تكوين ٨: ٢٠ – ٩: ١٧
إن كنت تهدف إلى بناء طريق من مدينة إلى مدينة معينة أخرى، فأنت لا تشتري أي حق في ملكية طريق أو تقطع أي أشجار أو تحفر شبر واحد في عرض الطريق إلى أن تعرف ما هي المدينة التي مقصود من الطريق الوصول إليها. فالمكان المقصود الوصول إليه يؤثر على كل قراراتك من البداية. والأشياء التي تقوم بها في البداية تكون منطقية بسبب هدفك في نهاية المطاف.
المستقبل يحدد الماضي:
واحدة من العقائد الأساسيّة في المسيحيّة هي أن التاريخ هو طريق الله لمستقبل قد سبق وعينه. فالله نفسه هو ضابط الطريق السريع وكبير المهندسين ورئيس العمّال في العمل. التاريخ ليس مسارا عشوائيّا يمر خلاله الناس بدون بوصلة. بل هو طريق يؤدي من الخلق إلى الكمال، تم هندسته من قبل الله الذي يدير كل شيء من وجهة نظر سيادته على كل مفردات حياتنا ومستقبلنا. التاريخ يتجه إلى مكان ما. وقد عيّن الله الهدف قبل تأسيس العالم تحت عنايته الإلهية الأسمى التي تخدم كل الأحداث هذا الهدف.
يقول صاحب المزامير: “رَأَتْ عَيْنَاكَ أَعْضَائِي، وَفِي سِفْرِكَ كُلُّهَا كُتِبَتْ يَوْمَ تَصَوَّرَتْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهَا” (١٣٩: ١٦). فقبل أن تستيقظ غدا لتقوم بإسهامك الضئيل في طريق الله السريع للتاريخ، تذكر انه قد كتب بالفعل في كتابه ما سوف تنجزه. وعندما يكتب ذلك، لا يقوم بالتخمين. وفقا لإشعياء ٤٦: ٩ – ١٠، يقول الله: “أَنَا اللهُ وَلَيْسَ آخَرُ. الإِلهُ وَلَيْسَ مِثْلِي. مُخْبِرٌ مُنْذُ الْبَدْءِ بِالأَخِيرِ، وَمُنْذُ الْقَدِيمِ بِمَا لَمْ يُفْعَلْ، قَائِلاً: رَأْيِي يَقُومُ وَأَفْعَلُ كُلَّ مَسَرَّتِي.” في بداية التاريخ شهد وعرف الله نهاية التاريخ، ورأى هدف ذلك الانجاز والقيام به، وعلم ما كان ينبغي القيام به لتحقيق ذلك، وقضى بأن يكون: “رَأْيِي يَقُومُ وَأَفْعَلُ كُلَّ مَسَرَّتِي!” (انظر أيضا أعمال ٢: ٢٣؛ ٤: ٢٨؛ متى ٢٥: ٣٤؛ أفسس ١: ٤؛ ١ بطرس ١: ٢٠؛ رؤيا ١٣: ٨؛ ١٧: ٨).
لذا فبالمعنى الحقيقي للكلمة، الله يدير التاريخ من المستقبل تماما. فهو يقف بالفعل في مكان هدف الوصول ويوجه طاقم الطريق حتى يصل ذلك الهدف المنشود. هذا يعني أنه عندما تريد توضيحا لبعض الأحداث التاريخيّة، لا تحاول القاء نظرة مجردة على الماضي فقط كما يفعل معظم المؤرخين، ففي المسيحية، عليك أن تنظر إلى المستقبل. فإذا كان السبب الرئيسي للأمور هو إدارة التاريخ من المستقبل، فالتفسير الرئيسي للأمور هو في المستقبل. إذا بنى طاقم الطريق منحنى منحدرا في الغرب، فقد يكون السبب او التفسير النهائي أن هناك مستنقع إلى الشرق منه.
العهد الجديد يوضح التحولات في العهد القديم:
إذا كنت لا تؤمن بإله مسيطر بقوة في وعلى التاريخ، فسيكون تفسيرك الوحيد للأحداث هو البحث عن أسباب سابقة، وليس أغراض او اهداف مستقبليّة. ولكن بمجرد أن تُقدّر عمل الله في الكتاب المقدس، سيكون غدا دائما جزءً من تفسير اليوم.
