التعريف
تفسير الكتاب المقدَّس هو عمليَّة الاكتشاف الشخصي لِمَا قَصَدَ الله من خلال مُؤَلِّفيه البشريِّين أن يعنيه النَّصُّ الكتابيّ ويُحدِثه، ومن خلال التفسير النَّصِّيّ وعلم اللاهوت يقوم المَرْءُ بفهم وتطبيق كلمة الله المعصومة.
الموجز
تُوَضِّح هذه الدراسة لماذا يجب علينا تفسير الكتاب المقدَّس، وماهيّة الافتراضات المُسَبَّقَة التي ينبغي أن تُوَجِّه تفسيرنا، وتُبَيِّن كيف يمكننا تفسير الكتاب المقدَّس. يلعب الكتاب المقدَّس دورًا أساسيًّا في الحياة كلها، ويُشَدِّد الكتاب المقدَّس نفسه على الحاجة إلى تفسيره بأمانة من أجل الوقوف بلا خِزْي أمام الرَّبِّ. إنَّ تفسير الكتاب المقدَّس بأمانة يقتضي أن ننظر إلى الكتاب المقدَّس بصفته كلمة الله، ويفترض أنَّ حقائق الكتاب المقدَّس قابلة للمعرفة، ويستلزم أن نستجيب بشكل مناسب، ويتطلَّب أن ننخرط في هذه المُهِمَّة مُعتَمِدين على الله. تدور العمليَّة التفسيريَّة حول الاكتشاف الشخصي لِمَا قَصَدَ الله من خلال مُؤَلِّفيه البشريِّين أن يعنيه النَّصُّ الكتابيّ ويُحدِثه، وهي تشمل تقييم كلمة الله المعصومة وتوليفها وتطبيقها بواسطة التفسير النَّصِّيّ وعلم اللاهوت، أي كُلٍّ من النشاط الضَّيِّق الخاص بتحديد واستخراج ما كان الله يقوله بالفعل من خلال مُؤَلِّفيه البشريِّين في مقاطع مُحَدَّدة، والنشاط الأوسع الخاص بربط هذه الرسالة بقصد الله الشامل في الفداء، والذي يَبلُغ ذُروَته في المسيح، مع تطبيق مُحَدَّد على وضعنا الحاليّ. يَتَضَمَّن الانتقال من التفسير النَّصِّيّ إلى اللَّاهوت ما لا يقل عن اِثْنَتَيْ عَشَرَةَ خطوة مترابطة فيما بينها: (1) النوع الأدبي، (2) الوحدات الأدبيَّة والتَّسَلسُل الهرمي للنَّصِّ، (3) نَقْد النَّصِّ، (4) الترجمة، (5) القواعد النَّحْوِيَّة للجُملَة والنَّصِّ، (6) تَتَبُّع الحُجَّة، (7) دراستا الكلمات والمفاهيم، (8، 9) السياق التاريخي والأدبي، (10، 11، 12) اللاهوت الكتابي والنظامي والعملي.
