حين تخرج أحد أبنائي من الجامعة، كان من عادة الجامعة التي كان يرتادها أن تقيم احتفالاً للخريجين في الليلة التي تسبق حفل التخرّج الرسميّ. وبالطبع، كان من المعتاد تاريخيّاً أن يُخصَّص هذا الاحتفال لراعي كنيسة حيث كانت تقدَّم عظة عن الإنجيل. أما اليوم، فما لم تكن المؤسسة المستضيفة للاحتفال إنجيليّة، لا مجال أن نتوقع تقديم عظة مسيحيّة. وبالطبع لم أكن أتوقع بالتالي أن أسمع مثل هذه العظة. وفي واقع الأمر، تم دعوة رابي يهوديّ كي يلقي خطاب الاحتفال، وقد صادف معرفتي به. فهو شخص بارز، ومؤثر، ومثير للانتباه، وهكذا لم يفاجئني أن أجد خطابه مشجعًا، وعمليًا، وعميقًا من جهة الفكر. بل في حقيقة الأمر، كان هذا الخطاب أفضل خطاب سمعته بحسب ما أتذكّر، فقد وجدت أني أوافق على كل ما قاله دون استثناء.
وبعد هذه التجربة، لم يسعني سوى أن أتأمل في حال الكثير من الوعظ المسيحيّ في هذه الأيام. فهو عادة ما يكون أقل لفتًا للانتباه من عظة هذا الرابي، وكثيرًا ما لا يحوي شيئًا يمكن للرابي نفسه أن يختلف معه. فالكثير من العظات التي تُلقى في التلفاز، أو الإذاعة، أو فوق منابر الكنائس خالية للأسف من أي شيء يتميز بكونه مسيحيًا. بل غالبًا ما تحتوي على أمور “منطقيّة” يتفق معها جميع البشر أصحاب النوايا الحسنة بوجه عام. كما أننا غالبًا ما لا نقدم سوى حكمة “كيف تفعل كذا” ذاتها التي يقدمها الآخرون، فيما عدا أننا نستشهد فيها بقصة من الكتاب المقدس أو بحقيقة كتابيّة. لكن صديقي الرابي أيضًا كان يستخدم قصصًا ومبادئ من العهد القديم والعهد الجديد على حد سواء، وقد أجاد حقًا في هذا. إذًن ما الذي ينبغي أن يميّز الوعظ المسيحيّ؟
يدور الوعظ المسيحيّ في الأساس حول يسوع المسيح وما فعله ليفتدي شعبه. فإن الإنجيل ينادي بالمسيح. فالإنجيل يمجد الله الآب من خلال تمجيده للمسيح. وبالتالي، فإننا إن أسأنا فهم أو تفسير هويّة المسيح وعمله، فإننا بهذا نعرّض خلاصنا الأبديّ للخطر. ولذلك، فقد وضعنا في مركز وقلب إقرار إيمان هيئة ائتلاف الإنجيل تصريحنا عن يسوع المسيح وعن عمل فدائه العظيم. وهذا التصريح هو جوهر ما نعلّم به، ونعظ به، وما نقدمه كمشورةٍ.
المسيح، الابن الأزليّ:
“نؤمن بأن المسيح، مدفوعًا بمحبته لأبيه وطاعته له …”[1] من البداية، يتناول إقرار الإيمان هذا السؤال: “لمَ قد يفعل يسوع ما فعله؟” ما نتعلمه من الكتاب المقدس هو أنه يوجد تفسير واحد لهذا: أن يسوع المسيح يحبنا، وهذه المحبة ليست لأجل شيء فينا، بل لأجل شخصه. ولا مجال لفهم وإدراك يسوع المسيح بمعزل عن المحبة. فإن المحبة هي التي حفّزت وحرّكت كل فعل قام به. وإن لم يكن بإمكاننا أن نستقبل المحبة، لن نتمكن من أن نستقبل المسيح. وإن لم نستطع أن نقدم المحبة، فإننا لن نتمكن من أن نخدم المسيح. فإن الدافع الأكبر وراء جميع أقوال المسيح وأعماله، ووراء تضحيته العظيمة لأجلنا، هو محبته لنا التي لا نستحقها والتي لم تكن لأيّة مؤهلات فينا.
وما يزيد من روعة وجمال هذه المحبة هو أن يسوع المسيح، قبل أن يأتي إلى الأرض، كان موجودًا بالفعل باعتباره الأقنوم الثاني في اللاهوت، الابن الأزلي لله. يقول يوحنا: “فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ” (يوحنا ١: ١). أيضًا يطلق يوحنا عليه “وَحِيدٍ مِنَ الآبِ” (يوحنا 1: 14). فهو كان “قبل كل الدهور، إله من إله، ونور من نور” (قانون الإيمان النيقوي). فهو منذ الأزل كان في فرح وسعادة كاملة، مساويًا لله الآب والله الروح القدس. وهو لم يكن في حاجة إلى أحبّاء، إذ كان في شركة حميمة مشبعة بلا حدود مع أبيه، وهكذا كان يتمتع بجميع ملذّات ومسرّات النعيم الأزلي.
فإن المحبة التي دفعت المسيح أن يترك مكانه المبارَك ويأتي إلى هذه الأرض هي محبة يشترك فيها مع أبيه منذ الأزل — من نحونا! فقد قال يسوع أنه أتى ليعمل مشيئة أبيه، ومشيئة أبيه هي خلاص شعبه. فإن ابن الله يشترك اشتراكًا كاملاً في ذلك القصد المحب — في محبة شديدة النقاوة، وشديدة القوة، وشديدة الرأفة حتى أن البشر والملائكة عاجزون تمامًا عن استيعابها.
المسيح، مخلّصنا المتّضع:
“… صار الابن الأزليّ إنسانًا …”. واحدة من صفات المسيح الملحوظة بشدة هي صفة اتضاعه. فإننا عاجزون عن سبر غور عمق وشدة الاتضاع اللازم كي يترك المسيح عرش السماء ويُولد على الأرض من امرأة ريفيّة فقيرة. وقد كُتبت آلاف الترنيمات والأشعار في محاولةٍ لفهم هذه الحقيقة الرائعة.
أنت يا من كنت غنيًا،
فوق كل عظمة وغنى؛
فقط لأجل الحب افتقرت،
تركت عروشًا لأجل مذود،
وقصورًا مفروشة بالياقوت لأجل حظيرة.