وهذا يعني أننا عندما نتأمل في أعمال الله في العهد القديم، فإننا ينبغي أن نشمل أسئلة مثل: كيف يؤثر هذا التحول في الطريق السريع للعهد القديم بدوره في أحداث العهد الجديد الحاسمة حيث ينضم ابن الله إلى طاقم العمل للطريق السريع لمدة ثلاثين عاما؟ إذا كان الله يدير التاريخ من المستقبل، وإذا كان مجيء الابن في التاريخ هو مجرد لمحة من المستقبل، فتجارب نوح وابراهيم وموسى وداود هي كلها تحضيرات لمجيء المسيح. لقد صنع الله عهدا مع كل من هؤلاء القديسين؛ والعهود تحتوي دائما على وعود، و”مَهْمَا كَانَتْ مَوَاعِيدُ اللهِ فَهُوَ فِيهِ [المسيح] «النَّعَمْ»” (٢ كورنثوس ١: ٢٠). ولذلك، فكان مجيء المسيح هو المستقبل الذي أرشد كل عمل الله في أوقات العهد القديم.
أعدّ الله العهد مع نوح كطريق للمسيح:
ما أريد القيام به في هذه الأيام قبل الأحتفال بميلاد المسيح هو أن ننظر معا في عهود الله مع نوح وإبراهيم وموسى وداود وكيف مهّدوا الطريق للمسيح – الهدف. فذلك يعزز ثقتنا في تخطيط الله ومهاراته الهندسيّة.
سنننظر اليوم إلى عهد الله مع نوح. قال احد رجال الله ذات مرة في عظة عن الطوفان، “نوح والفلك ليس قصة للأطفال!” إنها واحدة من أكثر القصص المرعبة والمأساويّة عن غضب الله في الكتاب المقدس. جوستاف دوري، الفنان الفرنسي، التقط مزاج القصة في نقش له لفسحة كبيرة من بحر فارغ مع صخرة وحيدة ناتئة بضعة أقدام فوق الأمواج. هناك ثلاثة أطفال مرعوبين على الصخرة، والأم والأب ينزلقون إلى البحر في محاولة يائسة لدفع المولود الرابع قليلا إلى بر الأمان. يجلس على صخرة نمر عملاق. وجثث تطفو على المياه ومن فوق تدور نسورا منهكة.
الرسالة الثلاثيّة للطوفان:
رسالة هذه القصة هي ثلاثيّة:
أولا، شر الإنسان عظيم جدا وقلبه مليء بالشر باستمرار.
ثانيا، يأتي صبر الله إلى نهايته وهو يدمّر الخطاة غير التائبين بدينونة.
ثالثا، ومع ذلك، لا يتخلى الله عن هدفه في خلق الإنسان. حتى في دينونة الطوفان،فهو لا يتوقف عن بناء طريقه السريع. “رَأْيه يَقُومُ وَيفْعَلُ كُلَّ مَسَرَّته: “تُمْلأُ كُلُّ الأَرْضِ مِنْ مَجْدِ الرَّبِّ” (عدد ١٤: ٢١). ان قصة دينونة الطوفان حقيقية ومروعة، لكنها ليست الكلمة الأخيرة. فهي تشير إلى المستقبل، وإلى علاج لحالة الانسان لم يكن معروفا في حينها.
١. قلب الإنسان شرير جدا:
دعونا ننظر إلى هذه الدروس الثلاثة كل على حدى. أولا، تُعلّمنا قصة الطوفان أن قلب الإنسان في حالته الطبيعية هو شرير جدا. بين الحين والآخر يقدّم العهد القديم تصريحات واضحة بشأن فساد الإنسان. على سبيل المثال، مزمور ٥١: ٥ “هأَنَذَا بِالإِثْمِ صُوِّرْتُ، وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي.” ولكن عادة ما يصور فساد شر قلب الإنسان ببساطة في نتائجه. بعد السقوط في تكوين ٣، ألقى آدم باللوم على حواء، وقايين قتل أخاه؛ ولامك قتل صبيا، وقام بتعدد الزوجات، وأفتخر، وعندما تصل إلى تكوين ٦: ٥، يقول الكاتب “رَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإنسان قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ.” تبيّن الآية ١١ أن كل هذا الشر الداخلي قد اندلع في كل مكان: “وَفَسَدَتِ الأَرْضُ أَمَامَ اللهِ، وَامْتَلأَتِ الأَرْضُ ظُلْمًا.”
