التعريف
اللاهوت الليبرالي متأصِّل في النظريات الحديثة والعلمانية للمعرفة. وقد اعتبر المشاركة في عمل الكنيسة أولوية بالنسبة للمؤمنين، على حساب تقديم وشرح العقائد اللاهوتية، الأمر الذي أدَّى إلى التخلي عن الكثير من المعتقدات المحافظة والقويمة في الكثير من الطوائف الكبرى.
الموجز
مع أنَّ اللاهوت الليبرالي يَشمَل تنوُّعًا شاسعًا من وجهات النظر اللاهوتية، والفلسفية، والكتابية، لكنَّ جذوره تَكمُن في إحلال نظريات التنوير الحديثة للمعرفة (التي ترفض مصادر المعرفة الخارجية) والخبرة البشرية محلَّ الفكر اللاهوتي الأقدم المتأصِّل في الاعتقاد بأن الكتاب المُقدَّس وقوانين الإيمان تعرض منظورًا حياتيًّا مترابطًا، وموحَّدًا، وموثوقًا. ومن خلال العديد من التطوُّرات، من بينها ظهور كتابات إيمانويل كانط (Immanuel Kant)، وفريدريك شلايرماخر (Friedrich Schleiermacher)، وتوماس جيفرسون (Thomas Jefferson)، ووالتر راوستشينبوستش (Walter Rauschenbusch)، أدَّى اللاهوت الليبرالي في النهاية إلى اندلاع جدلٍ بين الأصولية والحداثة، حيث قام الأصوليون المحافظون لاهوتيًّا بتحديد بعض المعتقدات المحافظة والقويمة التي تُعَد أساسية للمسيحيَّة الحقيقيَّة، الأمر الذي رفضه اللاهوت الليبرالي بوجه عام. واليوم، صار توجُّه اللاهوت الليبرالي هو السائد في المجتمع الأمريكي.
جذور التنوير
يشمل اللاهوت الليبرالي تنوُّعًا شاسعًا من وجهات النظر اللاهوتية، والفلسفية، واللاهوتية التي تَكمُن جذورها في التنوير الأوروبي (نحو 1660-1798). ففي القرون السابقة لهذا، كان اللاهوت المسيحي يعبَّر عنه من خلال قوانين وإقرارات إيمان مبنيَّة على سلطة الكتاب المُقدَّس، والتقليد الذي يعود تاريخه حتى إلى عصر الكنيسة الأولى. أما علوم اللاهوت الأحدث، فهي تلك التي ظهرت في الكثير من الجامعات والتي قامت بتطبيق نظريات المعرفة الحديثة والعلمانية، الرافضة لمصادر المعرفة الخارجية، وإحلال الاستقلال الذاتي للفكر البشري والخبرة البشرية محلَّ ذلك.
ومع أن إقرارات الإيمان السابقة كانت تختلف معًا من حيث بؤرة تركيزها، لكنها جائت جميعها معبّرة عن عقائد متوافقة مع الاعتقاد بأن الكتاب المُقدَّس وقوانين الإيمان تعرض منظورًا حياتيًّا مترابطًا، وموحَّدًا، وموثوقًا، يقبله المسيحيون على أنه صحيح معرفيًّا، كما يشكِّل أساسًا سليمًا لسلوكهم. إلا أن المنهجيات التنويرية العقلانية والتجريبية حلَّت محل التحالفات القديمة بين الفلسفة وعلم اللاهوت في البحث عن الحق. قال المفكِّرون الأوروبيون إن علوم اللاهوت التقليدية قد عفا عليها الزمن، وإنه على المسيحيَّة أن تتأقلم مع التطورات الحادثة في الثقافة الحديثة، إذا أرادت أن تظل موجودة. وجرى الاعتقاد بأنه دون تغيير وتعديل، ستصير المسيحيَّة غير مواكبة لحياتنا على نحو متزايد. مثل هذا النوع من التكيُّف جعل الديانة الليبرالية ديانة ذاتية ونسبيَّة، أي إنه جعلها خاضعة للتكهن الأخلاقي للشخص، أو للمشاعر البشرية، أو للحدس، ثم لاحقًا صارت مسألة براجماتية.