أنت يا من كنت غنيًا،
فوق كل عظمة وغنى؛
فقط لأجل الحب افتقرت.[2]
وينضم بولس لجوقة التسبيح فيقول: “الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً للهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ” (فيلبي 2: 6-8)
كان هذا الاتضاع لازمًا كي ينجو البشر من المأزق الذي هم موضوعون فيه. فقد كانت ظروفنا سيئة حتى أنه كان من المستحيل أن نخلص بالجهد البشريّ. فإن ما فعله يسوع المسيح لأجلنا، لم يكن من الممكن أن نفعله نحن لأنفسنا. وكانت الوسيلة الوحيدة على الإطلاق لخلاصنا هي أن يتنازل الله إلى حالتنا البائسة في عالمنا المنهار. ولذا كان لابد له أن يأتي ليأخذنا. وهذا هو بالتحديد ما فعله.
ويمكن تقسيم حياة يسوع المسيح إلى قسمين تاريخيين متتاليين: اتّضاعه ثم تمجيده. وبالحديث عن اتضاعه، غالبًا ما نشمل في حديثنا تجسّده، وخضوعه الكامل لناموس الله، وآلامه، وموته، ودفنه. ويمكننا ملاحظة هذا التتابع في إقرار الإيمان الخاص بنا. فإن كل جانب من جوانب اتّضاعه لازم لأجل فداء شعب الله، ولذلك حسن وجيد لنا أن نؤمن بهذه الأشياء، ونتأمل فيها، ونذيعها، ونحيا في نورها.
تجسّده:
“…الكلمة صار جسدًا، إلهًا كاملاً وإنسانًا كاملاً، شخصًا واحدًا ذي طبيعتين. الإنسان يسوع، مسيّا إسرائيل الموعود به، حُبل به بتدخل معجزيّ من الروح القدس، ووُلد من مريم العذراء”. لم يكن الحبل بيسوع المسيح وولادته أمرًا غير معتاد أو معجزيّ فحسب، بل كان أيضًا أمرًا فريدًا من نوعه (sui generis). ولكي نتأكد من هذا، فإننا نجد في العهد القديم بعض وقائع الحبل والولادة غير المعتادة بشكل كبير، وأولها واقعة إبراهيم (تسعة وتسعين عامًا) وسارة (تسعين عامًا) اللذين أنجبا إسحاق. أيضًا توجد ولادة صموئيل العجيبة (١ صموئيل ١)، وولادة شمشون (قضاة ١٣)، وولادة يوحنا المعمدان (لوقا ١). إلا أن جميع هذه الولادات، بالإضافة إلى أي ولادة أخرى قد وقعت يومًا ما، كانت تتضمن أبًا من البشر، وأمًا من البشر.
أما في حالة يسوع الناصري وحدها، يُحبل بإنسان ويُولد من أم من البشر ومن الله. وبمرور السنوات، وحتى في هذه الأيام، يقول البعض إن عقيدة الحبل العذراويّ هي عقيدة لطيفة وجيدة ولكنها ليست ضروريّة، فهي شيء لا ينبغي علينا أن نتصارع لأجله، أو نشغل فكرنا به بشكل زائد عن الحد. على النقيض من هذا، علَّم اللاهوتي العظيم أثناسيوس (٢٩٦ – ٣٧٣ م) بأن الناسوت الكامل للمسيح كان لازمًا لأن الله لم يكن يمكنه أن يخلِّص سوى ما أصبح عليه المسيح، ولذا فإن لم يكن المسيح إنسانًا كاملاً، لم يكن من الممكن أن يخلص البشر على الإطلاق. أيضًا علَّم أنسلم (١٠٣٣ – ١١٠٩ م) بأن المسيح كان لابد أن يكون إلهًا كاملاً كي تكون ذبيحته كافية لجميع شعب الله، وإلا فإن إنسانًا واحدًا يمكنه على أقصى تقدير أن يموت بديلاً عن إنسانٍ واحدٍ فحسب.
لازلنا اليوم نؤمن بهذا، ليس في الأساس بسبب تعليم أنسلم وأثناسيوس بهذا، بل لأن كتابات متى ولوقا الموحى بها تعلّمه (متى ١؛ لوقا ١-٢). كيف لنا أن نستوعب شدّة اتّضاع المسيح في تجسّده؟ فإن ترك بيل جيتس وميليندا زوجته بيتهما الفخم الواقع على الساحل الغربيّ، ومكثا في منزل وسط أحياء كيبيرا الفقيرة في نيروبي، بكينيا، فهما مع كل هذا لن يرتقيا إلى مستوى إنكار الذات الذي وصل إليه المسيح في أخذه لجسم بشريّتنا. حقًا ياله من مخلّص محب!
خضوعه الكامل للآب:
“هو أطاع أباه السماوي طاعة كاملة، وعاش حياة خالية من الخطية، وصنع آيات معجزيّة …”. منذ وقت ليس ببعيد، قامت كنيستي، الكنيسة المشيخيّة الثانية في مدينة ممفيس بولاية تينيسي، بمنحي أنا وزوجتي إجازة مدفوعة الثمن، فقضينا أربعة أسابيع نسافر ونتجول كثيرًا. وكنا في كل أحد نزور كنيسة مختلفة، وصدمني ما سمعته من واعظين على مدار يومي أحد متتاليين، في كنيستين تبعدان عن بعضهما مئات الأميال، وهما يقدمان أعذارًا لكنيستيهما عن نفاذ صبر المسيح، ونوبات غضبه، وتبلد إحساسه. لم أستطع تصديق ما أسمعه. ماذا يعتقد هذين الواعظين في نفسيهما؟ هل يفهمان خطورة ونتائج هرطقتهما هذه؟ هل يدركان أنه إن كان المسيح خاطئًا بأي شكل أو بأي درجة، كان سيصير ذبيحة “مشوبة بالعيب”، غير جديرة بالتكفير عن خطايانا؟
لكن مجدًا للرب أن الكتاب المقدس يعلن أنه ذبيحة ثمينة لأجلنا، لأن المسيح، مع كونه مجربًا في كل شيء مثلنا، لكنه لم يخطئ قط — سواء بالفكر، أو بالقول، أو بالفعل. فلم تكن حياته ذبيحة ثمينة فحسب لأجل خطايانا، لكن الكتاب المقدس يعلّم أيضًا أن المسيح وضع نفسه طوعًا تحت الناموس، كي يتمّم من أجلنا جميعًا ما قد أخفق أبونا البشريّ الأول، آدم، في فعله. فإن يسوع “ولد تحت الناموس” (غلاطية ٤: ٤-٧)، وختن (لوقا ٢)، ونشأ وكبر (لوقا ٢)، واعتمد من يوحنا المعمدان (يوحنا ١)، كي يتمّم عنّا كل بر.
