يحتوي الكتاب المقدَّس على 66 سفرًا لِمَا لا يقل عن 40 مُؤَلِّفًا مختلفًا، وهو مكتوب بثلاث لُغَات مختلفة، ويَصِف ثلاث قارَّات مختلفة، وكُتِبَ كُلُّه على مدى فترة لا تقل عن 1500 عامٍ. يوجد بالكتاب المقدَّس مئات الشخصيَّات والعديد من الأنواع الأدبيَّة، ففي بعض الأحيان يكون سَرْدِيًّا، وفي أحيان أخرى تَجِد وحوشًا تطير لها مجموعة عيون مختلفة، وهناك كذلك قصائد حُبٍّ.
لم نَعُدْ نقرأ الكثير من الكُتُب بهذا التعقيد؛ لذا يبدو أنَّ مُقَدِّمةً جذَّابة وجامِعَة ستكون مناسبة للعهد الجديد، إلَّا أنَّ مُقَدِّمة مَتَّى تُصيب القُرَّاء المُعاصِرين بالارتباك والحَيْرة.
في صفحته الأولى، يبدأ مَتَّى الحديث عن يسوع بسلسلة نَسَبٍ. قد نستسلم لإغراء المرور بعيوننا سريعًا على هذا الجزء للوصول إلى صُلْب الموضوع، لكنَّ مَتَّى يبدأ بهذه الطريقة مُتَعَمِّدًا. تُعَدُّ هذه المُقَدِّمَة من نواحٍ كثيرة أكثر مُقَدِّمة للعهد الجديد ملائمةً وجَذْبًا يمكن تَخَيُّلها.
فيما يلي خمسة أسباب تجعل سلسلة نَسَب مَتَّى مُقَدِّمَة المُقَدِّمات:
1. سلسلة نَسَب مَتَّى تُلَخِّص قِصَّة الكتاب المقدَّس
تُلَخِّص الكلمات الثماني الأولى في اللغة العربيَّة (وهي الكلمات الثماني الأولى في اليونانيَّة أيضًا) كامل قِصَّة الكتاب المقدَّس إلى هذه المرحلة. هل تريد أن تعرف كيف اختصر أَحَد تلاميذ يسوع قِصَّة العهد القديم؟ لا تَنْظُرْ أبعد من (مَتَّى 1: 1). يمكن فهم قِصَّة الكتاب المقدَّس من خلال النظر إلى شخصيَّات رئيسيَّة تتقدَّم بالقصة: آدم، إبراهيم، داود، يسوع.
لا يُذكَر اسم آدم صراحةً، لكنَّ قِصَّته مُتَضَمَّنة في الكلمات “كِتَابُ مِيلَادِ”، والتي يمكن أيضًا ترجمتها “كتاب التكوين”. تَرِد العبارة الصريحة βίβλος γενέσεως (العبارة اليونانيَّة المُتَرجَمَة “كِتَابُ مِيلَادِ”) في العهد القديم اليوناني في مَوضِعَيْن فقط: (تكوين 2: 4) و(تكوين 5: 1). يَتَحَدَّث (تكوين 2: 4) عن نشأة السماء والأرض (المكان)، بينما يتعلَّق (تكوين 5: 1) بنشأة آدَم وحَوَّاء (الشعب).
منذ البداية، كان شُغْلُ اللهِ الشَّاغِلُ هو تأسيس شعب الله في مكان الله بِقُوَّة الله. بدأ ذلك مع آدَم وحَوَّاء، واستَمَرَّ في العهدَيْن اللذَيْن أُعْطِيَا لإبراهيم وداود. يَتِمُّ هذان العهدان أخيرًا في يسوع: المَلِك الداودي الذي سَيُؤَسِّس مملكة إسرائيل.
مع أنَّ العهد القديم يمكن أن يكون مُربِكًا كوثيقة أدبيَّة، يُخبِرنا مَتَّى أن ننظر إلى هؤلاء الأشخاص الرئيسيِّين -والوعود المُعطَاة لهم- للمساعدة في وضع إطار لكيفيَّة قراءتنا للقِصَّة بأكملها. تُلَخِّص كلمات مَتَّى الأولى كُلَّ ما جرى في القِصَّة إلى هذه المرحلة.
