التعريف
إنَّ اللاهوت المسيحيَّ هو نتاج لحاجة المسيحيِّين إلى شرح كيف يمكن أن يكون الله ثلاثة أقانيم في واحد، وكيف يمكن أن يصبح الأقنوم الثاني منهم إنسانًا دون أن يتوقَّف عن كونه الله.
الموجَز
إنَّ اللاهوت المسيحيَّ ليس تخمينًا بشريًّا عمَّا هو خارق للطبيعة (كما كانت الأساطير اليونانيَّة القديمة)، ولكنَّه نتاج لحاجة المسيحيِّين إلى شرح كيف يمكن أن يكون الله ثلاثة أقانيم في واحد، وكيف يمكن أن يصبح الأقنوم الثاني منهم إنسانًا دون أن يتوقَّف عن كونه الله. وعلى هذا النحو، فإنَّ اللاهوت المسيحيَّ هو في المقام الأوَّل عن الله، ولكنَّ الكلمة تشمل عادةً دراسة كلِّ الحقِّ المعلن في الكتاب المقدَّس. ففي حين أنَّ البشر قادرون على معرفة بعض الأشياء عن الله من خلال التأمُّل في أعماله في الخلق، دون مساعدة من أيِّ إعلان إلهيٍّ خاصٍّ، فمن الضروريِّ أن يعلن الله عن نفسه لنا بشكل شخصيٍّ باعتباره إله فدائنا المثلَّث الأقانيم. نحن نعرف هذا الإله اليوم من خلال وحيه الكتابيِّ، الذي هو المصدر الوحيد الموثوق والمفصَّل لمعرفتنا بالله. لذلك، من الأفضل أن نفهم اللاهوت المسيحيَّ على أنَّه مخطَّط للحقِّ المعلن عنه في الكتاب المقدَّس والذي يوجِّهنا إلى أقانيم الله وعمله.
إنَّ كلمة theology، أي لاهوت، هي كلمة من أصل يونانيٍّ وتعني “دراسة الله”. تمَّ استخدام هذه الكلمة لأوَّل مرَّة من قِبَل أفلاطون (القرن الرابع قبل الميلاد) بالإشارة إلى الآلهة اليونانيَّة الوثنيَّة، بما يتوافق مع ما نسمِّيه الآن “الميثولوجيا”. اعتقد أفلاطون أنَّ هذا كان هراءً غير منطقيٍّ وأنَّه شيء يريد أن يعيقه عن حالته المثاليَّة. ليس لهذا أهمِّيَّة كبيرة اليوم باستثناء حقيقة أنَّ عددًا من الملحدين المعاصرين قد قبلوا تعريف أفلاطون وطبَّقوه على اللاهوت المسيحيِّ، وباتوا يعاملونه على أنَّه هراء لنفس السبب. إنَّ ما فشلوا في فهمه هو أنَّ اللاهوت المسيحيَّ ليس تخمينًا بشريًّا عمَّا هو خارق للطبيعة، ولكنَّه تحليل للوحي الإلهيِّ الوارد في الكتاب المقدَّس. قد يشكُّ النقَّاد في صحَّة هذا الوحي، لكنَّ اللاهوتيِّين المسيحيِّين يعملون بمصدر موضوعيٍّ ولا يتكهَّنون بشكل عشوائيٍّ كما فعل الإغريق القدماء.
إنَّ علم اللاهوت، باعتباره نظامًا أكاديميًّا، لم يُعلن أو يأمر به الكتاب المقدَّس نفسه، كما أنَّه ليس سمة رئيسيَّة من سمات الإيمان بالإله الواحد الأخرى القائمة على الكتاب المقدَّس. فاليهود على سبيل المثال، لم يطوِّروا اللاهوت أبدًا بالطريقة التي فعلها المسيحيُّون. وبقدر ما أنَّ اليهوديَّة الحديثة لها لاهوت، فهي إلى حدٍّ كبير نتيجة للتأثير المسيحيِّ. المسلمون أيضًا في وضع مماثل. فلديهم وحي في صورة القرآن، ولكن ليس لديهم لاهوت متطوِّر بالمعنى المسيحيِّ. وكما هو الحال مع اليهوديَّة، فإنَّ اللاهوت الإسلاميَّ على وضعه الحاليِّ هو إلى حدٍّ كبير محاولة لشرح معتقداتهم للأشخاص الذين يفكِّرون بطريقة مسيحيَّة في الأساس. يعتقد كلٌّ من اليهود والمسلمين أنَّ الله جوهريًّا غير معروف، وأنَّ اللاهوت بالمعنى الدقيق للكلمة مستحيل. وبدلاً من ذلك، طوَّر كلاهما تقاليد قانونيَّة واسعة النطاق، والتي تحلِّل وتطبِّق ما لديهم من وحي بطريقة تتوافق مع اللاهوت المسيحيِّ. لهذا السبب، يُنظر إليهم أحيانًا على أنَّهم لاهوتيُّون، خاصَّةً من قِبَل المراقبين المعتادين على النهج المسيحيِّ.
