إنَّنا نحِبُّ أن نكون مُتميِّزين. ونعبِّر عن تفرُّدنا بما نلبس وبكيف نظهَر. ونتباهى بأننا نحمل أحدث الهواتف المحمولة. ويسعدنا أن نخبِر الآخرين عن ذلك المطعم الصغير جدًّا الذي اكتشفناه في نهاية الأسبوع الماضي.
ولكن بما أنَّنا مسيحيّون فنحن مَدعوّون لأن نكون مُتميِّزين – لكن ليس هكذا.
فهو أمرٌ مختلف أن يكون تفرُّدك سببًا في سخريَّة الآخرين منك، أو سببًا يجعلك تتناول الغداء وحدك، أو سببًا في أن تُلقَى في أتون النار. إنَّ هذا ما حدث لشدرخ وميشَخ وعبدنَغو.
في أواخر القرن السابع قبل الميلاد، فتحَ ملكُ بابل نبوخَذنصَّر أورشليم. وسَبَى الشبَّان الثلاثةَ إلى بابل وأمرَهم أن يخِرُّوا ويسجدوا لتِمثال الذَّهب الَّذي نَصَبَه (دانيال 3: 6).
الأوثان في حياتِنا اليوميَّة
مع أنَّ الأمرَ قد لا يبدو كذلك في البداية، فنحن بما أنَّنا مؤمِنون مسيحيّون نحيا اليومَ في وضعٍ مُشابِه. إذ إنَّنا أيضًا نُزلاءُ في أرضٍ غريبةٍ ليست أرضنا. وعلى الرَّغم من مقدار محبَّتي لمدينة نيويورك حيث أُقيم، فإنَّ بيتي ووطني الحقيقيَّ هو المدينة السماويَّة التي أعدَّها اللهُ لنا (عبرانيِّين 11: 16). وعلى الرَّغم من أنَّه قد لا يأمرنا أحدٌ بالسجود لتمثالٍ أو يهدِّدنا بالموت، فإنَّ كلَّ أنواع الأوثان تواجهنا وتتحدَّانا. فما الوَثَن؟ هكذا يعرِّفه تيم كَلِر:
إنَّه أيُّ شيءٍ تحسُبه أكثرَ أهميَّةٍ من الله، هو أيُّ شيءٍ يستحوذ على قلبِك ويستولي على خيالِك أكثر من الله، أيُّ شيءٍ تقصِده وتذهب إليه ليمنحك ما لا يمكن أن يمنحه إلَّا اللهُ . . . . إنَّ الوَثنَ هو كلُّ ما تنظر إليه وتقول في أعماق قلبِك، ”آهٍ لو امتلكْتُ ذلك الشيءَ، فحينئذٍ سوف أشعرُ أنَّ لحياتي معنًى، وعندئذٍ سوف أعرف أنَّ لي قيمةً، وسوف أشعر بالأمان وأنَّ لوجودي أهميَّةً.“
وبحسب هذا التعريف، فإنَّنا نواجِه كلَّ يومٍ أوثانًا تطلب مِنَّا أن نسجد أمامها.
لقد كان تفرُّد شدرخ وميشَخ وعبدنَغو واضِحًا للغاية. ففيما كان الجميعُ يخِرُّون ويسجدون أمام التمثال، وقفوا وأَبَوا أن يسجدوا. وأبصرَهم الناسُ، فقال بعضٌ للملك إنَّهم تحدّوا أمرَه، فحمِيَ غضبُه بسبب ذلك. وأمرَ بإحضارِهم أمامه وقال: ”إِنْ لَمْ تَسْجُدُوا فَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ تُلْقَوْنَ فِي وَسَطِ أَتُّونِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ. وَمَنْ هُوَ الإِلهُ الَّذِي يُنْقِذُكُمْ مِنْ يَدَيَّ؟»“ (دانيال 3: 15)
لكنَّ شدرخ وميشَخ وعبدنَغو بوقوفِهم ورفضِهم أن يسجدوا أمام التمثال إنَّما يتحدّون الملكَ بجرأةٍ:
فَأَجَابَ شَدْرَخُ وَمِيشَخُ وَعَبْدَنَغُوَ وَقَالُوا لِلمَلِكِ: «يَا نَبُوخَذْنَصَّرُ، لاَ يَلْزَمُنَا أَنْ نُجِيبَكَ عَنْ هذَا الأَمْرِ. هُوَذَا يُوجَدُ إِلهُنَا الَّذِي نَعْبُدُهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَجِّيَنَا مِنْ أَتُّونِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ، وَأَنْ يُنْقِذَنَا مِنْ يَدِكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ. وَإِلَّا فَلْيَكُنْ مَعْلُومًا لَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ، أَنَّنَا لاَ نَعْبُدُ آلِهَتَكَ وَلاَ نَسْجُدُ لِتِمْثَالِ الذَّهَبِ الَّذِي نَصَبْتَهُ». (دانيال 3: 16-18)
إنَّنا مَدعوّون إلى هذا النوع من التفرُّد. فدعوتنا إلى التفرُّد لا تُشبِه صفحةَ أحدِ الأصدقاء على إنستجرام التي تسلِّط الضوءَ على السفر إلى أماكنَ غير معروفةٍ وتجاربَ فريدة، بل إنَّها تُشبِه إلى حدٍّ كبير عائلةً مُهاجِرة يشعرون بأنَّهم غرباء بسبب طعامِهم أو تقاليدهم. ولأنَّنا نزلاءُ، نحن مَدعوّون أن نعرف أوثانَ ثقافتِنا ونميِّزها ونرفض أن نسجد أو ننحني لها – حتَّى عندما يؤدِّي ذلك إلى الرفض، بل حتَّى لو أدَّى ذلك إلى الموت.
