عقيدة المحبة: هل تحتاج المحبّة إلى عقيدة؟

هناك اتهام يُوجَّه إلى من يعتقد أن الحق الذي يتبعه هو الطريق الوحيد إلى الخلاص ودخول الملكوت، بأن هذا يُعَدُّ تدينًا وتعصّبًا أعمى. وهنا لا بد أن نتوقف قليلًا لنتأمل في معنى كلمتَي “دين” و”عقيدة”.

إن “الدين” في جوهره ومفهومه الأساسي هو السعي إلى الوصول إلى الله من خلال الجهد والعمل، واتباع الوصايا والمبادئ لنيل الطهارة والنقاء المطلوبَين للخلاص والتبرير أمام الله. وبمعنًى آخر، يُفهم “الدين” على أنه محاولة لوضع رصيد من الأعمال الصالحة لدى الله، كنوع من سداد الدين الناتج عن الخطية والذنب، ويكون هذا السداد من خلال الجهاد الروحي وطاعة وصايا الله.

فالدين، بهذا المفهوم، يشبه علاقة تعاقدية أو اتفاقًا تجاريًا بين طرفين تقوم على المصلحة المتبادلة: “ادفع لتحصل على…”. فمتى سددتَ جميع التزاماتك، تصبح في أمان. ومن الطبيعي أن هذا التصوّر للدين يضع الإنسان في مركز القصة، ويجعله هو البطل، لأن الأمر قائم على جهده الشخصي وبرّه الذاتي.

الفرق بين الدين والعقيدة

يفترض الدين منظومة من المعتقدات التي تمكّنه من تطبيق مفاهيمه، والاستمرار في التأثير على السلوك والأخلاق. فالمتدين يخاطب الله وكأنه يقول: “سأقدّم لك المحبة والعمل، لكي تحبني وتباركني.” وجميع عقائد الأديان تدور في فلك هذا المفهوم.

لذلك، لا بد لنا هنا من التمييز بين الدين والاعتقاد. فالدين يشتمل على عقائد؛ أي أنه يتبنّى ويؤمن بالأفكار التي سبق ذكرها. لكن هذا لا يعني أن الدين هو نفسه العقيدة. فالدين يمتلك عقيدة، لكنه ليس هو العقيدة نفسها. إذًا، ما معنى “العقيدة”؟

كلمة “عقيدة” ببساطة مشتقة من عبارة “أنا أعتقد”، أي أنني أتبنّى فكرة أو أنظر إلى الأمور بطريقة معيّنة. وهذا يعني أن كل إنسان لديه عقيدة، لأن كل إنسان يفكّر ويتعامل مع الأمور من منظور خاص، سواء كان ذلك بحسب دين، كما ذكرنا، أو بحسب الثقافة والعادات والتقاليد، أو حتى بحسب ما يُسمّى “اللّاعقيدة”.

وما معنى هذا؟ معناه أنه إذا قال شخص إنه لا يتبع أي عقيدة، بل يتبع المحبة مثلاً، فإن هذا الموقف في حد ذاته يُعتبر عقيدة. لأنه يعتقد أن المحبة أهم من الفكر، أو يعتقد أن العقيدة تُفسد المحبة. فهو في النهاية “يعتقد”، أي إنه يحمل عقيدة، حتى لو لم يسمّها كذلك.

هل تحتاج المحبّة إلى عقيدة؟

وهنا نحتاج أن نتوقف مرة أخرى عند مفهوم “المحبّة”. فهل تحتاج المحبّة إلى عقيدة؟ وهل هناك أنواع مختلفة من المحبّة؟ أو هل تحتوي المحبّة في داخلها عقائد؟

لا شك أن هذا سؤال عميق وصعب، لكنه ضروري. فمثلًا، من المهم أن نُدرك أن الأساس الذي تقوم عليه عقائد الأديان هو العلاقات، وبالأخص تنظيم العلاقة بين الله والناس. ولذلك تُعتبر المحبّة – في نظر كثير من الأديان – الغاية النهائية. ومع ذلك، فإن هذه الأديان تفشل غالبًا في الوصول إلى هذه الغاية، بسبب مفاهيمها ومناهجها.