لماذا يجب علينا تفسير الكتاب المقدَّس؟
شَدَّد موسى على أنَّ العلاقة الصحيحة مع الرَّبِّ لا تكون ممكنة إلَّا عندما يسمع المَرْءُ كلمة الله بطريقةٍ تقود إلى تَقْوَاه واتِّباعه (تثنية 31: 12، 13؛ راجِعْ 6: 1-3؛ 17: 19، 20؛ يوحنَّا 6: 44، 45)؛ لذلك فالكتاب المقدَّس “[لَيْسَ] أَمْرًا بَاطِلًا عَلَيْكُمْ، بَلْ [هو] حَيَاتُكُمْ” (تثنية 32: 47)! وعلى نحوٍ مُمَاثِلٍ، أوضح داود أنَّ كلمات الله كَامِلَةٌ وصَادِقَةٌ ومُسْتَقِيمَةٌ وطَاهِرَةٌ وحَقٌّ وعَادِلَةٌ وشَهِيَّةٌ وحُلْوَةٌ، وأنَّ هذه الكلمات نفسها تَرُدُّ النَّفْسَ وتُعطِي حكمة وتُفَرِّحُ الْقَلْبَ وتُنِيرُ الْعَيْنَيْنِ وتُنشِئ خَوْفَ الرَّبِّ وتُحَذِّرُ وتهدي إلى الطاعة التي لها ثَوَابٌ عَظِيمٌ (مزمور 19: 7-11). فقط من خلال مقابلة كلمة الله النَّقِيَّة والكاملة والحَقِّ والْبَاقِيَةِ إِلَى الْأَبَدِ (مزمور 12: 6؛ 119: 96، 160) يمكن للأشخاص أن:
- يُولَدوا ثانيةً في المسيح ويَتَمَتَّعوا بِسُكنَى الروح القدس داخلهم (مزمور 119: 93؛ رومية 10: 17؛ غلاطيَّة 3: 2؛ يعقوب 1: 18؛ 1بطرس 1: 23)،
- يُمَكَّنوا للقداسة (مزمور 119: 50؛ يوحنَّا 17: 17؛ 2تيموثاوس 3: 17؛ 2بطرس 1: 4)،
- يُحفَظوا إلى المجد (تثنية 8: 3؛ رومية 1: 16؛ 2تيموثاوس 3: 15)،
- يكونوا في حالة شِبع دائمًا (مزمور 1: 2؛ 19: 10؛ 1بطرس 2: 3).
يعيش الإنسان من خلال “كُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ” (مَتَّى 4: 4؛ راجِعْ تثنية 8: 3)؛ لذلك يجب أن نُشَبِّع كِياننا بالكامل بالكتاب المقدَّس (تثنية 6: 7؛ يشوع 1: 7، 8؛ مزمور 1: 3؛ 78: 5-8). يجب أن نطلب حقائقه كَٱلْفِضَّةِ (أمثال 2: 4) وأن نفعل ذلك بطريقةٍ تدفعنا إلى الارتعاد في استسلامٍ ومهابةٍ (إِشَعْيَاء 66: 2).
أعطى الله كلمته لِلْجُهَّال، وليس فقط للعلماء (مزمور 19: 7؛ 119: 130)؛ ولهذا السبب، فإنَّه حتَّى من الواجب علينا أن نُعَلِّم الأطفال تعاليمها (تثنية 6: 6، 7؛ مزمور 78: 5-8؛ أفسس 6: 4)، ومع ذلك، وباتِّباع نموذج عَزْرَا الكاتب الكاهن، يجب أن ندرس (“طَلَبِ” في ترجمة فاندايك) الكلمة حتَّى نتمكَّن من ٱلْعَمَلِ بإخلاص بما تدعو إليه ثُمَّ نُعَلِّمها بأمانة (عَزْرَا 7: 10). يدعو الرَّبُّ المسيحيِّين إلى التفكير الناضِج (كَامِلِينَ فِي الْأَذْهَانِ)، والذي يعني أن نتوق إلى كلمة الله الواضحة وأن نفهم بشكل صحيح ما هو صالح ثُمَّ نكون أبرياء تجاه ما هو شرير (1كورنثوس 14: 20). غَيْرُ ٱلْعُلَمَاءِ وَغَيْرُ ٱلثَّابِتِينَ هُم الذين يُسيئون استخدام كلمة الله، أمَّا ذوو المعرفة والثابتون فيمكنهم فَهْم الأسفار المقدَّسة فهمًا صحيحًا (2بطرس 3: 16). كَلَّفَ بولس تيموثاوس قائلًا: “فَكِّرْ فِي مَا أَقُولُهُ، فَإِنَّ الرَّبَّ سَيَهَبُكَ فَهْماً فِي كُلِّ شَيْءٍ” [كتاب الحياة] (2تيموثاوس 2: 7)، فتفسير الكتاب المقدَّس ليس خِيَارًا، حيث يجب على المسيحيِّين أن يُفَكِّروا بعناية بالغة في كتاب الله وأن يفعلوا ذلك بطريقة تعتمد على الله من أجل الإنارة، أي قيام روح الله بإرشاد الذهن البشري وتغيير القلب البشري حتَّى يتمكَّن المُفَسِّر من فهم رسالة الكتاب المقدَّس (1كورنثوس 2: 13، 14). “ٱجْتَهِدْ أَنْ تُقِيمَ نَفْسَكَ لِلهِ مُزَكًّى، عَامِلًا لَا يُخْزَى، مُفَصِّلًا كَلِمَةَ ٱلْحَقِّ بِٱلِٱسْتِقَامَةِ” (2تيموثاوس 2: 15). يُفَصِّل المُفَسِّر الكتابي كلمة الله بلا خِزْي فقط عندما يُزَكِّي الرَّبُّ نَفْسُه هذا التفسير؛ لذا يجب أن نُفَسِّر الكتاب المقدَّس بعناية.
