الله الكلمة (أو الابن) شأنه شأن الله الآب والروح القدس موجود في كلِّ مكان. أينما تذهب، هو هناك. في الواقع، هو أكثر من ذلك، يقول الكتاب المقدَّس إنَّه “حَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ” (عبرانيِّين 1: 3)، و”فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ” (كولوسِّي 1: 16).
تثير معجزة التجسُّد والتي نحتفل بها كلَّ عام في عيد الميلاد سؤالاً عن هذا المعتقد: هل كان الله الكلمة كليّ الوجود بينما كان يتجوَّل في الناصرة كطفلٍ؟ أو كيف كان الحال عندما كان مولودًا يرضع من صدر مريم بين حيوانات المذود؛ هل يمكننا حقًّا أن نتخيَّل أنَّه، وفي نفس الوقت، يملأ الكون بأسره، متحكِّمًا في كلِّ جزيء ذرِّيٍّ أو نجم؟
الإجابة، بشكل مثير للدهشة، هي نعم! صار الله إنسانًا دون أن يتوقَّف عن كونه الله، وبالتالي فإنَّ ابن الله المتجسِّد لم ينحصر وجوده في جسده البشريِّ، بل استمرَّ في ملء الكون وحمله حتَّى في أثناء تجسُّده.
كيف يمكن أن يكون هذا؟ يمكن أن تكرِّس مكتبات لاستكشاف هذه العقيدة، ولكن دعنا فقط نطرح ثلاثة أسئلة أساسيَّة عن هذا الأمر، على أمل إعادة ضبط قلوبنا وعقولنا للحدث المذهل الذي نحتفل به في هذا الوقت من العام.
ماذا يعني ذلك؟
كتب جون كالفن في “أسس الدين المسيحيِّ”:
“نزل ابن الله من السماء بطريقة ما بحيث إنَّه لم يغادر السماء، أراد أن يولد في رحم العذراء، وأن يأتي إلى الأرض، وأن يُعلَّق على الصليب؛ ومع ذلك فهو يملأ العالم باستمرار كما فعل منذ البداية!”
لكنَّ الفكرة الأساسيَّة المتضمَّنة في هذه العقيدة لم تنشأ مع كالفن. إنَّها قديمة. كتبها أثناسيوس في القرن الرابع:
لم يكن الكلمة محصورًا في جسده، كما أنَّ وجوده في الجسد لم يمنعه من الوجود في أيِّ مكان آخر أيضًا. فعندما حرَّك جسده لم يتوقَّف عن توجيه الكون بعقله وقوَّته… في نفس الوقت –وهذا هو العجيب- كإنسان كان يعيش حياة بشريَّة، وكالكلمة كان يحافظ على حياة الكون، وكابن كان في اتِّحاد دائم مع الآب.
لاحظ أنَّ أثناسيوس لم يؤكِّد فقط وجود ابن الله خارج جسم جسده البشريِّ، ولكن أكَّد دوره كحامل ومدبِّر للكون. وفي عظات كالفن وتعليقاته، لم يؤكِّد فقط الطابع المكانيَّ الخارجيَّ، ولكن أكَّد تأثيره على حكم المسيح للعالم ووساطته فوق الملائكة. فالشيء المهمُّ ليس الوجود الكلِّيُّ في حدِّ ذاته، ولكن أن يبقى ابن الله إلهًا كاملاً -مع كلِّ ما يستلزم ذلك- حتَّى في أثناء التجسُّد.
كيف يكون هذا منطقيًّا؟
حين سمعت هذا المفهوم أول مرة، برز تحدِّيان إلى ذهني.
