التعريف
كانت نظرة يسوع للكُتُب المقدَّسة مُشابِهَة لنظرة مُعَاصِرِيه، أي قبول أصلها الكامل الأُلُوهِيَّة وموثوقيَّتها وسُلطَانها في حياتنا، لكنَّها كانت مختلفة على نحوٍ ملحوظ أيضًا، أي رؤية إدانتها للنَّعْرَة العِرْقِيَّة وطبيعتها الكريستولوچِيَّة وآثارها على شرائع الطهارة اللَّاوِيَّة.
الموجز
نرى في نظرة يسوع للعهد القديم كلمة الله إلى العالم، مثلما يَتَّضِح من استشهاده بمجموعة واسعة من النصوص، حتَّى لو لم يَكُنْ ذلك دائمًا بِطُرُقٍ كان مُعَاصِروه اليهود سَيَتَّفِقون معها. ما لا نراه في تعاليم المسيح المبنيَّة على الكتاب المقدَّس الخاص بِشَعْبِهِ هو أي شيء من شأنه أن يُشير إلى قانون داخل قانون، أي اعتبار أجزاء مُعَيَّنة فقط من الكتاب المقدَّس ذات سُلطَان. من المُؤَكَّد أنَّ يسوع، مثل غيره من الرَّبِّيِّين، يستطيع أن يُمَيِّز أنَّ بعض الأسفار مركزيَّة أكثر من غيرها وأن يُفَرِّق بين أجزاء الكتاب المقدَّس الأَخَفّ والأَثْقَل (مَتَّى 23: 23 والمقطع الموازي)، ولكن يَظَلُّ الكتاب المقدَّس كله مُوحًى به، وشرائع الله كلها يجب طاعتها. في الوقت ذاته، لا يمكن طاعة أيٍّ من هذه الشرائع حتَّى نرى كيف غَيَّرَ وصول عهد المسيح الجديد الأمور.
على مدار تاريخ الكنيسة، قَلَّل العديد من المسيحيِّين من قيمة كُتُب العهد القديم، ومع ذلك فإنَّهم يُعلِنون أنَّهم يتبعون يسوع رَبًّا لهم؛ لذلك تُعَدُّ دراسة نظرة يسوع لهذه الكُتُب المقدَّسة أمرًا مِحوَرِيًّا إذ إنَّها ينبغي أن تُشَكِّل تعامُل المؤمنين مع الأرباع الثلاثة الأولى من كتابهم المقدَّس.
أوجُه التَّشَابُه بين يسوع ومُعَاصِرِيه
من نواحٍ كثيرة، كانت نظرة يسوع إلى الكُتُب المقدَّسة الخاصَّة بِشَعْبِهِ ستتماشى تمامًا مع مواقف رفاقه اليهود. يبدو أنَّ يسوع قد تَبَنَّى نَفْس هيكل الوثائق ذات السُّلطَان مثل يهوديَّة عَالَمِهِ، فهو يقتبس من الأقسام الرئيسيَّة الثلاثة للكتاب المقدَّس العبري (الناموس والأنبياء والكتابات)، ومن الأنواع الرئيسة الثلاثة للشرائع، كما سَيُعَرِّفها المسيحيُّون لاحقًا (الأخلاقيَّة والمدنيَّة والطقسيَّة)، وهو يُلَمِّح إلى المزيد أيضًا من النصوص ويتعامل معها باستمرار على أنَّها ذات سُلطَان بالنسبة له ولجمهوره (يوحنَّا 10: 35). يرى يسوعُ اللهَ بصفته المُؤَلِّف النهائي للكتاب المقدَّس، وينظر إلى كلمات الكتاب المقدَّس بصفتها كلمات الله.