2. سلسلة نَسَب مَتَّى تُذَكِّرنا بأنَّ هذه القِصَّة قِصَّةٌ حقيقيَّة
قائمة أسماء! يَا لَهَا من بداية غريبة! لكنَّ هذه القائمة تُظهِر للقُرَّاء أنَّ هذه القِصَّة ليست قِصَّة خياليَّة، بل قِصَّة حقيقيَّة. لا يبدأ العهد الجديد بـ “كان يا ما كان”، لكن بشجرة عائلة. يعتمد مَتَّى على تقليد غني من نصوص الأنساب؛ لأنَّ الأنساب مُهِمَّة في التَّنَاخ (وهو اختصار مُكَوَّن من الحروف الأولى لأقسام الكتاب المقدَّس العبري الرئيسة الثلاثة: التوراة، نِڤِيِيم أو الأنبياء، كْتُوڤِيم أو الكتابات).
يتمحور سفر التكوين، أوَّل أسفار التَّنَاخ، حول عَشْر سلاسل أنساب، ويبدأ سفر أخبار الأيام، آخِر أسفار التَّنَاخ، بِتِسْعٍ. يَصعُب تفويت أوجُه التَّشَابُه الشكليّ بين سفر التكوين وسفر أخبار الأيام، إذ يُعَدُّ كلاهما السفرَيْن الوحيدَيْن تقريبًا في الكتاب المقدَّس العبري المليئَيْن بسلاسل الأنساب. يبدأ سفر أخبار الأيام بآدم ثُمَّ يَتَحَرَّك سريعًا عَبْر التاريخ البشري حتَّى يَصِل إلى داود. يبدأ سفر التكوين أيضًا بآدم، لكنَّه يَتَحَرَّك سريعًا حتَّى يظهر إبراهيم على الساحة. يتعقَّب مُعظَم سفر التكوين نَسْل إبراهيم.
يبدو إذًا أنَّ مَتَّى اكتشف موضوع “النَّسْل”، ليس فقط في الكلمات المُحَدَّدة، بل أيضًا في النوع الأدبي المُحَدَّد الذي يبدأ الأسفار القانونيَّة اليهوديَّة ويختمها. كانت الآمال اليهوديَّة مُتَمَحوِرَة حول سلسلة نَسَبٍ؛ لأنَّهم وُعِدُوا بطفل من بيت إسرائيل. يُبَيِّن لنا مَتَّى أنَّ قِصَّته ليست أُسطُورَة، وإنَّما هي قِصَّة يسوع المسيح التاريخي الذي له نَسَب عائلي ووُلِدَ في نسل داود.
3. سلسلة نَسَب مَتَّى تُبرِز عائلة يسوع الشاملة
تُظهِر سلسلة نَسَب مَتَّى أيضًا أنَّ النصوص القديمة تتعامل مع قضايا حديثة. لاحِظْ، على سبيل المثال، النساء اللَّواتي يُدرِجُهُنَّ مَتَّى في سلسلة النَّسَب، ففي مجتمع ذكوري، يُعَدُّ إدراج إناث أصلًا أمرًا مفاجئًا، ومع ذلك، يمكن للمَرْء أن يتوقَّع رؤية أُمَّهات الإيمان، مثل: حَوَّاء أو سارة أو رفقة أو ليئة، إلَّا أنَّ مَتَّى يُدرِج بدلًا من ذلك إناثًا أقل احتمالًا (1) أُمَمِيَّات، (2) لَهُنَّ ماضٍ جنسي قاسٍ، (3) لكن يَتَمَتَّعْنَ بإخلاصٍ راسخٍ ليهوه.