من أقدم مظاهر إضفاء صبغة ليبرالية على المسيحية هو ما جاء في دليل راكوفيان البولندي لتعليم الإيمان عن طريق السؤال والجواب (1605) مِن رفض لعقيدة الثالوث. وفي النهاية، حظيت الربوبية بقبول أوسع نطاقًا، باعتبارها بديلًا منطقيًّا للمعتقدات المسيحية القويمة. ادَّعى الربوبيون أنه لا يمكن للعقل البشري أن يستخلص من بين العدد الشاسع من العقائد والممارسات الموجودة في ديانات العالم إلا أقل القليل من المعتقدات التي يمكن أن تشكِّل ديانة طبيعية أو عقلانية بحتة. وذكر واحد من الربوبيين المعتقدات التالية: وجود الله؛ أن الله يُعبَد عن طريق السلوك بالفضائل (كل الأفعال الأخرى مثل الصلاة، والترنيم، وممارسة الفرائض لا تمتُّ لنا بصلة لأنها ليست فضائل)؛ وأن ممارسة التوبة والاعتراف (وليس موت يسوع وقيامته) تغسل الخطايا؛ وأن مكافآت وعقوبات تنتظر الجنس البشري بعد الموت؛ وأنه على القسوس والخدام أن يتخلوا عن تعليم الألغاز (ولا سيما المعجزات)، بل يشجِّعوا في المقابل على السلوك الأخلاقي العقلاني.
وقد عزَّزت أساليب جديدة للتفسير الكتابي من عملية تحديث المسيحية. ففيما سبق، كان الكتاب المقدس يحظى بمكانة خاصة، بصفته موحى به من الله، ومن ثَمَّ موثوقًا من جهة محتواه اللاهوتي والتاريخي. وكان اللاهوتيون يستشهدون بالنصوص الكتابيَّة من أجل إثبات العقائد والممارسات. لكن، أصرَّ اللاهوتيون الليبراليون على تطبيق أدوات تفسيرية حديثة، هي الأدوات نفسها المستخدمة لتفسير الكتابات الأدبية القديمة الأخرى. وأعيد تفسير أحداث الخلاص الفريدة التي يشهد لها الكتاب المُقدَّس، وصارت تُحسَب أساطير، ناتجة عن الخبرات الدينية للمجتمعات التي عاشت في الوقت الذي كُتِبت فيه. وقام النقد الأدنى بتقييم عملية حفظ النصوص ونقلها، محدِّدًا النصوص الأكثر موثوقية. أما منهجيات النقد الأعلى، فتمادت إلى أبعد من ذلك، باستخدامها المنطق العلماني لتقييم هوية كُتَّاب النصوص، وتواريخ كتابتها، والتشكيك في المعاني والتفسيرات التقليدية.
كذلك، أحدثت الابتكارات الفلسفية تأثيرًا كبيرًا على تطوُّر اللاهوت الليبرالي. طرح إيمانويل كانط رأيًا ثوريًّا عن المعرفة، يجعل الجنس البشري مستقلًّا في معرفته. واقترح شعارًا للتنوير، وهو “تجرَّأ على التفكير-Dare to reason”، ورأى أن هذا الشعار يحرِّر البشر من تقيُّدهم الذليل بطرق وأساليب التفكير السابقة. كما فصل التفكير المنطقي عن الإيمان، بغض النظر عن خلفية هذا الإيمان، سواء كان التقليد البروتستانتي أو الكاثوليكي. ففقط ما يمكن إثباته بالمنطق، أو تعلُّمه بواسطة المنهج العلمي، هو ما يمكن أن يكون أهلًا أن نسميه بالمعرفة. وبهذا، لم يكتفِ كانط بتأكيد تقدُّم العلم، لكنه بنى حاجزًا أيضًا بين الدين الذي يتعامل مع شؤون الإيمان، والتجربة العلمية التي تثبت حقائق.