يسوع وتاريخيَّة العهد القديم
يبدو أنَّ يسوع نظر إلى روايات العهد القديم على أنَّها تاريخيَّة، فكثيرًا ما يستشهد يسوع بالأحداث في حياة الأفراد الرئيسيِّين في العهد القديم لدعم تعليمه أو تبرير سلوكه، فيمكنه أن يُسَلِّم بأنَّ مُستَمِعيه يُشاطِرونه قناعته بأنَّ هذه الأمور حدثت بالفعل وأنَّها سُجِّلَت كي تُقَدِّم لشعب الله في العصور اللاحقة نماذج ذات سُلطَان للسلوك الجَيِّد والسَّيِّئ. على سبيل المثال، يَتَذَكَّر يسوع أولئك الذين اضطهدوا أنبياء الله في الأزمنة الماضية (مَتَّى 5: 12 والمقطع الموازي)، ويستشهد بِصُورَ وَصَيْدَاءَ وسَدُومَ كنماذج لمُدُنٍ شريرة قديمة (11: 21-24 والمقطع الموازي)، ويَقبَل أنَّ يونان بَقِيَ على قَيْد الحياة في بطن الحوت وواصل لينادي لنِينَوَى التائبة، ويعتقد أنَّ مَلِكَة سَبَا عاشتْ بالفعل وزارتْ سُلَيْمَانَ (12: 40-42 والمقطع الموازي)، ويُشير إلى الماضي إلى أيام نوح ثُمَّ أيام لوط والدمار الكارثي الذي حدث حول كُلٍّ منهما (24: 37-39 والمقطع الموازي)، ويَتَأَمَّل في خِدْمَتَيْ إِيلِيَّا وأَلِيشَعَ (لوقا 4: 25-27)، ويستشهد بقصة نَصْب موسى حَيَّةً مِنْ نُحَاسٍ في البَرِّيَّة (يوحنَّا 3: 14)، ويعتقد أنَّ الله وَفَّر الْمَنَّ لبني إسرائيل خلال فترة التِّيه هذه عَيْنها (6: 32، 49، 58)، وأخيرًا، يفترض الحقيقة التاريخيَّة لقطاع عريض من روايات العهد القديم عندما يُصدِر التصريح الجَامِع بأنَّ جيله سوف يختبر كل الدينونة المُستَحَقَّة لأجل “كُلُّ دَمٍ زَكِيٍّ سُفِكَ عَلَى ٱلْأَرْضِ، مِنْ دَمِ هَابِيلَ ٱلصِّدِّيقِ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا بْنِ بَرَخِيَّا” (مَتَّى 23: 35؛ راجِعْ لوقا 11: 50، 51).
يسوع ونُبُوَّات العهد القديم
في حالات أخرى، يَتَّبِع يسوع نَفْس النَّهْج الذي كان سَيَتَّبِعه مُعاصِروه من خلال النظر إلى النُّبُوَّة غير المُحَقَّقَة بصفتها روايةً ذات سُلطَانٍ وحقيقيَّة لِمَا لا بُدَّ أن يحدث بَعْدُ في المستقبل؛ ولذلك، لا بُدَّ أن يكون هناك بَعْدُ “«رِجْسَةَ ٱلْخَرَابِ» … قَائِمَةً حَيْثُ لَا يَنْبَغِي” (مرقس 13: 14)، تدنيس هيكل أورشليم (راجِعْ مَتَّى 24: 15؛ لوقا 21: 20) الذي كَرَّر أهوال ما جاء في (دانيال 9: 27 و11: 31 و12: 11)، ويدرك يسوع أنَّ ما وَرَدَ في (هوشع 10: 8) لا بُدَّ أن يحدث بَعْدُ عندما سيرغب الناس في إنهاء بؤسهم من ضيق هذا العالم بسقوط الجبال عليهم وقتلهم (لوقا 23: 30)، ويتصوَّر اضطرابات كَوْنِيَّة عند عودته، مُستَخدِمًا الصور الموجودة في (إِشَعْيَاءَ 13: 10 و34: 4) للقيام بذلك (مرقس 13: 24 والمقطع الموازي)، ويَتَوَقَّع أيضًا وليمةً قادمةً في أزمنة النهاية لكل شعب الله من كل العالم (مَتَّى 8: 11، 12 والمقطع الموازي) بناءً على (إِشَعْيَاءَ 25: 6-8).
