اللاهوت الآبائيّ

التعريف

دراسة في فَهم شخص الله وإعلانه وعمله كما عبَّر عنها لاهوتيو الكنيسة في القرون الأولى.

المُلخّص

سوف يستعرض هذا المقال مصادر الفكر اللاهوتيّ في القرون الأولى للكنيسة، والنقاط التي ركّز عليها، كما سيُختم المقال ببعض التأملات العمليّة لمسيحيّ اليوم.


المقدمة

كان جوهر لاهوت آباء الكنيسة هو العبادة الحقيقية والصادقة لله الثالوث التي فُهمت من خلال خطة الله للفداء في الكتاب المقدَّس، والتي تمركزت حول كلمة الله المتجسد. أما النظرية القائلة بأن آباء الكنيسة كانوا مجرد فلاسفة أفلاطونيين يسعون إلى التزاوج الأعمى بين الهيلينية والكتاب المقدَّس، فهي نظرية ظهرت في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؛ وهي ببساطة لا يمكن أن تصمد أمام كتابات الآباء المشبَّعة بكلمة الله. فالفلسفة والأدب قد خدما الكنيسة، وليس العكس. كما قال إكليمندس الإسكندري (حوالي 150–215م) قائلًا: “إن كل موضع وكل وقت نُفكر ونتدبر فيه في الله، هو في الواقع شيء مقدسٌ [بما في ذلك الفلسفة].” (شذرات 7: 7)

كانت الأسفار المقدَّسة هي شريان الحياة للتأمل اللاهوتي، مسترشدة بالمخطط التفسيري الرسولي المتمثل فيما يُعرف باللاتينية بـ”Regula fidei” (أو قاعدة الإيمان). ولقد ألهم الكتاب المقدَّس ليتروجية الكنيسة وعبادتها، والتي استمدت قوتها من وديعة الإيمان التي أودعها الرسلُ، إلى جانب الوعظ المنتظم الذي يقوده الإيمان بكون المسيح هو مُفتاح فهم الكتاب المقدَّس بأكمله. كان التأمل اللاهوتي في التقليد الآبائي مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالعبادة الحقيقية لله، والذي تضمن الفهم الصحيح لشخص وعمل يسوع المسيح. ولم يكن تعطيل وديعة الإيمان الكتابيَّة مجرّد تفكير خاطئ فحسب؛ لكنه مَسلك إلى حياة خاطئة ومن ثم شكّل خطرًا حقيقيًا على خلاص المرء. لذلك، يتمحور اللاهوت الآبائي حول شخص وعمل يسوع المسيح، نابعًا من شهادتيّ العهد القديم والجديد كما فسرها ونقلها الرسل.

شخص وعمل المسيح

في عظة كُتبت في أواخر القرن الأول ونُسِبَت إلى إكليمندس الروماني (حوالي 35-99)، قال الكاتب: “مِن المناسب أن تفكر في يسوع المسيح على أنه الله -كديّان للأحياء والأموات” (2 إكليمندس 1). هذه الفكرة التي نجد صداها في شهادة الرسل في العهد الجديد، قادت منطق اللاهوت الآبائي. كان الآباء اللاهوتيون مهتمين في المقام الأول بفَهم وتطبيق شخص وعمل يسوع المسيح على جميع جوانب الحياة. لقد أظهر الله نفسه في شخص، وفكرةٌ مثل هذه كانت فكرة ثوريةً إذا ما قورنت بالأنظمة الفلسفية في ذلك الوقت.