أوَّلاً، هل هذا المفهوم غير عقلانيٍّ؟ كيف لا ينتهك قولنا إنَّ “المسيح محدود وغير محدود” قانونَ عدم التناقض، كذلك كونه موجودًا في مكان محدَّد وموجودًا في كلِّ مكان؟ ثانيًا، كيف يتوافق هذا مع الفكر الخلقيدوني المستقيم عن المسيح؟ ألا يؤدِّي افتراض أنَّ المسيح محدود وغير محدود إلى الخطأ النسطوريِّ القديم المتمثِّل في فصل الطبيعة البشريَّة عن الطبيعة الإلهيَّة للمسيح؟
يوجد تشبيه ساعدني على فهم هذا (على الأقلِّ قليلاً). لنفترض أنَّ جون تولكين، مؤلف كتاب “ملك الخواتم The Lord of the Rings” قد قرر أن يكتب عن نفسه كشخصيَّة من شخصيات كتابه. بالطبع لن يتوقَّف عن الوجود في مكتبه في أكسفورد كنتيجة لهذه الحقيقة. في الواقع، إنَّ وجوده الكامل في الأرض الوسطى، وهو المكان الذي تدور فيه أحداث ملك الخواتم، يعتمد في الأساس على كتاباته المستمرَّة من مكتبه في أكسفورد. كذلك ليس من الواضح أنَّ وحدة شخصه أو قوانين المنطق ستُنتهك بالضرورة في مثل هذا الموقف. فبعد كلِّ شيء الأرض الوسطى وأكسفورد ليسا مجرَّد مكانين مختلفين في نفس العالم، مثل شيكاغو ونيويورك، ولكنَّهما “عوالم” أو “دُنَى” مختلفة تمامًا.
بالطبع، هذا مجرَّد تشبيه. وتوجد اختلافات بين دخول الخالق إلى الخليقة، والكاتب الذي يكتب عن نفسه في قصَّة. ومع ذلك، فإنَّ العلاقة بين الله وعالمه المخلوق تشبه إلى حدٍّ كبير العلاقة بين أكسفورد والأرض الوسطى أكثر من العلاقة بين شيكاغو ونيويورك. إنَّ تصوير تولكين وهو يسير في شاير بينما لا يزال جالسًا في مكتبه في أكسفورد ربَّما تكون إحدى الطرائق للتطوُّر في تصوُّر كيف يمكن أن يكون ابن الله غير محدود في طبيعته الإلهيَّة ومع ذلك محدودًا في طبيعته البشريَّة، كلُّ ذلك بينما يظلُّ شخصًا واحدًا.
لماذا هذا المفهوم مهمٌّ؟
لن أصرَّ شخصيًّا على أنَّ التقاليد المسيحيَّة أو الأفراد الذين ينكرون هذه العقيدة ينتهكون بالضرورة وبشكل كامل الكريستولوجي القويم. ومع ذلك، فإنَّه يوجد عديد من المخاوف الخلقيدونيَّة الهامَّة التي تدعم هذا المفهوم. فهو يحمي الطبيعة الإلهيَّة للمسيح كالإله الكامل والثابت (غير قابل للتغيير) حتَّى في أثناء إحباط إغراء “تأليه” طبيعة المسيح البشريَّة لأولئك -على سبيل المثال- الذين أكَّدوا وجود جسد المسيح في كلِّ مكان من أجل حساب حضوره الجسديِّ في العشاء الربَّانيِّ. كما يقول كيفن دي يونغ:
تعتبر هذه العقيدة مهمَّة من حيث إنَّها تحمي سموَّ طبيعة المسيح الإلهيَّة (أي إنَّه لا يمكن احتواؤها) وأصالة الطبيعة البشريَّة (أي إنَّها لا تمتلك صفات محفوظة للألوهيَّة).
ومن خلال الحفاظ على تمايز الطبيعة الإلهيَّة والبشريَّة للمسيح، تساعدنا هذه العقدية على تصوُّر التجسُّد كإضافة، وليس كانتقاص. أي إنَّ ابن الله لم يتقلَّص إلى جنين صغير في رحم مريم، تاركًا جلاله الإلهيَّ وراءه. لكن عوضًا عن ذلك، أتي إلينا مع استمرار وبقاء كلِّ ما هو عليه. تلخِّص إحدى الدراسات أهمِّيَّة هذا المفهوم، بهذه الطريقة: “لم يكن التجسُّد تنازل الابن الأبديِّ عن سموّ جلاله السماويّ، بل إعادة تأكيد سمو جلاله ومُلكه على الخليقة المتمرِّدة.”
أبعد من كلِّ هذا، يمكن أن تساعدنا هذه العقيدة بشكل أساسيٍّ على أن نتعجَّب من جديد بمدى عجب ما نحتفل به في كلِّ عيد ميلاد.
انتبه فقط! إنَّ الإنسان الذي وُضع في المذود كان كلاًّ من:
المقمَّط بإحكام، لكنَّه يملأ السماوات؛
المتشبث بأمَّه، لكنَّه حامل كل الأشياء بكلمته؛
الذي يبكي من أجل الراحة، لكنَّه يحفظ ويحُصي النجوم؛
الذي ينام بين الحمير، وهو المسجود له من الملائكة.