تقييم نجاح أو فشل الخدمة

يطرح معظم الخدام الذين أمضوا سنوات طويلة في شكل من أشكال خدمة التعليم والرعاية والتلمذة أسئلة من نوعية: هل ما أفعله مُفيد حقًا؟ هل أديت دوري بنجاح؟ هل سيكون لخدمتي نتائج وثمار أبدية؟ أم أنه كان إهدارًا للوقت، لا غير؟

وسواء كانت الدوافع وراء خروج هذه الأسئلة للنور هي انعدام أو نقص الثقة في النفس، أو أنها وليدة لحظة مواجهة أمينة مع الذات، أو غير ذلك. فيمكن لهذه الأسئلة أن تجبرنا على أن نتوقف لتُمتحَن قلوبنا أمام الرب.

والحقيقة أننا نعيش في عالم يُقيم كل شيء اعتمادًا على النتائج، حتى أن تفكيرنا أصبح مبرمجًا لتقييم الأمور على نفس الأساس، أي النتائج الناجحة والإنتاجية. لكن، هناك ما هو أكثر من ذلك، إذ ندرك كمسيحيين أن الرب يريد لنا أن نعيش حياة مثمرة (أنظر إلى مثل الكرمة في إنجيل يوحنا الأصحاح الخامس عشر). والواقع أن الإثمار في “مثل الكرمة” يتحدث عن حياة التقوى والثبات في المسيح، وهو ما يميز الشخصية المسيحية. إلا أن الإثمار أيضًا يتضمن كذلك انضمام تلاميذ جُدد نامين في الكرمة. كما يشرح كولين كروز:

عندما قال الرب يسوع أن على التلاميذ أن “يذهبوا” ويأتوا بثمر، فإن “الذهاب” على الأرجح يشير إلى عمل التلاميذ التبشيري. وأن “الثمر” الذي سيحملونه هو المؤمنين الجدد.”[1]

أو كما أوضح يسوع لاحقًا:

“لَيْسَ أَنـْتُمُ ٱخْتَرْتـُمُونِي بَلْ أَنَا ٱخْتَرْتـُكُمْ، وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتـُوا بِثَمَرٍ، وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ” (يوحنا ١٦:١٥)

بالإضافة إلى ذلك، نحن ندرك الحاجة إلى أن نكون وكلاء صالحين على الهبات والعطايا التي وهبها الله لنا، والتي سنعطي عنها حسابًا في يوم من الأيام؟ فهل نستخدم عطايا الله لنا بشكل جيد؟ وهل سيكون لدينا ما نظهره من “ثمر يدوم” عندما نعطي حساب في ذلك اليوم؟

الطبيعة الحقيقية والواقعية للخدمة الكنسية

أدى صعود “حركة نمو الكنيسة”[2] على مدى الخمسين عامًا الماضية إلى خلق توقعات حول طبيعة الخدمة الكنسية، مما زاد من مستوى القلق لدى العديد من الخدام الذين يجتهدون بأمانة في عمل الرعاية والتعليم والتلمذة في كنائسهم المحلية. بالطبع، نريد جميعًا أن نرى خدماتنا تزدهر وشعبنا ينمو روحياً وعدديًا. وإنه لأمر رائع أن يحدث هذا.

ومع ذلك، تُظهر القراءة السريعة للعهد الجديد أن كثيرًا من الناس في الكنيسة الأولى سقطوا بعيدًا، حتى في ظل خدمة الرسل الأطهار والذين قدموا أفضل نموذج لخدمة الكنيسة. تأمل معي، عزيزي القارئ الأمثلة التالية، من كنيسة واحدة فقط هي كنيسة أفسس والتي تولى تيموثاوس مسئوليتها بعد بولس الرسول:

  • أسلم الرسول بولس اثنين من المُعلمين الكذبة من كنيسة أفسس للتأديب الكنسي، إذ يقول عنهما: “هِيمِينَايُسُ وَٱلْإِسْكَنْدَرُ، ٱللَّذَانِ أَسْلَمْتُهُمَا لِلشَّيْطَانِ لِكَيْ يُؤَدَّبَا حَتَّى لاَ يُجَدِّفَا” (تيموثاوس لأولى ٢٠:١)
  • ارتد جميع الذين في آسيا عن بولس، ومنهم فِيجَلُّس وهَرمُوجَانِس (تيموثاوس الثانية ١٥:١)
  • ابتعد هِيمِينَايُس وفِيلِيتُس عن الحق، ووصف بولس تعاليمهم أنها تَرْعَى كَآكِلَةٍ (غرغرينا/ غنغرينا) (تيموثاوس الثانية ١٧:٢)
  • ديماس أحَبّ الْعَالَمَ الحَاضِر وَذَهَبَ إِلَى تَسَالُونِيكِي (تيموثاوس الثانية ١٠:٤)

وهذه مجرد كنيسة واحدة!

فالحقيقة التي علمنا إياها الرب يسوع في مثل الزارع أن البعض سيرتد ويسقط “إِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ ٱضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ ٱلْكَلِمَةِ” (متى٢١:١٣). كما أن “هَمُّ هَذَا ٱلْعَالَمِ وَغُرُورُ ٱلْغِنَى يَخْنُقَانِ ٱلْكَلِمَةَ” في حياة بعض الناس (متى٢٢:١٣). علاوة على ذلك، عندما نقترب أكثر فأكثر من موعد مجيء الرب ثانيةً، لا ينبغي أن نُصدم عندما نرى أنه “لِكَثْرَةِ ٱلْإِثْمِ تَبْرُدُ مَحَبَّةُ ٱلْكَثِيرِينَ” (متى١٢:٢٤). ويتَرَكْ البعض مَحَبَّتهم الأولى للمسيح (رؤيا ٤:٢) فيصبحون فاترين في إيمانهم (رؤيا 3: 15-16). وبرغم حُزننا، ينبغي ألا نستبعد وجود مثل أولئك الأشخاص في كنائسنا اليوم.

إن محبة الناس ومساعدتهم على النمو الروحي في معترك الحياة ليست عملية حسابية دقيقة تحكمها معايير عالمية. ففي أفضل تقدير، لا يوجد فرح أعظم من هذا. وفي أسوأ حالات المؤمنين الروحية، يمكن أن نُصاب كخدامبالإحباط الشديد وخيبة الأمل. ومع ذلك فهذه هي الطبيعة الحقيقية الواقعية والمتشابكة للعلاقات التي نحن مدعوون للتعامل معها في حقل خدمة إنجيل يسوع المسيح وكنيسته. وكل من شارك في هذا النوع من الخدمة لأي فترة زمنية عليه أن يتوقع بنعمة الله مثل هذه التقلبات المُربكة بين الحين والآخر.

تقييم الأمور من منظور كتابي

إن “مثل الزارع” في الأصحاح الثالث عشر من إنجيل متى يذكرنا بوضوح أننا لا نملك السيطرة على الأراضي التي يُلقى عليها بزور الإنجيل، ولا نتحكم في طبيعة التربة التي تستقبلها. كل هذا يحدده الله. وبالنسبة لنا جميعًا في خدمة الإنجيل، وبغض النظر عن أفضل جهودنا ونوايانا ورغبتنا في رؤية ثَمَراً مُضاعفًا، فمن الاتضاع أن نُدرك مدى محدودية تأثيرنا على نتائج خدمتنا.

هل هذا يعني أن دورنا لا يهم كثيرًا؟ بالطبع لا! دورنا حيوي للغاية. وهدفنا واضح والتزامنا العملي بهذا الهدف لا يتزعزع. التزامنا الأساسي هو رسالة الإنجيل الذي نكرز به، ومركزه شخص المسيح، يقول بولس مخاطبًا كنيسة كولوسي عن رجاء الإنجيل:

ٱلَّذِي نـُنَادِي بِهِ مُنْذِرِينَ كُلَّ إنـْسَانٍ، وَمُعَلِّمِينَ كُلَّ إنـْسَانٍ، بِكُلِّ حِكْمَةٍ، لِكَيْ نـُحْضِرَ كُلَّ إنـْسَانٍ كَامِلاً فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ. ٱلْأَمْرُ ٱلَّذِي لأَجْلِهِ أتـْعَبُ أيْضاً مُجَاهِداً، بِحَسَبِ عَمَلِهِ ٱلَّذِي يَعْمَلُ فِيَّ بِقُوَّةٍ. (كولوسي ١: ٢٨-٢٩)

ولكن في نهاية المطاف، فإن مصدر النمو هو عمل الله. كما يشرح بولس في كورنثوس الأولى ٥:٣-٩ أن ما الغارس أو الساقي سوى “عَامِلاَنِ مَعَ ٱللّٰهِ”، وسيُكافأون على تعبهم هذا، ولكنهم ليسوا بمسؤولين عن ثمر خدمتهم.

معظمنا لديه إدراك معقول جدًا لهذا المنظور اللاهوتي. نحن نؤمن به في أذهاننا. لكن هل حقًا اخترق عُمق كياننا الداخلي؟ هل يعزينا في خدمتنا اليومية للكرازة بالإنجيل؟

بعض المخاطر التي يجب تجنبها

هناك خطران رئيسيان يجب الاحتراز منهما، خاصةً عندما نفتقد اليقظة الروحية واللاهوتية اللازمة.

1. خطر الكبرياء

يجب أن نكون شاكرين على برهان عمل الروح وقوة الإنجيل الذي يقدمه الله ليشهد على صدق عمله من خلال خدماتنا. يا له من فرح أن نرى الضالين يهتدون من خلال خدمة الكلمة وعمل الروح القدس! ولكننا عرضة لأن ننسب لذواتنا، على الأقل، بعض الفضل وبالتالي نسلب الله مجده. إن رغبتنا الدفينة في الظهور ونوال المديح على نجاح الخدمة والاعتراف العلني بذلك يمكن أن تكون مدمرة جدًا لخدمة الإنجيل الفعالة. إن خطر الكبرياء كامن في كل مكان في أوساط الخدمة المسيحية. فلنحترس منه!

2. خطر اليأس

كم مرة ذهبنا إلى اجتماعات الرعاة (أو حتى اجتماعات الصلاة) حيث تتم مشاركة “قصص النجاح”، وخرجنا بعدها محطمين، إذ تم تعزيز إحساسنا المشوه بالشفقة على الذات والفشل الشخصي في الخدمة؟ يتساءل البعض منا قائلًا: “لماذا يقوم الجميع بعمل جيد للغاية بينما أنا أصارع أسبوع بعد آخر: أشاهد الناس يبتعدون؛ والإحصائيات تتراجع؛ هل حان الوقت للتقاعد وترك الخدمة؟”

يمكن أن ينطلق الكبرياء، كما اليأس أيضًا من نفس النظرة الخاطئة للنجاح في الخدمة. إذ نعتقد أن فعاليتنا في الخدمة مصدرها نحن وما نفعل. فعندما تسير الأمور على ما يرام، فإننا نستحق فضل المديح والمجد. وعندما يحدث عكس ذلك، فإننا نلوم أنفسنا ونشعر بأننا قد فشلنا. إذا فكرنا بهذه الطريقة، فمن المحتمل أن تكون الخدمة مُرهِقة، بل ومستنزفة لنا عاطفياً ونفسيًا.

التمسك بالنظرة الإيجابية

إذن كيف يجب أن نفهم معنى “النجاح” أو “الإثمار” في الخدمة؟

1. تمسك بنظرة كتابية عن النجاح

الرسوم البيانية وميزانية الخدمة ليست مقياس الله لتقييم فعالية خدمة الإنجيل في الكنيسة المحلية. حتى عندما يكون هناك القليل من الأدلة الموضوعية على النمو، فإن الله لا يزال يعمل.

2. كن شاكرًا على كل تجاوب بسيط أو غير مبهر مع كلمة الله

تحدث ردود الفعل الروحية الإيجابية بعدة طرق مختلفة، وغالبًا ما تكون غير متوقعة.