فالأفلاطونيون أكدوا أن الله غير مادي ولا يُمكن إدراكه إلا من خلال العقل. أما قول المسيحيون أن الله قد وضع نفسه وتجّسد في صورة إنسان، فإنما هي فكرة تبدو منافية للعقل. ومع ذلك، فقد أسَّس التفكير اللاهوتي المسيحي أفكاره على (يوحنا 1: 14)، أو “الكلمة صار جسدًا”، وآثارها على كافة الأصعدة. يقول العلّامة أوريجانوس الإسكندري (184-253)، ردًا على كلِسوس، أحد المنتقدين للمسيحية ممن عاشوا في القرن الثاني: “فكِّر فيما إذا كان الكتاب المقدس يُظهر مزيدًا من الرأفة للجنس البشري بتقديمه الله الكلمة (اللوجوس) الذي كان في البدء مع الله … وقد صار جسدًا لكي يصل إلى الجميع” (ضد كلِسوس 7: 42). فلا يوجد أي انعكاس مكتمل لله بعيدًا عن انعكاسه في المسيح المُقام. فقد تبلور تدبير الله (أي العلاقة بين الأقانيم الثلاثة) أو ترتيب الإعلان الإلهي، في الإعلان بأن المسيح المُقام هو «رَبِّي وَإِلهِي» بحسب شهادة توما في إنجيل يوحنا (يوحنا 20: 28). وقد بنى آباء الكنيسة كل انعكاس وتعليم لاهوتيّ لاحق على هذا الأساس. وقد عبَّر كُتَّاب مثل ترتليان، وأوريجانوس، وهيلاري من بواتييه عن ضرورة فَهم الثالوث التدبيريّ (أي ماهيّة العلاقة بين أقانيم الثالوث) بطرق مختلفة. فبالنسبة لترتليان، كانت هناك محاولة لإظهار طبيعة العلاقة بين أقانيم اللاهوت بناءً على فَهم النفس البشرية. وركّز أوريجانوس على أهمية ألقاب المسيح المختلفة، مثل “الكلمة” أو “الحكمة”، بوصفها تأكيدًا على العلاقة بين أقانيم الثالوث. وبالمثل، رأى هيلاري أن القيامة تُظهِر بوضوح طبيعة العلاقة بين أقانيم الثالوث.

كان شخص المسيح وعمله ساحة المعركة الرئيسيَّة للجدال اللاهوتي طوال القرون الأولى للمسيحية، وبالأخص في القرن الرابع. ففي أوائل القرن الرابع، بدأ كاهن مصري يُدعى آريوس يُعَّلِم أن يسوع لم يكن هو الابن الأزلي لله، بل هو مجرَّد كائن مخلوق. وقد خلق ذلك جدالٌ أدى إلى انعقاد أول مجمع مسكوني في نيقية في سنة 325م، بدعوة من الإمبراطور قسطنطين (الذي حكم من 324–337 م). أدان المجمع تعاليم آريوس وقدَّموا قانون إيمانٍ مكتوب يؤكد ألوهية الابن الكاملة واتحاده الأزلي مع الآب. وردًا على آريوس وأتباعه، أكَّدَ أثناسيوس الإسكندري (حوالي 296-373 م) قائلًا: “بما أنه هو ابن من الآب؛ إذاً، فهو لا يمكن أن يكون سوى من نفس جوهر الآب” (ردًا على الآريوسيين 1: 6: 22). واستمرت الجدالات خلال القرن الرابع وأوائل القرن الخامس، مما تطلب عقد المجامع اللاحقة في القسطنطينية (381 م)، وأفسس (431 م)، وخلقدونية (454 م). وفي توضيح لشخص وعمل المسيح، شرَحَت هذه المجامع أيضًا التعليم الكتابي عن الثالوث من خلال تأكيد الألوهية الكاملة للروح القدس ووحدانية الله.

وهكذا، فإن شخص المسيح وعمله قد وفَّرا أيضًا الأساس المناسب للتفكير اللاهوتي الثالوثي. إذ أن الهرطقات المتعلقة بشخص المسيح وعملهلم تُعرقل فقط الفهم الصحيح بشأن يسوع، بل الفهم الكامل لكل أقانيم اللاهوت. ففي القرون الأولى للكنيسة، أولئك الذين تبنُّوا الهرطقات المتعلقة بالروح القدس، أنكروا الألوهية الكاملة لشخص الروح القدس. لقد عزفت هذه التعاليم العقائديَّة الخاطئة بشأن الروح القدس على الوتر ذاته الذي عزفت عليه مثيلاتها العديدة المتعلقة بعمل المسيح وشخصه. لذا حافظ الآباء بقوةٍ على وحدانية الله الثالوث، تمامًا مثلما أكدوا على شخصية كل أقنوم إلهيٍّ ودوره الفريد. يؤكد قانون إيمان نيقية أن الابن هو “نور من نور، إله حق من إله حق، مولود، غير مخلوق، واحد في الجوهر مع الآب“. وأوضح قانون إيمان خلقدونية طبيعتَيْ المسيح بأنها: “بلا اختلاط، وبلا تغيير، بلا انقسام، ولا انفصال؛ فالتمييز بين الطبيعتين لا يُلغيه الاتحاد بينهما بأي حال من الأحوال“.