آلامه، وموته، ودفنه:
“… وصُلب في عهد بيلاطس البنطيّ …”. لقد عانى المسيح الكثير في خلال سنوات خدمته العلنيّة الثلاثة: طلبات المساكين والبرص والثكالى، بالإضافة إلى احتقار القادة الدينيين له، وعدم إيمان تلاميذه أنفسهم به، وقسوة المحتل الروماني في إسرائيل. إلا أن ألمه الأعظم جاءه من يد أبيه. ففي الليلة التي سبقت صلبه، في بستان جثسيماني، صلى يسوع تحت ضغط وكرب عنيف، قائلاً: “يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ” (لوقا ٢٢: ٤٢). ثم من فوق الصليب، وتتميمًا للمزمور المسيانيّ (مزمور ٢٢)، صرخ يسوع إلى أبيه قائلاً: “إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟” (متى ٢٧: ٤٦).
لمَ قد يسمح الله، أو حتى يعيّن مُسبقًا، مثل هذه التحريف البادي للعدالة؟ (أعمال الرسل ٢: ٢٢-٢٣). يفترض القرآن إجابة على هذا السؤال: أن يسوع لم يمت حقًا. بل من مات هو شخص آخر (يهوذا)، بدا فحسب وكأنه هو يسوع. فإن القرآن يتصور أن نبيًا بارًا مثل يسوع لا يمكن أن يُذَل هكذا قط، فإن الله لم يكن من الممكن أن يسمح بهذا. لكن الشيء المذهل أن الله لم يسمح بهذا فحسب، لكنه قضى به وعيّنه منذ الأزل (١ بطرس ١: ١٩-٢٠). فإن يسوع، بدافع محبته لنا، قاسى المهانة التامة للجلد والصلب مثله مثل مجرم عادي. ما أعجب هذه المحبة! كيف لك أنت يا إلهي أن تموت عني؟
المسيح، ربّنا المُمجّد:
لا يسعنا سوى أن نتخيل الحالة البائسة التي عانى منها التلاميذ في السبت الذي تلا صلب يسوع. فهم كانوا قد آمنوا بأنه هو المسيّا المنتظر منذ زمن طويل. لكن الجميع يعلمون أن المسيّا يملك، وكي يملك لابد أن يكون على قيد الحياة. أما يسوع فقد مات. وكان موته يناقض كل ما سمعوه ورأوه فيه خلال الثلاث سنوات التي جالوا فيها معه.
فقد خدموا معه، وأكلوا معه، وناموا معه، وصلوا معه؛ ولم يسمعوا منه قط كلمة شريرة، أو يروا فيه تصرفًا فاسدًا. ولم يشهدوا نقصًا في محبته تجاه المحتاجين، ولم يروه قط مرتبكًا بسبب العلماء ورجال الدين. فقد رأوه يهدّئ الرياح والأمواج، ويخرج الأرواح النجسة، ويشفي العميان، بل ويقيم الأموات. وقد أطلقوا عليه اسم “المسيح”، وهو قد أكّد لهم بأن الروح القدس هو من أعلن لهم ذلك الحق. فقد كان كل شيء يشير إلى مسيانيّته. فكيف أنى له أن يموت؟ فإن “مسيّا ميت” يعد تناقضًا لفظيًا، مثل أن نقول “الثلوج الساخنة”.
وفي صباح الأحد الذي يلي الصلب الذي وقع في يوم الجمعة، شقّت بعض النسوة طريقهنّ إلى قبر يسوع كي يعتنين بجسده ويكرّمنه بالحنوط والأطياب. وهكذا صرن أولى الشاهدات من البشر على أعظم انقلاب في المصير اختبره أي إنسان على الإطلاق. لقد مات يسوع، وهو الآن حيّ! وهنا بدأ ما يطلق عليه اللاهوتيّون تمجيد المسيح، وهذا التمجيد يتضمّن قيامته، وصعوده، وجلوسه عن يمين الله، ومجيئه الثاني في المجد.
قيامته:
“… وقام بالجسد من الأموات في اليوم الثالث …”. تعد قيامة يسوع المسيح هي الحادث الذي توّج جميع أعمال الله العظيمة والقديرة في الفداء — وهي أروع وأعظم من شق البحر الأحمر، وأجمل من زلزلة جبل سيناء، وأضخم من إسقاط أسوار أريحا، وأكثر إبهارًا من انتصار داود على جليات. فإن مستقبل العالم المخلوق يستند على هذا العمل العظيم الذي عمله الله. ورجاء كل مؤمن حقيقيّ يستند بشدة على الحقيقة التاريخيّة لهذا الحدث.
لم تكن قيامة المسيح مجرد فكرة كما يدَّعي البعض، ولم تكن “قيامة روحيّة” من نوعها، بل كانت قيامة بالجسد ذاته الذي تألّم ومات على خشبة الجلجثة. هذا هو ما نادى به التلاميذ الأوائل بقوّة وجسارة ودون هوادة، قائلين: “أَنَّ اللهَ جَعَلَ يَسُوعَ هذَا، الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، رَبًّا وَمَسِيحًا” (أعمال الرسل 2: 36). وقد تلذّذ التلاميذ كثيرًا بحقيقة أن ربّهم يسوع قد تبرّأ بالكامل وتمجّد “وَتَعَيَّنَ ابْنَ اللهِ بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ الْقَدَاسَةِ، بِالْقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ: يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا” (رومية ١: ٤).
صعوده:
“… وصعد إلى السماوات …”. كان التلاميذ مبتهجين ليس لأنهم علموا أن يسوع حيّ فحسب، بل لأنهم شاهدوه وهو يصعد إلى السماء (لوقا ٢٤؛ أعمال الرسل ١). فإنه بالصليب والقبر الفارغ غلب جميع أعدائه وأعدائنا، والآن شاهدوه أمام أعينهم يعود إلى موطنه كملك. فلم يعد من الممكن أن يتعرّض ثانية لكبرياء الفريسيين، أو مؤامرات الصدوقيين، أو قسوة الرومانيين. ولن يُقبَض عليه ثانية بيدي قيافا، وبيلاطس، وتابعيهم — أو حتى بيدي الشيطان نفسه. فقد صعد عن يمين الله، آمنًا إلى الأبد، وفرحًا إلى الأبد، وملكًا إلى الأبد.