تتفرَّد المسيحيَّة في إيمانها بالله الواحد عن باقي الديانات التوحيديَّة المرتبطة بها لأنَّها تعترف بأنَّ الله ثلاثة أقانيم، وأنَّ أحدهم قد صار الإنسان يسوع المسيح. بالنسبة لكلٍّ من اليهود والمسلمين، هذا غير مقبول لدرجة أنَّه يُعتبَر تجديفًا، ولكنَّه أمر أساسيٌّ بالنسبة للمسيحيِّين. إنَّ اللاهوت المسيحيَّ هو نتاج الحاجة إلى شرح كيف يمكن أن يكون الله ثلاثة أقانيم في واحد وكيف يمكن أن يصبح الأقنوم الثاني إنسانًا دون أن يتوقَّف عن كونه الله.
تتعقَّد الأسئلة أكثر بسبب الاستخدام الشائع لكلمة “لاهوت”، وغالبًا ما يتمُّ توسيع كلمة “علم اللاهوت” لتشمل عددًا من الأشياء الأخرى التي لا ترتبط ارتباطًا مباشرًا بوجود الله. وتشتمل هذه الأشياء على خلق الإنسان وسقوطه، وطريق الخلاص، وطبيعة الكنيسة، واكتمال كلِّ الأشياء في نهاية الزمان. يمكن القول إنَّ كلَّ هذه الموضوعات مغطَّاة بالوحي الكتابيِّ وبالتالي يجب دراستها في سياق اللاهوت المسيحيِّ، لكنَّها موضوعات ثانويَّة بالنسبة لعقيدة الله وليست لاهوتيَّة بحتة.
هذا المعنى المزدوج لمصطلح “علم اللاهوت” هو -على الأقلِّ بشكل جزئيٍّ- نتيجة للتحوُّل المفاهيميِّ الذي حدث في أواخر القرن السادس عشر، عندما تجذَّر الإصلاح البروتستانتيُّ. حتَّى ذلك الوقت، كانت عقيدة الله تأتي أوَّلاً على الدوام ثمَّ تتبعها عقيدة الوحي ومحتوياته. ولكن ابتداءً من اعتراف هلفتيك الثاني لعام 1566، تمَّ وضع الكتاب المقدَّس في بداية اعتراف الكنيسة بالإيمان، إذ يتمُّ التعامل مع كلِّ شيء آخر، بما في ذلك عقيدة الله، في ضوء الكتاب المقدَّس. نتيجةً لذلك، لا يُعتبر اللاهوت المسيحيُّ الحديث عادةً دراسة الله بقدر ما هو تحليل لإعلانه. وبالنظر إلى أنَّ معرفتنا بالله تأتي في الأساس (إن لم يكن بشكل كامل) من خلال هذا الوحي، فإنَّ هذا يُعَدُّ شيئًا منطقيًّا من وجهة نظر أكاديميَّة، على الرغم من أنَّها غير دقيقة تاريخيًّا. ففي تاريخ العهد كما هو مسجَّل في الكتاب المقدَّس، سبقت معرفة الإنسان بالله كتابة الكتاب المقدَّس بعدَّة قرون، ويشهد السجلُّ الكتابيُّ على ما كان في الأصل اتِّصالاً شفهيًّا من الله إلى (ومن خلال) أنبياء العهد القديم، ورسل العهد الجديد، وفوق الكلِّ يسوع المسيح.
