بعد أشهر من انتهاء الاكتتاب، أقام يوسف ومريم في بيت لحم. وفي ذات الوقت، سمع بعض العلماء من الشرق، والذين كانوا متخصصون في دراسة النصوص المُقدّسة، أنه قد وُلِدَ صبي سيكون ملكً على اليهود في إحدى قُرى اليهوديّة. وقد ذكرّهم ذلك بما كان مكتوب في أحد الأسفار اليهوديّة والتي تقول: “يَبْرُزُ كَوْكَبٌ مِنْ يَعْقُوبَ، وَيَقُومُ قَضِيبٌ مِنْ إِسْرَائِيلَ.”[1]
لذا عندما رأوا نجمًا جديدًا غير مألوف يبزغ في الغرب، تبعوه؛ إذ بَدَا وكأنه قد ظهر مِن أجلهم فقط. وقادهم إلى أورشليم. فقد أرادوا إكرام هذا الملك وتقديم هدايا الإجلال له. لذَلِك بدأوا يتساءلون عن موضعه وأين يَمكُث؟
الحاكِم
كان هيرودس الكبير مُصابًا بجنون العظمة. كانت شخصيته مناسبة تمامًا لمنصبه كملك اليهودية تحت سُلطة روما. وقد بنى إمبراطوريته على خُدعة أنه كان بإمكانه التواجد في عدة أماكن في ذات الوقت. فشيّد قصورًا في قيصرية وأريحا وأورشليم، بالإضافة إلى قلاعه الرئيسيّة التي كانت في هيروديون والتي تبعد عن بيت لحم 6 كم، وسبسطية وغيرها. ففي أيّ لحظة، كان بإمكانه أن يتواجد في أيًا مِن هذه المواقع. كان مولعًا بالهندسة المعمارية، كما كان معروفًا بارتيابه وعدم ثقته فيمن حوله.
لم يَكُن بأي حالٍ من الأحوال أن يظهر هناك حاكم آخر ويهدد عرشه. وهذا ما سعى إليه هيرودس على الدوام. فحتى دماء أقرب الناس إليه لم تسلم من هواجسه. فقد قتل إحدى زوجاته، والعديد مِن أبنائه وأقاربه لاعتقاده بأنهم تورطوا في مؤامرة لقتله.
فعندما سَمِعَ عن هؤلاء العلماء وعن سؤالهم عن “المولود ملك اليهود”، لم تحتمل أذناه السماع عن ملك آخر سواه. لم يَكُن الحل صعبًا بالنسبة لهيرودس حتى ولو كلّفه ذلك قتل كل طفل رضيع في إسرائيل! ودعا رئيس الكهنة والكَتبة ليخبروه بكل ما يعرفونه عن هذا المَلِك، محمولًا بشعور أنهم كانوا يخفون أمرًا ما عنه.
فاستدعاهم هيرودس، سائلًا عن درس في اللاهوت، وبالفعل أخبروه الكهنة بكل التفاصيل بدون تردد، قائلين أن النبي ميخا قال إن المَسيّا سَيولد في بيت لحم، على بُعدِ أميالٍ قليلةٍ جنوبًا، حيث دُفِنت راحيل محبوبة يعقوب وحيث وُلِدَ المَلِك داوُد. كان رؤساء الكهنة حُرَّاس للهيكل، وللحياة الدينيَّة والثقافية لليهود. والكَتبة، أو مُعلمو الناموس (الشريعة)، كانوا حُماة كلمة الله. إذ كانوا ينسخون الأسفار المُقدّسة، ساهرون على كل نقطة وكل حرف من المكتوب. وقد عرفوا التفاصيل الدقيقة لمخطوطة كُلّ سفر. وكانوا على دراية أيضًا بالتقاليد اليهوديّة. ورغم ذلك، لم يُبد أيّ منهم أي حماسة للتأكّد مما إذا كان ما قاله أولئك العلماء صحيح. كان مِن المُفترض أن يكونوا أكثر الناس توقعًا لمجيء المَسيّا، لكن جميع القادة الدينيين بَدوا كما لو كان تعليمهم عن تفاصيل النبوءات القديمة لمجيء مَلِكهُم أمرًا بلا أي أهميّة.
لقد جاء يسوع إلى خاصَّتُه، وخاصَّتُه لم تقبله. فَهُم لم يبحثوا عنه هنا في هذا المشهد، ولن يطلبوه لاحقًا أيضًا. مع أنه كَبُرَ وخَدَمَ في وَسطهم، إلا أنهم رفضوا الإيمان به.
ويا لا سخريّة الموقف، فهيرودس قد صدّق أن المسيّا قد جاء! على الأقل، بالقدر الذي دفعه للقلق على منصبه. لقد كان كافياً بالنسبة له أن يرى المجوس قاطعين كل هذه المسافة ومُحمّلين بكل هذه الهدايا. وهنا فكّر هيرودس: فربما لو كان وجود مثل هذا الملك حقيقيًا، يتمكّن المجوس من إرشاده إليه. وإذا تظاهر بأنه يرغب في تقديم الإكرام له، ربما يثق المجوس فيه ويقوده إلى هذا الملك الجَديد.