أيها القديسون انظروا فالمشهد مجيد:
انظروا رجل الأحزان؛
عاد من الحرب غالبًا،
ستسجد له كل ركبة؛
توجوه، توجوه،
توجوه، توجوه،
صارت التيجان من سيماء الغالب،
صارت التيجان من سيماء الغالب. …
اصغوا إلى صرخات التهليل!
واصغوا إلى نغمات الغلبة العالية!
فقد شغل يسوع المكانة الأسمى؛
يا لبهجة هذا المشهد!
توجوه، توجوه،
توجوه، توجوه،
ملك الملوك ورب الأرباب!
ملك الملوك ورب الأرباب![3]
جلوسه:
“وهو جالس الآن، كملك وسيط، عن يمين الله الآب، ممارسًا في السماء وعلى الأرض كل سيادة الله، وهو رئيس كهنتنا وشفيعنا البار”. منذ بضعة سنوات، كنت أقود مجموعة صلاة مكونة من رعاة كنائس، ومرسلين، وزوجاتهم. وقبل أن نصلي، طلبت منهم أن يغلقوا أعينهم ويتخيلوا يسوع المسيح. وبعد بضعة لحظات، طلبت منهم أن يشاركوا بقية المجموعة بما “رأوه” في تخيلاتهم. رآه واحد يحب الأطفال الصغار ويباركهم، وآخر رآه يعلّم الجموع، وآخر رآه يبارك الخبز والسمك، ورآه آخر يصلّي في بستان جثسيماني.
ومن خلال تأمّلنا في هذا، أدركنا أمرًا هامًا (إلى جانب حقيقة أن غالبيّة صورنا كان مصدرها الصور البسيطة الموجود في الكتاب المقدس العائلي القديم): وهو أن جميع تخيّلاتنا عنه كانت سابقة للصعود. فإننا لم نكن نفكّر في يسوع كما هو في الوقت الحالي، بل كما كان قبلاً. فإن تمجيد يسوع المسيح ليس حدثًا تاريخيًا فحسب، بل هو أيضًا واقع حالي. فإن يسوع لم يعد متسربلاً بجسدٍ فانٍ، بل بمجدٍ لا يُفنى. وحين رأى الرسول يوحنا يسوع في رؤيا كما هو الآن، سقط يوحنا كميت. ووحده الله هو من كان يستطيع أن يقيمه (رؤيا ١: ١٧).
هذا المسيح الممجّد والبرّاق بشكل غامر وساحق هو المسيح الذي عرفه يوحنا، وأحبّه، وعبده، وخدمه. وهو يملك الآن كملك وسيط، يشفع فينا، ويملك علينا، ويحامي عنّا. فهو قد أخذ جسدنا إلى داخل بلاط عرش الله الثالوث حيث يتم الآن تمثيلنا على نحو كامل، وحيث نختبر حماية مستمرة. ولذلك ليس لدينا شيء نخشاه سوى الله نفسه (متى ١٠: ٢٨).
مجيئه الثاني المجيد:
سيأتي المسيح ثانية في مجد لينهي كل شيء ويأخذ مكانته الصحيحة كملك ورب ممجّد، الذي فيه وتحت ظلاله سيتّحد الكون بأكمله في تسبيح لا ينتهي (أفسس ١: ١٠).
المسيح، ممثّلنا وبديلنا:
“نؤمن بأن يسوع المسيح بتجسّده، وحياته، وموته، وقيامته، وصعوده، كان ممثّلاً وبديلاً عنّا. وهو فعل هذا حتى نصير نحن بر الله فيه …”. سيكون لدينا بالفعل سبب كافٍ لنحمد يسوع المسيح ونعبده، إن كان جلّ ما عرفناه هو ما تحدّثنا عنه بالفعل في هذا الفصل: لاهوته الأزليّ، وطاعته المُحبة لأبيه، واتّضاعه، ومجده الفريد عن يمين الله. إلا أن الكتاب المقدس مع هذا يقدّم لنا المزيد من الأسباب الشخصيّة التي تجعلنا نحبّه ونعبده. فإن كل ما فعله كان لأجلنا.
فهو وُلد في هذا العالم لأجلنا (غلاطية ٤: ٤-٧)، وصُلب لأجل خطايانا (غلاطية ٣: ١٣)، وأقيم لأجل تبريرنا (رومية ٤: ٢٥)، وصعد إلى السماوات ليعد لنا مكانًا (يوحنا ١٤: ١٢). ونتعلّم من كلمة الله أن الوسيلة التي بها صنع المسيح هذا هي أن يصير بديلاً عنّا حتى يتسنّى له أن يتمّم بدلاً عنّا ما لا نستطيع نحن فعله بأنفسنا. هذا المفهوم يقع في جوهر وقلب الإيمان المسيحيّ، وبدونه يفقد الإنجيل قوّته الفريدة.
الكثير من الديانات تعلّمنا بأننا نحتاج إلى الإصلاح، والبعض منها تقدّم لنا النماذج الأوليّة العظيمة التي ينبغي علينا محاكاتها: مثل إبراهيم وموسى (اليهوديّة)، ويسوع (المسيحيّة)، ومحمد (الإسلام)، وبوذا والدالاي لاما (البوذيّة)، وكونفوشيوس (الكونفوشيوسيّة)، إلخ. لكن ديانة واحدة فحسب (المسيحيّة الإنجيليّة) هي التي تعلّمنا أن شخصًا آخر قد أتمّ بالفعل الآتي نيابة عنا: ١) عاش تلك الحياة، ٢) أخذ العقوبة التي نستحقّها عن جميع خطايانا، وأيضًا ٣) بلغ الحياة المقامة والحالة الممجدة، حتى أننا نحن، من الجهة الروحيّة، صرنا جالسين بالفعل عن يمين الله. هذا هو سر الإيمان المسيحيّ العميق (كولوسي ١: ٢٥؛ ١ تيموثاوس ٣: ١٦): فمن خلال الحياة البدليّة والموت البديليّ لربنا يسوع المسيح، نصير نحن بر الله (٢ كورنثوس ٥: ٢١).