في كتاب إيمانويل كانط بعنوان Religion within the Limits of Reason Alone (“الدين داخل حدود المنطق وحده”) (1793)، حول كانط المسيحيَّة من ديانة خلاصية تاريخية معلنة في الكتاب المُقدَّس إلى مذهب أخلاقي ربوبي. فقد جرَّد حدث السقوط من تاريخيته، قائلًا إن آدم يمثِّل نموذجًا أخلاقيًّا للكيفية التي يفسد بها جميع البشر ميولهم الأخلاقية. وقال أيضًا إن البشر لا يرثون الخطية الأصلية، بل نظير ما حدث في قصة آدم، يفسد كلُّ إنسان الواجب الأخلاقي المطلق، ويحوِّله إلى أولويات ثانوية أدنى في القيمة. كذلك، قال كانط إن “الميلاد الثاني” (يوحنا 3: 3) ليس هو عمل التجديد الذي يجريه الروح القدس، لكنه فعل نابع من إرادة الإنسان يُعيد توجيه الميول البشرية نحو الواجب الأخلاقي. كما تتمثَّل ألوهية يسوع في كونه النموذج المثالي للإرادة الأخلاقية الصالحة، وليس في كونه ابن الله من الناحية الوجودية. ولم يكن عمل يسوع عبارة عن كفارة بدلية. بل إن الخطية، أو ما دعاه كانط باسم “الشر الجذري”، هي أمر شخصي لا يمكن لشخص آخر أن يكفر عنه، بل فقط الذات المستقلة هي التي تكفِّر عنها.
وكي يبرِّر كانط انحرافاته عن المسيحيَّة القويمة والمحافظة، قال إنه كلما اختلف الكتاب المُقدَّس عن منطقنا التشريعي الأخلاقي، يكون واجبًا علينا أن نوفق النص مع المبادئ الأخلاقية العقلانية. كما أنه ابتدع التفرقة الحديثة بين رجل الدين والباحث الأكاديمي. ففي حين أن رجال الدين ملزَمون أخلاقيًّا بالدفاع عن إقرارات الإيمان التاريخية لكنائسهم، يتمتع الأكاديميون بحرية النقد ونشر اكتشافاتهم المبنيَّة على المعايير الحديثة. هذه التفرقة شكلت أساس تطبيق معيار مزدوج للحق، الذي يفرِّق بين ما تعلِّمه الكنيسة بحسب الإعلان الموجود في الكتاب المُقدَّس، وبين اللاهوت الحديث المبني على المعايير العقلانية. وإن فلسفة كانط وديانته العقلانية أكسبته لقب “فيلسوف البروتستانتية [الليبرالية]”.
الدراسات الأكاديمية الألمانية في القرن التاسع عشر
تولَّت الجامعات الألمانية الريادة في تطبيق نسبيّة عصر التنوير. فقد نُظِر إلى المعرفة البشرية في كل المجالات على أنها عملية (process)، تتمثَّل في دفع وجهات نظر الحقب الماضية عن الحق إلى الأمام، دون اللجوء إلى منظور حياتي فائق للطبيعة. فلم يكن هناك مجال في هذا الفكر للحق المطلق أو القاطع. وداخل هذا الإطار، صار فريدريك شلايرماخر، مؤسِّس جامعة برلين، هو “أبو اللاهوت الليبرالي”، عن طريق التوفيق بين المسيحيَّة ومبدأ معرفي شاعري جديد. وبحسب هذا الرأي، لم يكن الإيمان المسيحي يتمثل في موافقة على حق تصريحي (قوانين وإقرارات الإيمان القديمة)، أو في قرار أخلاقي (مذهب كانط الأخلاقي)، لكنه نتاج حدس، وهو ما دعاه شلايرماخر بالشعور بالاستقلال المطلق. وبدلًا من أن تكون العقائد مجرد تصريحات عن حق مطلق، معلن في الكتاب المُقدَّس، صار الحق تعبيرًا عن الوعي الديني لكُتَّاب الأسفار الكتابيَّة. وصار علم اللاهوت مجالًا تاريخيًّا فيه يجب على كلِّ عصر أن يصيغ المعتقدات من جديد تماشيًا مع الفكرة القائلة إن المسيحيَّة ليست نظامًا مطلقًا من المعتقدات، لكنها طريقة حياة تتطوَّر باستمرار.