فمع أن الدين من حيث الظاهر يدور حول استعادة العلاقة مع الله، إلا أن الهدف الحقيقي – في كثير من الأحيان – لا يكون الله نفسه من حيث شخصه، وجماله، وقداسته، ومحبّته، بل يكون الغرض هو الحصول على بركات الله، والنجاة من الجحيم.

فعلى سبيل المثال، تقدّم الفلسفة البشرية حلولًا تبدو مختلفة عن تلك التي تطرحها الأديان من أجل بلوغ المحبّة المنشودة، فهي “تعتقد” أن الإنسان يستطيع أن يصل إلى المحبّة والرقي الأخلاقي من خلال عقله. وبحسب هذا التصوّر، فإن الإنسان لا يحتاج إلى الدين إلا في بعض الجوانب التنظيمية التي تساعد على مقاومة الانحرافات، أما الأساس الحقيقي فهو “العقل المجرّد”، الذي يُفترض أنه قادر على التمييز بين ما هو مثالي وما هو غير ذلك.

لاحِظ هنا أن هذا أيضًا نوع من “الاعتقاد” أو “العقيدة”، إذ يرى أن المحبّة تنبع من العقل لا من الشريعة، وأنها موجودة في داخل الإنسان، ولا يحتاج إلا إلى التأمّل في ذاته كي يكتشفها ويعيشها. ولا شك أن هذا التصوّر يُعدّ من أكثر المعتقدات شيوعًا وتأثيرًا في عصرنا الحاضر.

وهناك جماعات كثيرة في زماننا تحاول أن تدمج بين عقائد الأديان ومفاهيم الفلسفة، لتُنتج رؤى “محايدة” يقبلها المتديّن والفيلسوف على حدّ سواء، بحيث لا يُطلب من أحد أن يكون ملحدًا أو متشدّدًا دينيًا. ويُطلق على هذا التوجّه في الوقت الحاضر اسم “الدين العالمي” أو “الإيمان الموحّد”، وهو يقوم على فكرة أن جميع الناس يمكن أن يتفقوا على مجموعة من المبادئ المستقاة من الفلسفة والأديان، وأن الطرق إلى الله متعددة، ولكلٍّ أن يسلك طريقه الخاص أو دينه الخاص، فالمهم أن الجميع – في نهاية المطاف – سيلتقون في نقطة واحدة.

وبحسب هذا التصوّر، فإن المحور الأساس ليس هو الحق أو العقيدة، بل الأخلاق والعمل؛ فذلك هو الخير الحقيقي، في نظرهم. لذلك، فإن المحبّة — كمفهوم — تقوم على اعتقاد وفكر. فلا وجود لمحبّة حقيقية دون ما نؤمن به ونتصوّره عن معناها. فهل المحبّة تعني طاعة الله؟ أم تعني طاعة العقل؟ أم هي مزيج من هذا وذاك؟ هل نأخذ قليلًا من الدين وقليلًا من الفلسفة لنُشكّل فهمًا متوازنًا للمحبّة؟

تعريف المحبة المسيحية

والحقيقة أننا — بحسب الإيمان المسيحي المعلن في الكتاب المقدس — نمتلك مفهومًا آخر مختلفًا كليًا عن المحبّة، ليس من صنع البشر، بل معلَن من الله ذاته. هذا المفهوم موجود في الإنجيل، أو ما يُسمّى “البشارة” التي يعلنها لنا الكتاب المقدّس. فالمحبّة، بحسب كلمة الله في المسيحية، تختلف تمامًا عن المفاهيم البشرية والفلسفية، لأنها تقوم أولًا وأساسًا على تعريف شخص الله نفسه.

فالكتاب المقدّس يصرّح بوضوح: “الله محبّة” (1 يوحنا 4:8)، أي أن المحبّة ليست مجرد صفة من صفاته، بل هي جوهر كيانه، وطبيعة شخصه. ولذلك، فالله هو المصدر الوحيد للمحبّة الحقيقية، وهو وحده القادر أن يُعرّفنا معناها، لا من خلال العقل البشري، ولا من خلال طاعتنا الذاتية، بل من خلال إعلانه عن ذاته، وشخصه، وفكره الموحى به في كلمته.

