على مدار السنوات الماضية، تُثار على مواقع التواصل الاجتماعيّ اعتراضات من المسلمين حول أعياد الميلاد، فتارة نُشاهد هجمات لتشويه وإزالة مظاهر زينة أعياد الميلاد من الأماكن العامَّة، وتارة أخرى نستمع إلى فتاوي تُحرّض وترفض حتى تهنئة المسيحيين بأعيادهم. وبعيدًا عن ذلك، فإن مثل هذه التصرفات تقودنا لسؤال أبعد بكثير عن مجرّد الزينة والمعايدة، نحو لُبّ وجوهر إيماننا.
“عمَّانوئيل” أم مجرَّد إنسان؟
إنَّ عيد الميلاد بالنسبة للمسيحيِّين وقتٌ نتذكَّر فيه ميلاد المسيح ونحتفل به. فنحن نحتفل بالله الذي أرسل كلمته بعملٍ معجزيّ من الروح القدس لرحم العذراء مريم، وأتى إلينا كإنسان. فهو وقت نتأمل فيه في تجسُّد عمَّانوئيل–أي الله معنا.
على الرغم من أن القرآن يخلط بين مريم أم المسيح ومريم أخت موسى وهارون وابنة عمران (آل عمران: 35-51، مريم: 16، التحريم: 12)، إلا أن المسلمون بدورهم يقبلون الميلاد العذراويَّ للمسيح بالروح القدس. مع ذلك، يرفض الإسلام أيَّ فكرة أو رأي عن التجسُّد. فيسوع أو عيسى مجرَّد إنسان. صحيح أنه نبيٌّ عظيم، لكنه في النهاية مُجرّد إنسان.
لذا، عيد الميلاد فرصة عظيمة للمسيحيِّين للتفكير في كيفيَّة شرح عقيدة التجسُّد للعالم من حولنا.
تتمثَّل الاعتراضات التي يحملها المسلمون على التجسُّد في أنَّه غير منطقيٍّ ويهين طبيعة الله، لكنَّ هذا يخالف الكتاب المقدَّس. لنمضي قدمًا مع أحبَّائنا المسلمين، علينا مناقشة الموضوعات التالية: الخليقة، وتنازل الله، وسُكنى الله مع شعبه، وصورة الله. سأتناول موضوعين فحسب في هذه المقالة، وأدعوك إلى البحث بنفسك أو مراسلتنا على صفحتنا على الفيسبوك للاستزادة.
الخليقة
تُعَلِّم عقيدة التجسُّد بأنَّ الله تواصل شخصيًا مع خليقته فيما يُطلق عليه باتّحاد الطبيعتين. أي اتِّحاد الطبيعة الإلهيَّة والبشريَّة في شخص يسوع المسيح. وأنَّه في هذا الاتِّحاد لم تتقلَّص طبيعة الله. فالمسيحيُّون لا يقولون إنَّ الله غَيَّر طبيعته من إلهيَّة إلى طبيعة مخلوقة، إنَّما أضاف جسدًا بشريًّا إليه. لكنَّ المسلمين يرفضون اتحاد الطبيعتين هذا، لأنَّه، في نظرهم، تقليل من سموِّ الله تعالى.
ولكن بعيدًا عن التجسّد، فكّر في قوة الله وعنايته بالخليقة من حولك. فالله يحفظ خليقته وسيظلُّ حافظها حتَّى قيامتنا في اليوم الخير. لكنَّ هذا يعني أنَّ قوَّة ألوهيَّة الله لا بُدَّ أن تظلَّ في اتِّصال دائم بطريقة ما مع الطبيعة المخلوقة. فإن لم يكن من تواصل أو اتِّصال، سيكون الله غير حافظ. فهل هذا التواصل يُغيِّر طبيعة الله أو يُنقِصها؟ بالقطع لا! وعليه، في عمل عناية الله وحفظه لخليقته، نحن نرى طبيعتين في تواصل دائم من غير أن ينتقص أو يتقلَّص أيُّهما.
لكنَّ بيت القصيد هو أنَّ الله يلامس الخليقة. أما رفض فكرة ملامسة أو تنازل الله للتواصل مع خليقته، إنما تعود جذوره للفلسفة اليونانيَّة التي نظرت للإله على انه عاليًا مُتساميًا يصعُب تواصله مع خليقته مباشرةً. وبسبب تأثير هذه الفلسفة اليونانيّة ونظرتها غير الكتابيّة لعقيدة الخلق، رفض هراطقة مسيحيّون التجسُّد، من أمثال دوسيتُس (الرافض لبشريَّة يسوع) وأريوس (الرافض لألوهيَّة يسوع).
إنَّ عقيدة الخلق تُعَدُّ أساس التجسُّد، ونحن علينا التحدُّث مع المسلمين عن ذلك. وحينها نُشدِّد على هذه النقطة لأن حتَّى القرآن يقرُّ ويعترف بأنَّ الله يخلق ويحفظ كما أنَّه كلِّيُّ الوجود. كما يعلن القرآن أنَّ الله سيراه المسلمون في يوم الدينونة دون أن ينتقص ذلك من طبيعته الإلهيَّة، كقوله: “وَتَذَرُونَ ٱلْـَٔاخِرَةَ. وُجُوهٌۭ يَوْمَئِذٍۢ نَّاضِرَةٌ. إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌۭ” (سورة القيامة 22–23). في الواقع، يفتقر المسلمين إلى أيِّ أساس منطقيٍّ لرفض التجسُّد.
سُكنى الله مع شعبه
إبَّان عصر مُحمَّد، كان هيكل أورشليم قد خُرِّبَ قبل خمسمئة سنة، وتحوَّلت اليهوديَّة إلى ديانة قائمة بلا هيكل -قد نطلق عليها “يهوديَّة بلا هيكل”. وكان تأثير لاهوت هذه اليهوديَّة على محمَّد (وتباعًا، القرآن) تأثيرًا عميقًا مُستخرِجًا لاهوتًا لا يُسَكِّن الله وسط شعبه أبدًا. ففي القرآن، الله لا يتقابل مع آدم في الجنَّة، ولا يحلُّ في خيمة الاجتماع أو الهيكل، ولا يوجد في الفردوس. وهذا مهمٌّ لأنَّ الربَّ يسوع يصف نفسه بأنَّه الهيكل. فلاهوت الهيكل أحد أُسس فَهم حقيقة التجسُّد.
فعلينا مناقشة مفهوم “الهيكل” مع المسلمين وطرح سؤال اختفاء هذا اللاهوت من القرآن في حين كلُّ أسفار أنبياء العهد القديم ممتلئة به، لمساعدتهم على فهم أنَّ الهيكل وحضور الله سيساعدانهم على استيعاب التجسُّد.
ونحن نحتفل بميلاد المسيح هذا العام، ما زلنا نواجه تحدِّيات جديدة أمام رسالته، فالمسيحيُّون لا بُدَّ أن يتحلَّوا بالثقة بأنَّ الإنجيل حقٌّ ومنطقيٌّ، وكذلك رسالة كلِّ أنبياء الكتاب المقدَّس. فنحن واقفون على أرض راسخة بما نؤمن به، ومن هذه الأرض الراسخة نشرح عقيدة التجسُّد للمسلمين.