يرمز إلى حياة ازهقت وسُكِبَت. فالحديث عن دم الذبيحة في سِفر اللاويين ليس حديثاً قط عن حياة جميلة عاشها الكائن، ولا عن الحياة كمعجزةٍ أو كقوّةٍ مضادّةٍ للموت، بل يتحدّث تحديدًا عن حياةٍ قُتلت بعنفٍ كعقوبةٍ على الخطيّة، وقد قُدِّمت أمام الله على المذبح كبديلٍ للتكفير عن الإثم.
صحيح أن بإمكان المسيحيين فهم الذبائح اللاويَّة بوضوح أكبر في ضوء روايات العهد الجديد. ولكن عندما نقر سفر اللاويين فقًا لسياقه الخاص ومعانيه الأصلية، يتّضح للقارئ المتأمّل منطق الكفّارة بالبدليّة العقابيّة بجلاءٍ داخل نصّ السفر نفسه.