ما هي الافتراضات المُسَبَّقَة التي ينبغي أن تُوَجِّه تفسيرنا للكتاب المقدَّس؟
هناك على الأقل أربعة افتراضات أساسيَّة مُسَبَّقَة ينبغي أن تُوَجِّه تفسيرنا للكتاب المقدَّس:
1. يقتضي تفسير الكتاب المقدَّس أن ننظر إلى الكتاب المقدَّس بصفته كلمة الله:
إنَّ الطريقة الوحيدة للوصول حقًّا إلى ما قصده المُؤَلِّفون الكتابيُّون هي الإيمان (مثلما فعلوا) بأنَّهم كانوا يَقْرَأُونَ ويكتبون كلمة الله ذاتها (إِشَعْيَاء 8: 20؛ 1كورنثوس 2: 13؛ 14: 37)، ويتطلَّب هذا اتِّجاهًا خاضِعًا لسُلطَة الكتاب المقدَّس، فيجب أن نكون مُستَعِدِّين لجعل فهمنا للحقِّ وتطبيقنا له متوافِقَيْن مع إعلانات الكتاب المقدَّس، بحيث يكون الكُلُّ في توافُقٍ مع قصد الله المُعلَن، فالكتاب المقدَّس هو إعلان خاص، أي إعلان الله عن نفسه وعن مشيئته بطريقةٍ يمكننا فهمها (1كورنثوس 14: 37؛ 2تيموثاوس 3: 16؛ 2بطرس 1: 20، 21). إنَّ كلمات الكتاب المقدَّس ذاتها، وليس فقط أفكاره، هي مُوحًى بِهَا مِنَ ٱللهِ (مَتَّى 5: 17، 18؛ 1كورنثوس 2: 13؛ 2تيموثاوس 3: 16، 17)، و”كَلَامُ ٱلرَّبِّ كَلَامٌ نَقِيٌّ” (مزمور 12: 6)؛ و”شَرِيعَتُـ[ـهُ] حَقٌّ” (مزمور 119: 142)؛ و”إِلَى ٱلدَّهْرِ كُلُّ أَحْكَامِ عَدْلِـ[ـهِ]” (مزمور 119: 160)؛ و”وَصَايَا[ہُ] عَدْلٌ” (مزمور 119: 172). قال الرَّبُّ يسوع: “لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ ٱلْمَكْتُوبُ” (يوحنَّا 10: 35)، وقال بولس إنَّ الأمر كذلك لأنَّ “كُلُّ ٱلْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ ٱللهِ” (2تيموثاوس 3: 16). في الواقع، وكما قال بطرس، “لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ ٱللهِ ٱلْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ” (2بطرس 1: 21).
