دروس من البرية [1]
هل فكرت قبلًا في السبب الذي لأجله علمنا الرب يسوع أن نصلي لئلا ندخل في تجربة (متى 6: 13)؟ هناك سببين على الأقل يمكننا أن نفكر فيهما.
أولًا: لأن التجربة خطر حقيقي يداهمنا في كل يوم، ويحيط بنا من كل صوب وجهة. والحقيقة الصعبة، والتي لابد لنا أن نواجهها (إن كنا جادين في سعينا للقداسة)، هي أننا نعيش في عالم ساقط، تحيطنا فيه الهموم من كل جهة، وهي كأكياس الرمال تعطل سعينا. والأصعب ليست متاعب الحياة، إنما الخطيّة المحيطة بنا بسهولة. يقول كاتب العبرانيين مشجعًا المؤمنين على اقتفاء أثر مؤمني العهد القديم والذين أسماهم “سحابة الشهود” وقائدهم رئيس الإيمان ومكلمه يسوع المسيح:
لِذَلِكَ نَحْنُ أَيْضاً إِذْ لَنَا سَحَابَةٌ مِنَ ٱلشُّهُودِ مِقْدَارُ هَذِهِ مُحِيطَةٌ بِنَا، لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ وَٱلْخَطِيَّةَ ٱلْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ، وَلْنُحَاضِرْ بِـٱلصَّبْرِ فِي ٱلْجِهَادِ ٱلْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا. (عبرانيين 12: 1)
هل لاحظت تعبير: الخطية المحيطة بنا بسهولة؟ نعم، الحياة ليست رحلة ممتعة، أو نزهة خلوية. والتغاضي عن وجود الخطية والحرب الروحية، والتي يسعى إبليس فيها لتدمير حياتنا من خلال إغوائنا للسقوط في الخطية، يُعرّضنا لموت الغفلة! وأبدًا لن يجعل حياتنا أفضل أو أكثر أمانًا.
وثانيًا: لأننا لسنا مؤهلين للتجربة! فجوهر هذه الطلبة على اختصارها هو إدراكنا لعجزنا عن مواجهة التجربة بذواتنا، والتي إن سقطنا في فخها لانطرحنا أرضًا، وربما لابتعدنا تمامًا خارج مضمار السباق. فنحن بكل تأكيد لسنا أفضل ممن سقطوا قبلنا في تجارب متنوعة: [1] تجربة محبة المال ووعوده بتحقيق حياة هادئة خالية من الضغوط والمخاطر، مضمونة المستقبل؛ [2] تجربة الجنس ووعودها الزائفة بالحميمية واللذة والإشباع المتبادل والشعور بالقيمة لدى الشريك.
ولذلك نسمع بين الحين والأخر عن سقوط كثيرين؛ مؤمنين وقادة روحيين. وهو أمر مُحزن بكل تأكيد، لكنه ليس بالجديد أبدًا. ولعلمنا أننا لسنا أقوى من التجربة ولسنا أفضل ممن سقطوا قبلًا. نتساءل: “هل إذا اجتزناها سنعبرها بنجاح؟”.
في قلب التجربة كذبة
في قلب كل تجربة وأي تجربة كذبة. كذبة موجهة بالأساس للتشكيك في صدق “كلمة الله“. في جنة عدن (تكوين 3)، وفي برية سيناء (خروج 17: 7) وبعدها بسنين طويلة مع رئيس الإيمان بعد معموديته في نهر الأردن، نرى على الأقل ثلاثة اتجاهاتٍ تصوب الخطية تجاهها سهامها الملتهبة: [1] محتوى كلمة الله، [2] دوافع ومحبة الله المتكلم، [3] صدق تحذيرات الله في حالة كسر كلمته.