اعتقدَ الآباء أن الفهم الخاطئ لشخص المسيح وعمله هو فهم خاطئ للخلاص. لم يكن الفهم الكامل شرطًا للخلاص، ولكن لا بد للشخص أن يدرك أنه لكي يكون الخلاص فعالًا، يجب أن يكون يسوع المسيح إنسانًا كاملًا وإلهًا كاملًا. بالإضافة إلى ذلك، فإن موضوع الاشتراك في الطبيعة الإلهيَّة، الذي يُفهم من رسالة بطرس الثانية 1: 4، يدعم أهمية الحفاظ على طبيعتي المسيح. صرَّح أثناسيوس قائلًا: “لقد جُعِل إنسانًا حتى يجعل منَّا آلهة” (في التجسد 54: 3). هذا بالطبع لا يعني أنه يمكن أن يكون لنا نفس جوهر الله الثالوث الأزلي، ولكن إضافة ناسوت المسيح إلى لاهوته يضمن لنا تشَّبُهنا به في حالتنا الممجدة (راجع 1 يوحنا 3: 2). وهكذا، أسس آباء الكنيسة الأولى فهمهم لشخص وعمل يسوع على الكتاب المقدَّس والتفسير الصحيح لنصوصه.

الأسفار المقدسة

المسيح هو الكلمة وهذا يعني ليس فقط أنه الإعلان النهائي عن الله وخطته للفداء، بل إنه أيضًا المحور المركزيّ للكتاب المقدَّس. لقد تمم المكتوب، كما أن التأمل الآبائي في الكتاب المقدَّس يبدأ بالمسيح. كما قال أغسطينوس أُسقف هيبو (354-430): “لا تسعَ أن تفهم حتى تؤمن، بل آمِن حتى تفهم” (رسائل في إنجيل يوحنا 29: 6، 2). هذه الحقيقة ألهمت الطريقة التي بها قرأ بها الآباء وفسروا الكتاب المقدَّس، ولا سيما العهد القديم. فقد كان العالَم اللاهوتيّ للآباء يسوده التأمل في الوحي المقدَّس، وليس التكهنات الفلسفية. في شرحه عن طبيعة اجتماع العبادة يوم الأحد، كتب يوستينوس الشهيد يقول: “وفي اليوم المُسمَّى يوم الأحد، يأتي كل من يعيش في المدن أو في الريف ليجتمعوا في مكان واحد، وتُقرأ مذكرات الرسل أو كتابات الأنبياء، بقدر ما يسمح به الوقت؛ ثم، عندما يتوقف القارئ، يُعلِّم القائدُ شفهيًا، ويحِث على التَمَّثُل بهذه الأشياء الجيدة” (الدفاع الأول، 67).

بالنسبة للمسيحيين الأوائل، كان يُنظر إلى الكتاب المقدَّس على أنه أفضل مرآة لروح المرء في البحث عن التسامي. كما كان أيضًا هو المكان الذي فيه يُعرَف المسيح. فمن خلال ممارسة التفسير الأقنومي([1]) [prosopographical] (رؤية كاتب مُعَيَّن للوحي على أنه يتحدث بكلمات أقنوم إلهيٍّ مُعَيَّن)، شوهِد المسيح الكلمة طوال الوقت. وقد رأت الكنيسة الأولى لذلك في أسفار الأنبياء والرسل وكاتب الرسالة إلى العبرانيين. كان هناك أيضًا فهم لكلٍّ من المعنى الحرفي (أو الواضح) للكتاب المقدَّس، وكذلك المعنى الروحي للكتاب المقدَّس. فوحده الشخص الذي يعيش ويسلك في الروح يمكنه أن يفهم الحقائق العميقة التي غرسها الروح في الوحي. أكد غريغوريوس النزينزي (329-390 م) قائلًا: “إننا نستقبل نور الابن من نور الآب في وجود نور الروح” (خطبة 31: 3). بهذه الطريقة، فإن الكُتَّاب من آباء الكنيسة ربطوا هذه الفكرة بجمال الله. علَّق أوريجانوس الإسكندري (حوالي 184 – 253) على ذلك بقوله: “تتأثر الروح بالحب والشوق السماوييَن عندما ترى جمال وبهاء كلمة الله” (تأملات في نشيد الأنشاد، مقدمة 2: 17). كان الروح هو الذي يتحرك بداخل قارئ الكتاب المقدَّس حتى يرى أعماقًا جديدة من جمال الله. وهكذا، رأت الكنيسة الأولى جمال الله الذي لا يوصف كامنًا في وحيه.