لذا قال هيرودس للمجوس: “متى وجدتموه، ارجعوا لي وأخبروني أين هو. فلدى شيئًا ما أُريد أن أُهديه إياه.”
المجوس
بعدما استمعوا إلى حديث هيرودس، غادروا إلى بيت لحم. ولم يمض وقت طويل حتى سطع لهم مرة أخرى نجمهم المألوف، ليقودهم إلى منزلٍ في ضواحي المدينة.
وعندما وجدوا المَلِك، لم يَكُن أكثر من مجرّد طفلًا رضيعًا. ودخلوا المكان الذي كان يرقد فيه ورأوا طفلاً بين ذراعي امرأة شابة، فعليًا كانت لاتزال فتاة. ولم يوجد أي تاج أو سُلطان يجذبهم إليه، ولا حتى معجزة يمكنهم رؤيتها، أو أي علامة دالة على العظمة. فقط مجرد امرأة ومعها طفلها. ولكن كان هناك شيء ما في تلك اللحظة لم يدركه سوى هذه المرأة، وزوجها، والمجوس، والطفل– والذي جعل هؤلاء العلماء يخرون ويسجدون له حين رأوه.
أحد المجوس تقدم وأخرج حقيبة مِن الذهب، ووضعها عند قدميّ الطفل. وجاء آخر مع قارورة مِن المُر، ثم آخر مع علبة من اللبان. وكانوا غير واعين أنهم يقومون بذلك بتمويل رحلة هروب إلى مصر كانت على وشك الوقوع بسبب جنون عظمة هيرودس. لقد قدموا هذه الهدايا ليس لسبب غير إكرام مَلِك اليهود المولود.
والعجيب في الأمر أنه لم يَكُن حتى مَلِكهُم! فلم يكُن إله إسرائيل إله شعبهم. ومع ذَلِك، ذهبوا إليه لأن فكرة إله الرحمة والشفاء في أجنحته، قد ألهب فيهم الرغبة بأن يكونوا قريبين مِن ذاك الذي يتدفق هذا الشفاء مِن خلاله. فقد تبعوا النجم، وبعد أميال لا حصر لها مِن الترحال، وجدوا المَلِك أخيرًا.
وبعد أن احتفلوا به، جاء الوقت ليستريحوا قليلًا.
الحُلم
ولكن في تلك الليلة عندما ناموا نومًا عميقًا، إذ بملاك، غير مألوف لهم ولكنه مألوف لمريم، يظهر في أحلامهم ويكشف لهم حقيقة هوية هيرودس الدمويّة وما يخطط فعله بالطفل. وأمرهم ذَلِك الملاك بأن يسلكوا طريقًا مُختلفًا إلى بلادهم.
لقد كانت دوافع هيرودس قاتلة، وسيذكره التاريخ ليس فقط بسفك دم زوجاته وأولاده، لكن أيضًا بسفك دم عدد لا حصر له مِن الأطفال دون السنتين.
ولكن ليس مِن ضمنهم المَلِك المولود. فلن يتمكّن هيرودس من أن يسلب حياته.
وغادر المجوس إلى بلادهم سرًا، مُتَجنبين المنطقة المحيطة بأورشليم.
بالنسبة لمعظم سُكان بيت لحم، مرت ولادة يسوع دون أن يلاحظها أحد، لكن السماء والأرض اجتمعتا في هذه القرية الصغيرة مِن أرض المَوعد لأجل أهم ميلاد في التاريخ. فقد نظمت الملائكة اجتماع غير متوقع للغرباء والمهمشين لإعلان مجيء مُخَلِص العالم. فقد ظهروا للبعض في أحلامهم. وتكلموا مِن السماء للبعض الآخر. ولآخرين، أشرقوا مثل النجم، مُقتادين المجوس لمكان ولادة الطفل. فمِن خلال كل ذَلِك، كانت اعيُن ملائكة الجُند السماوي على هذه القرية الواقعة جنوب أورشليم.
الوعد
منذ سقوط الإنسان، انتشر وعد الله بالفداء والاسترداد في كل الأرض. فقد كان وعد الله نشيد للبائسين، وللعمي، وللعرج، وللمذنبين– كان وعد الله في الليل، كأغنية رجاء آتية من بلدة بعيدة معروفة للسامعين عن ظهر قلب.
وارتفعت هذه الأغنية في المراعي خارج بيت لحم، مثل أوركسترا سماوية، مدوية بالموسيقى، غير تاركة خلفها شيء. ثم فجأةً، أسدل الستار، وصمت الليل، وعاد الجمهور إلى منازلهم. عادت بيت لحم مرة أخرى، مدينة عادية كما كانت منذ زمن بعيد.
ولكن لم يَعُد العالم كما كان.
[1] انظر سفر العدد 24: 17.