التعريف
الإيمان المخلِّص هو الإيمان الذي ليس فقط يعرف الحقائق المتعلِّقة بإنجيل يسوع المسيح، ويدركها، لكنَّه أيضًا يضع ثقته في شخص وعمل يسوع المسيح وحده للخلاص.
الملخَّص
في حين يمكن استخدام مصطلح الإيمان بطرق مختلفة، لكن الإيمان المخلِّص هو إيمان ليس فقط يعرف الحقائق المتعلِّقة بإنجيل يسوع المسيح، ويدركها، لكنَّه أيضًا يضع ثقته في شخص وعمل يسوع المسيح وحده للخلاص. فالإيمان التاريخيُّ يفهم جيِّدًا تصريحات الكتاب المقدَّس، والإيمان الوقتيُّ يبدو لفترة من الوقت كما لو أنَّه يؤمن بها، أمَّا الإيمان المخلِّص، فهو قناعة وثقة راسختان في شخص المسيح وعمله. وفي حين يدرك الشياطين الحقائق المتعلِّقة بالله وبيسوع المسيح، يجعلهم هذا الإيمان يقشعرُّون. أمَّا المؤمن، فيقوده الإيمان إلى الفرح والثقة بصلاح ونعمة الله، الذي يمنح الخلاص بيسوع المسيح، دون أعمال، بل ودون الثمار النابعة من الإيمان.
يعجُّ الكتاب المقدَّس بإشارات إلى الإيمان. ويبرز عبرانيِّين 11 بصفة خاصَّة باعتباره “لوحة شرف الإيمان” العظمى، حيث يسلِّط كاتبه الضوء على الكثير من قدِّيسي العهد القديم الذين آمنوا بوعد الإنجيل. لكن ما هو الإيمان تحديدًا؟ ولِمَ يضيف إليه اللاهوتيُّون صفة “المخلِّص”؟ بتعبير آخر، ما هو الإيمان المخلِّص؟
تعريف الإيمان
التعريف الأبسط على الإطلاق للإيمان يأتي من الرسالة إلى العبرانيِّين، ويقول: “وَأَمَّا ٱلْإِيمَانُ فَهُوَ ٱلثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَٱلْإِيقَانُ بِأُمُورٍ لَا تُرَى” (عبرانيِّين 11: 1). قدَّم كاتب الرسالة إلى العبرانيِّين في هذه الآية وصفًا عمليًّا للإيمان. فالإيمان هو تصديق ما لا يمكن رؤيته، مثل الله نفسه، أو خلق الله العالم من العدم، كما أشار كاتب هذا الإصحاح (عبرانيِّين 11: 3). فإنَّنا نقبل مبدأ الخلق من العدم (creatio ex nihilo) بالإيمان لأنَّنا نعجز عن العودة بالزمن إلى البدء لنرى بأنفسنا عمل الله. لكن، عندما نتحدَّث عن عقيدة الإيمان الذي للخلاص، يصير التعريف أكثر تحديدًا. فالإيمان المخلِّص هو قناعة يُنشئها الروح القدس بشأن حقِّ الإنجيل، وثقة بوعود الله التي قطعها في المسيح (للاطِّلاع على هذا التعريف، انظر المرجع التالي: Louis Berkhof, Systematic Theology: New Combined Edition, 503). في ضوء هذا التعريف، ما العناصر التي يتكوَّن منها الإيمان المخلِّص؟ وما أنواع الإيمان الأخرى التي يتحدَّث عنها الكتاب المقدَّس؟ وما العلاقة المحدَّدة بين الإيمان المخلِّص وعقيدة الخلاص؟
عناصر الإيمان المخلِّص
يتألَّف مفهوم الكنيسة العريق للإيمان المخلِّص من ثلاثة عناصر: عنصر الحقائق (notitia)، وعنصر إدراك الحقائق (assensus)، وعنصر الثقة بالحقائق (fiducia). فكي يؤمن أحدهم بخلاص يسوع، ويثق به، عليه أوَّلًا أن يعرف الحقائق، أي أن يعرف أنَّ يسوع كان موجودًا في وقتٍ ما، وكان شخصًا حقيقيًّا، وحيًّا، وتاريخيًّا، وليس أسطورة أو قصَّة خياليَّة. لكن المعرفة النظريَّة بالحقائق ليست هي الإيمان المخلِّص. فعلى الشخص أن يعرف الحقائق الأساسيَّة ويدركها. بتعبير آخر، لا يكفي أن نعرف أنَّ يسوع عاش على هذه الأرض، بل على المرء أن يدرك ويفهم أيضًا ما فعله يسوع خلال حياته هذه. فقد صرَّح بأنَّه هو الله الظاهر في الجسد (يوحنَّا 8: 58)، وابن الله المساوي له (يوحنَّا 5: 18)، والطريق الوحيد إلى الخلاص: “أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلْآبِ إِلَّا بِي” (يوحنَّا 14: 6). لكن لا يكفي أن نصدِّق أنَّ يسوع كان موجودًا، وأنَّه أدلى بتلك التصريحات. بل أيضًا على الخاطئ أن يضع ثقته في تصريحات المسيح هذه، أي أن يصدِّق أنَّ يسوع هو ابن الله المتجسِّد، الذي جاء ليخلِّص الخطاة بحياته، وموته، وقيامته (رومية 1: 16-17؛ 10: 9-10).