في كتاب The Christian Faith (“الإيمان المسيحي”، 1821)، استعرض شلايرماخر إقرارات الإيمان المُصلَحة بطريقة منهجية، ثم استعاض عنها بأول صياغة لفكر ما بعد الحداثة. فبدلًا من عقيدة السقوط التاريخي للإنسان، الذي يعود إلى بداية وجود الجنس البشري، قيل إنه لدى جميع البشر كلًّا من وعي بالله، وقابلية لتجاهُل الله. وبهذا، تمثَّلت ألوهية يسوع فقط في قوة وعيه بالله، وتمثَّل الفداء في كون الكنيسة وسيطًا ينقل وعي يسوع بالله إلى الأجيال التالية من المؤمنين، الأمر الذي ينتج عنه أن تكون خليقة الله الجديدة شاملة وعامة في طبيعتها. كذلك، أعاد شلايرماخر صياغة عملية التعليم اللاهوتي. فقد انطوى تدريب القساوسة في المقام الأول على دراسات أكاديمية نقدية، باستخدام منهجيات تفسيرية جديدة، حلَّت محل المنهجية التاريخية-اللغوية في التفسير. وبدلًا من وصف الخدمة الرعوية بأنها دعوة روحية تستلزم وجود براهين على التقوى والتكريس، افترض شلايرماخر أن الخدمة الرعوية عبارة عن “مهنة” تُعِد شاغليها ليكونوا قادة للجماعات التي يخدمونها، بمعنى أنها مهمة اجتماعية.
ف. س. باور (F. C. Baur)، مؤسِّس مدرسة توبنغن للاهوت، أكَّد أن المسيحيَّة، من مهدها في العهد الجديد، لم تكن قط إيمانًا مترابطًا، أو موحَّدًا، أو موثوقًا. فقد اعتنقت كنيسة أورشليم إيمانًا يهوديًّا، بصفته ناموسًا جديدًا (“الناموس الملوكي” بحسب يعقوب)، في حين تكوَّنت المسيحيَّة الأممية من نظام لاهوتي متين (رسالة بولس إلى مؤمني رومية). وأضافت كنيسة روما ترتيبًا كهنوتيًّا هرميًّا، وطقوسًا، وأسرارًا مقدَّسة. ونشأت فكرة العقيدة من الجمع بين الأفكار الكتابية وفلسفات حياتية يونانية دخيلة وغربية، موروثة من التاريخ القديم، الأمر الذي أسفر عن مذهب سكولائي (مدرسي)، يتعارض بشدة مع التعليم الأخلاقي البسيط والأمثال التي قدَّمها يسوع. ومن هنا، نشأ بحثٌ يسعى إلى صياغة سيرة حياة يسوع، وهو البحث الذي انتهى بالإقرار بأن كل محاولة لتقديم سيرة حياة يسوع كانت تسفر عن صورةٍ ليسوع تعكس ببساطة الافتراضات المسبقة لكُتَّاب العصر الحديث. لكن، ظلَّ هناك إجماع على إمكانية توفيق تعليم الكتاب المُقدَّس مع الفكر النقدي الحديث، إذا حاولنا فعل ذلك على أساس مبادئ علمية وعقلانية. وساد تفاؤل بأنه لدى تطبيق تعاليم يسوع عن أبوة الله، وأخوة الإنسان، لن يصير ملكوت الله حدثًا رؤيويًّا أخرويًّا، ينهي التاريخ والزمن، بل سيكون بالأحرى إنجازًا حاليًا ينتمي إلى هذا العالم.
