هل الله مذنب بإلابادة الجماعية؟

ان جميع الأمثلة الحديثة المعروفة عن الإبادة الجماعية حيث تم القضاء على مجموعات كاملة من الناس او من أعراق كما حدث في أرمينيا. كمبوديا. رواندا. البوسنة. دارفور.  بالحقيقة هذه مآسي مروعة تستحق حزننا وألمنا.

يسأل نقّاد الكتاب المقدس، هل إله الكتاب المقدس مختلف حقًا؟ فعندما دخل الإسرائيليون أرض كنعان، ألم يكن الله هو الذي أمرهم أن يمحوا كل السكان الأصليين (تثنية ٢٠: ١١)؟ وعليه، أليس الله مذنبا بالإبادة الجماعية ايضاً؟

 جعلني سؤال النقاد هذا أن أفكر في المقولة الغربية الشائعة، “ان الفرق الوحيد بين الله وأدولف هتلر، هو أن الله أكثر كفاءة من هتلر في  في الإبادة الجماعية”.

من المُسلّم به أنها قضية معقدة وصعبة. وفي كثير من الاحيان نشعر بأننا مضطرون للدفاع عن الله وإبعاده عن فكرة “موت” الكثير من الناس. وهناك العديد من الطرق للقيام بذلك منها، ربما اننا نخطئ في قراءتنا للنص او ربما يكون النص مجرد رمزي، او ربما أساء الإسرائيليون فهم أمر الله لهم، والى ما ذلك من أعذار مختلقة.

وبقدر ما ان هذه المسألة صعبة ومؤلمة، الا أني أعتقد أننا لسنا بحاجة الى إبعاد الله عن النص. ولا أعتقد أنه يريد ذلك، لأن جوهر هذه القصة هو تسليط الضوء على حقيقة وهي ان الله قدوس وحكمه عادل، اما الناس فهم خاطئون، وعالمنا مكسور، تلك هي الحقيقة التي نحتاج سماعها وادراكها في ثقافتنا الاجتماعية أكثر من أي وقت مضى 

وإذا ما أردنا بحق أن نفهم تدمير الكنعانيين، يجب علينا ان نتذكر عدة مبادئ:

١. نحن لا نحصل على ما نستحقه

أولاً، ان كل إنسان على وجه الأرض يستحق دينونة الله – وليس فقط الكنعانيين. فالحقيقة ان جميع البشر في كل مكان مخطئون للغاية. فقد ولدوا بهذه الطريقة. فمنذ الولادة ، جميع البشر مذنبون، ليس فقط بسبب خطاياهم الخاصة، ولكن بسبب خطيئة عصيان آدم التي حُسبت إليهم، انظر (رومية ١٢: ٥). وعقوبة الخطية واضحة: “إن أجرة الخطية هي الموت” (رومية ٢٣: ٦).

فماذا يعني هذا؟ هذا يعني ان الله يمكنه أن يأخذ حياة أي إنسان باية لحظة يقررها، كحكم على خطاياه، وسيكون  لهذا الحكم ما يبرره  تمامًا. فالله لا يدين لأحد بالخلاص.

هذا يغير بسرعة وجهة نظرنا حول غزو الكنعانيين. ان الله سيدين أعداد كثيرة من الناس بسبب خطاياهم، وعلينا ان لا نتفاجأ بذلك. ربما يجب علينا ان نصدم من رحمة انتظاره الطويل للقيام بذلك. فكوننا أحياء وما زلنا نتمتع بنسمة الحياة، فذلك ليس الا بسبب صبر الله ونعمته علينا فقط.