مصادر اللاهوت
كلُّ اللاهوت مشتقٌّ في النهاية من الله ومن إعلانه عن ذاته. هذا أمر لا مفرَّ منه، لأنَّ الله هو مصدر كلِّ شيء، ويمكن لمخلوقاته أن تدرسه بالقدر الذي يسمح هو به. يخبرنا الكتاب المقدَّس أنَّ الله خلق الإنسان على صورته وشبهه (تكوين 1: 26 – 27)، وهذا غالبًا ما يُفهم على أنَّه يعني أنَّه يمكننا التواصل مع الله وفهمه عندما يتحدَّث إلينا. منذ البداية، تحدَّث الله إلى مخلوقاته البشريَّة وكان لديهم على الأقلِّ بعض المعرفة عنه. مقدار من هذه المعرفة تمَّ نقلها مباشرةً من قِبَل الله، ومقدار آخر استنتجه البشر من ظروفهم التي يصعب تحديدها والتي كانت موضوع جدل كبير.
إن كان البشر قد وُضعوا على الأرض ليحكموها كوكلاء عن الله، فمن المنطقيِّ أنَّه يجب أن يكون لديهم بعض الفهم الفطريِّ لما كان من المفترض أن يفعلوه، وهذا يستلزم أن يكون لديهم على الأقلِّ معرفة جزئيَّة بذهن الله. ولقد ظهر هذا في أوقات لاحقة في شكل ما يسمَّى بـ “اللاهوت الطبيعيّ”، وهو الإيمان بأنَّ العقل البشريَّ، من دون مساعدة من أيِّ وحي إلهيٍّ خاصٍّ، قادر على إيجاد الله بالتأمُّل في أعمال خلقه. وغالبًا ما يُستشهد بوجود المعتقدات الدينيَّة في الثقافة الإنسانيَّة بشكل شبه عالميٍّ كدليل على ذلك، وهذا قد يحتوي على بعض الحقيقة. يخبرنا الكتاب المقدَّس أنَّ “اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ” (مزمور 19: 1)، وعندما تحدَّث بولس إلى الأثينيِّين، اقتبس من الشعراء الوثنيِّين دعمًا لادِّعائه بأنَّهم كانوا على علم بوجود الله (أعمال الرسل 17: 28).
تكمن صعوبة علم اللاهوت الطبيعيِّ في أنَّه في حين أنَّه قد يكون قادرًا على إقناعنا بوجود قوَّة محرِّكة للكون، إلاَّ إنَّه لا يمكنه وصف شكل هذه القوَّة. يمكننا أن نستنتج من تفكيرنا أنَّ العالم يجب أن يأتي من مكان ما وأنَّ الترتيب الذي نراه فيه لا يمكن أن يكون حدثًا عرضيًّا، لكن لا يمكننا أن نتقدَّم أبعد من ذلك بكثير. يوضِّح التشبيه الكلاسيكيُّ للساعة وصانع الساعات المشكلة جيِّدًا. يمكننا أن نقول إنَّ الساعة معقَّدة للغاية بحيث لا يمكنها أن تنشأ من تلقاء نفسها وأنَّه يجب أن يكون لها صانع. لكنَّ الساعة لا تكشف من هو الصانع أو ما هو شكله أو سبب صنعه للساعة. بعبارة أخرى، يمكن لعلم اللاهوت الطبيعيِّ أن يساعدنا في طرح الأسئلة الصحيحة، لكنَّه لا يستطيع أن يزوِّدنا بإجابات قويَّة. فكما أنَّه لا يمكننا معرفة صانع الساعات إلاَّ إذا كشف عن نفسه لنا، كذلك يمكننا معرفة القوَّة الكامنة وراء الكون إن أخبرنا هو من يكون. وحتَّى مع ذلك، فإنَّ هذا لا يرقى بالضرورة إلى أن يثبت أنَّه من يدَّعي أنَّه هو. علينا أن نثق بأنَّ صانع الساعات يخبرنا بالحقيقة، تمامًا كما يجب أن نثق بأنَّ الله الذي كشف عن نفسه لنا هو من يقول إنَّه هو.