دفع ألبرخت ريتشل (Albrecht Ritschl) اللاهوت الليبرالي خطوة أخرى إلى الأمام، عندما جعل ملكوت الله والمجتمع المسيحي أمرين محوريين لفهم المسيحيَّة. وأكَّد أن الفردانية العلمانية، والعقلانية، والعلم يهدِّدون الترابط الأخلاقي للمجتمع. وباستناد ريتشل إلى إعادة التفسير الأخلاقية التي أجراها كانط على المسيحيَّة، وإلى تصريح شلايرماخر بأن الدين يَكمُن في الحدس، أسَّس مبدأ المصالحة الأخلاقية، بصفته الوسيلة لبلوغ الخير الشخصي والاجتماعي. وبهذا، كلَّف الكنيسة بمهمة تجديد النظام الاجتماعي. فبدلًا من أن تقوم المسيحيَّة الحديثة بتأسيس أنظمة ميتافيزيقية، أو الاقتباس من نصٍّ موثوق قاله يسوع، كان عليها أن تستقي من الحياة التاريخية الخصبة للكنيسة، التي تطوَّرت وامتدَّت إلى نطاق أبعد من وثائقها التأسيسية. وقام تلميذ ريتشل، وهو أدولف هارناك (Adolf Harnack)، بتوطيد إعادة الصياغة التاريخية للإيمان، عن طريق تحويل العملية التاريخية، التي من خلالها صار تعليم يسوع عن أبوة الله وأخوة الإنسان متصلبًا ومتكلسًا بفعل العقيدة، إلى الاتجاه المعاكس. وبهذا، لم تَعُد المسيحيَّة عقيدةً يجب الإيمان بها، بل حياةً يجب أن تعاش.
الليبرالية الأمريكية في القرن التاسع عشر
في أمريكا، كان اللاهوت المحافظ والقويم مهيمنًا على المسيحيين المهاجرين من أوروبا. لكنَّ الربوبية اقتحمت الحياة الدينية الأمريكية، حتى بين الآباء المؤسِّسين لها. فإن كتاب توماس جيفرسون بعنوان The Life and Morals of Jesus of Nazareth (“حياة وأخلاق يسوع الناصري”، 1820) اختزل خدمة يسوع في التعليم الأخلاقي؛ وكتاب توماس بين (Thomas Paine) بعنوان The Age of Reason (“عصر المنطق”، 1794) هاجم في جرأة كل الديانات المنظَّمة. وظهر المذهب الوحدوي الرافض للثالوث (Unitarianism) في هارفارد في عام 1805، ثم تسلَّل إلى الحياة الكنسيَّة. أما مذهب التسامي، الذي قدَّمه رالف والدو إمرسون (Ralph Waldo Emerson) في خطابه بعنوان Divinity School Address (“الخطاب إلى كلية اللاهوت”)، الذي ألقاه في كلية اللاهوت (1838)، فغزا كنائس نيو إنجلاند على استحياء. لكن بوجه عام، ظهر اللاهوت الليبرالي في أمريكا بعد نظيره الألماني بجيلٍ واحدٍ.
لكن بمجيء القرن التاسع عشر، ازدادت الجدالات اللاهوتيَّة بين الطوائف، وتراجع الإيمان الكالفيني في الكنائس المشيخية، والمعمدانية، والجمهورية. كما تخلّى أتباع فكرة النهضة في فترة الصحوة الكبرى الثانية أمثال تشارلز فيني (Charles Grandison Finney) عن اعتناقهم للاهوت الكالفيني الكتابيّ، الذي أمد نهضات القرن الماضي بالقوة والوقود. وعزَّزت أشكال مختلفة من الليبراليَّة الإنجيليَّة ذلك الرأي المنطقي القائل إن النهضات ليست نتاج سيادة الله، بل نتاج الاستخدام السليم لوسائل بشرية بحتة. وابتدأت مجموعة واسعة ومتنوعة من المجتمعات التطوُّعية الإنجيليَّة الناشطة تزدهر من أجل محاربة الأمراض الاجتماعية التي أصابت المجتمع الأمريكي المتوسِّع. وصار هوراس بوشنل (Horace Bushnell)، القس الجمهوري، هو مؤسِّس اللاهوت الليبرالي الأمريكي، بسبب معارضته للتركيز على الرجوع الفردي إلى الإيمان، وتأييده للنظرة الأخلاقية عن الكفارة، بدلًا من منظور البدلية العقابية، ومحاولته استقصاء وفهم تعقيدات اللغة الدينية.
