“وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ ٱلْمَسِيحِ ٱلْفَائِقَةَ ٱلْمَعْرِفَةِ…” (أفسس ١٩:٣)[1]
محتاجين كدارسي الكتاب المقدس وعلم اللاهوت نفتكر دايمًا إن ما نعرفه عن الله الآن، نعرفه بشكل غير كامل. عَلمنا الرسول بولس أن اللي بنشوفه في شخصية الله المعلنة في كلمته مش واضح كل الوضوح ولا سيما في التفاصيل الخاصة بصفاته ومعاملاته. وإننا في انتظار اليوم اللي هنعرف فيه الله معرفة أسمى ونعاينه: “فَإِنـَّنَا نَنْظُرُ ٱلْآنَ فِي مِرْآةٍ فِي لُغـْزٍ، لَكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهاً لِوَجْهٍ. ٱلْآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ ٱلْمَعْرِفَةِ، لَكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ.” (١كورنثوس ١٢:١٣)
بالرغم من كده، فإنكارنا معرفة الله معرفة حقيقية كافية للخلاص والتقوى الضرورية للحياة الأبدية على سبيل الاتضاع هو كبرياء روحي مزيف، والأخطر إنه مُهلك ومهين لله ذاته ولكل اللي أعلنه بالفعل عن نفسه في كلمته. فحتى باعتبارنا بشر مخلوقين، وقدراتهم محدودة وعقلهم لا يمكن يستوعب كل ما لله أو يعبر عنها بلغة دقيقة ذي ما بيوصف الطبيعة والمخلوقات اللي حواليه، لازم نفتكر إزاي محبة الله وإمكاناته ونوره أسمى وأعظم من ضعف قدراتنا العقلية المحدودة، وقادرة على تخطي حاجز اللغة البشرية اللي مش دايمًا بنقدر نعبر بيها عن صفات الله وأعماله وإدراكنا لها بشكل دقيق.
عشان كده الرسول بولس نفسه كان بيصلي لأهل أفسس إنهم يعرفوا “مَحَبَّةَ ٱلْمَسِيحِ ٱلْفَائِقَةَ ٱلْمَعْرِفَةِ” (أفسس ١٩:٣) وهنا نلاحظ ما يسمى بالـ تناقض ظاهري Paradox فبرغم إنها تفوق كل معرفة، إلا إنها يمكن معرفتها!
في السطور الباقية من المقال هنتكلم على نقطتين أساسيتين على الأقل أعتقد هيساعدونا نفهم إزاي التناقض في صلاة بولس ده ظاهري ومش حقيقي.
أولًا: الخلق على صورة الله واللغة البشرية
كتير ما بنسمع اعتراضات على طريقة: “إزاي لغتنا البشرية القاصرة تكون وسيلة مضمونة في الكلام عن الله في أمور العبادة والعقيدة والكرازة؟ إزاي نختزل معرفة الله المخلصة في كلمات بشرية قاصرة عن التعريف بالله غير المحدود؟
وللإجابة، ضروري جدًا وإحنا بنفكر في قضية قصور اللغة إننا نمتحن الفكرة نفسها قبل ما نرد عليها. كثير ما بنعجز عن إيجاد الكلام المعبر عن أفكارنا؛ لكن افتراض العجز ده في شخص الله تجديف، لسببين على الأقل!
أولهم إنه الله اللي خلق الإنسان على صورته ومثاله هو نفسه اللي اختار اللغة كوسيلة التواصل مع الإنسان في جنة عدن، وقبل السقوط. صحيح منقدرش نحدد أية لغة كانت، لكن الأكيد إنها كانت لغة منطوقة ومسموعة. وإن الله الخالق والمتواصل الأعظم اللي خلق الكون كله بكلمته “وقال الله” افترض في الإنسان الاستيعاب الكافي لفهم دوره في الخلق، واللي بنسميه التكليف الحضاري: “أَثْمِرُوا وَٱكْثُرُوا وَٱمْلأُوا ٱلْأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ ٱلْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى ٱلْأَرْضِ” (تكوين٢٨:١). وتكرر نفس الأمر في التحذير اللي وجهه الله لآدم قبل السقوط: “وَأَوْصَى ٱلرَّبُّ ٱلْإِٰلهُ آدَمَ قَائِلاً: مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ ٱلْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً، وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ ٱلْخَيْرِ وَٱلشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ.” (تكوين ١٧:١-١٨). ومرة أخيرة في الحوار اللي فيه كلم الرب آدم وبدأه بمناداة: “فَنَادَى ٱلرَّبُّ ٱلْإِٰلهُ آدَمَ وَقَالَ لَهُ: أَيْنَ أَنْتَ؟” (تكوين٩:٣).