ما هو سر صعوبة التجربة والإغواء؟
تكمن الصعوبة في كون هذه الكذبة في قلب التجربة متاحة وممكنة جدًا من وجهة النظر البشرية، بل ومثيرة لشهية الطبيعة الساقطة التي تعمل فينا؛ لذلك من الصعب مقاومتها. يصور الكتاب المقدس نداء الحماقة والإغواء بكلمات معسولة للمرأة الجاهلة والتي تنادي على عابري السبيل ليحِلوا ضيوفًا عليها بكلمات بالغة التعبير:”ٱلْمِيَاهُ ٱلْمَسْرُوقَةُ حُلْوَةٌ، وَخُبْزُ ٱلْخُفْيَةِ لَذِيذٌ.” (أمثال 9: 17) ينطبق ذات الأمر على المثل الإنجليزي الشهير:
The grass is always greener on the other side of the fence
العشب دائمًا أكثر اخضرارًا على الجانب الآخر من سور الحديقة.
ربما ترتسم على وجهك ابتسامة ساخرة من حماقة الفكرة، لكن علينا ألا ننسى كون الخطية في ذاتها حماقة ما بعدها حماقة. والأهم أن وعودها كاذبة، فتبعيات طاعة نداء الحماقة موت محقق: “وَلاَ يَعْلَمُ أَنَّ ٱلْأَخْيِلَةَ (أي الموت) هُنَاكَ، وَأَنَّ فِي أَعْمَاقِ ٱلْهَاوِيَةِ ضُيُوفَهَا.” (أمثال 9: 18) لكن المأساة أن من حلوا ضيوفًا عليها استقروا في أعماق الهاوية.
النصرة على التجربة
إذًا، نصلي “لاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ” [١] لأننا نعلم أن هناك تهديدًا حقيقيًا يحيط بنا، [٢] ولأننا لسنا مستعدين له. وبالتالي، إن كان بالإمكان أن ننتصر على التجربة، فمن الحماقة أن نعتمد على فكرنا البشري، ومنطقنا الأعور. لذلك فلو أن هناك نصرة على التجربة، تقلبها رأسًا على عقب، فحتمًا ولا بد أن يكون مصدر الانتصار خارجًا عنا.
وقلب الخبر السار أن يسوع المسيح هو هذا المصدر الآخر (عبرانيين 2: 18؛ 4: 15)، والذي بالإيمان به يحل بالروح القدس سيدًا داخل قلوب أتباعه، لا خارجًا عنهم، ليقودهم نحو الانتصار كلما مارس سيادته فعليًا وعمليًا عاملًا فيهم ما يرضي صلاحه.
تجربة المسيح في البريّة
يمكننا أن نرى المسيح، رئيس إيماننا ومكمله، يُعلّم أيادينا القتال وأصابعنا الحرب (مزمور 144: 1)، في تجربته في البرية. ففي متى 4: 1-11، نقرأ كيف اقتاد الروح يسوع للبرية ليُجرَّب مثلنا مباشرة بعد المعمودية التي فيها أعلنت السماء: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت” (متى 3: 17).
وفي البرية كما كان إسرائيل في البرية، وبعد أربعين يوم وليلة (كالتي قضاها موسى وإيليا قبلًا) جاع يسوع أخيرًا. والمعنى واضح؛ فتاريخ شعب الله يُعاد في شخص المسيح يسوع مُخلّص شعبه، لا لأنه يعيد نفسه تلقائيًا صوب لا شيء، لكن لإن إلهنا هو كاتب التاريخ، ومسيّره في اتجاه تحقيق وتتميم مقاصده التي سيعكس فيها ما حدث في جنة عدن، وتكرر في برية سيناء. حتمًا ستكون النتيجة هي العكس تمامًا!
سهام التجربة كانت مصوبة ضد محتوى كلمة الله، ومحبة الله المتكلم، للتشكيك في صدق تحذيراته.
في التجارب الثلاث باختصار، كان لسان حال المجرب: لا تتكل على الله، ولا تنتظر تسديده لاحتياجاتك، ولا تعتمد على كلمة الله.