حياة بلا خطيّة لأجلنا:
يعلّم الكتاب المقدس بأن آدم، الإنسان الأول، كان هو فعليًا ممثّلنا الأول (رومية ٥: ١٢). وباعتباره كذلك، فإن نجح، ننجح نحن، وإن أخفق، نخفق نحن. وهو قد أخفق. فأخفقنا نحن. وهو أخطأ، ولذلك نخطئ نحن. هو صار خاطئًا، وهكذا فإننا خطاة. أيبدو هذا ظلمًا؟ أتعتقد أنك كنت ستبلي بلاء أفضل منه؟ ها هو كبرياؤك قد ظهر، مبرهنًا مرّة أخرى على أنك خاطئ.
إلا أن جمال القصة يكمن في أنه بعد سقوط الإنسان وعد الله مباشرة بمجيء ممثّل جديد، من نسل حواء، ويومًا ما سيسحق هذا الممثّل عدونا إبليس (تكوين ٣: ١٥). وكان يسوع هو ذلك النسل، أي آدم الثاني، وهو قد عاش حياة كاملة لأجلنا، حتى حين نضع ثقتنا فيه، ننال جميع مزايا عمله الكامل، وطاعته الكاملة للآب. فإن كل ما فعله يوضع في سجلاتنا. وحين ينظر الله إلى “سجل الأداء” الخاص بالمؤمنين، فهو يرى أن ابنه الحبيب يسوع هو من أتمّ هذا العمل. فإننا قد لبسنا المسيح، وقد حسب الله لنا استحقاقات حياة ابنه الكاملة. فإنه لحقٌ مبارك أن يسوع قد عاش حياة بلا خطية لأجلنا.
موت أليم لأجلنا:
كثيرًا ما نستخف على نحو سيء بحجم مشكلاتنا الأدبيّة والروحيّة. فكنتيجة لسقوط آدم، صرنا خطاة مذنبين، موضوع غضب الله. فإننا فاسدون من كل جوانب ونواحي طبيعتنا البشريّة، متجنّبون عن حياة الله، وقد صرنا أعداءً له. كما أننا عاجزون أدبيًا وروحيًا عن تغيير أو خلاص أنفسنا. فقط الموت البديلي لربنا يسوع المسيح هو ما يمكنه أن يحل هذه المشكلات العويصة.
لقد مات يسوع بدلاً عنّا. وهو لم يكن مستحقًا للموت. بل نحن من كنّا نستحقه. وهو مات لأن الله، لأجل مجده وبدافع نعمته غير المحدودة من نحونا، قد حسب جميع خطايانا على ابنه الحبيب. وهكذا، حمل يسوع المسيح، بموته الكفاريّ (أي بدمه)، خطايانا في جسده، رافعًا إيّاها عنّا. فقد أشار يوحنا المعمدان إلى يسوع، قائلاً: “هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!” (يوحنا ١: ٢٩، ٣٦). لقد كفّر يسوع عن خطايانا (أي رفعها ومحاها) بأن أخذها على عاتقه. “لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ” (٢ كورنثوس ٥: ٢١).
ويشرح بولس سبب موت يسوع فوق صليب خشبيّ قائلاً: “اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ»” (غلاطية ٣: ١٣). فإذ صار يسوع لعنة لأجلنا، أرضى غضب الله البار على كل من يخطئون، أي أن المسيح “استرضى” الله. فهو قد حوّل عنّا غضب الله. وهو أرضى مطالب عدل الله البارة. وهذه الذبيحة البدليّة لازمة لأجل خلاصنا لأن “الَّذِي يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللهِ” (يوحنا 3: 36).
لقد وصفنا بولس في حالتنا الطبيعيّة الساقطة بأننا “أَمْوَاتً بِالذُّنُوبِ [ذنوبنا] وَالْخَطَايَا [خطايانا] … بِالطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ الْغَضَبِ” (أفسس ٢: ١، ٣). لكن ونحن بعد خطاة، وأعداء لله، مات المسيح لأجلنا (رومية 5: 8). ولكن في النهاية، فإن دم المسيح، وموته الكفاريّ كذبيحة لأجلنا، يصالحنا مع الله حتى يتسنّى لنا أن نستعيد علاقتنا الحميمة معه التي فقدناها في جنة عدن بخطايانا. ويصيغ بولس الأمر هكذا: “وَلكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ، أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعًا فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ” (٢ كورنثوس ٥: ١٨-١٩). فقد كان موته الأليم والمؤسف لأجلنا.
قيامة غالبة لأجلنا:
لقد صرنا بسبب خطايانا عرضة لجميع مآسي وأحزان هذه الحياة، وأيضًا عرضة للموت، وللجحيم الأبديّ. لكن يسوع بموته البديلي وعمله الفدائيّ هزم الخطيّة، والموت، وغلب جميع الرياسات والسلاطين التي تحاول أن تهلكنا. وبقيامة يسوع من القبر، صرنا مبررين تمامًا وإلى الأبد أمام الله، وقمنا إلى حياة أبدية. فمن خلال الإيمان بيسوع المسيح، نكون بالفعل قد قمنا روحيًا معه، ويومًا ما سنكون مثله في أجساد جديدة مقامة. فإن مستقبلنا متعلّق به: فكما صار عارنا هو عاره، هكذا أيضًا يصير تمجيده هو تمجيدنا نحن. فإننا نقوم، ونصعد إلى محضر الله، ونملك مع المسيح، ويومًا ما سنكون مثله في أجساد ممجدة. فقد كانت قيامته الغالبة لأجلنا.
صعود مجيد لأجلنا:
حين كان يسوع مع تلاميذه في العليّة، استشفّ قلقهم حيال رحيله المستقبليّ. فشرح لهم أن ذهابه كان فعليًا أمرًا جيدًا لسببين. أولاً، أنه كان سيرسل لهم الروح القدس، المشير، الذي سيرشدهم، ويشدّدهم، ويعلّمهم. ثانيًا، أنه سيذهب إلى بيت الآب كي يعدّ مكانًا لهم هناك.