احتوت الأسفار المقدَّسة أيضًا على رسالة الخلاص الموحى بها من الله. أعلن أثناسيوس قائلًا: “تحدَّث الله بالأسفار المقدَّسة وكتبها بواسطة أناسٍ تَكَلَّموا عن الله” (في تجسد الكلمة، 56: 2). وبالمثل، أكَّد أوغسطينوس: “أسفارك المقدَّسة هي مسراتي الخالصة… صوتك هو بهجتي وصوتك يفوق جميع الملذات” (الاعترافات 11: 3-4). في الكتاب المقدَّس، رأت الكنيسة الأولى خطة الخلاص تتكشف وتزدهر في المسيح، الذي هو علاج لسرطان الخطية واليأس. المسيح هو تتميم الكتاب المقدَّس وهو الشخص الذي تُكشف فيه جميع أسرار الكتاب المقدَّس. إن “سر تجسد الكلمة”، بحسب مكسيموس المعترف، “يحمل قوة كل المعاني والأشكال المخفية في الكتاب المقدَّس” (فصول في المعرفة 1: 66). الكتاب المقدَّس هو قصة معلَنة عن الحقائق الكونية وليس قاموسًا أو موسوعة للحقائق. لقد كانت قصةً مناقضة لتلك التي روجَّت لها الديانات والفلسفات الأخرى. قدَّم باسيليوس القيصري (حوالي 330-379) تسع عظات حول تكوين 1، مُظهِرًا فيهم المفارقة بين جمال الله في الخلق وبين النظريات الخاطئة الموجودة في الفلسفات اليونانية. وفي عظاته عن الأيام الستة للخلق، بعنوان Hexameron (“الأيام الستة”)، أكد باسيليوس كيف أن الله تكيَّف مع احتياجاتنا ليكشف لنا عن نفسه. تمثل هذه النعمة جانبًا أساسيًا من جوانب اللاهوت الآبائي، وهي أن معرفة الله تبدأ بالله. ساعدت “قاعدة الإيمان” (Regula fidei) التي أشرنا إليها في بداية المقال، على إرشاد وحماية التفسير المسيحي الصحيح للكتاب المقدس ضد “القراءة البديلة” (ولا سيما ضد التفسيرات الغنوصية عبر القرون الأولى). فقاعدة الإيمان هذه هي مُلخص للحق الكتابي ويُمثِّل اعتراف إيمان الرسل المعروض بين طيَّات العهد الجديد. وكان يتألف من التأكيد على تجسد المسيح من خلال ميلاده العذراوي، والتأكيد على موته، وقيامته، وصعوده بالجسد، ومجيئه ثانية بالجسدز كافة الحقائق هذه منسوجة معًا ومؤسسة على الإيمان بالثالوث.

اللاهوت الآبائي كعبادة وتحوُّل

إن معرفة الله تؤدي إلى عبادة الله. كما أنها تؤثر على الطريقة التي يحيا بها المرء. كان اللاهوت في الكنيسة الأولى تدريبًا على عبادة ومحبة الله. وكان اللاهوت فعلًا تعبديًّا، وليس شأنًا أكاديميًا جافًا. أدرك الآباء أن نشاط التفكير المسيحيّ الحقيقيّ لا بد أن يكون دائمًا مرتبطًا بعبادة وتمجيد الله الثالوث. إن رؤية وإدراك الحب الإلهي، بحسب أوغسطينوس، “يُشعلنا” و “يرفعنا” إلى الله (الاعترافات 13: 9: 10). وأكد غريغوريوس النيصى على أن “الهدف من حياة الفضيلة هو أن نصبح مثل الله” (تأملات في نشيد الأنشاد، عظة 9). كان الله هو الغاية الصحيحة للنمو في الفضيلة. فأن ترى نور الله يعني أن تشارك في نوره وتتغير بواسطته. لم تكن عبادة الأصنام غير كتابيَّة فحسب، بل كانت مُؤشِّرًا على عمل القوى الشيطانية في العالم. فأولئك الذين يعبدون آلهة باطلة يصبحون مثلهم، مما يؤدي إلى الموت واليأس. بينما عبادة الإله الحقيقي تؤدي إلى النور والحياة الحقيقية.