في التجربة الأولى تحداه المُجرّب: “إن كنت أنت ابن الله، أصدر أوامرك لتصير هذه الحجاة خبزًا، حتمًا تستطيع أن تفعل ذلك، مارس سلطانك لتسكين إحساسك بالجوع.” نعرف كيف أجاب يسوع المسيح مظهرًا اتكاله بالكامل على الله في تسديد احتياجه بالطريقة التي يراها هو، وفي الوقت الذي عينه. اقتبس يسوع المسيح من سفر التثنية، والذي ردد فيه موسى كيف قاد الرب شعبه في البرية، وفيه يقول عن إله إسرائيل: “فَأَذَلَّكَ وَأَجَاعَكَ وَأَطْعَمَكَ ٱلْمَنَّ ٱلَّذِي لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُهُ وَلاَ عَرَفَهُ آبَاؤُكَ، لِكَيْ يُعَلِّمَكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا ٱلْإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ مَا يَخْرُجُ مِنْ فَمِ ٱلرَّبِّ يَحْيَا ٱلْإِنْسَانُ.” (تثنية 8: 3)
والحقيقة، فإن كاتب هذه السطور لم يسمع أو يقرأ حتى الآن من يولي اهتمامًا بالجزء الأول من الآية عند الحديث عن تجربة المسيح يسوع، والذي لا يمكن فصله عن السياق، والذي فيه يعلن موسى أن الرب درّب شعبه في البرية على الاتكال على كلمته، عندما دربه على الاتضاع تاركًا إياه يشعر بالجوع، قبل أن يُطعمه. هل لأن ثقافتنا الكنسية المعاصرة ترفض أفكار كهذه؟
في التجربة الثانية نرى المُجرّب يستخدم كلمة الله نفسها، يستخدم ذات السلاح الذي صد به الرب يسوع أول سهامه. ليقنعه بفعل، يمكن أن يثبت ظاهريًا صدق كونه المسيا المنتظر، والذي وعده الله بالحماية حال تعرض للموت في المزمور الواحد والتسعين: “لأَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ لِكَيْ يَحْفَظُوكَ فِي كُلِّ طُرُقِكَ. عَلَى ٱلْأَيْدِي يَحْمِلُونَكَ لِئَلاَّ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ.” (مزمور 91: 11-12)
لكن في جوابه على تجربة إبليس الثانية نرى المسيح عارفًا كُل كلمة الله (تثنية 6: 16، مع خروج 17: 7). كان المسيح مدركًا لخطأ أن نضع الله موضع الاختبار، وكأننا لسنا متأكدين من معيته.
أما عن التجربة الثالثة والأكثر وضوحًا، قال المجرب: “أُعْطِيكَ هذِهِ جَمِيعَهَا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي” (متى 4: 9)، وفيها كشف إبليس ما في جعبته من رغبة دفينة لقبول السجود والعبادة بدلًا من الله نفسه. نعم، لا يهدف إبليس فقط من وراء الغواية والتجربة إلى اسقاط المسيح، لكن هدفه الأساسي بالحري هو أن يحل محل الله ذاته، ويكون هو موضوع عبادة البشر، لا الله. إبليس في حرب مع الله في المقام الأول!
لكن ابن الله الأزلي والمتأنس، الرب يسوع، وهو على ثقة من مجيء اليوم الذي سيُدفع له فيه كل سلطان في السماء وعلى الأرض لكن على الجانب الآخر من الصليب، لم يرفض فقط السجود، لكنه انتهر إبليس محققًا انتصاره الحاسم عليه في أهم معركة دارت بين نائب البشر وممثلهم أمام الله، وبين الشيطان.
ختامًا نصلي قائلين: “لاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ” لأننا نعلم أن التجربة حقيقية ومميتة وأننا لسنا أهلًا لها. لكن في تجربة المسيح في البريّة انقلب السحر على الساحر! ومنذ ذلك الوقت، فإن انتصار رئيس الإيمان، ومكمله، شفيعنا ورئيس كهنة القادر أن يرثي لضعفنا، هو في رصيدنا في كل مرة نجتاز فيها وادي ظل الموت، ونخوض في التجربة.