أمانة المسيح أم الإيمان بالمسيح

في السنوات الأخيرة، اختلف، بل وتجادل علماء اللاهوت حول معنى “pistis Christou” في العهد الجديد. بلا شك يدعونا الكتاب المقدس أن نضع إيماننا في أمانة المسيح لأجل خلاصنا. ومع ذلك، فعندما يتعلّق الأمر بمقاطع معينة من العهد الجديد، فإن عبارة “pistis Christou” كثيرًا ما تبدو غامضة، ويكون السؤال هو: هل ينبغي ترجمتها  “أمانة المسيح” أم “الإيمان بالمسيح”؟

تمت إثارة هذه القضية قبل ثلاثين عامًا على يد ريتشارد هايس الذي طرح اقتراحًا يقضي بأن تترجم pistis christou إلى “أمانة المسيح” باعتبارها أفضل تعبير عن تعاليم الرسول بولس حول الشركة والاتحاد في المسيح. فالإيمان بالمسيح هو الاشتراك في أمانته. أما من يخالفون هايس الرأي فيرون أن التركيز على تفسير “أمانة المسيح” وحده، يمكن أن يُقلل من أهمية تأكيد بولس على ضرورة إيمان الشخص كاستجابة منه لرسالة الإنجيل.

جدير بالذكر أن هذا الجدال تجاوز حدود التقسيمات المذهبية والفِرَق اللاهوتيّة. فمثلًا، إن.تي. رايت والمعروف بتأييده للمنظور المستحدث عن بولس (New Perspective on Paul) يُفضِل تفسير “أمانة المسيح”، بينما اختار جيمس دن، رفيق درب إن.تي. رايت، تفسير “الإيمان في المسيح”، فهناك العديد من الآراء المتنوعة حول هذا الموضوع من جميع الاتجاهات المختلفة.

لعدة سنوات، صارعت فكريًا مع هذا الجدال باحثًا عن توضيح لما كان يقصده بولس بالفعل من هذه العبارة. ورغم أني لم أكن متأكدًا من أي من الخيارين بشكل كامل، إلا أني انجذبت في البداية لترجمة “أمانة المسيح” لعدة أسباب وجدتها مقنعة:

1. تجنُب التكرار في مقاطع كتابيّة رئيسية

تبدو ترجمة رومية 3: 21-22 كما لو أنها تحوي تكرارًا غريبًا إذا ما تُرجمت “pistis Christou” إلى الإيمان بالمسيح كما هو الحال في ترجمة ڤاندايك، إذ نقرأ: “برُّ اللهِ بالإيمانِ بيَسوعَ المَسيحِ، إلَى كُلِّ وعلَى كُلِّ الّذينَ يؤمِنونَ.” أليس ممكنًا أن يكون بولس قد قَصَد أن يقول: “بر الله بأمانة يسوع المسيح، إلى كل من يؤمن؟”

وإليك مقطعًا مُشابهًا آخر في غلاطية 2: 16: “ولذلِكَ آمَنّا بِالمَسيحِ يَسوعَ ليُبرّرَنا الإيمانُ بِالمَسيحِ.” (الترجمة العربية المشتركة) أليس من الممكن تجنب هذا التكرار، إذا ما تُرجمَت الآية إلى: “ولذلِكَ آمَنّا بِالمَسيحِ يَسوعَ لنَتَبَرر بأمَانة المَسيح.”

2. الجاذبيّة اللاهوتيّة

إن ترجمة “pistis Christou” على أنها “أمانة المسيح” لها جاذبيتها اللاهوتيّة. فموضوع “الاتحاد بالمسيح” هو موضوع محوري للغاية في لاهوت الرسول بولس، كما أنه منطقيًا في عدد من المقاطع. فمثلًا، تترجم غلاطية 2: 20 في ترجمة ڤاندايك إلى: “إيمانِ ابنِ اللهِ”، وليس الإيمان بابن الله.

كما أن ترجمة “أمانة المسيح” تعزز من عقيدة اللاهوت المُصلح حول التبرير بحسبان بر المسيح لنا. فنحن “نتبرر بأمانة المسيح”، أي بطاعته الكاملة لمشيئة الآب، وأمانته حتى الموت نيابة عن شعب عهده.

بجانب أن فيلبي 3: 9 إذا ما تُرجمَت إلى “وليس لي برّي الّذي مِنَ النّاموسِ، بل الّذي بأمَانَة المَسيحِ، البِرُّ الّذي مِنَ اللهِ بالإيمانِ،” تُشدد بشكلٍ أكبر على أمانة المسيح وليس إيماننا، كوسيلة للبر الذي نحتاجه. وبالنسبة لي، فإن ما يعطي مجد أعظم للمسيح يكون أكثر جاذبية بالتبعية.

3. تفسير مقنع

إذا ما وضعنا موضوع خيانة وعدم أمانة إسرائيل في طاعة أعمال الناموس في مقابلة مع أمانة المسيح من خلال موته، فإن هذا الطرح يعطي تفسيرًا مقنعًا للفقرات الرئيسيّة في رسالة غلاطيّة. فيكتب آرديل كانداي: “تُصوّر حجة بولس في غلاطيّة المسيح يسوع في مقابلة مع الناموس، ومع دور الناموس كخادم للمسيح، لإعداد الطريق للمسيح الذي جاء الآن. إن هذا التضاد الذي يضعه بولس لـ”pistis Christou” مع “أعمال الناموس” أو “الناموس”، يُعلِن عن أمانة المسيح يسوع الذي جاء ليُتمم ما لم يستطع الناموس فعله.”