يمكن أن نقدِّم المثال التالي لتوضيح العلاقة بين عناصر الإيمان المخلِّص. فعندما أذهب إلى المطار، ربَّما أدرك جيِّدًا قيمة وجود طائرة أمامي، وربَّما أقرُّ بحقيقة أنَّ الطائرة وسائقها يمكن أن يندفعا فوق مدرَّج الطائرات، ثمَّ يقفزا في الهواء في رحلة طويلة بالطائرة. بل وربَّما أدرس مبادئ علم الطيران، وأدرك أنَّه عندما يندفع الهواء فوق سطح به انحناءات، ينشئ ذلك قوَّة رفع، الأمر الذي يمكِّن الطائرة من التحليق في الهواء. لكن، سيكون عليَّ أن أضع ثقتي في الطائرة وسائقها، وأصعد على متنها، وأجلس في مقعدي، حتَّى أثبت إيماني بها. هكذا المعرفة النظريَّة بالمسيح وتصريحاته غير كافية للخلاص، بل علينا أن نثق بأنَّه هو الطريق الوحيد لخلاصنا من خطايانا، والشخص الوحيد القادر أن يعطي حياة أبديَّة.
أنواع أخرى
ومن ثمَّ، الإيمان المخلِّص هو قناعة وثقة راسختان في شخص المسيح وعمله. لكن الكتاب المقدَّس يتحدَّث عن أنواع أخرى أيضًا من الإيمان. تحدَّث اللاهوتيُّون عن الإيمان التاريخيِّ، الذي يُعَدُّ مجرَّد استيعاب عقليٍّ لتصريحات الكتاب المقدَّس، بمعزل عن عمل الروح القدس. فعلى سبيل المثال، وبَّخ الرسول بولس أغريباس الملك بسبب إيمانه بأنبياء العهد القديم، وعدم إيمانه على الرغم من ذلك بيسوع، الذي تحدَّث عنه هؤلاء الأنبياء (أعمال الرسل 26: 27-28).
ويتحدَّث الكتاب المقدَّس أيضًا عن الإيمان الوقتيِّ، أي عندما “يؤمن” أحدهم بالإنجيل بصورة مؤقَّتة، لكنَّه بعد ذلك يعثر ويسقط. يعبِّر مَثَل الزارع الذي رواه يسوع عن هذا النوع من الإيمان. فقد ألقى الزارع بذارًا على أرض محجرة، فنبتت سريعًا، لكنَّها بعد ذلك ذبلت وماتت إذ لم يكن لها أصل في ذاتها (متَّى 13: 5-6). وأوضح المسيح أنَّ هذا الجزء من المثل يشير إلى الشخص الذي “يَسْمَعُ ٱلْكَلِمَةَ، وَحَالًا يَقْبَلُهَا بِفَرَحٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي ذَاتِهِ، بَلْ هُوَ إِلَى حِينٍ. فَإِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ ٱضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ ٱلْكَلِمَةِ فَحَالًا يَعْثُرُ” (متَّى 13: 20-21). ثمَّ قارن المسيح الأرض المحجرة بالأرض الجيِّدة، التي تشير إلى الشخص الذي يسمع الكلمة، ويفهمها، ويصدِّقها، فيصنع ثمرًا (متَّى 13: 23). لم يَذكُر المسيح في هذا المَثَل هويَّة الشخص الذي يهيِّء الأرض، مع أنَّه كان عنصرًا حيويًّا في المَثَل. لكن في ضوء السياق الأكبر للعهد الجديد، نَعلَم أنَّ الروح القدس هو الذي يهيِّء أرض القلب حتَّى يمكِّن الخطاة من أن يؤمنوا بيسوع (أفسس 2: 8-9؛ أعمال الرسل 16: 14). فدون العمل السياديِّ الذي يجريه الروح القدس، أقصى ما قد يمكن للبشر الخطاة أن يصلوا إليه هو الإيمان التاريخيُّ أو الإيمان الوقتيُّ.