وتُشير هذه الحقائق إلى أنَّ الكتاب المقدَّس موثوقٌ به ودقيقٌ في كل ما يُعلِنه. من أجل التشديد على أنَّ تأكيدات الكتاب المقدَّس أهْلٌ للثقة ومعصومةٌ من الخطأ، أوضحت الكنيسة تاريخيًّا أنَّه (أ) في مسائل الإيمان (العقيدة) والممارسة (الأخلاق)، تعليم الكتاب المقدَّس مُنَزَّهٌ عن الخطأ، أي دليلٌ أكيد وآمِن، وأنَّه (ب) في المسائل المُتَعَلِّقَة بالواقع (سواءٌ كان تاريخ أو تَسَلسُل زمني أو جغرافيا أو ما شابه ذلك)، ادِّعاءات الكتاب المقدَّس معصومةٌ من الخطأ، أي حَقٌّ ومُؤْتَمَنَةٌ تمامًا[1]. يعني كلا المُصطَلَحَيْن شيئًا مُشابِهًا، لكنَّهما يُخاطِبان مجالات مختلفة، ولا يُفهَم كلاهما فهمًا صحيحًا إلَّا بالارتباط بما كان المُؤَلِّفون، بقيادة الروح القدس، يقصدون إيصاله بنصوصهم، بمعنى أنَّ الخضوع لسُلطَة الكتاب المقدَّس يعني احترام مقاصد المُؤَلِّفين الكتابيِّيِن والأعراف الأدبيَّة التي اتَّبعوها في كتابتهم، فيجب أن نسمح بالسَّرْد الجزئي من وجهات نظر مختلفة وبإعادة الصياغة وبالتلخيص، ولا يجب أن نطلب من الكتاب المقدَّس تقديم معلومات نهائيَّة أو شاملة عن كل موضوع (على سبيل المثال، عدم ذِكْر سفر أخبار الأيام خطيَّة داود مع بَثْشَبَعَ [2صَمُوئِيل 11، 12] أو وثنيَّة سُلَيْمَانَ [1ملوك 11]؛ كَوْن المُحَرِّض على إحصاء داود للشعب هو يهوه في 2صَمُوئِيل 24: 1، ولكنَّه الشيطان في 1أخبار الأيام 21: 1؛ المعلومة الإضافيَّة الخاصَّة بتوبة مَنَسَّى عن شَرِّه الشديد في 2أخبار الأيام 33: 10-19 [راجِعْ 2ملوك 21: 10-18])، ويجب أن نسمح بلُغَة الفينومينولوچيا أو اللُّغَة الظَّاهِرَاتِيَّة، والتي يصف بها المُؤَلِّفون الظاهرة كما شَهِدوها أو اختبروها، وليس بالضرورة كيف حدثت علميًّا (على سبيل المثال، يشوع 10: 12، 13؛ مَتَّى 5: 45)، ويجب أن نسمح بسَرْد الكتاب المقدَّس حديثًا دون تأييد صِدْق هذا الحديث، فيمكن لشخصيَّة كتابيَّة أن تقول حقًّا شيئًا ليس حقيقيًّا (على سبيل المثال، خروج 1: 17-21؛ يشوع 2: 1-7؛ أعمال الرسل 5: 1-11). إنَّ الكتاب المقدَّس هو كلمة الله ذاتها؛ لذلك فعندما نُفَسِّره يجب أن نثق به أنَّه لن يُضِلَّنا أبدًا ونتعامل معه باعتباره صاحب التأثير الأسمى في حياتنا.
2. يفترض تفسير الكتاب المقدَّس أنَّ حقائق الكتاب المقدَّس قابلة للمعرفة:
يفترض الفهم الصحيح للكتاب المقدَّس أنَّ الكتاب المقدَّس بطبيعته واضح فيما يُعَلِّمه. باختصار، يمكن معرفة الحَقِّ. لقد أدرك بطرس أنَّ “فِي [رسائل بولس] أَشْيَاءُ عَسِرَةُ ٱلْفَهْمِ”، لكنَّه تابع ليقول إنَّ “غَيْرُ ٱلْعُلَمَاءِ وَغَيْرُ ٱلثَّابِتِينَ” هُم الذين “[يُحَرِّفُون]” هذه الكلمات “كَبَاقِي ٱلْكُتُبِ أَيْضًا، لِهَلَاكِ أَنْفُسِهِمْ” (2بطرس 3: 16). كان كُتَّاب المزامير مقتنعين بأنَّ كلمة الله تُنير سبيلنا وتُعَقِّلنا (مزمور 119: 105، 130). كَتَبَ بولس كلماته بوضوح (2كورنثوس 1: 13)، ودعا الآخرين إلى أن “[يُفَكِّروا]” فِي مَا قاله، واثِقًا بأنَّ “الرَّبَّ سَيَهَبُكَ فَهْماً فِي كُلِّ شَيْءٍ” [كتاب الحياة] (2تيموثاوس 2: 7).