مع أنَّ الأمر الواضح صراحةً فقط هو أنَّ راحاب وراعوث لَيْسَتَا إسرائيليَّتَيْن، يمكن أيضًا إيراد حُجَجٍ جَيِّدة تُثبِت أنَّ ثامار وبَثْشَبَع لم تكونا إسرائيليَّتَيْن كذلك. تُدرَج بَثْشَبَع في سلسلة النَّسَب بصفتها “ٱلَّتِي لِأُورِيَّا” (1: 6)؛ على الأرجح لأنَّ ذلك يُوَضِّح صراحةً كونها أُمَمِيَّة، فَقَدْ كان أُورِيَّا حِثِّيًّا (2صموئيل 11: 3، 6). لا تُعَرَّف ثامار صراحةً أيضًا بأنَّها أُمَمِيَّة في العهد القديم، لكن هناك تقليد يهودي يُؤَكِّد أنَّها كانت دخيلة (مُتَهَوِّدة) سوريَّة. هكذا، وبالنظر إلى كل الأدلَّة مجتمعة، كانت ثامار وراحاب كنعانِيَّتَيْن وراعوث موآبيَّة وبَثْشَبَع زوجة رَجُلٍ حِثِّيٍّ. تشمل عائلة يسوع كل الأمم.
ثانيًا- لدى ثامار وراحاب وبَثْشَبَع تاريخ جنسي، فَهُنَّ لَسْنَ أُمَمِيَّات فَحَسْبُ، بل إنَّ ماضِيَهُنَّ أيضًا مُظلِمٌ بالعار والإساءة. لقد تَعَرَّضَتْ كُلٌّ مِنهُنَّ للاستغلال الجنسي، فثامار منبوذة من يهوذا الذي يَسْتَغِلُّها في لحظة خطيَّة، وراحاب كانت عاهرة كنعانيَّة، وبَثْشَبَع تَعَرَّضَتْ للاستغلال الجنسي من داود المَلِك. قد يتفاجأ القُرَّاء باكتشاف أنَّ سلسلة نَسَب قديمة لديها الكثير لتقوله لجيل #MeToo (أو هاشتاج “أنا أيضًا”) و#ChurchToo (أو هاشتاج “الكنيسة أيضًا”)[1].
أخيرًا، تتميَّز ثلاثٌ من هذه النساء (ثامار وراحاب وراعوث) بالإخلاص الراسخ، فثامار مُخلِصة لِأُسْرَتِها، وراحاب مُخلِصة ليهوه (“الرَّبَّ”، يشوع 2: 9) مع أنَّها ليست جزءًا من أُمَّة إسرائيل، وراعوث تتخلَّى عن أصنامها وتتبع إله نُعْمِي. يُرَحِّب يسوع بِمَنْ هُمْ شديدو الإخلاص له.
4. سلسلة نَسَب مَتَّى تُظهِر لنا أنَّ الله أمين
لا تتعلَّق سلسلة نَسَب مَتَّى في المقام الأوَّل بالأشخاص المذكورين في سلسلة النَّسَب، بل بالله، فهو يحافظ على نسل هذه العائلة بالرغم من إخفاقاتها. لقد كان وسَيَظَلُّ أمينًا لوعوده. كان أَحَد أَهَمِّ وعود الله هو وعده للمَلِك داود (2صموئيل 7)، وحتَّى شكل سلسلة النَّسَب يُشير إلى أهميَّة داود.
من الواضح أنَّ هذه السلسلة هي رواية لاهوتيَّة للقِصَّة؛ لأنَّ مَتَّى يَحذِف أجيالًا كثيرة. إنَّ تشديده على الرَّقْم 14 له غرض وهو مثال على عِلْم الأعداد اليهودي المعروف بـ “جِيمِتْرِيَا” (عندما تُقَدِّم القيمة العدديَّة لمجموعة من الحروف فكرة لاهوتيَّة). في اللُّغَة العبريَّة، يتكون اسم “داود” من ثلاثة أحرف وقيمته العدديَّة هي أربعة عشر (دالِت [4] + ڤاڤ [6] + دالِت [4]).
تُقَسَّم الفترات بعد ذلك للتشديد على كُلٍّ من الملوك ونجاح أو فشل المملكة، وهذا يناسب رواية مَتَّى اللاهوتيَّة لقِصَّة العهد القديم في البِنيَة الثُّلَاثِيَّة المُكَوَّنة من ثلاثة. يُوضَع اسم “داود” أيضًا في المركزَيْن الرابع عشر والخامس عشر في سلسلة النَّسَب، مِمَّا يجعله في محور القائمة (1: 6)، ويُذكَر اسمه أيضًا في البداية والنهاية (1: 1، 17).