وهنا لازم نفكر كويس، صحيح محور كلام الشيطان في غواية حواء وسقوط آدم كان تكذيب كلمة الله، والتشكيك في محبته باعتباره الخالق المُحب اللي مجده ومحبته كانوا الدافع من ورا تحذيره لآدم من الأكل من الشجرة. لكن مربط الفرس هو إنه ولا طرف من الأطراف اللي استجوبها الديان العادل قدر يبني حجته على “قصور اللغة” أو إن الرسالة مكانتش واضحة. آدم وحواء ألقوا باللوم على الله «ٱلْمَرْأَةُ ٱلَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي مِنَ ٱلشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ»، وعلى خليقته «ٱلْحَيَّةُ غَرَّتْنِي فَأَكَلْتُ». والحية صامتة بعد ما أفرزت سمها في البشرية!
مع ذلك، في أول محاكمة، وفي يوم الدينونة لم ولن يجرؤ أحد على إلقاء اللوم على قصور اللغة البشرية، وإن وسيلة التواصل في حد ذاتها هي المشكلة. بالعكس، دايمًا الشيطان والخطية يتعمدوا تحريف الكلام والتشكيك في صدق كلام الله ودوافعه.
لكن، ذي ما الدينونة كانت من خلال منطوق لغوي، رسالة البشارة الأولى كانت بمنطوق لغوي مفهوم ومسموع (تكوين ١٥:٣) وده اللي خلق رجاء في البشرية بمخلص من نسل المرأة. إنسان متكلم بالحق، وفادي محرر!
ثانيًا: تجسد الكلمة؛ الله الإنسان، واللغة البشرية
النقطة الأساسية الثانية هي “تجسد الكلمة“. والفكرة اللي ضروري نتوقف عندها هي الدور اللي بتلعبه اللغة البشرية في الإعلان عن شخص الله، ومعرفة الآب ومعرفة الابن الوحيد اللي خبر عن الآب (يوحنا ١٨:١).
معرفة الله الآب وابنه يسوع المسيح وصفها الرب في صلاته بأنها هي الحياة الأبدية: “وَهَذِهِ هِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلْأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنـْتَ ٱلْإِلَهَ ٱلْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ ٱلَّذِي أَرْسَلْتَهُ” (يوحنا ٣:١٧).
ولنا عدد من الملاحظات على الفكرة دي في الأصحاحات من ١٤- ١٦ من إنجيل يوحنا، والمعروفة بأحاديث الرحيل وفي الصلاة الأطول للابن الوحيد مع الآب السماوي في الأصحاح ١٧. نبدأ بأحاديث الرحيل.
أولًا، لاحظ إن في أحاديث الرحيل، عرفنا أن محبة المسيح ومحبة كلامه وجهين لعملة واحدة، وأن واحد من أهم أدوار الروح القدس إنه هيفكر الرسل بكلام الرب: “اَلَّذِي لاَ يُحِبُّنِي لاَ يَحْفَظُ كلاَمِي. وَٱلْكلاَمُ ٱلَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي، بَلْ لِلآبِ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي. بِهَذَا كَلَّمْتُكُمْ وَأَنَا عِنْدَكُمْ. وَأَمَّا ٱلْمُعَزِّي، ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ، ٱلَّذِي سَيُرْسِلُهُ ٱلْآبُ بِـٱسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْئٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ.” (يوحنا ٢٤:١٤-٢٦).