إنَّ ذات طبيعة كلمة الله تتطلَّب أنَّ رسالتها يمكن فهمها في أي ثقافة وفي أي عصر، وتاريخيًّا، دَعَت الكنيسة هذا الأمر عقيدة وضوح الكتاب المقدَّس، فالكتاب المقدَّس واضح بما فيه الكفاية، ولكن ليس كل ما فيه على نفس القدر من الوضوح، فهو واضحٌ بما فيه الكفاية ليسمح لنا بفهم صورة سُمُوِّ الله وسيادته ومقاصده الشاملة الخاصَّة بملكوته التي تَبلُغ ذُروَتها في عمل يسوع الخلاصي، لكن بعض العناصر الأخرى في الكتاب المقدَّس تُعَدُّ أقل وضوحًا. ذَكَر وِين جْرُودِمْ على نحوٍ مفيد أنَّ الكتاب المقدَّس نفسه يشهد أنَّنا نستطيع فهمه، ولكن[2]:
- ليس الكُلُّ دَفْعَةً واحدة؛
- ليس بدون جهد؛
- ليس بدون الوسائل العاديَّة؛
- ليس بدون استعداد القارئ لطاعته؛
- ليس بدون مساعدة الروح القدس؛
- ليس بدون سوء الفهم البشري؛
- ليس تمامًا أبدًا.
مع ذِكْر هذه الأمور، يجب أن نُفَسِّر الكتاب المقدَّس ونحن مقتنعون بأنَّ ما يقصد الله لنا أن نعرفه يمكننا أن نعرفه.
3. يستلزم تفسير الكتاب المقدَّس أن نستجيب بشكل مناسب:
نحن، مُفَسِّري الكتاب المقدَّس، لا ننتهي من مُهِمَّتنا بمُجَرَّد أن نكتشف ما تَكَلَّم به الله، بل يجب علينا أن نتقدَّم بعد ذلك لندرك أنَّ كلام الله “نَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ” (2تيموثاوس 3: 16). يجب علينا ألَّا نفهم فقط المعنى الذي يقصده المُؤَلِّف الكتابي (وهو الأمر الممكن لغير المؤمنين)، بل أن نفهم أيضًا التأثير الذي يقصد المُؤَلِّف الكتابي إحداثه (وهو الأمر الممكن للمؤمنين فقط، رومية 8: 7، 8؛ 1كورنثوس 2: 14). لكي نفهم بشكل صحيح حَقَّ الله المُتَضَمَّن في كتابه، يجب أن نُوَظِّف عادات القلب والذهن الضروريَّة المُصَوَّرة في ترتيب عَزْم عَزْرَا: “عَزْرَا هَيَّأَ قَلْبَهُ لِطَلَبِ شَرِيعَةِ الرَّبِّ وَالْعَمَلِ بِهَا، وَلِيُعَلِّمَ إِسْرَائِيلَ فَرِيضَةً وَقَضَاءً” (عَزْرَا 7: 10). يعني الطَّلَب (أو الدراسة) المراقبة الدقيقة والفهم الصحيح والتقييم العادل؛ ويشمل الْعَمَل الشعور المناسب والتطبيق الحكيم؛ ويتضمَّن التعليم التعبير بوضوحٍ وأمانةٍ وجُرْأَةٍ[3]. هذه هي عادات القلب والذهن الضروريَّة المطلوبة لفهم الحَقِّ في كتاب الله فهمًا صحيحًا. يَتَطَلَّب تفسير الكتاب المقدَّس أن نستجيب للكتاب المقدَّس بشكل مناسب.
4. يَتَطَلَّب تفسير الكتاب المقدَّس الاعتماد على الله:
إنَّ عمليَّة الانتقال من الدراسة إلى الممارسة هي أمرٌ لا يستطيع سِوَى الله أن يُمَكِّننا من فعله، وهو يفعل ذلك فقط من خلال يسوع. يكتب بولس في (1كورنثوس 2: 14): “وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لَا يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيًّا”، ويعني بولس بكلمة “يَعْرِف” هنا “يحتضن، يُؤَيِّد، يَنْحَاز إلى، يبتهج بـ، يُطَبِّق”. فقط فِي الْمَسِيحِ يُرْفَعُ بُرْقُعُ الغِلَاظَة تجاه كلمة الله (2كورنثوس 3: 14)، لكن في المسيح تصبح اَلْكَلِمَةُ قَرِيبَةً مِنَّا، فِي فَمِنا وَفِي قَلْبِنا (رومية 10: 8). تَضَمَّن القصد النهائي للمُؤَلِّفين الكتابيِّين حياةً تَغَيَّرَتْ، والتي أساسها هو مقابلة شخصيَّة مع الله الحي. لن نختبر هذا الأمر بدون مساعدة الرَّبِّ.