لذلك، فإن الله في الإنجيل يعلن عن ذاته في شخص يسوع المسيح، ويُظهر أن المحبّة لها تعريف واضح يجب أن يُعتَقد ويُتَبنّى بالإيمان، لأنه لا يمكن الخلاص دون هذا الإعلان. ولماذا؟ لأن هناك مفاهيم وعقائد أخرى عن المحبّة تتعارض تمامًا مع المفهوم الذي يقدّمه الإنجيل.

فكما ذكرنا سابقًا، الدين البشري يقول: “اعمل، واجتهد، وأحبّ الله لكي يحبّك ويباركك ويخلّصك.” لكن الإنجيل يقدّم صورة مغايرة تمامًا، إذ يعلن أن الله هو من بدأ العمل، وهو من صار إنسانًا في المسيح، وهو من عاهد الإنسان بالخلاص منذ لحظة السقوط، وليس بناءً على جهد الإنسان أو استحقاقه.

بل يؤكّد الكتاب أن الله هو الذي أحبّنا أولًا، لا لأننا أحببناه نحن، بل لأن المحبة نابعة من طبيعته هو، كما يقول الرسول يوحنا: “فِي هذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا.” (رسالة يوحنا الأولى 4: 10)

لاحظ أن الرسول يوحنا هنا يعلن بوضوح أن هذه هي المحبة، أي أن المحبة لها تعريف محدَّد، والتعريف هذا هو الإنجيل نفسه. فالمحبة ليست مجرد مفهوم مرن أو فكرة عائمة يستطيع الإنسان أن يُشكّلها كما يشاء بحسب هواه أو ثقافته، بل هي إعلان إلهي له مضمون واضح ومحتوى خلاصي.

ويُحذّر يوحنا قبل هذا التصريح من أن من لا يمتلك هذا التعريف الإلهي للمحبة هو في خطر الهلاك، لأن رفض هذا الإعلان هو رفض لشخص المسيح ذاته، أي لأساس المحبة الحقيقية. يقول يوحنا:

بِهذَا تَعْرِفُونَ رُوحَ اللهِ: كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ اللهِ، وَكُلُّ رُوحٍ لاَ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ، فَلَيْسَ مِنَ اللهِ. وَهذَا هُوَ رُوحُ ضِدِّ الْمَسِيحِ الَّذِي سَمِعْتُمْ أَنَّهُ يَأْتِي، وَالآنَ هُوَ فِي الْعَالَمِ.” (1 يوحنا 4: 2–3)

فبحسب الإنجيل، الإنسان لا يحبّ الله لكي ينال محبّته، بل يحب الله لأن الله قد أحبّه أولًا. وهذه المحبّة الإلهية السابقة والمبادرة هي التي تغيّر القلب وتدفعه إلى طاعة الله لا بدافع الخوف أو المصلحة، بل بدافع الامتنان والنعمة.

كذلك، في مقابل الفلسفة التي تدّعي أن الإنسان قادر على الوصول إلى المحبة الحقيقية بعقله أو قلبه، يقدّم الإنجيل رؤية مختلفة تمامًا. فالكتاب المقدس يعلن بوضوح أن كيان الإنسان قد فسد بعد السقوط، وأنه صار عاجزًا عن إدراك المحبة الحقيقية أو الوصول إليها من ذاته أو بحسب أفكاره.

فالعقيدة التي يعتنقها الإنسان عن المحبة، سواء أكانت فلسفية أم نفسية، تختلف جذريًا عن العقيدة التي يعلنها الإنجيل. لأن الإنجيل لا يكشف فقط عن الله ومحبته وقداسته، بل يفضح أيضًا حالة الإنسان بعد السقوط: قلبه ميت، وضميره ملوّث، وإرادته مأسورة للشر، وعاجز تمامًا عن أن يحب الله أو قريبه بحسب الحق. ويؤكّد ذلك الرسول بولس حين يقول:

وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، الَّتِي سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلاً حَسَبَ دَهْرِ هذَا الْعَالَمِ، حَسَبَ رَئِيسِ سُلْطَانِ الْهَوَاءِ، الرُّوحِ الَّذِي يَعْمَلُ الآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ، الَّذِينَ نَحْنُ أَيْضًا جَمِيعًا تَصَرَّفْنَا قَبْلاً بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ الْجَسَدِ وَالأَفْكَارِ، وَكُنَّا بِالطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ الْغَضَبِ كَالْبَاقِينَ أَيْضًا. اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ ­ بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ.” (أفسس 2: 1–5)

لاحظ ما يقوله الرسول بولس في آية 4. لم يقل “من أجل محبتنا له”، بل “من أجل محبته”. فالمبادرة ليست من الإنسان، بل من الله. وهذا يعني أن محبة الله، كما أُعلنت في يسوع المسيح، وبشكل خاص في عمله الكفاري على الصليب، هي التي تُقيم الموتى وتحييهم، لا عقيدتهم عن الله، ولا تصورهم العقلي أو العاطفي عنه.