وبالتالي فإن الدرس الأول للطوفان هو عقيدة الخطية. قدوم موسم ميلاد المسيح لا معنى له من دون الخطية، لأن يسوع المسيح جاء إلى العالم ليخلص الخطاة (١ تيموثاوس ٢: ٥). الفكرة الأولى من الطوفان هي أننا خطاة ونستحق الدينونة. لكنني افترض شخص قد يقول: “هذه كانت الحالة قبل الطوفان، وقد تم تطهيرها ونحن أحفاد نوح البار الذي لم يُدان”. لكن الكاتب يضع ثلاثة حواجز ضد هذا الرأي.
لم تتحسن حالة قلب الإنسان بعد الطوفان:
أولا، في تكوين ٨: ٢١، وبعد الطوفان، قال الله في قلبه: “لاَ أَعُودُ أَلْعَنُ الأَرْضَ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الإنسان، لأَنَّ تَصَوُّرَ قَلْبِ الإنسان شِرِّيرٌ مُنْذُ حَدَاثَتِهِ.” تقدير الله لحالتنا الأخلاقية لم يتحسن بسبب الطوفان. فمن السذاجة الإعتقاد بأن نوح وذريته هم بلا خطية.
سقط نوح بعد الطوفان:
في الواقع، وهذا هو الحاجز الثاني، بعد الطوفان يقول تكوين ٩: ٢٠ وما يليه “وَابْتَدَأَ نُوحٌ يَكُونُ فَلاَّحًا وَغَرَسَ كَرْمًا. وَشَرِبَ مِنَ الْخَمْرِ فَسَكِرَ وَتَعَرَّى دَاخِلَ خِبَائِهِ.” وخطيته الخاصة أدت إلى خطايا ابنه. فكما أن الإنسان الأول بعد الخليقة فتح الطريق للخطية لجميع أبنائه، هكذا بعد الطوفان فتح الإنسان نوح مرة ثانية طريقا للخطية لجميع ذريته. فقبل الطوفان وبعده ظلت الطبيعة البشريّة على ماكانت عليه، فاسدة.
خَلُص نوح بالنعمة:
الحاجز الثالث ضد الظن بأن نوح قد بدأ جيلا جديدا خال من الخطية هو تكوين ٦: ٨. سبب نجاة نوح هو أنه “وَجَدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ”. لم يكن نوح بلا خطية، لكنه وجد نعمة عند الله لأنه “سار مع الله” (٦: ٩): اتفق مع الله بشأن شر خطيته، تحول عنها، ووضع ثقته في نعمة الله. ودعي بارا وكاملا في تكوين ٦: ٩. ولكن كلمة كاملا في العهد القديم، لا تعني دائما بلا خطية. فقد يوصف الإنسان كاملا إذا لم يستمر في تصرفاته الخاطئة، واذا كرهها، وتحوّل عنها، وأتى إلى الله طالبا رحمته (راجع أيوب ١: ١). كما أن البر لا يعني بلا خطية. ففي العهد القديم، الإنسان البار هو الخاطئ الذي يكره الخطية، ويتحوّل عنها، ويثق في الله، ويسعى للطاعة، ويحظى بالقبول بالنعمة. (راجع مزمور ٣٢: ١-٢، ١٠-١١). وهذا ما تؤكده رسالة العبرانيين ١١: ٧ “بِالإيمان نُوحٌ لَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ عَنْ أُمُورٍ لَمْ تُرَ بَعْدُ خَافَ، فَبَنَى فُلْكًا لِخَلاَصِ بَيْتِهِ، فَبِهِ دَانَ الْعَالَمَ، وَصَارَ وَارِثًا لِلْبِرِّ الَّذِي حَسَبَ الإيمان“.
لم يكن نوح استثناءً لقانون الخطية العالميّة. لكنه أختبر ما يسميه العهد القديم “ختان القلب” (تثنية ٣٠: ٦)، الذي يطلق عليه في العهد الجديد الولادة الجديدة (١ بطرس ١: ٢٣). فهذا أعطى مجالا للتوبة والإيمان. ولذلك، فإن عقيدة الخطية تُعد الدرس الأول لهذه القصة. فبدون الولادة الجديدة والإيمان يمكن أن يُقال عن الانسان، اي كل الرجال والنساء والأطفال “كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ.” (تكوين ٦: ٥). في حال رفض هذه العقيدة، ينهار معنى الطوفان ويصبح موسم ميلاد المسيح مقدمة لخرافة جميلة.