هنا ندخل عالم الإيمان، وهو الثقة بالذي أخبرنا أنَّه خالقنا وفادينا وربُّنا. كيف فعل هذا؟ وفقًا للكتاب المقدَّس، أوَّلاً كشف الله عن نفسه للعالم من خلال لقاءات شخصيَّة مع رجال مثل نوح، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب. ليس لدينا رؤية مباشرة لتلك اللقاءات، ولكنَّنا نعتمد على روايات كُتبت عنها بعد عدَّة قرون من حدوثها. ونحن نؤمن أنَّهم دقيقون في ما يخبروننا به، ولكن من المعقول أن نفترض أنَّهم لا يخبروننا بكلِّ ما حدث في ذلك الوقت. ما نُقِل إلينا هو الجوهر الأساسيُّ للعلاقة التي أقامها الله مع هؤلاء الآباء الأوَّلين. يصل هذا إلينا في شكل عهد، وهو سلسلة من المبادئ والوعود التي تقوم عليها علاقتنا مع الله. يتمُّ اختبار حقيقة هذا العهد من خلال خبرة كلِّ جيل. نحن نؤمن أنَّ الله الذي تحدَّث إلى إبراهيم لا يزال يتحدَّث إلينا اليوم ويفي بالوعود التي قطعها للإسرائيليِّين منذ زمن بعيد، وننظر إلى اختباراتنا كدليل على صحَّة هذا الادِّعاء. بهذه الوسيلة ندرك شيئًا من صفات الله، الذي أُعلن لنا على أنَّه أبديٌّ وأمين. ولأنَّه أبديٌّ، فهو لا يتغيَّر، وطبيعته الإلهيَّة أعلى وأبعد من حدود العالم الذي صنعه. ولأنَّه أمين، فإنَّه يكشف عن نفسه كإله العلاقات التي تنظِّمها وتحكمها المحبَّة. فمخلوقاته البشريَّة، لم تفعل شيئًا لتستحقَّ النعمة الإلهيَّة، بل على العكس من ذلك، لقد فعلوا كلَّ شيء لرفض هذه النعمة من خلال الخطأ في حقِّ الله. لكنَّ الله لا يستطيع أن ينكر نفسه، ولذلك يستمرُّ في محبَّتنا، حتَّى لدرجة أن يرسل ابنه إلى العالم ليدفع ثمن عصياننا لكي يستعيدنا إلى شركته.
حدث هذا الاسترداد في حياة وموت وقيامة يسوع المسيح، الإنسان الذي هو ابن الله المتجسِّد. فيسوع المسيح هو المصدر المطلق للاَّهوت المسيحيِّ، الذي تشكَّل وترتَّب من خلال تعاليمه. كان يسوع هو الذي أعلن عن الحياة الداخليَّة لله على أنَّها حياة ثلاثة أقانيم إلهيَّة. وكان يسوع هو الذي فسَّرَ معنى الإعلانات التي أُعطيت قبل زمانه، والتي تمَّمها بذبيحته الكفَّاريَّة على الصليب. وأخيرًا، كان يسوع هو من أخبر أتباعه بما سيأتي به المستقبل، وكيف ستنتهي حياتنا وحياة العالم. ولقد أوكل هذا التعليم لتلاميذه الذين أصبحوا رسل الكنيسة المسيحيَّة والذين تشكِّل رسالتهم أساس اعترافنا بالإيمان اليوم.
في هذا السياق يجب شرح دور الكتاب المقدَّس. كان كلٌّ من العهد والعلاقة مع الله موجودين قبل وقت طويل من وجود أيِّ سجلٍّ مكتوب عنهما، وبالتالي فإنَّ الكتاب المقدَّس هو أوَّلاً وقبل كلِّ شيء شاهد على حقيقة أكبر منه تكمن وراءه. لكنَّه، في الوقت نفسه، هو الأساس الذي لا غنى عنه لتلك الحقيقة. فمن دونه لن يكون لدينا معرفة بالله أو خطَّته لخلاص البشريَّة. إنَّه ليس نسخة كاملة لكلِّ ما قاله الله أو فعله ولا يدَّعي الكتاب المقدَّس أنَّه كذلك. بل على العكس من ذلك، يخبرنا يوحنَّا الرسول أنَّه ملخَّص لأعمال الله في يسوع المسيح ومن خلاله، وهو إيجاز ضروريٌّ لأنَّ القصَّة بأكملها أكبر من أن نفهمها (يوحنَّا 21: 25). وبالتالي، فإنَّ ما لدينا ليس الحقَّ الكامل، ولكنَّه دليل دقيق ونهائيٌّ لما نحتاج إلى معرفته حتَّى تعمل علاقتنا مع الله بطريقة هادفة. يوجِّهنا الكتاب المقدَّس في الاتِّجاه الصحيح ولن يضلَّنا، كما قال بولس: “إِذًا قَدْ كَانَ النَّامُوسُ (المكتوب) مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ” (غلاطيَّة 3: 24). ونحن لا نعبده، لكنَّنا نعبد من أعطاه لنا.