وهكذا، كان لاهوت الكنيسة وعبادة الكنيسة مرتبطين ارتباطًا وثيقًا. فقد نشأ التفكير اللاهوتي من ممارسة العبادة ونشأت العبادة من التفكير اللاهوتي. كان معظم اللاهوتيون والآباء في الكنيسة الأولى رعاة كنائس ومرتبطين ارتباطًا وثيقًا بحياة الكنيسة وعبادتها. كان التفكير بشأن الإيمان مستنيرًا بليتروجيّة الإيمان. إن إغفال هذا السياق يعني إساءة فهم تفكيرهم. فمثلًا، حتى يُشجع الكنيسة في أفسس على وحدة الشركة مع قادتها دون انقسام، تحدّث إغناطيوس الأنطاكي (حوالي 35-110) عن طبيعتي المسيح: “هو ابن الإنسان وابن الله في آنٍ واحد”، وعن الأفخاريستيا (عشاء الرب) “الذي هو دواء الخلود”. (رسالة إلى أهل أفسس 20: 2). إن أولئك الذين يعترفون بأن يسوع هو الله وإنسان في وقت واحد، هم وحدهم الذين يمكنهم فهم الآثار المغيرة النابعة من حياة المسيح وموته وقيامته. إنه من الحماقة أن تصلي إلى المسيح أو تشارك في مائدة الرب إذا كنت لا تؤمن أنه هو الله الذي تجسد من أجل خلاصنا. لم تكن حياة الفضيلة ممكنة إلا لهؤلاء الذين اتحدوا بالمسيح وشاركوا في حياة جسد المسيح، أي الكنيسة.

ماذا نتعلّم اليوم من اللاهوت الآبائي؟

يمكننا أن نتعلَّم ثلاثة دروس مهمة من اللاهوت الآبائي. أولاً، يجب أن يكون التفكير اللاهوتي فعلًا تعبديًا. فعلى الرغم من أن الآباء خاضوا العديد من المعارك اللاهوتيَّة، فإن الهدف كان الحفاظ على العبادة الصحيحة لله الثالوث والكلمة المتجسد وتعزيز هذه العبادة. إنَّ أيّ تفكير لاهوتي لا يؤدي إلى عبادة أعمق، هو لا ينجز مهمته الأعظم. ثانيًا، المسيح حاضر في كل مشهد من الكتاب المقدس. فعلى الطريق إلى عمواس وضع يسوع المسيح المخطط التفسيري الذي من خلاله يجب أن يقرأ تلاميذه كلمة الله (انظر لوقا 24: 13-35). إن كل كلمة في الوحي تردد صدى اسم يسوع.

وأخيرًا، كان اللاهوت الآبائي مهتمًا بالتغيير والتحوّل. فالذين وُهِبوا روح الله هم وحدهم الذين يمكنهم أن يفهموا أمور الله وينموا فيها. إن جمال الله، الذي يُرى في الكتاب المقدَّس وخطة الله الخلاصيّة في المسيح، قاد إلى حياةٍ روحيّة تتمحور حول شخص يسوع المسيح بقوة الروح القدس. كان الارتباط بين اللاهوت والتحول باتجاه الله ارتباطًا لا ينفصل.

الخاتمة

كتب ليون الكبير (حوالي 400-461 م)، أسقف روما في القرن الخامس، إن المسيحيَّة هي “ديانةٌ تأسست على سر صليب المسيح” (عظة 82: 6). كان شخص يسوع المسيح وعمله هما الأساس لكل الفكر اللاهوتي في الكنيسة الأولى. كان هذا وديعة الإيمان المُستَلَمَة، الواردة في أسفار العهدين القديم والجديد، والمُفَسَّرة بشكل صحيح من خلال قانون إيمان الرسل. كان الكلمة الذي صار جسدًا، المعلَن في الكتاب المقدَّس، يحظى بأهمية قصوى في العظات والرسائل والأطروحات وقوانين الإيمان. لم يكن اللاهوت نشاطًا جافًا، بل كان سعيًا حيويًا وتحوليًا أدى إلى العبادة الحقيقية لله الثالوث.


[1] يأتي هذا المصطلح من اللفظ اللاتيني “بروسبون-جرافيا” (prosôpôn-graphia) والتي تعني حرفيًا وصف الأشخاص (والتي يمكن أن تعني في حالتنا هنا “الأقانيم”). وهي دراسة تُعنى بأفراد مجموعة/ عائلة معينة، فتتبع أسماءهم وأصولهم ومظاهرهم والصلات المحتملة بينهم. وبتطبيقها هنا يكون اهتمامها هو تقفي أثر كل أقنوم إلهيٍّ وانعكاسه داخل النص الكتابي.

شارك مع أصدقائك

مدير قسم دراسات الدكتوراه في الكليّة المعمدانية الجنوبية الغربية بولاية تكساس الأمريكية.