٢. صبر الله يأتي إلى نهايته:
الدرس الثاني للطوفان هو أن صبر الله يأتي إلى نهايته وهو يدين الخطاة غير التائبين. فوفقاً لتكوين ٦: ٧ “فَقَالَ الرَّبُّ: «أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإنسان الَّذِي خَلَقْتُهُ، الإنسان مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ، لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ».” ثم يسترسل في الآية ١٣ “فَقَالَ اللهُ لِنُوحٍ: «نِهَايَةُ كُلِّ بَشَرٍ قَدْ أَتَتْ أَمَامِي، لأَنَّ الأَرْضَ امْتَلأَتْ ظُلْمًا مِنْهُمْ. فَهَا أَنَا مُهْلِكُهُمْ مَعَ الأَرْضِ.” وفي الآية ١٧ يقول الله أن غضبه سيكون بمثابة الطوفان: “فَهَا أَنَا آتٍ بِطُوفَانِ الْمَاءِ عَلَى الأَرْضِ لأُهْلِكَ كُلَّ جَسَدٍ فِيهِ رُوحُ حَيَاةٍ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ. كُلُّ مَا فِي الأَرْضِ يَمُوتُ.” ثم بعد هذه التصريحات الثلاثة التي هي بمثابة ضربة المطرقة عن قصد الله، يأتي الإعلان الواضح،”الهولوكوست البحري”، في تكوين ٧: ٢١ “فَمَاتَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ كَانَ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الطُّيُورِ وَالْبَهَائِمِ وَالْوُحُوشِ، وَكُلُّ الزَّحَّافَاتِ الَّتِي كَانَتْ تَزْحَفُ عَلَى الأَرْضِ، وَجَمِيعُ النَّاسِ.”
وبهذا المعنى فان قصة الطوفان هي قصة للأطفال، وذلك لأن الدروس المستفادة منها سهلة وكافية للطفل أن يفهمها: الله يكره الخطية، ويعاقب الخطاة غير التائبين. عندما جاء المسيح إلى العالم، علّم نفس الشيء عن الخطية، إلا أنه جعل العقوبة أبدية. متى ١٨: ٨ “فَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ أَوْ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ أَوْ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي النَّارِ الأَبَدِيَّةِ وَلَكَ يَدَانِ أَوْ رِجْلاَنِ.” فطوفان الله وابن الله يُلقّنا نفس الدرس: الله يكره الخطية، ويعاقب الخطاة الغير تائبين بدينونة لا تُوصف..
٣. لا يتخلى الله عن مقاصده لأجل الإنسان
هناك درسا ثالثا للطوفان، وهو أنه على الرغم من خطية الإنسان التي لا تُطاق فالله لا يتخلى عن هدفه في خلق الإنسان. لقد خلق الله الإنسان على صورته، وقصد للإنسان أن يملأ الأرض بمجد الله متجلّيا في إيمان الإنسان وبره. ولذلك، فهو حافظ على رَجلٍ واحد بار وعائلته وأعطاه مهمة بركة ملء الأرض مرة أخرى. لاحظ كيف أن تكوين ٩: ١ هي نفس الإرسالية المعطاة لآدم في تكوين ١: ٢٨ “وَبَارَكَ اللهُ نُوحًا وَبَنِيهِ وَقَالَ لَهُمْ: «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ.” في الآية ٧ تكررت الوصية: “فَأَثْمِرُوا أَنْتُمْ وَاكْثُرُوا وَتَوَالَدُوا فِي الأَرْضِ وَتَكَاثَرُوا فِيهَا»”.
فالله مستعد للبدء من جديد مع “آدم” جديد – نوح. ولكن هذه المرة لم تكن البداية في جنة عدن. لذلك يجب على “آدم” الجديد أن يتعامل مع ثلاثة تهديدات حقيقية ضده وضد إرساليته لملء الأرض: تهديدا من الحيوانات، تهديدا من الإنسان، وتهديدا من الله. لذلك جعل الله ثلاثة أحكام خاصة لحماية حياة الإنسان في العالم الجديد حيث ستكثر الخطية والفساد من جديد في وقت قريب.