حين كنت طفلاً، كان أحد جوانب حياتي المشرقة هو زيارتي لجدّتي، التي كانت تحدث عادة مرة واحدة كل عام. وكنا نمكث في بيتها الصغير لعدة أيام. فقد كانت سيدة بسيطة تعيش في قرية ريفيّة صغيرة في الجبال المدخّنة. ربما يتعجّب البعض كيف لطفل صغير يبلغ من العمر ثماني سنوات أن يكون متحمّس لزيارة مكان ليس به تلفاز، أو ملعب كرة سلة، أو ألعاب حديثة، وليس به سوى متجر عام صغير على الطريق. كان السبب هو أن جدّتي كانت تنتظرنا طوال شهور. وحين نصل إلى هناك، كانت تقف على عتبة بيتها الصغيرة تنتظرنا. فكنا نركض لنحصل على الحضن المليء بالمشاعر. وكانت تطلق على كل منّا أسم حركي. ثم كنّا نصعد إلى غرف نومنا التي تقع تحت السقف الصفيحي مباشرة، والذي كان يصدر أصواتًا صاخبة حين كانت السماء تمطر ليلاً. ثم لاحقًا كنا نستمتع بالأطباق الشهيّة والحلوى التي كانت جدّتي تعدّها لنا. بعد هذا كنا نذهب في نزهات وجولات، ونقوم بأنشطة بسيطة كانت تخطط لها جدّتي لأجلنا. والأكثر من هذا كلّه أننا كنا نشعر بالدفء في هذه المحبة المطلقة، والشديدة، والثابتة التي كانت لجدّتنا تجاهنا.
حسنًا، إن كانت جدّتي ذات الخمس وسبعين عامًا بمواردها المحدودة جدًا وخيالها المحدود قادرة على إعداد مكان مثير لي، أيمكنك تصوّر ما سيفعله الرب يسوع المسيح، بموارده العظيمة، وقوته وخياله غير المحدودين، ومحبته اللا نهائيّة، لأجلنا؟ فهو ينتظر وصولنا إليه بلهفة، ولديه اسم حركي معدّ لكل واحد من خاصته. وهو أعدّ منزله كي يجلب لنا فرحًا ثابتًا. وسنسبح في محيط محبته وعاطفته من نحونا. لقد كان صعوده المجيد هذا لأجلنا.
المسيح، رجاؤنا الوحيد:
“نُؤمن بأن الخلاص لا يُوجد في أي شخص آخر، إذ ليس اسم آخر تحت السماء قد أُعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص”. توجد العديد من الجوانب في الإيمان المسيحيّ التي وجدها غير المؤمنين عبر القرون كريهة ومنفرة. هذه الجوانب تشمل الفساد الطبيعيّ للقلب البشريّ، وعجز الإنسان عن محاولته إنقاذ نفسه من حالته الضالة، وحقيقة الجحيم. وفي زمن الرسول بولس، كانت هناك تعاليم أخرى أيضًا تثير ردود أفعال عدائيّة مثل: دينونة الله على إسرائيل، دخول الأمم إلى الكنيسة، وتحرّرنا من الشرائع الطقسيّة للعهد القديم.
ربما يكون أحد أكثر التعاليم المنفرة في زماننا هذا، والذي تحرص وسائل الإعلام المعاصر على تناوله في اللقاءات الدينيّة مع المؤمنين الإنجيليّين، هو تعليم الكتاب المقدس عن تفرّد يسوع المسيح باعتباره الطريق الوحيد إلى الحياة الأبديّة. وسبب النفور من هذا التعليم واضح: أن المؤمنين يدَّعون أنّهم وحدهم هم من يعرفون الله الواحد الحيّ الحقيقيّ، وهم وحدهم من ينادون به، وأن الآخرين جميعهم هم في الجانب الخطأ، وأن عواقب مثل هذا الضلال عواقب وخيمة وقاسيّة بشكل مرعب.
وعلاوة على ذلك، بعض المؤمنين يتخذون هذا الموقف بوقاحة غير محتملة وبتبلّد مشاعر ظاهر تجاه الدينونة المقدَّرة على كل غير مؤمن وعلى كل جماعة دينيّة أخرى. لماذا إذًن نحن في هيئة ائتلاف الإنجيل نجعل من هذه العقيدة إحدى أساسياتنا العقائديّة غير القابلة للتفاوض؟ إليك السبب:
- ما لم يقبل أحد هذا الحق بكل قلبه، فهو لم يفهم إنجيل المسيح على الإطلاق. فإننا إن صدّقنا ما يعلّمه الكتاب المقدس بشأن مأزق البشريّة الساقطة (فسادنا الأدبيّ، وموتنا الروحيّ، ودينونتنا العادلة في الجحيم الأبديّ)، حينئذ فقط سنفهم تمامًا العلاج الفريد الذي يقدمه الله وسنقبله، فهو العلاج الوحيد الذي يمكنه على الأرجح أن يفدينا من حالتنا هذه. ولأننا لا نملك برًا من أنفسنا، فإننا لابد أن نثق في بر المسيح وحده. ولأننا بالطبيعة أموات بالذنوب والخطايا، فلابد لنا أن ننال معجزة الحياة المقامة من المسيح. وبسبب لزوم إرضاء عدالة الله من نحو خطايانا إرضاءً كاملاً، فإننا لابد أن نقبل الكفارة الكاملة والبديلة للمسيح. ولأننا لا يمكن أن نقبل إلى الله بناء على استحقاقاتنا، فإننا بالتالي لابد أن نتّكل على شفاعة المسيح لأجلنا أمام عرش الله. تلك هي الإنجازات الفريدة لعمل المسيح الفدائيّ التي تحل مشكلة خطايانا حلاً فريدًا. فقد قال يسوع: “أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي” (يوحنا ١٤: ٦).