3. افرح عندما يختبر الآخرون نمو في خدمة الإنجيل

تذكر أننا جزء صغير من فريق أكبر من العاملين في حقل الخدمة مع كل من يزرع ويسقي بزور الإنجيل، لكنهم جميعًا يعملون لتحقيق نفس الغاية ويتشاركون معًا في بركة الحصاد.

4. كن على اتصال مع الآخرين الذين يعملون بنشاط في الخدمة

التشجيع المتبادل هو عامل مهم بغرض استمرارية خدمة الإنجيل على المدى الطويل.

5. الاستمرارية والمثابرة بصبر وجلد في كل الأوقات

كما في مثل الزارع، تعلمنا الحياة الزراعية أن الزراعة الروحية بشكل عام بطيئة ومتعبة، وغالبًا ما تكون عملًا مُحبطًا. قد لا تتحقق توقعاتك بالحصاد الوفير. لكن الله يدعونا دومًا إلى الأمانة.

6. استمر في الصلاة ولا تستسلم

الصلاة هي تذكير دائم لنا بأن الله وحده قادر على تغيير قلب الإنسان.

بشكل مطلق، فإنه في الأبدية فقط، سينكشف ما إذا كانت خدمتنا “ناجحة” أم غير ذلك. الرب وحده يعلم. إنه أمر يندرج تحت بند “السرائر” التي تخصه هو وحده (تثنية 29:29). وعلي أن أكون سعيدًا بذلك. فهي حقيقة تمنعني من الوقوع في فخ الكبرياء أو الانزلاق في هوة اليأس. يعلمني ذلك أن أستمر مجاهدًا: “ٱلْأَمْرُ ٱلَّذِي لأَجْلِهِ أتـْعَبُ أيْضاً مُجَاهِداً، بِحَسَبِ عَمَلِهِ ٱلَّذِي يَعْمَلُ فِيَّ بِقُوَّةٍ” (كولوسي ٢٩:١).

من المفيد أن تنفق نفسك في الرعاية والتعليم والتلمذة، العمل الذي غالبًا ما يكون مخفيًا عن الأضواء. إذا كانت هذه هي خدمتك التي وهبها الله لك، فلن تذهب سدى. وربما تقابل في اليوم الأخير مؤمن يشكرك على تحمل عناء البحث عنه، عندما قدمت له كلمة الإنجيل بفرح، وتلمذته بصبر، وقد كان هذا الشخص بحاجة إلى إنسان مثلك. فتشجعوا أيها الإخوة والأخوات.


[1] The Gospel According to John: An Introduction and Commentary, Tyndale, p322.

[2] حركة نمو الكنيسة هي حركة داخل المسيحية الإنجيلية تهدف إلى تنمية الكنائس على أساس البحث وعلم الاجتماع والتحليل وما إلى ذلك. تسعى حركة نمو الكنيسة بشغف لتحقيق للإرسالية العظمى ورؤية الناس يتعرفون على المسيح المخلص. أكد دونالد ماك جاڤاران Donald McGavran، وهو شخصية بارزة في هذه الحركة، أن “إرادة الله أن يصبح الرجال والنساء تلاميذ ليسوع المسيح وأعضاء مسؤولين في كنيسة المسيح.” إلا أن أحد جوانب النقد الموجه للحركة يتمحور حول تركيزها في المقام الأول على “الأرقام” كمعيار أساسي لتقييم “النجاح”. (المترجم)

شارك مع أصدقائك

يخدم كراعي لكنيسة سيتي نورث المعمدانية في مدينة بريسبان بأستراليا منذ عام 2002. أثناء مسيرته الطبية وخدمته كراعي، أكمل دراساته اللاهوتية في كلية اللاهوت المعمدانية في كوينزلاند. لديه حب عميق للكنيسة المحلية، مع شغف لرؤيتها تتجمع حول تعاليم الكتاب المقدس المتسقة وتعليمها بشكل فعال لخدمة الإنجيل.