أعطى الله حقوقا جديدة لكل الحيوانات:
أولا، أعطى الله حقوقا جديدة للإنسان على الحيوانات، بحيث لن تهدده بل تخدمه حتى كغذاء. يقول تكوين ٩: ٢-٣ “وَلْتَكُنْ خَشْيَتُكُمْ وَرَهْبَتُكُمْ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ وَكُلِّ طُيُورِ السَّمَاءِ، مَعَ كُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ، وَكُلِّ أَسْمَاكِ الْبَحْرِ. قَدْ دُفِعَتْ إِلَى أَيْدِيكُمْ. كُلُّ دَابَّةٍ حَيَّةٍ تَكُونُ لَكُمْ طَعَامًا. كَالْعُشْبِ الأَخْضَرِ دَفَعْتُ إِلَيْكُمُ الْجَمِيعَ.” لذا فالله يدعم الإنسان في إرساليته ليملأ الأرض بمعرفة مجده من خلال إزالة تهديد الحيوانات: فالإنسان الآن لديه الحق أن يجعلهم في رهبة، وحتى استخدامهم للغذاء.
جعل الله حكما لكبح جماح القتل:
ثانيا، أعطى الله الإنسان جزءً من الحق إلهي لإنهاء حياة الإنسان، وبالتالي حراسة المجتمع ضد القتل. فإرساليّة ملء الأرض هي مهددة من قبل البشر، كما الحيوانات. وبالتالي الآيات ٥-٦ “وَأَطْلُبُ أَنَا دَمَكُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَقَطْ. مِنْ يَدِ كُلِّ حَيَوَانٍ أَطْلُبُهُ. وَمِنْ يَدِ الإِنْسَانِ أَطْلُبُ نَفْسَ الإِنْسَانِ، مِنْ يَدِ الإِنْسَانِ أَخِيهِ. سَافِكُ دَمِ الإِنْسَانِ بِالإِنْسَانِ يُسْفَكُ دَمُهُ. لأَنَّ اللهَ عَلَى صُورَتِهِ عَمِلَ الإِنْسَانَ.” فقبل الطوفان أبقى الله لنفسه الحق الكامل لإنهاء الحياة حيث هدد بالانتقام بنفسه سبع مرات لكل من يذبح قايين، حتى وإن كان قايين قاتلا (٤: ١٥). ولكن الآن جعل الله حكما لجريمة القتل وهي أن تكون مقيدة على الأقل جزئيا من قبل الإنسان. جعل القتل جريمة يُعاقب عليها بالإعدام.
خُلق الإنسان على صورة الله. وقصد الله هو أن الناس على صورته يملأون الأرض بمجده. لذلك، عندما يظن الإنسان أنه أطفأ إمكانية هذا المجد، فإنه يهاجم الله بطريقة تجعل من إعدامه الخاص من قبل الإنسان يصبح جزءً من قصد الله. في وقت لاحق أعلن الله عن بعض الآثار القانونية لهذه العملية (على سبيل المثال، رومية ١٣: ١-٦)، ولكن هنا النقطة الأساسية هي أنه تم وضع إجراءً خاصا من قبل الله لحماية إرساليته من تهديد البشر.
الله يصنع عهدا مع نوح:
أخيرا، هناك تهديدا من الله نفسه. كيف يجوز على الإطلاق أن تكون الأرض مليئة بمجده إذا فاض غضبه مرة أخرى في طوفان ضد الخطية؟ لحماية البشر ضد هذا التهديد، قام الله بصنع عهدا مع نوح وأولاده في تكوين ٩: ١١ “أُقِيمُ مِيثَاقِي مَعَكُمْ فَلاَ يَنْقَرِضُ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَيْضًا بِمِيَاهِ الطُّوفَانِ. وَلاَ يَكُونُ أَيْضًا طُوفَانٌ لِيُخْرِبَ الأَرْضَ.” جاء الوعد نفسه بشكل إيجابي في تكوين ٨: ٢٢ “مُدَّةَ كُلِّ أَيَّامِ الأَرْضِ: زَرْعٌ وَحَصَادٌ، وَبَرْدٌ وَحَرٌّ، وَصَيْفٌ وَشِتَاءٌ، وَنَهَارٌ وَلَيْلٌ، لاَ تَزَالُ.” وبعبارة أخرى، كأن الله يقول، أعطيك ياانسان الحماية من الحيوانات، وأعطيك الحماية من الإنسان، وفي عهدي وعد بأن أعطي لك الحماية منيّ. وسوف أدعم، بدلا من تدمير، عمليات العالم الطبيعي والتي تعتمد عليها في الحياة. ما دام العالم مستمر، سوف لن اسمح بدينونة العالم بالطوفان وأبقي على نظام الخليقة.