- إن كان هناك طريق آخر لنوال الحياة الأبديّة، فإن الله سيكون حينئذ مذنبًا بأعظم انتهاك للعدالة في تاريخ الكون. فإن صلب المسيح، على الصعيد البشريّ وحده، كان أعظم تحريف للعدالة في كل التاريخ البشريّ. فإن يسوع، كما رأينا، هو الإنسان الوحيد الذي لم تخرج منه كلمة رديّة، ولم يقبل بداخله أي فكرة شريرة، ولم يرتكب عملاً خاطئًا. بل خدم الفقراء بمحبة، وتراءف على الضعفاء والذين يشعرون بالوحدة، وشفى المرضى. فقد كان أعظم إنسان عاش على وجه الأرض على الإطلاق، ومع ذلك فهو قد قاسى عقوبات أشد من أي مجرم آخر في التاريخ. والأعجب من هذا أن الله نفسه هو من عيَّن هذه الهزيمة، فهو الذي أسلم ابنه للرجال الأشرار كي يواجه كرب الموت المؤلم فوق صليب خشبي (أعمال الرسل ٢: ٢٣). فإن كانت هناك وسيلة أخرى يمكن أن يخلص بها البشر من مأزقهم في الخطيّة، وإن كان الله لديه خطة بديلة يمكن أن تعمل بنفس كفاءة خطة “طريقة يسوع”، إذًن يمكننا حينئذ أن نستنتج أن موت يسوع المسيح لم يكن ضروريًا حقًا لخلاص الخطاة. وبالتالي سنكون مجبرين أيضًا على استنتاج أن الله كان مقترفًا لأكثر الانتهاكات بشاعة وعدم جدوى لعدله. لكن يسوع هو الطريق الوحيد، ولذلك فإن قضاء الله المهيب بأن يبذل ابنه الوحيد لم يكن أعظم فعل ظلم في العالم، بل بالحري كان أعظم عمل محبة تم على الإطلاق.
- إن كانت هناك وسيلة أخرى للخلاص، فكان لابد أن تكون مؤسّسة على الأداء الأدبيّ والأخلاقيّ للإنسان، إذ أن الإنجيل المسيحيّ وحده يخلّص بالنعمة. ولذلك، فإن أي وسيلة أخرى للخلاص تناقض بشكل مباشر الخلاص بالنعمة وحدها، وخاصة كما يعلّم بولس في رسائله. فإن وُجد أي طريق آخر للخلاص، فإن فكرة النعمة ستصير غير ذي جدوى وغير ذي نفع، وبالتالي لن يوجد الإنجيل المسيحيّ على الإطلاق.
- إن كان هناك طريق بديلي للخلاص، فسيكون من المستحيل مصالحة هذه الفكرة مع تصريحات كلمة الله الواضحة (يوحنا ١٤: ٦؛ أعمال الرسل ٤: ١٢؛ رومية ٣: ١٩-٢٠؛ ١ تيموثاوس ٢: ٥-٦). فإن كنا لا نستطيع الثقة بأن كلمة الله يمكن أن تقدّم لنا سجلاً حقيقيًا عن هذه العقيدة الجوهريّة، فكيف لنا أن نثق في دقة الكتاب المقدس في أي جانب آخر؟
- إن كان هناك طريق آخر للخلاص، فمن المفترض أن هذا الطريق سيكون مصممًا لمن لم يسمعوا قط برسالة الإنجيل، لكن يرغبون في الذهاب إلى السماء. لكن ما الذي يجعلنا نعتقد أن الإنسان الطبيعيّ قد يرغب في الذهاب إلى السماء؟ يعلّمنا الكتاب المقدس بأن مواطني السماء يستحوذ عليهم مدح وتمجيد يسوع المسيح — ذلك الشيء نفسه الذي يتحاشاه ويتجنّبه الإنسان الطبيعيّ. فإن أي شخص لا يحب المسيح سيزدري بالطبيعة بالسماء. على الصعيد الآخر، يمكننا أن نقول بأن لا أحد يرغب حقًا في الذهاب إلى السماء سيُرفض أو يُمنع من هذا. لكن قلوب الخطاة تختبر شوقًا نحو السماء فقط باستماعها لرسالة الإنجيل والإيمان بها، وهذا بالطبع يعني أن طاعة الكنيسة للإرساليّة العظمى هو أمر ذو أهميّة عظمى.
فإن من قد يكتشف محبة الله في العمل الفدائيّ ليسوع المسيح بالفعل لا يصاب بصدمة من كون الله قد دبر وسيلة واحدة للخلاص، بل بالأحرى يزداد حيرة وارتباكًا بأن الله دبّر أي وسيلة على الإطلاق. وفيما ينمو التلميذ المسيحيّ في فهمه لذاته، ويصل إلى درجة من الوعي بأنانيته الشديدة، وكبريائه العظيم، وتجاهله المتعمّد لحاجات الآخرين، وتمرّده غير المبرَّر على وصايا الله القدير المقدسة، فهو حينئذ يتعجّب في ذهول مرتبك من لطف، وصبر، ورحمة، وأمانة الله التي لا توصف.
لمَ قد يخلّص الله أحدًا على الإطلاق؟ السبب هو كي يتمجّد. ولهذا فهو اختار أن يبيّن نعمته من نحو خطاة غير مستحقين. فلم يحدث قط أن تكبّد المؤمنون العناء لكتابة ترنيمات بعنوان “ما أعجب العدل”، أو “ما أعجب الغضب” — فإن غضبه وعدله ليس بمثابة مفاجأة كبيرة لنا. فإننا قد تم تحذيرنا جيدًا من هذا الغضب في جنة عدن. لا، بل كتب المؤمنون “Amazing Grace” [ما أعجب النعمة] (جون نيوتن)، وأيضًا “And Can It Be” [وكيف لهذا أن يحدث؟] (تشارلز ويسلي).
وهكذا، ومن بين جميع القادة الدينيين الذين ادّعوا مساعدتهم، وإرشادهم، وتخليصهم للبشر، يسوع المسيح وحده هو من أتمّ الأمر حقًا، وهو قد فعل هذا وكان الثمن دمه.
المسيح، الكل في الكل لنا:
يقول إقرار إيمان هيئة ائتلاف الإنجيل الآتي: “لأن الله قد اختار أَدْنِيَاءَ الْعَالَمِ وَالْمُزْدَرَى وَغَيْرَ الْمَوْجُودِ، لِيُبْطِلَ الْمَوْجُودَ، فلا مجال إذن أن يفتخر كل ذي جسد أمامه — فقد صار يسوع المسيح لنا حكمة من الله — أي صار لنا برًا، وقداسةً وفداءً” (انظر ١ كورنثوس ١: ٢٨-٣٠).