إنَّ وضع الكتاب المقدَّس تحت المِجْهَر (الدراسة الدقيقة) يجب أن يُؤَدِّي دائمًا إلى أن نَجِد أنفسنا نحن تحت مِجْهَره هو؛ إذ إنَّ الكتاب المقدَّس يُغَيِّرنا أكثر إلى شَبَه المسيح. إنَّنا ننخرط في التفسير النَّصِّيّ واللاهوت من أجل مقابلة الله، ونُقارِب الكتاب المقدَّس باتِّضاع واتِّكال، وليس أبدًا بالتلاعُب أو القُوَّة. يجب أن يخلق تفسير الكتاب المقدَّس خُدَّامًا لا ملوكًا.
ما هي عمليَّة تفسير الكتاب المقدَّس؟
تفسير الكتاب المقدَّس هو عمليَّة الاكتشاف الشخصي لِمَا قَصَدَ الله من خلال مُؤَلِّفيه البشريِّين أن يعنيه النَّصُّ الكتابيّ ويُحدِثه، ومن خلال التفسير النَّصِّيّ وعلم اللاهوت يقوم المَرْءُ بفهم كلمة الله المعصومة وتطبيقها.
إنَّ المُصطَلَح الإنجليزي المُعَبِّر عن التفسير النَّصِّيّ exegesis إِكْسْچِيسِس هو عبارة عن نَقْل حَرْفِي للاسم اليوناني exēgēsis إِكْسِيغِيسِيس (المُكَوَّن من: ek “من، خروجًا من” + agō “يُحضِر، يُحَرِّك أو ينقل [شيئًا ما]”)، والذي يعني “تقرير، وَصْف، سَرْد”. إنَّ التفسير النَّصِّيّ للكتاب المقدَّس، بتعريفه الضَّيِّق، هو النشاط التفسيري الخاصّ بتحديد أو استخراج ما كان الله يقوله بالفعل من خلال مُؤَلِّفيه البشريِّين في مقاطع مُحَدَّدة ضِمْن أسفار مُحَدَّدة، فالنصوص تنقل المعنى لا تُنتِجه، إذ إنَّ المُؤَلِّفين الكتابيِّين، تحت قيادة الله، كتبوا قَصْدًا الكلمات التي كتبوها بمعنًى وقَصْدٍ مُحَدَّدَيْن، “تَكَلَّمَ أُنَاسُ ٱللهِ ٱلْقِدِّيسُونَ [أو تَكَلَّمَ أُنَاسٌ كلامًا مِنْ قِبَل الله] مَسُوقِينَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ” (2بطرس 1: 21). علينا أن نقرأ بعناية ما يُقَدِّمه لنا الرَّبُّ من خلال خُدَّامه البشريِّين في الكتاب المقدَّس. في التفسير النَّصِّيّ، نحن نكتشف ما هو موجود في الكتاب، والذي يشمل كُلًّا من المعنى المُحَدَّد الذي ينقله المُؤَلِّفون ومُتَضَمَّنات هذا المعنى، أي تلك الاستدلالات في النَّصِّ التي رُبَّما كان المُؤَلِّفون على عِلْم بها أو لم يكونوا على عِلْم بها، لكنَّها تندرج بشكل مشروع ضِمْن مبدأ أو نمط المعنى الذي أرادوه.