سبيل المحبة الوحيد

وهذا يلخّص لنا حقيقة عظيمة: لا يوجد طريق آخر إلى هذا النوع من المحبّة سوى في شخص يسوع المسيح. فأنت لا تستطيع أن تتعامل مع الله إلا من خلال المسيح، لأنه هو الله الظاهر في الجسد (1 تيموثاوس 3: 16). وهذه ليست مجرد فكرة، بل عقيدة جوهرية في الإيمان المسيحي، عقيدة عميقة نحتاج أن نغوص فيها يومًا بعد يوم. فهذه المحبّة ليست مجرد معلومة تُعرف، بل معجزة إلهية تخترق قلب الإنسان وتشكّله وتغيّره ليصير على صورة خالقه. هذه المحبة ليست قوة معنوية فقط، بل شخص حي، اسمه يسوع المسيح، الإله الكامل في المحبة، والإنسان الكامل في الطاعة.

لا يمكن للإنسان أن ينال الخلاص من خلال عقائد الدين، لأنه عاجز عن أن يطيع الله بمحبة صادقة. ولا يصح أن يقف أمام الله معتمدًا على طاعته الشخصية، لأنّه لم يوجد إنسان واحد أطاع شريعة الله بالكامل، سوى شخص واحد فقط، هو يسوع. هو الذي عاش الحياة التي كان ينبغي للبشر أن يعيشوها، ومات الموت الذي كان يجب أن يموتوه. وهذه أيضًا عقيدة. لأن المحبة القائمة على النعمة تختلف تمامًا عن المحبة المبنية على المنفعة والمصلحة.

وكذلك لا يمكن للإنسان أن ينال الخلاص من خلال عقائد الفلسفة، لأن عقله فاسد، ولا يقدر أن يصل إلى المثالية التي يتوهّمها في نفسه. فالمثالية، ببساطة، هي شخص الله. وقد قدّم الله المثال النهائي للمحبّة والأخلاق في شخص يسوع المسيح. وليس الهدف أن يكون يسوع مجرّد نموذج أخلاقي، بل أن يكون المخلّص، والفادي، والمقيم من بين الأموات.

بطل الإنجيل ومركزه هو الله، وهذه هي المحبّة الحقيقية. والخير هو أن نعبد الله بمحبة، وأن نكون ثابتين في المسيح. والبركة هي أن نمتلئ من يسوع المسيح ومن روح الله. أما الرجاء، فهو أن نصير على شبه يسوع المسيح، لا أن نصبح “أفضل” بمعايير بشرية، لأن الأفضل الحقيقي هو الحياة الأبدية في شركة واتحاد مع يسوع إلى الأبد.

كل هذه عقائد ينبغي أن نلتزم بها، ونثق فيها، ونتّكل عليها لننال الخلاص، وهذا ما نُسمّيه “الإيمان”. فلا يوجد إيمان بدون عقيدة، ولا يوجد إنسان بلا إيمان، وبالتالي بلا عقيدة أو حتى مجموعة من العقائد. المحبّة أيضًا هي عقيدة، فلا وجود لشيء يُسمّى “محبّة بلا عقيدة”. لكن المهم هو أن تكون المحبّة مؤسسة على عقيدة صحيحة، وأن تكون العقيدة ممتلئة بمحبة حقيقية نابعة من الحق والنعمة.

شارك مع أصدقائك

حاصل على درجة الماجستير في الدراسات اللاهوتية (MDiv) من كلية نيو جينيفا للاهوت، ويتابع حاليًا دراسة ماجستير اللاهوت (MA) بالكلية البيوريتانية المُصلحة للاهوت. ويعمل أستاذًا للاهوت النظامي في كلية اللاهوت العربية المُصلحة، وفي كلية نيو جينيفا.