“لِيَكُونـُوا وَٱحِداً كَمَا أَنـَّنَا نَحْنُ وَٱحِدٌ”؟ (يوحنا ٢٢:١٧)
يداعب حلم الوحدة المسيحية عقول وقلوب كثير من المؤمنين الأتقياء. فلا أظن أن حالة التباعد والاستقطاب الحاد بين الطوائف المسيحية تُسعد أحدًا يسكن فيه روح الوحدانية. وحسنًا يفعل كل من يُصلي لوحدة جسد المسيح.
لكن المفارقة اللافتة، هي أن التفكير في الوحدة المسيحية بعد قرون من الانقسام يثير عدة أسئلة بداخلي كإنجيلي مُصلَح. ولكيلا تتحول الصلاة لأجل الوحدة لمجرد توجه شائع (تريند) أو شعار أجوف، أظن من البديهي أن نفكر فيما نصلي لأجله متسائلين:
- بأي معنى نحن كمسيحيين واحدٌ ومع من نتوحد؟ هل مع كل شخص أو كيان يدعو نفسه مسيحيًا بغض النظر عن إيمانه بالكتاب المقدس؛ وضوحه وسلطانه، عصمته وكفايته؟، ناهيك عن محتوى الفكر اللاهوتي لهذا الشخص أو ذاك الكيان؟
- أم أننا واحدٌ فقط مع كل من يتفق معنا في أدق التفاصيل وكافة الأفرع العقائدية واللاهوتية؟
وبالنظر للسؤالين السابقين، نعلم أن الإجابة الوحيدة على السؤال الأول التي تتسق مع الإعلان الكتابي الممكنة هي النفي. فكل مؤمن حقيقي يعلم أن أي وحدة تعمد إلى تهميش، أو قُل تحييد العقائد المسيحية الأساسية، ليست وحدة من الأساس، بل محض سراب، إذ تفتقد إلى احترام إعلان الله عن شخصه في الابن المتأنس ربنا يسوع المسيح، وفي المرجعية الأساسية للحق “كلمة الله” القادرة أن تحكمنا للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع، إذ أن: “كُلُّ ٱلْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ ٱللّٰهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَٱلتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَٱلتَّأْدِيبِ ٱلَّذِي فِي ٱلْبِرِّ، لِكَيْ يَكُونَ إِنـْسَانُ ٱللّٰهِ كَامِلاً، مُتَأَهِّباً لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ” (٢تي ١٥:٣-١٦).
أما إذا أجبنا على السؤال الثاني بالإيجاب، فإننا ضمنيًا نفترض حالة من الاتفاق الكامل ليس على مبادئ علم تفسير الكتاب المقدس بعهديه فحسب، لكن أيضاً على تطبيق هذه المبادئ بمثالية وحياد كامل لاستنتاج العقائد الأساسية والثانوية. وهي ما لم يحدث حتى بين المؤمنين حتى في زمن العهد الجديد، وفي حياة الرسل. باختصار، يفترض هذا التصور المبالغ في المثالية غياب تأثير الخطية على الطبيعة البشرية، وهو أمر نتطلع إليه بشكل كامل في السماء الجديدة والأرض الجديدة. تبقى الإجابة بالنفي على السؤال الثاني أيضًا هي الخيار المتسق مع الدليل الكتابي وشهادة التاريخ.
ربما لذلك يحلو للكثيرين اقتباس المقولة المنسوبة للقديس أوغسطينوس في هذا الصدد للتمييز بين العقائد الأساسية للإيمان المسيحي (الأساسيات) وما غير ذلك (الأمور غير الأساسية)، إذ يقول أوغسطينوس: “في الأساسيات وحدة؛ في غير الأساسيات حرية، وفي كل شيء محبة.”
والواقع أن البعض يستغل هذا القول المأثور، محملًا إياه ما لا طاقة للمسيحية الكتابية به. كما لو أن العهد الجديد لم يقدم بالفعل علامات على الطريق للتمييز بين ما هو أساسي وملزم، وما هو غير أساسي وللمؤمن فيه حرية منضبطة بأولوية إنجيل المسيح. فلم يكن الأمر بهذه المرونة، أو قُل الميوعة العقائدية!