أوجُه الاختلاف بين يسوع ومُعَاصِرِيه
مع ذلك، فإنَّ فَهْم يسوع وفَهْم مُعَاصِرِيه اليهود للعهد القديم لا يتطابقان تمامًا، فبالرغم من وجود الكثير من أوجُه التَّشَابُه بين منظوره ومنظورهم، فإنَّه غالبًا ما يقتبس من الكتاب المقدَّس ضد المصادر التفسيريَّة أو مجموعات المصادر التفسيريَّة الرئيسيَّة، ففي بعض الأحيان يُجادِل يسوع بأنَّ مُعَاصِرِيه اليهود فاتهم المعنى أو الغرض الأصلي للنَّصِّ من خلال تقليد تشويهه أو إساءة تفسيره، وفي بعض الأحيان يَتَحَدَّى يسوع صراحةً أولئك الذين يتحدَّث معهم بادِّعاء أنَّهم تجاهلوا أو حتَّى عَصَوْا التعليم الواضح لنَصٍّ مُعَيَّنٍ في الكتاب المقدَّس. على سبيل المثال، في نهاية النسخة الأطول التي يُقَدِّمها إنجيل مَتَّى لدعوة لَاوِي/مَتَّى، يُضيف يسوع الأمر القائل: “فَٱذْهَبُوا وَتَعَلَّمُوا مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لَا ذَبِيحَةً” (مَتَّى 9: 13)، فيستطيع يسوع أن يفترض مُسَبَّقًا أنَّ خصومه الدينيِّين يَكُنُّون نفس القدر الكبير من الاحترام الذي يَكُنُّه هو للكتاب المقدَّس، مُعتَرِفين بِصِدْقِ الكتاب وسُلطَانه، لكن في هذا السياق، يَظَلُّ تطبيق يسوع أكثر راديكاليَّة، حيث إنَّ الكتاب المقدَّس العبري لم يُشِرْ أبدًا إلى أنَّ نظام الذبائح سَيَتِمّ التَّخَلِّي عنه عندما تَضَمَّن أقوالًا مثل هذه (هوشع 6: 6؛ راجِعْ 1صموئيل 15: 22؛ إِشَعْيَاء 1: 11)، فَقَد كانت عبارة “س لا ص” تعني “س أكثر بكثير من ص“، غير أنَّ يسوع يغفر للخطاة ويقبلهم أتباعًا (مرقس 2: 15ب) دون أي إشارةٍ إلى أنَّهم بحاجةٍ إلى تقديم ذبائح حيوانيَّة في الهيكل، وفي هذا المُنعَطَف، لا يلتزم سلوك يسوع قَطْعًا بالتفسير القياسيّ للممارسات المنصوص عليها في الكتاب المقدَّس.
يسوع وإدانة النَّعْرَة العِرْقِيَّة في العهد القديم
كثيرًا ما يفهم يسوع أنَّ الكُتُب المقدَّسة تَتِمُّ فيه أو في الأحداث التي ينخرط فيها. في بعض الأحيان، كانت هذه الكُتُب المقدَّسة تَنَبُّؤات مباشرة بأمور قد حدثت الآن بالفعل، لكن الأكثر شيوعًا بكثير هو أنَّها تُمَثِّل تَيْبُولُوچِي، أي تمييز أنماط في التاريخ يُعلِن فيها الله طُرُقه المُمَيَّزة والمُتَكَرِّرة مع البشر، خاصَّةً في تخليصهم أو إدانتهم؛ ومن هنا يقتبس يسوع ميخا تَيْبُولُوچِيًّا في (مَتَّى 10: 35، 36 والمقطع الموازي) لكي يُؤَكِّد أنَّ تلاميذه قد يواجهون عَدَاءً ومقاومةً في عائلاتهم، تمامًا كما كان الحال في أيام ميخا. غير أنَّ تَيْبُولُوچِي يسوع يَظَلُّ راسخًا في أحداث تاريخيَّة؛ لذلك نادرًا ما كان تلاميذه سيجدون هذا النوع من تطبيق الكتاب المقدَّس أمرًا غير عادِيّ. ينطبق الشيء ذاته على استخدام يسوع (إِشَعْيَاء 6: 9، 10) كسببٍ للتَّحَدُّث إلى جيله بالأمثال (مرقس 4: 11، 12 والمقاطع الموازية)، وبالمثل على إعادة تطبيقه (إِشَعْيَاء 29: 13) على العبادة المُرَائِيَة للقادة الدينيِّين في أيامه (مرقس 7: 6ب-7). كذلك أيضًا، إنَّ استخدام يسوع عبارة “مَغَارَةَ لُصُوصٍ” في (مرقس 11: 17ب) يُعيد تطبيق اللقب الذي أعطاه إرميا لسياق القادة الفاسدين في أيامه (إرميا 7: 11)، وفي هذه الحالة، اقتبس يسوع للتَّوِّ (إِشَعْيَاء 56: 7) بخصوص أن يُصبِح الهيكل بَيْتَ صَلَاةٍ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ (مرقس 11: 17أ)، وهي السِّمَة المُضَمَّنَة بالفعل باحتواء الهيكل على “دار الأمم”، ولكنَّها ستكتسب أهميَّة إضافيَّة في العصر المَسِيَّاني عندما تَحُجُّ شعوب العالم إلى أورشليم بأعداد مُنقَطِعَة النظير لعبادة إله إسرائيل.
يسوع والطبيعة الكريستولوچِيَّة للعهد القديم
غالبًا ما يُفَسِّر يسوع الكتاب المقدَّس كريستولوچِيًّا، حيث يرى التَّنَبُّؤات المباشرة والتَّيْبُولُوچِيَّة تُشير إليه بصفته المَلِك المَسِيَّاني الذي وصل حديثًا، وحتَّى عندما لا يخدم استخدامه للكتاب المقدَّس الكريستولوچِي بشكل مباشر، فإنَّ سُلطَانه السيادي على الكتاب المقدَّس يُثير ضِمنِيًّا على الأقل السؤال حول مَنْ يكون، أو على الأقل حول مَنْ يَظُنُّ نفسه أن يكون. يَبلُغ هذا النَّهْج ذُروَته بعد موت يسوع وقيامته عندما يُعلِن في (لوقا 24: 44) أنَّه “لَابُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَٱلْأَنْبِيَاءِ وَٱلْمَزَامِيرِ”. تُمَثِّل المزامير هنا الكتابات بشكل عام، حيث يُشير يسوع إلى الأجزاء الرئيسيَّة الثلاثة لقانون الكتاب المقدَّس العبري، وهي المرَّة الوحيدة في كل العهد الجديد التي يُذكَر فيها الأجزاء الثلاثة معًا. من المُهِمِّ أن نلاحظ أنَّ المسيح لا يقول إنَّ كل شيء في الكتاب المقدَّس بأكمله يُشير إليه، مثلما قال بعض المسيحيِّين بشكل دوري عَبْر تاريخ الكنيسة، فلا تُعَلِّم كل آية أو مقطع من سفر التكوين إلى سفر ملاخي شيئًا عن المسيح، وإنَّما يقول يسوع إنَّ كل ما كان مقصودًا أن يُشير إليه في كل جزء من الكتاب المقدَّس يَتِمُّ بالفعل. في الواقع، لقد أكَّد يسوع ذلك بالفعل في (لوقا 24: 27) الذي يُشير فيه إلى الكتاب المقدَّس العبري بتقسيمه الثُّنَائيّ الأبسط إلى الناموس والأنبياء: “ٱبْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ ٱلْأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا ٱلْأُمُورَ ٱلْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ ٱلْكُتُبِ”، لكن إذا كان هذا هو مُلَخَّص محادثته المُمتَدَّة مع كِلْيُوبَاس ورفيقه الذي لا يُذكَر اسمه في الطريق إلى عِمْوَاس، فمن المُؤَكَّد أنَّه وجد عددًا لا بأس به من المقاطع في جميع أنحاء العهد القديم ليشرحها.