ثانيًا، الدور اللي لعبه الروح القدس بيوضح أكثر في الأصحاح ١٦، لما الرب بيقول عنه إنه مش بيتكلم من ذاته، بمعنى إنه مش بيقول كلام مختلف عن كلام الابن، وده اللي وصفه الابن لما قال إن الروح القدس بيمجد المسيح لأنه بياخد كلام الابن ويخبره للتلاميذ. تمام ذي اللي عمله الابن الوحيد لما أخبر عن الآب (راجع يوحنا ١٨:١).
لاحظ وصف المسيح لدور الروح القدس وتركيزه على دور اللغة والكلمة: «إِنَّ لِي أُمُوراً كَثِيرَةً أَيْضاً لأَقُولَ لَكُمْ، وَلَكِنْ لاَ تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا ٱلْآنَ. وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ ٱلْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ ٱلْحَقِّ، لأَنـَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ. ذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لأَنـَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ. كُلُّ مَا لِلآبِ هُوَ لِي. لِهَذَا قُلْتُ إِنـَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ.” (يوحنا ١٢:١٦-١٥)
لو سألنا: امتى الكلام ده حصل في إنجيل يوحنا نفسه؟ هنكتشف إن أكثر من مرة المسيح قال كلام، لم يستوعبه التلاميذ وقتها: “وَلَكِنْ لاَ تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا ٱلْآنَ” لكن في عشية يوم القيامة، نفخ المسيح في التلاميذ روحه: “فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: «سلاَمٌ لَكُمْ. كَمَا أَرْسَلَنِي ٱلْآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا». وَلَمَّا قَالَ هَذَا نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ: ٱقْبَلُوا ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ.” (يوحنا ٢١:٢٠-٢٢).
وبسبب قبولهم للروح القدس، بعد قيامة المسيح، كانوا بيسترجعوا كل اللي مقدروش يفهموه من كلام واستوعبوه مرة تانية، كمثال غير حصري، نقرأ في تاني أصحاح لما أتكلم المسيح عن نقض الهيكل وإقامة هيكل جديد في تلات أيام، يوحنا سجل اعتراض قادة اليهود، وعلق على كلام الرب كالآتي:
“فَقَالَ ٱلْيَهُودُ: «فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هَذَا ٱلْهَيْكَلُ، أَفَأَنـْتَ فِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ تـُقِيمُهُ؟» وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ. فَلَمَّا قَامَ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ، تَذَكَّرَ تلاَمِيذُهُ أَنـَّهُ قَالَ هَذَا، فَآمَنُوا بِـٱلْكِتَابِ وَٱلْكلاَمِ ٱلَّذِي قَالَهُ يَسُوعُ.” (يوحنا ٢٠:٢-٢٢).
وده كان أحد أهم أدوار الروح القدس مع التلاميذ. التذكرة بكلام الرب يسوع المسيح وفهمه في ضوء الصليب والقيامة.
باختصار الإعلان اللي أعلنه الثالوث؛ الآب تكلم في ابنه كلام شرح به شخصه وأعماله، والابن بدوره عمل وأخبرعن الآب. والكلام اللي صعب على التلاميذ استيعابه قبل صلب وقيامة المسيح، رجع الروح القدس وذكر التلاميذ به وبكده مجد المسيح. في كل ده، كان الله الثالوث، مفترض في اللغة إنها وسيلة كافية لتوصيل الحق الإلهي الضروري للحياة الأبدية والخلاص. وده اللي هيوضح أكثر في صلاة المسيح الختامية عن التلاميذ في يوحنا ١٧.
ثالثًا، الدلائل كتيرة على كون الله أسمى من محدودية اللغة، ولكنه في نفس الوقت بيقدر يستخدمها بكفاءة كافية بعمل الروح القدس في إنها توهب الإيمان بالمكتوب (رو١٧:١٠) ظاهرة ومتكررة في باقي صلاة المسيح. ركز كام مرة وصف المسيح كلامه بإنه حق! نصف الوصف اللي وصف بيه نفسه باعتباره الطريق والحق والحياة (يوحنا ٦:١٤).
