كثيرًا ما يوجّه البعض اتهام للمُصلحين الكالڤينيين بأنهم لم يهتموا بالكرازة، وبأن العمل المُرسليّ، وزرع وتأسيس الكنائس ما هي إلا أمور ثانويّة لديهم. ورغم أن هذا النقد ليس بجديد، إلا أنني بدأت أتعلّم مؤخرًا عن مَدى حماسة وتأثير المُصلحين الأوائل في الكرازة والإرساليات وزرع الكنائس.
في هذا المقال، سأركّز الضوء بشكلٍ خاص على مدى غيرة وحماسة جون كالڤن للعمل المُرسليّ وزرع الكنائس. فمثلًا في عظته، “الدعوة للشهادة”، حول تيموثاوس الثانيّة 1: 8-9، يقول:
إذا لم يُكرز بالإنجيل، فيسوع المسيح مدفون، إن جاز التعبير. لذلك، دعونا نقف كشهود، ونُكرمه، عندما نرى العالم كله بعيدًا عن الطريق، ونظل راسخين في هذه العقيدة النافعة… ولنُلاحِظ هُنا أن القديس بولس يدين جحودنا، إذا كُنا غير أمناء لله، ولم نشهد لإنجيله؛ إذ قد دعانا إليه.
إعداد المُرسَلين
في خمسينيات القرن الخامس عشر، تضاعف عدد سكان جنيڤ بسبب تَدَفُق اللاجئين، خاصةً النازحون من فرنسا. وكثير منهم كَبرَ وتَتلمذ على عِظات كالڤن الذي كان يعظ خمس مرات اسبوعيًا. شيئًا ما حدث لعددٍ مِن هؤلاء اللاجئيين الفرنسيين. فبينما كانوا يستمعون لعظات كالڤن، اشتعلت وتحركت قلوبهم لأجل وطنهم. وتاق الكثير منهم للعودة إلى فرنسا مِن أجل الكرازة بالإنجيل. وقد وافق كالڤن على إرسال بعضهم إلى فرنسا، لكنه عَمل على تدريبهم اولًا. فقد قال لهم: “المُبشِّر الجيد هو لاهوتيّ جيد.” وقد دَربهُم على الوعظ، وقام بتعليمهم مبادئ علم اللاهوت، كما عمل على تقييم صفاتهم الأخلاقية للتأكد مِن أنهم مؤهلون ليكونوا خُدام للإنجيل.
المتابعة الرعوّيّة
ولكن لم يكتف كالڤن بتدريبهم فقط، ولكنه أيضًا دعّمهم بالمال، وأرسلهم لفرنسا. وحتى بعد أن أرسلهم، ظل يتواصل معهم بشكلٍ دائم. فنحن لدينا اليوم آلاف الرسائل المُتَبادلة بين كالڤن وأولئك المُرسَلين. فلم يكونوا بالنسبة لكالڤن مُجرّد حُلى للتزيين، وإنما كانوا إخوته في المسيح. فعندما كانوا يواجهون المشاكل، كانوا يبعثون لكالڤن ليسألوه: “ماذا علينا أن نفعل؟” وقد شجّع فرانك جيمس الرُعاة، في إحدى حلقات برنامجه الإذاعيّ “كالڤن الذي لم أعرفه مِن قبل”، على ضرورة أن يظلوا على تواصل مع مَن يُرسلونهم للكرازة، بقوله: “يجب أن تكون على اتصالٍ وثيق بالمُرسَلين. فإذا قمت بذَلِك ستكون كالفينيًا جيدًا.”
زرع الكنائس
بحلول عام 1555، كان كالڤن وتلاميذه قد زرعوا خمس كنائس في فرنسا. وبعد أربع سنوات أخرى، وصل عدد الكنائس التي زرعوها في فرنسا إلى مئة كنيسة! بحلول عام 1562، كانت مدينة جنيف (حيث كان يُقيم كالڤن) قد قامت بزرع ما يقرُب مِن 2000 كنيسة في فرنسا، بمساعدة بعض المدن الإنجيليّة الأخرى.
كان كالڤن هو رائد زرع الكنائس في أوروبا. وقد قاد الطريق أمامنا في معرفة كل مرحلة من عمليّة زرع الكنائس: فقد درّبهم، وقام بتقييمهم، وأرسلهم، ورعاهم وظل على تواصلٍ معهم، وظل يصلي لأجل المُرسَلين الذين أرسلهم.
في السنوات العشر الأخيرة من حياة كالڤن، كانت الإرساليات هي شغله الشاغل. وقد عبّرت إحدى كنائس فرنسا في مدينة “برجراك” عن فرحها بالعمل الذي قام به جون كالڤن، بقولها:
تُوجد في منطقتنا الآن حركة روحية، بفضل نعمة الرَّب، طُرِد على إثرها الشيطان مِن أغلب المناطق، وأصبحنا قادرون على توفير خُدام لأنفسنا [فقد تمكنت الكنائس الآن من الامتداد لزرع المزيد من الكنائس في المنطقة]. وعددنا يتزايد يومًا بعد يوم، وقد أثمر الرَّب عمله لدرجة أنه في خِدمة يوم الأحد، يأتي للعبادة ما بين 4000 إلى 5000 شخص.
رسالة أخرى مِن كنيسة في مدينة مونبلييه تُعبر فيها عن فرحها بعمل الرَّب في فرنسا: “لقد نَمت كنيستنا، بفضل الرَّب، ومازالت تنمو بشكلٍ يوميّ حتى وصلت الأعداد إلى ما بين خمسة آلاف وستة آلاف شخصٍ، حتى أننا مضطرون لإقامة ثلاث خدمات يوم الأحد.”
وقد كتب قِس آخر مِن مدينة تولوز بفرنسا إلى مجلس كنائس جنيف: “كنيستنا نَمت بشكل مُذهِل، ليصل العدد إلى ما بين ثمانية آلاف وتسعة آلاف نفس.”
ولم يكتف كالڤن ومدينة جنيف بإرسال مُرسلين إلى فرنسا فقط، ولكن أيضًا إلى إيطاليا وهولندا والمجر وبولندا وإلى مُدن الحُكم الذاتيّ في أرجاء الإمبراطوريّة الرومانيّة المُقدّسَة في ألمانيا. حتى أننا نعرف مُرسَلَين أُرسلا من جنيف إلى البرازيل عام 1557.
وكما قال كيث كولمان عن كالڤن: “لم تكن الإرساليّات التبشيريّة جزءًا من لاهوته النظاميّ، بل مركزية فيما كان يحاول تحقيقه في خدمته.”
إن الإرساليات وزرع الكنائس ليست أمرًا ثانويًا في حياة الإنجيليين المُصلَحين، ولكنها جزءًا لا يتجزأ مِن التزام حركة الإصلاح الذي مركزه الله لنشر رسالة الإنجيل إلى أقصى الأرض.