متفرِّد من كلِّ وجهٍ
إنَّنا مَدعوّون أن نكون مُتميِّزين في طريقة عملِنا. إنَّ الدافِعَ الذي يحرِّك ثقافتَنا نحو النجاح قويٌّ؛ لذلك بسهولةٍ يمكن أن يصبح التقدير والسُّلطة أوثانًا. وغالبًا ما يؤدِّي ذلك إلى العمل دائمًا وعدم الراحة أبدًا. لكن كنزلاء، نحن مَدعوّون أن نجتهد ونثابِر في عملِنا، لكنَّما لمجد الله وليس لمجدنا. ومَدعوّون أن نتوقَّف كلَّ يوم أحدٍ للراحة والعبادة، حتى لو كان معنى ذلك أنَّ صباح يوم الاثنين سوف يستقبلنا بريدُ واردٍ ممتلِئ أو إذا أُغْفِلنا ولم ننَل الترقية.
إنَّنا مَدعوّون أن نكون مُتميِّزين في الطريقة التي نقضي بها وقتَنا. إذ إنَّنا قد نقضي ساعاتٍ أسبوعيًّا، دون أن ندرك ذلك حتَّى، في الانتقال عبر المنشورات أو صياغة شخصيَّتنا التي نريدها أن تظهر على الإنترنت. وقد تصبح هواتفنا وثنًا أيضًا، وعادةً ما يكون الجذر هو الرغبة في أن نكون مقبولين من الآخرين.
النزلاء الأُمناء إنَّما يستخدمون التكنولوﭼيا لإثراء حياتنا ولا يسمحون لها بأن تتسلَّط علينا. فهناك أوقات نحتاج فيها إلى التخلِّي عنها تمامًا لنتأمَّل في الله أو نقضي وقتًا مع الآخرين، حتَّى لو كان معنى ذلك أن يفوتنا شيءٌ آخرُ.
واحدة من أكثر الطرائق التي يمكن ملاحظتها والتي نحن مَدعوّون لأن نُظهِر بها تفرُّدَنا هي علاقاتنا العاطفيَّة. ففيما أصبحَتِ العلاقات الجنسيَّة المؤقَّتة والمُساكَنة [الإقامة في بيتٍ واحد] هي المعيار السائِد، يجب أن نجاهد لنكون مُلتزِمين ونتمسَّك بفضائلَ غريبة مثل العفَّة. ففي مدينة نيويورك، يتفاقم الضغط بسبب ارتفاع الإيجارات. إلَّا أنَّه، على الرغم من أنَّ الإقامةَ معًا قد توفِّر آلاف الدولارات، فإنَّ هناك عددًا من المُرتبِطين في كنيستي نبذوا أوثانَ الجنس والراحة وانتقلوا إلى وحدات سكنيَّة مُنفصِلة، مهما كلَّفهم الأمرُ عاطفيًّا وماديًّا.
متفرِّدين حتَّى إلى الموت
يضرب شدرخ وميشَخ وعبدنَغو لنا مثلًا مُلهِمًا على دعوتنا لنكون متفرِّدين. إذ إنَّهم حتَّى تحت التهديد بالموت بقوا مُخلِصين [لدعوتهم]. لكنَّنا في أحيانٍ كثيرة ننحني للأوثان تحت ضغطٍ أقلّ بكثيرٍ ممَّا تحمَّلوه. ونخفق في أن نكون متفرِّدين.
وهذا لا يحدث في اللحظات المهمَّة فقط.
إذ إنَّنا في جميع قراراتنا اليوميَّة الصغيرة قد نفضِّل اختيار بدائل الله على الله نفسِه. ومن ثَمَّ فنحن نستحقّ العذاب في النار. وبدلًا من الحاجة إلى الخلاص من غضب الأوثان، إنَّنا نحتاج إلى الإنقاذ من غضب الله.
إنَّما يُوجَد طريقٌ واحد فقط للنجاة من هذه النار. إنَّه بالإيمان بالذي نجح حيث فشلنا ومات لكي نعيش. في النهاية، أنقذَ اللهُ شدرخ وميشَخ وعبدنَغو من النار، والملك قد رفَّعهم. وهكذا، إن كان لنا ثقةٌ بالله، فسوف يُنجِّينا من النار التي نستحقُّها، ويزيد إيمانَنا حتَّى نتمكَّن من تتميم دعوتنا لنكون متفرِّدين، ويومًا ما يمجِّدنا مع المسيح في تلك المدينة السماويَّة التي هي وطننا الحقيقيُّ.