يأتي المُصطَلَح الإنجليزي المُعَبِّر عن علم اللاهوت theology ثْيُولُوچِي من المُصطَلَح اللاتيني theologia ثْيُولُوچْيَا، والمُشتَقّ من مزيج من الاسمَيْن اليونانِيَّيْن theos ثِيُوس (“الله”) وlogos لُوجُوس (“عمليَّة مُحَاسَبَة أو حِسَاب رسميَّة”). باختصارٍ، علم اللاهوت هو “دراسة الله”. نظرًا لأنَّ الكتاب المقدَّس هو كلمة الله لكل العصور، ونظرًا لأنَّ كل مقطع كتابي لديه سياقٌ أوسع (تاريخي وأدبي وكتابي)؛ ينقلنا التفسير النَّصِّيّ (بتعريفه الضَّيِّق) بصورة طبيعيَّة وضروريَّة إلى تَخَصُّصات لاهوتيَّة مختلفة:
- اللاهوت الكتابي: يدرس كيف تتقدَّم كلمة الله وتتكامل وتَبلُغ ذُروَتها في المسيح.
- اللاهوت النظامي: يبحث ما يُعَلِّمه الكتاب المقدَّس عن موضوعات لاهوتيَّة مُعَيَّنَة.
- اللاهوت العملي: يُفَصِّل الاستجابة المسيحيَّة الصحيحة لحقائق الكتاب المقدَّس.
لا يَتَوَقَّف مُفَسِّرو الكتاب المقدَّس حتَّى يدرسوا كل مقطع في ضوء كل إعلان الله الخاص، وبعد ذلك يجب عليهم أن يُطَبِّقوا المقطع من خلال حياة عبادة. ينتقل التفسير النَّصِّيّ إلى اللاهوت، وتُؤَدِّي العمليَّة بِرُمَّتِها إلى مقابلة شخصيَّة مع الله الحي المُعلَن في الكتاب المقدَّس. ينبغي أن تَصْبِغ المَجْدَلَة -ممارسة تمجيد أو تسبيح الله- كل دراسة الكتاب المقدَّس. (للمزيد، راجِعْ مقال “المنهج اللاهوتيّ” لِأَنْدِي نِسِلِي).
هناك ما لا يقل عن اِثْنَتَيْ عَشَرَةَ خطوة في عمليَّة الانتقال من التفسير النَّصِّيّ إلى اللَّاهوت ومن الدراسة الشخصيَّة إلى الممارسة ثُمَّ التعليم، وبينما يمكن للمَرْء أن يناقش هذه المراحل المختلفة بشكل مُستَقِلٍّ، فإنَّ العمليَّة التفسيريَّة هي أَشْبَهُ بمسارٍ حَلَزُونِيٍّ من خلاله نُعيد النظر باستمرار في أسئلة تفسيريَّة مختلفة في الطريق إلى الأمانة الكتابيَّة. لتسهيل التَّذَكُّر، أَعْطَيْتُ العمليَّة بِرُمَّتِها اسم TOCMA، والذي يَرمُز إلى النَّصِّ Text، الملاحظة Observation، السِّيَاق Context، المعنى Meaning، التطبيق Application. تندرج كل خطوة من الخطوات الاثْنَتَيْ عَشَرَةَ ضِمْن واحدة من هذه الفئات الرئيسيَّة، حيث تُغطِّي الخطوات التسع الأولى التفسير النَّصِّيّ بينما تُغَطِّي الثلاث الأخيرة اللاهوت.
النَّصُّ -“ما هو تكوين المقطع؟”
- النوع الأدبي: حَدِّد الشكل الأدبي للمقطع وموضوعه ووظيفته، وقَارِنه بأنواع أدبيَّة مماثلة، وانْظُرْ في آثار ذلك على التفسير.
- الوحدات الأدبيَّة والتَّسَلسُل الهرمي للنَّصِّ: حَدِّدْ حدود المقطع وبِنيَته الأساسيَّة.
- نَقْد النَّصِّ: ضَع الصياغة الأصليَّة للمقطع.
- الترجمة: تَرْجِم النَّصِّ وقَارِن الترجمات الأخرى.
الملاحظة -“كيف يتم توصيل المقطع؟”
- القواعد النَّحْوِيَّة للجُملَة والنَّصِّ: قَيِّمْ تكوين وعلاقة الكلمات والعبارات والجُمَل والوحدات النَّصِّيَّة الأكبر حجمًا.