من البداية، يريد مَتَّى أن يرى القُرَّاء يسوع من خلال شخص داود. تدور سلسلة النَّسَب -وفي هذا الصدد، إنجيل مَتَّى بأكمله- حول كيف أنَّ يسوع هو ابن داود.
وَعَدَ الله داود وعدًا مُلزِمًا بشأن واحدٍ من أبنائه، وتُظهِر سلسلة النَّسَب كيف تَمَّم الله هذا الوعد. إنَّ الوعود البشريَّة مَعِيبة، لكن عندما يَعِد الله بشيءٍ ما، يمكننا الثقة به. إذا كان الله قد أَلْزَمَ نَفْسَهُ بك، فَلَنْ يتركك مهما فعلتَ. لم تَسْتَطِعْ إسرائيل إبطال وعود الله بخطاياها، ولا تستطيع أنت أيضًا.
5. سلسلة نَسَب مَتَّى تُظهِر يسوع بصفته رجاءنا الوحيد
يتحدَّث مَتَّى في الظلام. لقد كان هناك 400 عام من الصَّمْت؛ ومن ثَمَّ فإنَّ السِّياق الخاص بتاريخ الفداء هو سَبْيٌ مُستَمِرٌّ. في الواقع، إنَّ “الحَدَث” الوحيد الذي يذكره مَتَّى غير ميلاد يسوع هو السَّبْي (1: 11، 12)، والذي يعمل كَمِفْصَلَةٍ لِبِنيَة سلسلة النَّسَب ويُقَدِّم منظورًا لإنجيل مَتَّى كَكُلٍّ. يرى مَتَّى حَبْكَة قِصَّة إسرائيل تحت راية السَّبْي والعودة؛ لذلك يأتي المَلِك ليُنقِذ إسرائيل من السَّبْي، فَقَدْ أُرْسِلَ من أجل خِرَافِها الضَّالَّةِ. مع ذلك، يَمتَدُّ هذا السَّبْي إلى ما قبل السَّبْي البابلي بكثير، فهو يبدأ مع آدم (تكوين 3).
لكن مع أنَّ شعب الله في السَّبْي، يَشُقُّ الرَّجاءُ الظَّلامَ، فَقَدْ أشرق نورٌ لأنَّ طفلًا قد جاء. في حين أنَّ (تكوين 5) هو صورة لِمَوْت سلسلة نَسَبٍ، فإنَّ نهاية βίβλος γενέσεως (كِتَابُ مِيلَادِ) مَتَّى هي حياة قيامة. لقد وُلِدَ طفلٌ لن يموت أبدًا. لسلسلة نَسَب مَتَّى ماضٍ وحاضرٌ ومستقبلٌ. في يسوع المسيح، ندخل الآن هذه العائلة، ويُصبِح إبراهيم وداود أَبَوَيْنَا، وتصير سلسلة النَّسَب هذه سلسلةَ نَسَبِنا، شجرةَ عائلتنا. مع أنَّ هذا العالم يبحث عن تأصيل تاريخيّ وحياة مستقبليَّة بِطُرُقٍ مُتَنَوِّعَة، فإنَّ طفلًا واحدًا فقط هو مَنْ يُؤَسِّس الخليقة الجديدة. يسوع هو هدف سلسلة النَّسَب هذه؛ لأنَّ يسوع هو هدف الكتاب المقدَّس.
[1] وهي حملات شهيرة على وسائل التواصل الاجتماعي هدفها تشجيع النساء اللاتي يَتَعَرَّضْنَ لإساءات جنسيَّة على الخروج عن صمتِهِنَّ ومشاركة قِصَصِهِنَّ، وتُمَثِّل الحملة الثانية (#ChurchToo) امتدادًا للحملة الأولى (#MeToo) لكن داخل أروقة الكنيسة – المُتَرجِم.