نماذج للتمييز في التعامل مع العقائد الأساسية والثانوية
أولًا: يعطي العهد الجديد أمثلة على حسم الرسل في العقائد الأساسية، مثل:
- عقيدة التبرير بالإيمان وحده كمركز لرسالة الإنجيل:”إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنـَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هَكَذَا سَرِيعاً عَنِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ ٱلْمَسِيحِ إِلَى إِنـْجِيلٍ آخَرَ. لَيْسَ هُوَ آخَرَ، غَيْرَ أَنـَّهُ يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُحَوِّلُوا إِنـْجِيلَ ٱلْمَسِيحِ. َلَكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا (أي ملعون)” (غلاطية ٦:١-٨)؟
- عقيدة قيامة المسيح بالجسد كأساس لغفران الخطايا، وصدق شهادة الرسل:“وَلَكِنْ إِنْ كَانَ ٱلْمَسِيحُ يُكْرَزُ بِهِ أَنـَّهُ قَامَ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ، فَكَيْفَ يَقُولُ قَوْمٌ بَيْنَكُمْ إِنْ لَيْسَ قِيَامَةُ أَمْوَاتٍ؟ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قِيَامَةُ أَمْوَاتٍ فَلاَ يَكُونُ ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ! وَإِنْ لَمْ يَكُنِ ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتـُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانـُكُمْ، وَنـُوجَدُ نَحْنُ أَيْضاً شُهُودَ زُورٍ لِلَّهِ، لأَنـَّنَا شَهِدْنَا مِنْ جِهَةِ ٱللّٰهِ أَنـَّهُ أَقَامَ ٱلْمَسِيحَ وَهُوَ لَمْ يُقِمْهُ — إِنْ كَانَ ٱلْمَوْتَى لاَ يَقُومُونَ. لأَنـَّهُ إِنْ كَانَ ٱلْمَوْتَى لاَ يَقُومُونَ فَلاَ يَكُونُ ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلٌ إِيمَانـُكُمْ. أَنـْتُمْ بَعْدُ فِي خَطَايَاكُمْ!
- عقيدة التأنس، والتي واجه فيها يوحنا الهرطقة الدوسيتية التي ادعت أن جسد المسيح لم يكن جسدًا بشريًا حقيقيًا، بل كان مجرد ظهور، يقول الرسول يوحنا: “وَكُلُّ رُوحٍ لاَ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ، فَلَيْسَ مِنَ اللهِ. وَهذَا هُوَ رُوحُ ضِدِّ الْمَسِيحِ الَّذِي سَمِعْتُمْ أَنَّهُ يَأْتِي، وَالآنَ هُوَ فِي الْعَالَمِ.” (رسالة يوحنا الأولى ٣:٤).
لاحظ الأناثيمات (اللعنات) التي وجهها الرسل لمروجي الهرطقات التي تمس أساسيات الإيمان. لم يخش أي منهم أن يُتهم بالتطرف أو ضيق الأفق! فالتشويش العقائدي الذي وقع ضحيته أهل غلاطية فيما يخص عقيدة التبرير بالإيمان، لم يكن أقل من إنجيلًا آخر! هذا بولس – عزيزي القارئ – وليس لاهوتي معاصر متشدد كما يدعي الليبراليون.
ثانيًا: نموذج للحرية المسيحية المنضبطة بأولوية الشهادة النقية للإنجيل وحفظ الوحدانية عند التعامل مع الأمور غير الأساسية في تعليم الرسل
- مقدمة مختصرة عن قضية اللحوم المذبوحة للأوثان في الكنيسة الأولى
- في السنوات الأولى للكنيسة، عندما بدأ المهتدون من الأمم في الانضمام إلى المؤمنين اليهود في الكنائس المحلية، نشأت قضية تتعلق بأكل اللحوم. كان المجتمع اليوناني الروماني مشبعًا بعبادة الأوثان، وكان من الشائع أن يتم تكريس اللحوم المباعة في الملحمة (سوق اللحوم) كذبيحة لآلهة باطلة قبل بيعها. لم يكن المؤمن اليهودي ليأكل مثل هذه اللحوم، فهي وفقًا لخلفيته اليهودية طعام “نجس” اعتقادًا منه بأن تناول اللحوم المكرسة للأوثان هو بمثابة موافقة ضمنية على عبادة الأوثان.