منذ ما يقرب من عشرين عامًا، بعد فترة العبادة مباشرة في صباح يوم الأحد، اعتقدت أني قدمت عظة جيدة على نحو خاص (أي سليمة لاهوتيًا، ومتبصرة تفسيريًا، وموضحة ومفسرة بالأمثلة والصور بشكل جيد). وتلقّيت العديد من المجاملات من شعب الكنيسة أكدت افتراضي المتفائل هذا. ثم انتظرت إحدى السيدات المحبوبات المتقدّمات في العمر بعد انتهاء العبادة للتحدث معي. وإذ كنت متوقّعًا أن تحاكي الآخرين الممتنين، التفت إليها، واتّضعت بشدة حين قالت لي: “أيها القس، أشكرك على عظتك البارعة، لكن أيمكنك في الأسبوع القادم أن تخبرنا عن يسوع؟” وأدركت في تلك اللحظة أني أخفقت في أن أجعل من يسوع الكل في الكل لي في وعظي، وإلى حد ما في حياتي.
ولكي نجعل من المسيح الكل في الكل لنا، لابد أن نعمل أمرين. أولاً، لابد أن نخلي أنفسنا. فإننا ننادي به للآخرين فقط حين نعرف مقدار حاجتنا الماسة له نحن أنفسنا. يقول الرسول بولس إن البعض لن يرثوا ملكوت الله: الزناة، وعبدة الأوثان، والفاسقون، والمضاجعو الذكور، والسارقون، والطمّاعون، والسكيرون، والشتامون، والخاطفون. ثم يقول: “وَهكَذَا كَانَ أُنَاسٌ مِنْكُمْ” (١ كورنثوس ٦: ٩-١١).
وفي أثناء وصف بولس للحال الذي كان عليه مؤمنو كورنثوس، قال: “فَانْظُرُوا دَعْوَتَكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَنْ لَيْسَ كَثِيرُونَ حُكَمَاءَ حَسَبَ الْجَسَدِ، لَيْسَ كَثِيرُونَ أَقْوِيَاءَ، لَيْسَ كَثِيرُونَ شُرَفَاءَ” (١ كورنثوس ١: ٢٦-٢٧). إن الله لم يخترنا لأننا فعلنا شيئًا ما أو كنّا سنفعل شيئًا يستحق رحمته بأي صورة من الصور. بل كان اختياره لنا دون سبب أو مبرر على الإطلاق. فهو اختارنا على الرغم من عدم استحقاقنا. ويفسّر بولس تأثير هذه الحقيقة على تقييمنا ونظرتنا لأنفسنا: “فَأَيْنَ الافْتِخَارُ؟ قَدِ انْتَفَى” (رومية ٣: ٢٧). فإن كنا نخلص من خلال الإنجيل، فإننا بهذا نقر أنه “لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ، أَيْ فِي جَسَدِي، شَيْءٌ صَالِحٌ” (رومية ٧: ١٨).
ثانيًا، إن كان لابد أن نتوقف عن الافتخار بأنفسنا حين نقبل إلى المسيح، فإننا لابد أيضًا أن نبدأ في الافتخار بالمسيح: “حَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ” (غلاطية ٦: ١٤). الآن صار لدينا مصدر افتخار واحد: وهو الله ذاته. ويهتف الملك داود قائلاً: “بِالرَّبِّ تَفْتَخِرُ نَفْسِي…عَظِّمُوا الرَّبَّ مَعِي، وَلْنُعَلِّ اسْمَهُ مَعًا!” (مزمور ٣٤: ٢-٣). ولماذا نفتخر به؟ لأنه هو وحده من أتمّ لأجلنا كل شيء يحمل قيمة ثابتة وباقية: أي قبولنا أمام الله، وفرحنا في الحياة، وحكمتنا، وآمالنا للمستقبل. فهو الكل في الكل لنا. فإن المسيح، بسبب فدائه المجيد للخطاة، قد صار مركز ومحور حياتنا.
يمكننا أن نلقي نظرة عامة على قصص الإنجيل لنرى ما المقصود بأن يكون المسيح مركز حياتنا. فعلى سبيل المثال، في إنجيل متى، نتعلم أنه إن كانت لنا حياة مركزها المسيح، فإننا حينئذ نعبده ونسجد لجلاله (متى ٢)، ونؤمن برسالته (متى ٤)، ونطيع تعليمه (متى ٥-٧)، وندعو الله “أبانا” (متى ٦)، ونختبر شفاءه (متى ٨-٩)، ونشترك في إرساليته (متى ١٠)، ونحمل صليبنا (متى ١٦)، ونحب كنيسته (متى ١٨)، ونقدم له محبة لقاء محبته (متى ٢٦)، ونفتخر بصليبه (متى ٢٧)، ونبتهج بقيامته (متى ٢٨). هذا هو كل ما تدور حوله الحياة الحقيقيّة.
وفي ضوء خوائنا وملئه، وخطيتنا وبره، وحماقتنا وحكمته، توجد بعض التطبيقات العمليّة على عمل يسوع المسيح الفدائيّ:
- لابد أن نجد كفايتنا فيه هو وحده. دعونا نتوقف عن الشكوى وعن سعينا الذي لا يكل وراء ملذّات هذا العالم. أليس هو كافيًا لنا؟ فإن كان الرب لك، فهل يمكنك أن تكون مكتفيًا أكثر من هذا؟ انظر إلى اكتفاء بولس التام، بغض النظر عن ظروفه المتعبة والمضنية، في فيلبي ٤: ١٠-٢٠.
- علينا أن نصبغ خدماتنا المسيحيّة بإنجيل المسيح. فلابد أن تنصبّ كرازتنا وتعليمنا عليه، أيضًا لابد أن تكون ممارستنا للمشورة بداخل الكنيسة منصبّة على علاقتنا به (وهذا هو الحل المطلق والنهائيّ لأي مشكلة في المشورة). أيضًا لابد أن تتمركز عباداتنا واجتماعات الصلاة حوله، وأن تصب جميع برامج كنائسنا وجهود إرسالياتنا عنده وفيه. وإليك السبب: حين نمجّد الرب يسوع المسيح ونبتهج بعمله الفدائيّ، فإننا بهذا نمجّد الله الثالوث، الذي أعلن عن نفسه إعلاناً كاملاً في المسيح.
يقع فداء المسيح في قلب وجوهر اللاهوت المسيحيّ. وليته يكون أيضًا في مركز حياة كل مؤمن.
[1] وهنا وطوال هذا الفصل ستجد مقتطفات من إقرار إيمان هيئة ائتلاف الإنجيل، والذي ستجده مكتوبًا مرة أخرى كاملاً في ملحق هذا الكتاب.
[2] Frank Houghton, “Thou Who Wast Rich” (1894–1972).
[3] Thomas Kelly, “Look, Ye Saints! The Sight is Glorious” (1809).