وفي وقت لاحق من هذا القرن نفسه، قامت حركة الإنجيل الاجتماعي، تحت قيادة واشنطن جلادن (Washington Gladden)، القس الجمهوري، ووالتر راوستشينبوستش، الراعي المعمداني، بتجسيد الليبرالية الإنجيليَّة. وطالبا بإضفاء صبغة اجتماعيَّة على المسيحيَّة، عن طريق مناصرة حقوق العمال في إنشاء نقابات، وضرورة التتميم العملي لملكوت الله في المجتمع الأمريكي. وبالنسبة لهؤلاء، كانت المسيحية في طبيعتها ديانة ثورية. وفي حين كان العمل الاجتماعي لدى البروتستانتيين فيما مضى يعقب التجديد والإيمان الفردي، ويخضع للمعتقدات اللاهوتية، جعل مؤيِّدو الإنجيل الاجتماعي تغيير المجتمع الأمريكي هو الأولوية العظمى. بعد ذلك، في كتاب هـ. ريتشارد نيبور (H. Richard Niebuhr)، عالم اللاهوت المناصر للأرثوذكسية الجديدة، والذي تخرج في جامعة ييل، وهو الكتاب بعنوان The Kingdom of God in America (“ملكوت الله في أمريكا”)، انتقد نيبور رسالة الإنجيل الاجتماعي، واصفًا إياها بأنها “إله بلا غضب، أدخل إنسانًا بلا خطية إلى ملكوت بلا دينونة، بواسطة خدمات مسيح بلا صليب“.
وبين عام 1870 والحرب العالمية الأولى، في حين ظل اللاهوت الإنجيلي في الجنوب دون تغيير إلى حد كبير، أدى الجدل الذي اندلع بين التقدُّميين والمحافظين إلى إثارة انزعاج كل الطوائف الكبرى تقريبًا في الشمال. والمشكلات الرئيسية التي كانت مثار جدل هي: سلطة الكتاب المقدس، والعلاقة بين العلم والكتاب المقدس، والعناصر الفائقة للطبيعة في شخص المسيح وعمله، وما إن كان ينبغي ربط نظرية التطور الداروينية بالتعليم الكتابي عن الأصول أم لا، وكيف يمكن فعل ذلك. وإن المنهجية التجريبية والبراجماتية التي اتبعتها مدرسة شيكاغو اللاهوتية، والفكر اللاهوتي الشخصاني النسبي الذي اتبعته مدرسة بوسطن اللاهوتية في جامعة بوسطن، وتركيز كلية يونيون للاهوت على التعليم العملي والاختباري، كلُّ هذا قدم مثالًا توضيحيًّا للتنوُّع الموجود في التعليم اللاهوتي الليبرالي.
كذلك، وسعت الليبرالية من نطاق تأثيرها ليمتدَّ إلى أبعد من حدود البروتستانتية، محدثةً تأثيرًا في الكاثوليكية الأمريكية، في الجدل الأمريكي الذي اندلع في عام 1899، ومؤدِّيةً إلى تبني اليهودية المصلَحة لوثيقة “منصة بيتسبرغ” في عام 1857.