أمَّا النوع الثالث من الإيمان، فهو إيمان الشياطين. وهذه الفئة مماثلة للإيمان التاريخيِّ. كتب يعقوب يقول: “أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ ٱللهَ وَاحِدٌ. حَسَنًا تَفْعَلُ. وَٱلشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ!” (يعقوب 2: 19)! بتعبير آخر، يعرف الشياطين الحقائق –أي أنَّ الله موجود، وله السلطان على كلِّ شيء، بما في ذلك مملكتهم الشيطانيَّة. ويدرك الشياطين هذه الحقائق، الأمر الذي ينشئ فيهم خوفًا، لكنَّهم مع ذلك يرفضون أن يؤمنوا بالله، بل وهم عاجزون عن فعل ذلك دون عمل سياديٍّ يجريه روح الله فيهم. هذه الأنواع الثلاثة من الإيمان جميعها (التاريخيُّ، والوقتيُّ، وإيمان الشياطين) توجد في تعارض شديد مع الإيمان المخلِّص. وتدلُّ الصفة “المخلِّص” على أنَّ هذا النوع من الإيمان هو عمل سياديٌّ يجريه روح الله، ممَّا يكفل خلاص الخاطئ. لكن كيف يعمل الإيمان المخلِّص ضمن النطاق الأوسع لعقيدة الخلاص؟
الخاتمة
علينا أن نقرَّ مع الكتاب المقدَّس بأنَّ الإيمان عاملٌ بالمحبَّة، وهو ما معناه أنَّ ثمار المحبَّة والطاعة تنبع من الإيمان المخلِّص (غلاطية 5: 6). لكن، علينا أن نقرَّ أيضًا بأنَّ الإيمان وحده، وليس ثمر هذا الإيمان، هو الذي يخلِّص. كتب بولس يقول: “لِأَنَّكُمْ بِٱلنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِٱلْإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ ٱللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلَا يَفْتَخِرَ أَحَدٌ” (أفسس 2: 8-9). وكيف يمكن أن نربط بين فكرتي بولس المختلفتين، ألا وهما أنَّ الإيمان عاملٌ بالمحبَّة، وفي الوقت ذاته أنَّنا نخلص بالإيمان دون أعمال (رومية 3: 28؛ 4: 6)؟ يمدُّنا إقرار إيمان بروتستانتيٌّ قديم يعود تاريخه إلى القرن السابع عشر بتفرقة مفيدة. يقول إقرار إيمان وستمنستر (1647م) إنَّ “الأعمال الرئيسيَّة للإيمان المخلِّص هي القبول، والاستقبال، والاتِّكال على المسيح وحده للتبرير، والتقديس، والحياة الأبديَّة (الفصل الرابع عشر، الفقرة 2). بتعبير آخر، الإيمان المخلِّص لا يخلِّص بسبب ما يعمله، بل بالأحرى بسبب ذلك الشخص الذي يستند الإيمان على عمله، الذي هو المسيح. ويشدِّد الكتاب المقدَّس منذ البداية باستمرار على تلك الحقيقة.
فعندما قدَّم الرسول بولس شرحًا لعقيدة التبرير، وكيفيَّة نوال الخطاة غفران خطاياهم، والحقَّ في الحياة الأبديَّة، عاد إلى أولى صفحات الكتاب المقدَّس، إلى حياة إبراهيم، قائلًا: “لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ تَبَرَّرَ بِٱلْأَعْمَالِ فَلَهُ فَخْرٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَدَى ٱللهِ. لِأَنَّهُ مَاذَا يَقُولُ ٱلْكِتَابُ؟ «فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِٱللهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا»” (رومية 4: 2-3). فقد تطلَّع إبراهيم إلى المسيَّا الموعود، ورأى يومه من بعيد، ووضع ثقته في وعد الله (غلاطية 3: 10-14؛ يوحنَّا 8: 58). ومع أنَّ الإيمان عاملٌ بالمحبَّة (غلاطية 5: 6)، لا يحسب الله هذه المحبَّة على أنَّها عاملٌ مساهم في تبرير الخطاة، الأمر الذي يوضِّحه بولس جليًّا بقوله: “أَمَّا ٱلَّذِي يَعْمَلُ فَلَا تُحْسَبُ لَهُ ٱلْأُجْرَةُ عَلَى سَبِيلِ نِعْمَةٍ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ دَيْنٍ. وَأَمَّا ٱلَّذِي لَا يَعْمَلُ، وَلَكِنْ يُؤْمِنُ بِٱلَّذِي يُبَرِّرُ ٱلْفَاجِرَ، فَإِيمَانُهُ يُحْسَبُ لَهُ بِرًّا” (رومية 4: 4-5). وفي واقع الأمر، شدَّد بولس مرارًا على الدور الحيويِّ للإيمان مستخدمًا إمَّا اللفظ إيمان وإمَّا الفعل يؤمن 17 مرَّة في رومية 4 وحده. يجب أن يترك هذا في قلوبنا وعقولنا الانطباع بأنَّ الإيمان المخلِّص، وليس الأعمال، هو الوحيد الذي يمكن أن يخلِّصنا، لا لأنَّه يحمل استحقاقًا في ذاته، بل لأنَّنا بالإيمان نمسك بعمل المسيح، ومن ثَمَّ نقبل آلامه الكاملة وطاعته الكاملة بصفتها وسائل خلاصنا. تلك هي الوسيلة التي خلص بها جميع الخطاة عبر تاريخ الخلاص. وتلك هي الفكرة الرئيسيَّة التي يقدِّمها عبرانيِّين 11. فلا يعرف الكتاب المقدَّس أيَّة وسيلة خلاص أخرى غير الإيمان بالمسيح، والاتِّكال على عمله المكتمل. تطلَّع قديسو العهد القديم إلى المستقبل إلى المسيح، في حين يتطلَّع قديسو العهد الجديد إلى الماضي إلى المسيح، لكن جميعهم يمسكون بعمل المسيح بواسطة الإيمان المخلِّص.