أَنَا أَظْهَرْتُ ٱسْمَكَ لِلنَّاسِ ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ ٱلْعَالَمِ. كَانـُوا لَكَ وَأَعْطَيْتَهُمْ لِي، وَقَدْ حَفِظُوا كلاَمَكَ. وَٱلْآنَ عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَيْتَنِي هُوَ مِنْ عِنْدِكَ، لأَنَّ ٱلْكلاَمَ ٱلَّذِي أَعْطَيْتَنِي قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ، وَهُمْ قَبِلُوا وَعَلِمُوا يَقِيناً أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ، وَآمَنُوا أَنـَّكَ أَنـْتَ أَرْسَلْتَنِي… أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كلاَمَكَ، وَٱلْعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لأَنـَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ ٱلْعَالَمِ، كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ ٱلْعَالَمِ، لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ ٱلْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ ٱلشِّرِّيرِ. لَيْسُوا مِنَ ٱلْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ ٱلْعَالَمِ. قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كلاَمُكَ هُوَ حَقٌّ. كَمَا أَرْسَلْتَنِي إِلَى ٱلْعَالَمِ أَرْسَلْتُهُمْ أَنَا إِلَى ٱلْعَالَمِ…” (يوحنا ٦:١٧، ١٣-١٤، ١٧-١٨).
كلمات ختامية
- برغم محاولة البعض دق إسفين بين كون المسيح كلمة الله المتأنس وبين كلام الكتاب المقدس باعتباره كلام الله، إلا إن سياق الإنجيل نفسه، وشهادة الرب يسوع نفسه، وسياق العهد الجديد في الواقع بيتحدى المفهوم ده!
- أما عن ادعاء إن لا أحد لا يمتلك الحق المطلق، فدي مغالطة شهيرة معروفة باسم “مغالطة الرجل القش” أو “خيال المآتة” لإن الحق في المسيحية هو شخص المسيح فعلًا ولا يمكن لأحد يدعي امتلاكه لشخص الله، لكن السؤال الأهم ومربط الفرس: “إزاي المسيح الحق عرفنا عن نفسه ومنحنا الحياة الأبدية بمعرفته؟” الإجابة الوحيدة، هي من خلال الكلام اللي أعطاه كوديعة للتلاميذ رسل المسيح وذكرهم الله الروح القدس بها. وعلى أساس الرسل ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية أسس الرب كنيسته (أفسس ٢٠:٢). للدرجة اللي بها يوصف الرسول بولس الكنيسة بكونها: “…بيت الله، الذي هو كنيسة الله الحي عامود الحق وقاعدته.” (١تي ١٥:٣).
- نفس الكلام يكرره الرسول يوحنا في افتتاحية رسالته الأولي: “ٱلَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نـُخْبِرُكُمْ بِهِ، لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضاً شَرِكَةٌ مَعَنَا. وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ ٱلْآبِ وَمَعَ ٱبْنِهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. وَنَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هَذَا لِكَيْ يَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً.” (١يوحنا ١:١-٤) أهمية النص ده في رسالة يوحنا إنه بيكمل نفس سياق يوحنا ١٤-١٦، وصلاة المسيح. لكن بيضيف عليه بداية عنصر تدوين الوحي، وكأنه بيقفل الدائرة بشكل محكم ضد أي حد بيقلل من دور اللغة واعتبار كلام الرسل المدون في الوحي هو الطريقة الوحيدة اللي من خلالها يكون لنا شركة مع الثالوث: الآب والابن والروح القدس. لو الكلام غير كافي لشرح كل ما هو ضروري للخلاص، فالبديل هو هلاكنا، وفشل الله في اختيار طريقة كافية للخلاص. وحاشا لله الثالوث، والإله المتكلم من هذا الادعاء.