٢. توقعاتنا بعيدة كل البعد

ان توقيت دينونة الله لا يتطابق دائمًا مع توقيتات وتوقعات الإنسان. في بعض الأحيان نعتقد أن الله يجب أن يعمل على قوائمه، وان يحكم على أكثر الناس إثمًا أولاً. لكن الله لا يعمل دائمًا بالطريقة التي نتوقعها. بالحقيقة، أوضح يسوع هذه النقطة بالضبط عندما سئل عن سبب انهيار برج سلوام وقتل مجموعة من الناس. أجاب يسوع عن تلك الحادثة قائلا:

«أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ الْجَلِيلِيِّينَ كَانُوا خُطَاةً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ الْجَلِيلِيِّينَ لأَنَّهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هذَا؟ كَلاَّ! أَقُولُ لَكُمْ: بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُون. أَوْ أُولئِكَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ سَقَطَ عَلَيْهِمُ الْبُرْجُ فِي سِلْوَامَ وَقَتَلَهُمْ، أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ كَانُوا مُذْنِبِينَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ السَّاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ؟كَلاَّ! أَقُولُ لَكُمْ: بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ». (لوقا ١٣: ٢-٥)

جوابه كان صدمة لسامعيه، بعبارة أخرى، لا يجب أن يكون الناس أسوأ الخطاة ليحصلوا على دينونة الله. فهو غير ملزم بالحكم على الجميع في وقت واحد وبالطريقة نفسها.

٣. هناك فرق رئيسي بين غزو إسرائيل للكنعانيين والإبادة الجماعية الحديثة

في حين أن الكنعانيين لم يكونوا الخطاة الوحيدون فقط في العالم، او الأسوأ بالضرورة، الا أن خطاياهم كانت فظيعة في نظر الله. فبسبب تلك الممارسات أخرجهم الرب من الأرض في المقام الأول، اذ تقول كلمة الله  :

«مَتَى دَخَلْتَ الأَرْضَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ، لاَ تَتَعَلَّمْ أَنْ تَفْعَلَ مِثْلَ رِجْسِ أُولئِكَ الأُمَمِ.. للاَ يُوجَدْ فِيكَ مَنْ يُجِيزُ ابْنَهُ أَوِ ابْنَتَهُ فِي النَّارِ، وَلاَ مَنْ يَعْرُفُ عِرَافَةً، وَلاَ عَائِفٌ وَلاَ مُتَفَائِلٌ وَلاَ سَاحِرٌ، وَلاَ مَنْ يَرْقِي رُقْيَةً، وَلاَ مَنْ يَسْأَلُ جَانًّا أَوْ تَابِعَةً، وَلاَ مَنْ يَسْتَشِيرُ الْمَوْتَى.  لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الرَّبِّ. وَبِسَبَبِ هذِهِ الأَرْجَاسِ، الرَّبُّ إِلهُكَ طَارِدُهُمْ مِنْ أَمَامِكَ . تَكُونُ كَامِلًا لَدَى الرَّبِّ إِلهِكَ. إِنَّ هؤُلاَءِ الأُمَمَ الَّذِينَ تَخْلُفُهُمْ يَسْمَعُونَ لِلْعَائِفِينَ وَالْعَرَّافِينَ. وَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ يَسْمَحْ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ هكَذَا.(تثنية ١٨: ٩- ١٤   . 

وعلى الرغم من هذه الممارسات، كان الله صبورًا بشكل لا يصدق مع سكان كنعان لمئات السنين ولأجيال عدة تعود في تاريخها إلى زمن إبراهيم، انظر (تك ١٥: ١٣-١٦). ومع ذلك، انتهى صبر الله.

٤. الله يدين بوسائل متنوعة

يستخدم الله أدوات ووسائل متنوّعة لتحقيق دينونته. بالتأكيد كان بإمكانه وبكل بساطة أن يبيد الكنعانيين بطريقة عجائبية واحدة. لكن الله له تاريخ في استخدام وسائل متنوعة في  إصدار حكمه و دينونته. وبناء على ذلك نجد الله في هذه الحقبة من تأريخ الكتاب المقدس، يستخدم بالفعل وسائل متنوعة  تضمنت الكوارث الطبيعية والأمراض والأوبئة والجفاف والانهيار الاقتصادي. وعلاوة على ذلك، وفي مراحل معينة، يقيم اجيشًا بشريًا قوياً لتحقيق أهدافه. وغزو الكنعانيين هو مثال من امثلة عدة، حيث يستخدم الله أمة إسرائيل كأداة او وسيلة دينونة لشعب معين في زمنٍ ومكانٍ معينين .