انعقدت العديد من المحاكمات رفيعة المستوى، ولا سيما في الكنيسة المشيخية بالولايات المتحدة، موجهةً تهمة الهرطقة، ومتهمة الوعاظ وأساتذة كليات اللاهوت بانتهاك نذور رسامتهم، أو المعايير الدينية. وأشهر محاكمة هي محاكمة تشارز أ. بريجز (Charles A. Briggs)، وهو أستاذ اللغة العبرية في كلية يونيون للاهوت، الذي دافع بقوة عن النتائج الجذرية للنقد الكتابي الأعلى، ورفض كون موسى هو كاتب الأسفار الخمسة الأولى، وهاجم بعنف السمة الأخلاقية السيئة لقدر كبير من العهد القديم، وأصرَّ على وجود العديد من الأخطاء في الكتاب المُقدَّس. وقد قامت الكنيسة المشيخية بعزله في عام 1893 بسبب آرائه.
القرن العشرين فصاعدًا
اشتد النزاع بين الليبراليين والمحافظين، ممَّا أدى إلى الجدل اللاهوتي بين الأصولية والحداثة، الذي اندلع في أوائل القرن العشرين. وفي هذا الجدل، سرد الأصوليُّون بعض العقائد التي أكَّدوا أنها أساسية للإيمان المسيحي، مثل ميلاد المسيح العذراوي، ووحي الكتاب المقدس وسلطته، وكفارة المسيح البدلية، وقيامة المسيح بالجسد، وتاريخية المعجزات. وشنَّ هاري إيمرسون فوسديك (Harry Emerson Fosdick)، المعمداني، هجومًا مباشرًا على المعتقدات الأصولية، في عظته التي ألقاها عام 1922 بعنوان ” Shall the Fundamentalists Win?” (هل سيربح الأصوليون؟”). وفيها، وصف الأصوليون بأنهم متزمتون على نحو لا يُحتمَل، وأكد أن هذه العقائد الخمس التي يقولون إنها أساسية هي مجرد نظرية واحدة من بين نظريات أخرى عن تلك العقائد.
وبعض الجهود التي بذلها أناسٌ محافظون، مثل ج. جريشام ماشين (J. Gresham Machen)، الذي قدَّم في كتابه بعنوان Christianity and Liberalism (“المسيحيَّة والليبراليَّة”) الحُجة القائلة إن المسيحيَّة والليبراليَّة هما ديانتان مختلفتان، قد أخفقت في صدِّ تيار اللاهوت الليبرالي. وبحلول ثلاثينيات القرن العشرين، نجح أنصار الليبراليَّة اللاهوتيَّة في تولِّي زمام السيطرة على كليات اللاهوت البروتستانتيَّة الرئيسيَّة، ومقرات الطوائف، ودور النشر الدينية. وشكَّل المحافظون أقلية في المجتمع الديني الأمريكي، وقاموا بتأسيس طوائف، وكليات لاهوت، ودور نشر جديدة.
وباندلاع الحروب الثقافية في ثمانينيات القرن العشرين، برز من جديد الصراع بين الليبراليين والمحافظين للسيطرة على الحياة العامة في أمريكا. وكان اللاهوت الليبرالي، الذي هو مجال تاريخي بحُكم طبيعته، يتجدد باستمرار، ليس عن طريق إصدار قوانين إيمان جديدة، بل عن طريق تطبيق أساليب جديدة لتحسين الخبرة البشرية. ونتجت عن ذلك مفارقة غير متوقَّعة: ففي حين تناقصت الطوائف الكبرى في الأعداد والدعم المالي، صار الناتج الأهم للاهوت الليبرالي – أي إصراره على مواكبة كل جيل – هو المنظور الحياتي السائد في الحياة الأمريكية بأكملها. وتراجع الجدال اللاهوتي داخل الطوائف الكبرى. وصارت المشاركة في عمل الكنيسة أولوية في الإيمان المسيحي، بدلًا من شرح وتوضيح المعتقد اللاهوتي. وفي حين ربما لم تَعُد الطوائف الليبرالية تمارس التأثير الذي كانت تمارسه قبلًا، حققت الليبرالية البراجماتية، كمنظور حياتيٍّ عام، نجاحًا كبيرًا، باعتبارها قوة مؤثرة في الساحة الأمريكية العامة.