- كون اللغة صناعة بشرية فكرة تحتاج مراجعة. ليه ما نفكرش إن اللغة عطية إلهية للبشر، وبعد من أبعاد الخلق على صورته ومثاله باعتباره الله المتكلم واللي خلق العالم بكلمته “كن فيكون”؟ الكتاب المقدس لا يحكي عن مرحلة تواصل ما قبل اللغة بين الله والإنسان، فإله الكتاب المقدس إله متكلم من بدء الخلق. وحتى لما يتداخل في أحداث التاريخ البشري، يتولى بشكل واضح تفسير مضمون الأحداث من خلال كلامه لأنبيائه. حتى لو كاتب العبرانيين بيعلمنا إن الله كلمنا بأنواع وطرق كتيرة، لكن كانت اللغة والشريعة هي الأساس اللي بيرجع يوجه الإنسان له. وفي الأيام الأخيرة كلمنا في ابنه، واللي ذي ما ناقشنا في المقال، كان مُعلم متكلم واثق من أدواته اللغوية، وسلم الوديعة لرسله اللي هينقلوا التعليم من جيل لجيل، إلي مجيئه الثاني (عبرانيين ١:١-٢؛ مع متى ١٨:٢٨-٢٠؛ ٢تيموثاوي ٢:٢).
- عزيزي القارئ، يمكن سمعت قبل كده عن المثل الصيني الشهير اللي بيقول: “صورة أبلغ من ألف كلمة.”، بالرغم من بلاغة الصورة، إلا أننا محتاجين الألف كلمة عشان نقدر نفهم قصد الفنان الذي رسم الصورة! وده اللي عمله الخالق والفادي لما شاف إزاي الإنسان رأس خليقته انحرف وتعدى كلمته. فواحدة من أقدم التشبيهات للقديس أثناسيوس في كتابه “تجسد الكلمة” عن الله هو كونه الفنان خالق العالم كلوحة بديعة تشوهت ملامحها بسبب السقوط، واللي مكانش ممكن إصلاحها إلا من خلال الفنان الأصلي. وبكده كان الكلمة المتأنس هو الرسام المبدع. مكانش مجرد الله اللي كان يجول يصنع خيرًا ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس بشكل مؤقت. لكنه كان مصمم على خلق العالم من جديد، وكانت حياته وموته عنا لما حمل عقاب خطايانا وقيامته عمل مصالحة واسترداد وتمجيد للإنسان والخليقة كلها هتتمجد معها…. الكلمة الخالق هو هو الكلمة الفادي واللي فيه الله صالحنا لنفسه، ولمجده في المقام الأول (أف ١:١-١٤)
- مرة أخيرة أقول: في كل عمله الخلاصي كان المسيح يعمل ويعلم، وكان هو نفسه اللي بيشرح بكلمات اللغة البشرية ويشرح للرسل مغزى مجيئه وشخصه وعمله، حتى صليبه وقيامته وصعوده ومجيئه الثاني، كل ذلك من خلال وديعة كلمته المقدسة المعصومة للتلاميذ القادرة أن تحكمنا للخلاص الذي في المسيح يسوع (يعقوب٢١:١) …. أي أدعاء آخر يقلل من وضوح اللغة للدرجة اللي بيها منقدرش نعرف الله معرفة خلاصية اختبارية، نقدر من خلالها نفهم محتوي الإنجيل اللي بشر به الرسل من جيل لجيل ونعلم ونتلمذ به المؤمنين بوضوح، هو للأسف ادعاء بحتمية فشل المسيح في تحقيق أهداف إرساليته وإرسالية تلاميذه (يوحنا ١٧؛ متى ١٨:٢٨-٢٠)! وهو ادعاء لا أتصور أن يقبله مسيحي يحترم كلمة الله!
نعم لنا كل الثقة في ادعائنا أننا نعرف الحق، لكنه ليس اعتراف المتكبر بامتلاكه الحق المطلق، بل بالنعمة التي وهبها الله لكن من شاء فولدهم الله بكلمة الحق. فالمعرفة قبل كل شيء علاقة عهدية، ومن خلال كلمة عهده الذي ختمه بدم نفسه، ضمن لنا معرفته كأبناء لله مولودين منه. ألا يستحق هذا الخالق كل العرفان والسجود…ألا يستحق أن نصغي لكلامه كأننا في حضرة المسيح؟!
[1] كاتب المقال يدين بالفضل للاهوتي د. مارك طومسون في تناوله الثاقب والمختصر لنفس الموضوع في كتيب بعنوان
“Too Big for Words? The Transcendence of God and Finite Human Speech.” By Mark D. Thompson. Latimer Studies 63.