إذن هذه هي الدروس الثلاثة للطوفان:
١.شر الإنسان عظيم جدا وقلبه مليئ بالشر دائما
٢. الله يكره الخطية، وصبره له نهاية، وهو يدين الخطاة الغير تائبيين،
٣. ومع ذلك فالله لا يتخلّى عن هدفه في الخلق ليملأ الأرض برجال ونساء يعكسون مجده بإيمانهم وطاعتهم.
خاتمة قصة الطوفان:
لكن لاحظ ما ينطوي عليه ذلك. الخطية مازالت مشكلة بعد الطوفان بقدر ما كانت قبل الطوفان. لم يقضي طوفان الدينونة على الخطية، وعهد النعمة لم يضمن البر. إذا كان قصد الله هو أن يملأ الأرض من مجد بره، إذن يجب أن نستنتج أحد أمرين: إما الله قد فشل، أو ان الله يُعد لشيء أكبر في المستقبل. الحقيقة ان الله لم يفشل! وبالتالي فإن كتّاب العهد الجديد رأوا في قصة الطوفان ظلاً لدينونة الله النهائيّة بالنار (٢ بطرس ٣: ٥-٧)، والفلك باعتباره ظلا للخلاص النهائيّ (١ بطرس ٣: ٢٠-٢١)، وأيام نوح كنموذج للأيام الأخيرة قبل مجيء ابن الإنسان (متى ٢٤: ٢٧ وما يليه). إن قصة نوح والطوفان غير مكتملة في حد ذاتها. فالله مازال يكره الخطية ولم يتم العثور على علاج. تصرخ القصة بحثا عن خاتمة.
وهناك فكرة نهائيّة في القصة عن الخاتمة القادمة يمكننا ملاحظتها في (تكوين ٨: ٢٠)، ففي نهاية الطوفان وقبل أن يصنع الله عهده “بَنَى نُوحٌ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ. وَأَخَذَ مِنْ كُلِّ الْبَهَائِمِ الطَّاهِرَةِ وَمِنْ كُلِّ الطُّيُورِ الطَّاهِرَةِ وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ عَلَى الْمَذْبَحِ، فَتَنَسَّمَ الرَّبُّ رَائِحَةَ الرِّضَا. وَقَالَ الرَّبُّ فِي قَلْبِهِ: «لاَ أَعُودُ أَلْعَنُ الأَرْضَ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الإِنْسَانِ».” عهد الله الكريم مع نوح كان ردا على الذبيحة النقيّة. أليس ذلك ظلا ايضا بأن الله الذي يجب أن يجد علاجا للخطية، خطط له في ذبيحة آخرى أعظم، وهي ذبيحة إبنه؟
هناك خاتمة لهذه القصة، وهي تبدأ بموسم ميلاد المسيح. ففيه نجد العلاج النهائي للخطية. كما تقول (رسالة العبرانيين ٩: ٢٦) “وَلكِنَّهُ الآنَ قَدْ أُظْهِرَ [المسيح] مَرَّةً عِنْدَ انْقِضَاءِ الدُّهُورِ لِيُبْطِلَ الْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ.” لا يزال الله يكره الخطية. نحن ما زلنا خطاة. ولكن الله لن يتخلى عن قصده أبدا ليملأ الأرض من مجده. ان العلاج النهائي لخطية الانسان هو في يسوع المسيح. لذا لنأتي إليه في موسم الميلاد هذا واكتشف الغرض الذي لأجله خُلقنا.
ملاحظة إضافيّة: للحصول على مزيد من الدراسة لاحظ كيف يُستخدم العهد مع نوح لإعطاء الثقة في وعود الله الأخرى (إرميا ٣١: ٣٦؛ ٣٣: ١٧-٢٦؛ إشعياء ٥٤: ٩، ٢ بطرس ٢: ٥؛ ٣: ٥-٧).