يسوع وشرائع الطهارة في العهد القديم
في الوقت ذاته، هناك لحظات يبدو فيها أنَّ يسوع يَقلِب إتمام وتطبيق الشرائع اللَّاوِيَّة بالكامل. لَعَلَّ الأمر الأكثر إثارة على الإطلاق هو أنَّ يسوع أسَّس السَّابِقَة لإعلان أنَّ كل الأطعمة طاهرة، والذي يُعَدُّ خروجًا صريحًا عن شرائع الطعام في سفر اللاويِّين، ففي (مرقس 7: 14، 15 والمقطع الموازي)، يدعو يسوع الجَمْع الذي يستمع إليه إلى إدراك أنَّه “لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ ٱلْإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، لَكِنَّ ٱلْأَشْيَاءَ ٱلَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ ٱلَّتِي تُنَجِّسُ ٱلْإِنْسَانَ”، وحتَّى إنْ كان يسوع يتحدَّث مجازيًّا إلى حَدٍّ ما (ومن هنا جاءت الإشارة إلى “ٱلْمَثَلِ” في آية 17)، فإنَّ المعاني الضِّمْنِيَّة واضحة نسبيًّا. لكن لماذا يحتاج التلاميذ إلى مزيد من التفسير؟ على الأرجح لأنَّهم لم يستطيعوا أن يتخيَّلوا أنَّ يسوع كان يفعل شيئًا كاسِحًا وراديكاليًّا مثل إلغاء شرائع الطعام اليهوديَّة (الكُوشِر)، فبطرس نفسه كان لا بُدَّ أن يرى رؤيا اللحم النَّجِس والرب الذي يأمره ثلاث مرَّات أن يأكله قبل أن يقتنع، ومن الممكن جِدًّا أنَّ يكون هذا الأمر قد حدث بعد عشر سنوات أخرى أو نحو ذلك (أعمال الرسل 10: 9-16)، ولكنَّ مَرْقُس، الذي يكتب كما تُخبِرنا الكنيسة الأولى من منظور بطرس، يمكنه النظر إلى الوراء بعد ذلك بعشرين سنة أخرى أو أكثر ويدرك أنَّ يسوع كان بالفعل يُطَهِّر كل الطعام (مرقس 7: 19ب).
يسوع وتَكْمِيل العهد القديم
رُبَّما يكون المقطع الأكثر أهميَّة لفهم نظرة يسوع العامَّة للعهد القديم هو (مَتَّى 5: 17-20)؛ لذلك فمن المِحوَرِيّ تفسير هذا النَّصِّ بشكل صحيح عند تجميع أوجُه التشابه والاختلاف بين يسوع واليهود الآخرين حول هذا الموضوع. يبدأ يسوع بإنكار أي شكل من أشكال التُّهْمَة بأنَّه يَنْقُض أي جزء من الكُتُب المقدَّسة العبريَّة (“ٱلنَّامُوسَ أَوِ ٱلْأَنْبِيَاءَ”، آية 17أ)، ويُضيف بشكل قاطع أنَّه لا يمكن أن يزول أصغر جزء من الكُتُب المقدَّسة قبل أن يزول هذا النظام العالمي الحاليّ (آية 18)، وأنَّ مَنْ يتجاهل أو يُزِيل حتَّى أصغر وصايا الكتاب المقدَّس من أتباعه، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مُلْك الله (آية 19).