هذا يقودنا إلى نقطة الاختلاف الرئيسية بين غزو اسرائيل للكنعانيين والإبادة الجماعية في العصر الحديث. فكلاهما ينطوي على خسائر كبيرة في الأرواح. وكلاهما يشمل جيوشاً بشرية. لكن الأول هو أداة لدينونة الله الكلي الصلاح، في حين أن الابادة الجماعية في العصر الحديث ماهي الا قتل بشر لبشر آخرين لأغراضهم الخاصة. قد تبدو هناك أوجه للتشابه على السطح، ولكنهما بالتأكيد ليسا نفس الفعل. ساضرب مثالا لتوضيح وفهم هذه النقطة .

تخيل سيناريو يقوم فيه أحد الأشخاص بحقن شخص آخر بحقنة تحتوي على سم قاتل ليقتله. هل يعتبر ذلك قتل بمعنى الجريمة والإبادة الفردية؟ الجواب على ذلك يعتمد على المبدأ. فإذا تم الحقن من قبل عضو عصابة اجرامية يريد قتل عضو آخر ينتمي الى عصابة اجرامية اخرى منافسة، فسيكون الجواب، بنعم، ذلك قتل مُتعمّد. ولكن إذا كان تم حقن السم بواسطة مسؤول سجن مخوّل من قبل الدولة والقانون لتنفيذ قرار إعدام صادر من أعلى هيئة قضائية، فإن الجواب سيكون لا.

على السطح، قد يبدو الفعلان متشابهان. لكن كل شيء يعود إلى اصل الحالة والحكم وما إذا كان أخذ الحياة بتصريح قضائي اخلاقي عادل وصحيح. إن المسألة ليست ما إذا كانت الحياة قد أخذت، ولكن كيف ولماذا.

٥. حكم الله عادل

دعني أحاول أن أوجز ما تقدم. بما ان كل إنسان يستحق دينونة حكم الموت (وكلنا يستحق ذلك)، وان الله مُبرر وعادل إذا قرر إنهاء حياة أي إنسان أو شعب متى شاء مستخدما وسائل مختلفة في تنفيذ ذلك الحكم (بما في ذلك جيوشاً بشرية)، فعند ذلك لن نجد شيئ غير أخلاقي في كيفية استخدام إسرائيل كوسيلة لإبادة الكنعانيين.

إن الاعتراض على غزو الكنعانيين يتطلب منا الاعتراض على جميع أعمال قضاء وأحكام الله. فهل سنعترض أيضًا على طوفان نوح، وقضاء دينونته في تدمير سدوم وعمورة، وضربات مصر، وتدمير وسبي إسرائيل بواسطة الجيوش البابلية والآشورية، ستطول القائمة حتى نصل الى صليب المسيح، فهل سنعترض على الصليب نفسه؟

في النهاية، تبقى مسألة احتلال وإبادة الكنعانيين مسألة صعبة ومعقدة. ومع ذلك، إذا تم النظر إليها في سياق الرؤية المسيحية، ومن دون إسقاطات خارجية، فإن الاعتراضات ستتلاشى. إن دينونة الله وأحكامه عادلة، حتى إن كنا لا نستطيع فهمها بشكلها الكامل، فطرق وأفكار الله تختلف كلياً عن طرقنا وأفكارنا (إشعياء ٥٥: ٨-٩). وإذا ما أردنا أخذ المسألة بعيدًا عن سياقات ومحتوى النصوص الكتابية الأخرى، وغاية الله في إعداده خطة خلاص الإنسان في المسيح، فإن ما سيتبقى لنا هو شيء آخر تماماً، وهو حتماً غير إله المسيحية.

 

شارك مع أصدقائك

 هو مدير كلية اللاهوت المُصلّحة بمدينة شارلوت، في ولاية نورث كارولاينا، وأستاذ بروفيسور لمادة العهد الجديد والمسيحية المبكرة بها. شغل منصب رئيس الجمعية اللاهوتية الإنجيلية في عام .٢٠١٩ وهو مؤلف لعديد من الكتب، منها: "المسيحية في مفترق الطرق: كيف شكّل القرن الثاني مستقبل الكنيسة  ٢٠١٨، و (Canon Rivisited) - تأسيس أصول و سلطة كتب العهد الجديد، وهو يدوّن بانتظام على منصة (Canon Fodder)