من هذا المنظور، يُعدُّ الكتاب المقدَّس صورة لما هو اللاهوت المسيحيُّ وما يفعله. إنَّ اللاهوت هو دراسة الله، لكنَّه ليس بديلاً عن العلاقة الشخصيَّة معه والتي يصفها اللاهوت. إنَّنا نرى أهمِّيَّة هذا التمييز في قصَّة تجديد شاول الطرسوسيِّ، الرجل المعروف لنا باسم الرسول بولس (أعمال الرسل 9). عرف شاول كتابه المقدَّس وكان مقتنعًا أنَّه يفهم معناه. هذا ما دفعه إلى اضطهاد المسيحيِّين، لأنَّه اعتقد أنَّهم أساؤوا تفسير شريعة الله وأنَّهم كانوا يضلُّون الناس نتيجة لذلك. ولكن بعد ذلك كان لشاول لقاء شخصيٌّ مع يسوع المسيح وتغيَّرت حياته. كان هذا اللقاء ضروريًّا، لكنَّه لم يكن واضحًا. فلم يقُم شاول على الفور ويبدأ في الكرازة برسالة الخلاص الذي في المسيح؛ وبدلاً من ذلك، نُقل إلى منزل في دمشق حيث أخبره حنانيا بمعنى ما حدث.
لا تفسِّر قصَّة تجديد شاول صراحةً أنَّ حنانيا شرح له المعنى الحقيقيَّ للكتاب المقدَّس العبريِّ، لكن يُفهم هذا ضمنيًّا من خلال سرد القصَّة، ويُؤكِّده ما نعرف أنَّه حدث في حالات أخرى. على سبيل المثال، التقى يسوع برجلين على الطريق إلى عمواس، ولقد ظلَّ غير معروف لديهما بينما كان يشرح لهما الكتاب المقدَّس. وفقط عندما كشف لهما عن نفسه فهما ما حدث، لكن لم يكن هناك شكٌّ في أذهانهما في ما يتعلَّق بمصدر استنارتهما. “أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِبًا فِينَا إِذْ كَانَ يُكَلِّمُنَا فِي الطَّرِيقِ وَيُوضِحُ لَنَا الْكُتُبَ” (لوقا 24: 32)؟ لقد قضي بولس ما بقى من حياته في توضيح وشرح الكتاب المقدَّس لأنَّه فيه سرُّ الحياة الأبديَّة، وإعلان الخلاص الذي بيسوع المسيح ومن خلاله.
هذا هو علم اللاهوت الحقيقيِّ. إنَّه ليس تكهُّنات بخصوص معنى الكون، العمل الذي تُرك للفلاسفة فقابلوه بشيء من الشكِّ في الكتاب المقدَّس (1 كورنثوس 2: 6-13). لكنَّ علم اللاهوت يشرح محتويات ومعنى الكتاب المقدَّس، وهو المصدر الوحيد الموثوق والمفصَّل لمعرفتنا بالله.
يجب أن يؤخذ هذا المبدأ في الاعتبار لأنَّ الكنيسة كثيرًا ما ضلَّت وانقسمت لأنَّها نسيت القيود التي يتعيَّن على اللاهوتيِّين العمل ضمنها. لقد أدَّى امتداد “علم اللاهوت” ليشمل كلَّ جانب من جوانب الحياة المسيحيَّة إلى مشكلات، عندما تحدَّث اللاهوتيُّون بشكل قاطع عن أمور غير واضحة أو محذوفة من نصِّ الكتاب المقدَّس.
لذلك، من الأفضل فهم اللاهوت المسيحيِّ على أنَّه مخطَّط للحقِّ الذي تمَّ الكشف عنه في الكتاب المقدَّس والذي يوجِّهنا إلى أقانيم الله وعمله. قد يتمُّ الإضافة إليه إلى حدٍّ ما بأشياء مثل التجربة الشخصيَّة أو تقاليد الكنيسة، لكنَّ هؤلاء الشهود الثانويِّين يخضعون لاختبار التوافق مع الوحي الكتابيِّ. وإذا فشلوا في هذا الاختبار، فلا يجب الإصرار عليهم. قد لا تقتصر معرفتنا بالله على تعاليم الكتاب المقدَّس، لكنَّها تُحدَّد بموجبه. وبهذه الطريقة يساعدنا اللاهوت على فهم علاقتنا مع الله وتفسيرها بشكل صحيح ضمن شركة القدِّيسين التي هي الكنيسة.