ولفترة من الزمن، كنت مقتنعًا بنظريّة “أمانة المسيح”، وذلك للأسباب التي ذكرتها سابقًا. ورغم جاذبية تلك الترجمة، فقد صرت أكثر اقتناعًا اليوم بالتفسير الآخر. فأنا أعتقد أن كُتّاب العهد الجديد قصدوا أن يُشير مصطلح “pistis Christou” إلى “الإيمان بالمسيح” وليس “أمانة المسيح.” وإليكم الأسباب التي أثّرت عليّ في رحلة بحثي:

1. آباء الكنيسة والقرّاء اليونانيين الأوائل

لم يُقدِم أحد من آباء الكنيسة أو القرّاء الأولين للكتاب المقدس باللغة اليونانية على مثل هذا التفسير لعبارة “pistis Christou“. في الواقع، لم يكن هذا أمرًا مطروحًا للنقاش على الإطلاق. هذا واحد من أهم الحجج إقناعًا بالنسبة لي. إذا كنت تتحدث لغة أخرى غير لغتك الأصلية، فستوف تلاحظ أحيانًا وجود تراكيب لغويّة غريبة قد تحمل أكثر من معنى. فلو كان متكلمو تلك اللغة الأصليين قد فهموا تلك التركيبات النحوية بطريقة واحدة فقط، فأعلم أنك على صواب في ترجمة تلك العبارة الغامضة وفقًا لمعناها الواضح في لغتها الأصلية. وينطبق ذات المبدأ على موضوع نقاشنا هنا والناطقين باللغة اليونانية.

ويؤكد باري ماتلوك ذلك بقوله: “ليست القضية أن قرّاء اليونانية الأوائل قد رفضوا صراحة تلك القراءة، وإنما لم يعرفوا هذا الخيار ولم تواجههم أية مشكلة فيه. وبالتالي قرأوا النص [الإيمان بالمسيح] دون أية محاولة تبرير أو جدال. قد يكون الصمت بليغًا جدًا، لكنه هنا يُغّرد عن حق!”

2. مشكلة “التكرار”

إن مشكلة التكرار ليست مشكلة كبيرة كما تبدو للوهلة الأولى. على سبيل المثال، في رومية 3: 21-22، أراد بولس، في الأغلب، التركيز على كلمة “كل”، للتأكيد على أن بر الله من خلال الثقة بيسوع المسيح هو لكل الذين يثقون.

كما أنه من المحتمل أيضًا أن يكون استخدام بولس للتكرار هو عن قصد. ففي الثقافات القديمة التي كانت تعتمد على النقل الشفهي بشكل أساسي، كان هذا أمرًا شائعًا لتوضيح وتأكيد المعنى الذي يقصده الكاتب.

3. المنظور النحوي

نحويًا، هناك مواضع كتابيّة أخرى تُستخدم فيها ذات التركيبة النحوية للإشارة إلى المسيح باعتباره “موضوع الأمر”. ففي فيلبي 3: 8، يُصَف المسيح باعتباره “موضوع المعرفة”. وفي تسالونيكي الأولى، يُقدّم المسيح باعتباره “موضوع الرجاء”. ومن خلال هذه الأمثلة يتضح من السياق أن بولس لا يتحدث عن معرفة المسيح أو رجاء المسيح. ولا يوجد دليل واحد يمنعنا من فهم (pistis Christou) على النحو ذاته-أي أن المقصود هو أن المسيح هو موضوع الإيمان [الإيمان بالمسيح]، وليس أمانة المسيح.

4. الجاذبية اللاهوتية والتفسير الأمين للنصوص

ينبغي ألا نُفسّر الكتاب المقدس بتحيز لما هو جذاب لاهوتيًا. فعلى الرغم من محبتي للتأكيد الذي يُقدمه منظور “أمانة المسيح” على طاعة المسيح، إلا أنه ينبغي ألا يؤثر ما يبدو أنه يُدعّم موقفي اللاهوتي على التفسير الأمين للنص. إن القضيّة الأساسية هي ما الذي أراد بولس قوله لقرائه الأصليين، وليس كيف لهذا الرأي أن يُدعّم ما أؤمن به.

أما فيما يتعلّق بما قلته في بداية المقال حول أمانة المسيح وطاعته للعهد، فيجب أن أكرر بأن تركيز بولس على “الإيمان بالمسيح” لا يُقلل مطلقًا من حقيقة أن الله هو من يقوم بالخلاص.

فيكتب مايكل بيرد قائلًا: “إن الإيمان بالمسيح يعني أن نُسلّم أنفسنا للإنجيل، وهذا يتضمن مركزيّة عمل الله للخلاص في المسيح، والذي يتضمن مجيئه وأمانته، وموته، وقيامته. وبالتالي، فما أود قوله هو أن أمانة يسوع ليست متضمَنة في كون (pistis) هي وصف للأمانة؛ إنما في (Christos) [الأمين].”

وكلما تعمقت في الدراسة أكثر، صرت أكثر اقتناعًا أن عبارة (pistis Christou) يجب أن تُترجم “الإيمان بالمسيح”. وماذا عنك أنت؟ هل فكرت في هذا النقاش من قبل؟


تم نشر هذا المقال بتاريخ 23 مايو 2011 على موقع The Gospel Coalition, U.S. Edition

شارك مع أصدقائك

أستاذ زائر بكليّة ويتون للاهوت، كما يعمل كمستشار لاهوتي لـ(LifeWay Christian Resources).