- تَتَبُّع الحُجَّة: أَنْهِ تَتَبُّع الحُجَّة الأدبيَّة وَضَعْ مُخَطَّطًا مبنيًّا حول رسالة المقطع مُرتَبِطًا بفكرة المقطع الرئيسيَّة.
- دراستا الكلمات والمفاهيم: وَضِّحْ معنى الكلمات والعبارات والمفاهيم المِفتَاحِيَّة.
السِّيَاق -“أين يقع المقطع؟”
- السِّيَاق التاريخي: اِفْهَم الوضع التاريخي الذي كَتَبَ منه المُؤَلِّفُ النَّصَّ، وحَدِّدْ أيَّة تفاصيل تاريخيَّة يذكرها المُؤَلِّف أو يفترضها.
- السِّيَاق الأدبي: اِسْتَوْعِب الدور الذي يلعبه المقطع في السفر بأكمله.
المعنى -“ماذا يعني المقطع؟”
- اللاهوت الكتابي: تَأَمَّلْ كيف يرتبط المقطع الذي بين يديك بتَدَفُّق الكتاب المقدَّس ورسالته العامَّيْن ويُشير إلى المسيح.
- اللاهوت النظامي: مَيِّزْ كيف يتماسك المقطع الذي بين يديك لاهوتيًّا مع الكتاب المقدَّس بأكمله، مع تقييم العقائد الرئيسيَّة وخاصَّةً ذات العلاقة المباشرة بالإنجيل.
التطبيق-“لماذا المقطع مُهِمٌّ؟”
- اللاهوت العملي: طَبِّق النَّصَّ على نفسك وعلى الكنيسة وعلى العالم، مع التشديد على مركزيَّة المسيح وعلى رجاء الإنجيل.
يتطلَّب تفسير الكتاب المقدَّس بأمانة طرح الأسئلة الصحيحة. في التفسير النَّصِّيّ، نسأل المُؤَلِّف الكتابي: “ماذا تقول؟” (السؤال الخاصّ بالقواعد النَّحْوِيَّة ونَقْد النَّصِّ والترجمة)، و”لماذا تقوله بهذا الشكل؟” (السؤال الخاصّ بالنوع الأدبي والبِنيَة والحُجَّة والسِّيَاق التاريخي والأدبي). وفي اللاهوت، نسأله: “ماذا تعني؟” (السؤال الخاصّ باللاهوت الكتابي والنظامي)، و”ما أهميَّة هذا المقطع بالنسبة لنا اليوم؟” (السؤال الخاصّ باللاهوت العملي). ولتقودك رحلتك في تفسير الكتاب المقدَّس إلى اكتشاف حقائق جميلة ومقابلة الله الحي في وجه المسيح، ولتَتَزَايَدْ دراستك وممارستك وتعليمك لكلمة الله بعنايةٍ وأمانةٍ لمجد الله وخير كنيسته.
[1] يَنُصُّ “بيان شيكاغو حول العِصمَة الكتابيَّة” (1976) على: “تُشير صفة ‘مُنَزَّه عن الخطأ’ إلى أنَّ الكتاب المقدس ليس مُضِلًّا وَلا مُضَلًّا؛ وهكذا تَصُون بشكل قاطع حقيقة أنَّ الكتاب المقدس هو قانون ودليل أكيد وآمِن وأهْلٌ للثقة في كل الأمور. وبالمثل، تُشير صفة ‘معصوم من الخطأ’ إلى أنَّ الكتاب المقدس خالٍ من البُطْل أو الخطأ؛ وهكذا تَصُون حقيقة أنَّ الكتاب المقدس هو حَقٌّ ومُؤْتَمَنٌ تمامًا في كل تأكيداته. نحن نُؤَكِّد أنَّ الأسفار القانونيَّة يجب أن تُفَسَّر دائمًا على أساس أنَّها مُنَزَّهَةٌ عن الخطأ ومعصومةٌ من الخطأ”.
[2] Wayne A. Grudem, “The Perspicuity of Scripture,” Themelios 34.3 (2009): 288–309.
[3] لهذه العناصر السِّتَّة، اُنْظُرْ:
John Piper, Think: The Life of the Mind and the Love of God (Wheaton, IL: Crossway, 2010), 191–98.