ومع ذلك، فإنَّ كل هذا لا يقترب إلى حَدِّ إثبات أنَّ يسوع كان يعتقد أنَّ تنفيذ الناموس يَظَلُّ دون تغيير بمجيئه، فكما رأينا للتَّوِّ، لقد أعلن يسوع مغفرة الخطايا لأفراد بِمَعْزِلٍ عن تقديمهم ذبائح حيوانيَّة في الهيكل (مرقس 2: 5 والمقاطع الموازية؛ لاحِظْ رَدَّة الفعل المُسْتَثَارَة في الآيتَيْن 6، 7 والمقاطع الموازية)، وقد وَضَعَ السَّابِقَة لفهم أنَّ كُلَّ الأطعمة الآن صالحة للأكل (كُوشِر). أعلن يسوع أيضًا عن الوصول الوشيك لعصر لن يَعُودَ فيه الهيكل في أورشليم مُقَدَّسًا بشكل فريد (يوحنَّا 4: 21-24)، وتَحَدَّى شرائع السبت بِطُرُقٍ تجاوزت مُجَرَّد اتِّهام القادة الدينيِّين في أيامه بتفسيرات ناموسيَّة، لكنَّه قال إنَّه من المناسب دائمًا فِعْل الخير في السبت (مرقس 3: 4 والمقطع الموازي). لا ينبغي لنا أن نَتَفَاجَأ بملاحظة إذًا أنَّ المسيح بعد إعلانه أنَّه لم يأتِ لِيَنْقُضَ التَّوْرَاةَ، لا يقول العَكْس المُتَوَقَّع، أي أنَّه جاء ليُحافِظ عليها دون تغيير؛ بل يَتَحَدَّث يسوع عن تَكْمِيلها/إتمامها (آية 17ب)، وهو نَفْس الفعل الذي استُخدِم حتَّى الآن سِتَّ مرَّات في إنجيل مَتَّى (بْلِيرُو؛ 1: 22؛ 2: 15، 17، 23؛ 3: 15؛ 4: 14) للدلالة على وقوع حَدَثٍ كان الكتاب المقدَّس قد أشار، سواءٌ حرفيًّا أو تَيْبُولُوچِيًّا، إلى حدوثه مُسْتَقْبَلًا، وهذا ينسجم تمامًا مع العبارة الزمنيَّة الواردة في آية 18: “حَتَّى يَكُونَ [يَتِمَّ] ٱلْكُلُّ”. كُلُّ ما هو مطلوب للتكفير الكامل عن خطايا البشريَّة تَمَّ من خلال عمل المسيح على الصليب.
وهذا يعني أنَّه في حين أنَّ شرائع الذبائح في سفر اللاويِّين تَظَلُّ جزءًا من الكتاب المقدَّس المُوحَى به بالنسبة للمؤمنين، فلا ينبغي طاعتها حرفيًّا، حتَّى لو أُقيم مرَّةً أخرى هيكل فِعْلِيّ في أورشليم، بل ينبغي أن تُذَكِّرنا بذبيحة يسوع التي قُدِّمَت مَرَّةً واحدة وإلى الأبد. لقد وَلَّى بالمثل زمن فَصْل إسرائيل عن الأمم بمجموعة متنوعة من السياقات الطقسيَّة أو الاحتفاليَّة؛ بل يبذل يسوع جُهدًا مُضَاعَفًا للترحيب بـ “الخطاة” من أنواع كثيرة، بما في ذلك الأمم، إلى شَرِكَةٍ معه بعيدًا عن شرائع التَّوْرَاة (اُنظُرْ، الأكثر إثارة، مَتَّى 8: 5-13 والمقطع الموازي). لكنَّ حفظ الناموس الأخلاقي ينبغي أن يَظَلَّ يفصل سلوك المؤمنين عن أولئك الذين يسلكون لا أخلاقيًّا.
مَنْ يستطيع أن يتكلَّم بمثل هذا السُّلطَان عن ناموس الله المقدَّس والكامل وغير القابل للتغيير؟ فقط مَسِيَّا إلهيٌّ، إذ إنَّ مثل هذه الادِّعاءات بالنسبة لأي شخصٍ آخر كانت سَتُعَدُّ تجديفًا شنيعًا، وهنا يَكمُن الفرق الأكبر بين آراء يسوع حول العهد القديم وآراء بقيَّة مُعَاصِرِيه. يُؤَكِّد يسوع هذا الأمر بإلحاق (مَتَّى 5: 17-20) مباشرةً بما يُسَمَّى “التَّنَاقُضَات”، وهي تصريحات حول الاختلافات بين ما يفهم مُستَمِعو يسوع أنَّه صحيح عن التَّوْرَاة وبين ما يُعَلِّمه يسوع. قَصَرَ البعض هذه الاختلافات على اختلافات في التفسير؛ خاصَّةً لأنَّ التَّنَاقُض الأخير لا يقتبس في الواقع من الناموس، بل يقتبس فقط من سوء فهمه (“سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ”، آية 43). علاوةً على ذلك، فإنَّ نواهي يسوع عن الغضب والشهوة والطلاق (آيات 22، 28، 32) تُشَدِّد في الواقع الوصايا التي يقارن يسوع هذه النواهي بها (القتل والزِّنَى وإعطاء الزوجة كِتَاب طَلَاقٍ). من الناحية الأخرى، يمنع يسوع القَسَم والانتقام، وهما المَوضِعان اللذان يُوصِي فيهما العهد القديم في الواقع بالوفاء بالأقسام وبـ “عَيْنٌ بِعَيْنٍ” (الآيات 33-42)؛ لذا فإنَّ يسوع هنا يُغَيِّر مُتَطَلَّبات الناموس المكتوب نفسه. لذلك من الأفضل ألَّا نحاول التعميم بشأن التَّنَاقُضَات السِّتَّة جميعها باستثناء القَوْل إنَّ يسوع يستطيع أن يُعلِن قَصْدَ الله ذا السُّلطَان لكل الناموس وكل جزء من الناموس في عصر إتمام عهده الجديد.
خَاتِمَة
خُلَاصَة القَوْل، نرى في نظرة يسوع للعهد القديم كلمة الله إلى العالم، مثلما يَتَّضِح من استشهاده بمجموعة واسعة من النصوص، حتَّى لو لم يَكُنْ ذلك دائمًا بِطُرُقٍ كان مُعَاصِروه اليهود سَيَتَّفِقون معها. ما لا نراه في تعاليم المسيح المبنيَّة على الكتاب المقدَّس الخاص بِشَعْبِهِ هو أي شيء من شأنه أن يُشير إلى قانون داخل قانون، أي اعتبار أجزاء مُعَيَّنة فقط من الكتاب المقدَّس ذات سُلطَان. من المُؤَكَّد أنَّ يسوع، مثل غيره من الرَّبِّيِّين، يستطيع أن يُمَيِّز أنَّ بعض الأسفار مركزيَّة أكثر من غيرها وأن يُفَرِّق بين أجزاء الكتاب المقدَّس الأَخَفّ والأَثْقَل (مَتَّى 23: 23 والمقطع الموازي)، ولكن يَظَلُّ الكتاب المقدَّس كله مُوحًى به، وشرائع الله كلها يجب طاعتها. في الوقت ذاته، لا يمكن طاعة أيٍّ من هذه الشرائع حتَّى نرى كيف غَيَّرَ وصول عهد المسيح الجديد الأمور. على سبيل إعطاء مثالَيْن فقط يتجاوزان الأناجيل وتعليم يسوع، نحن لا نرى عشورًا بالنسبة للمؤمنين، بل سخاءً باذِلًا يجعل العُشْر أقل من اللازم بالنسبة للكثيرين (2كورنثوس 8: 13-15). لا نرى أيضًا الْتِقَاطًا لفضلات الحصاد، بل نرى ما يكفي من الاعتناء بالفقراء لجعلنا نبحث عن عمليَّات مماثلة تساعد الفقراء على أن يكونوا قادرين على مساعدة أنفسهم.
من الأمور المِحوَرِيَّة أيضًا هو كيفيَّة تعامُل يسوع مع “الكتاب المقدَّس” على أنَّه وثيقة واحدة مُوَحَّدة، فهو لا يُفَرِّق بين المعصوم وغير المعصوم، بين أمور الإيمان والممارسة من جِهَةٍ، وأمور التاريخ أو العِلْم من الجهة الأخرى. إنَّنا لا نَجْرُؤُ على جَعْل أي مقطع من العهد القديم يُعَلِّم عن موضوع لم يقصد أن يتناوله، لكن إذا كُنَّا نَدَّعِي أنَّنا نتبع يسوع، فينبغي لنا أن نتبنَّى نظرته للكُتُب المقدَّسة، أي أصلها الكامل الأُلُوهِيَّة وموثوقيَّتها وسُلطَانها في حياتنا.