- لكن الأمر كان مختلفًا تمامًا بالنسبة للمؤمنين المسيحيين من خلفية أممية وثنية، واعتبروا أن بإمكانهم أكل اللحوم التي تم تكريسها للأوثان دون أن يكون ذلك تأييدًا ضمنيًا أو اشتراك في عبادة الأصنام طالما لم يقدموا الذبيحة. لكن في النهاية. أصبحت المسألة نقطة خلاف داخل الكنيسة وهددت وحدتها.
مبادئ لكيفية علاج الرسول بولس لهذه الإشكالية؟
- أولًا: لا تسبب عثرة للمؤمن الضعيف. يوضح بولس في 1 كورنثوس 8: 4-13 التعليم حول هذا الموضوع. أولاً، يقول إن تناول اللحوم التي تُقدم للوثن ليس عملًا غير أخلاقي، لأن ” نَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ وَثَنٌ فِي ٱلْعَالَمِ، وَأَنْ لَيْسَ إِلَهٌ آخَرُ إِلاَّ وَٱحِداً” (كورنثوس الأولى ٤:٨-٥). يكمل بولس الرسول فيقول: “وَلَكِنَّ ٱلطَّعَامَ لاَ يُقَدِّمُنَا إِلَى ٱللّٰهِ، لأَنـَّنَا إِنْ أَكَلْنَا لاَ نَزِيدُ وَإِنْ لَمْ نَأْكُلْ لاَ نَنْقُصُ.” (كورنثوس الأولى ٨:٨) أكل اللحوم في ذاته ليس له قيمة غير أخلاقية.
- إلا أن هناك ما هو أهم من أكل اللحم ويستحق أن نلتفت إليه، ألا وهو الأخ ذو الضمير الضعيف. يقول بولس إنه لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يشجع المؤمن مؤمنًا آخر على انتهاك ضميره. بالنسبة للطاهر، كل الأشياء طاهرة (تيطس١٥:١)، أما بالنسبة للشخص الذي يعاني ضميرًا ضعيفًا، فإن أكل اللحم المأخوذ من المعابد الوثنية في نظره ينجسه روحياً. فضل بولس عدم تناول اللحوم مرة أخرى على جعل المؤمن الضعيف يخطئ إلى ضميره. المبدأ هنا هو أن ضمير المسيحي الأضعف أهم من الحرية الفردية. يجب ألا يؤدي القيام بشيء “مسموح به” أبدًا إلى إعاقة الصحة الروحية لشخص آخر.
- ثانيًا: الحفاظ على الشهادة النقية للإنجيل. في 1كورنثوس 10: 25-32، أكد بولس مرة أخرى على حرية المؤمن وما يجب أن يحد من هذه الحرية. إذا كنت تشتري اللحوم لاستخدامك الخاص، فلا تسأل من أين أتت؛ لا يهم حقًا ما إذا كان قد تم تكريسها أو التضحية بها لوثن أم لا. نعلم أن “لِلرَّبِّ ٱلْأَرْضُ وَمِلْؤُهَا.” (مزمور 24: 1). ومع ذلك، إذا تمت دعوتك لتناول العشاء وقال أحدهم هناك، “تم تقديم هذا اللحم للأوثان،” إذن امتنع عن الأكل بلطف. نظرًا لأنه من الواضح أن شريكك يعتبر اللحم “نجسًا” من قبل الأصنام، فلا تأكله من أجل ضميره – على الرغم من أن ضميرك لا يلومك. يمجد المسيحي الله عندما يحد من حريته لصالح الشهادة النقية للإنجيل.
ختام الأمر: صلاة الرب يسوع لأجل الوحدة
بعد حديثنا المطول عن الاختلاف في التعامل مع الأمور الأساسية وغير الأساسية في الإيمان المسيحي، نعود لصلاة المسيح للآب في يوحنا ١٧، ولا سيما طلبته: “لِيَكُونـُوا وَٱحِداً كَمَا أَنـَّنَا نَحْنُ وَٱحِدٌ”؟ (يوحنا ٢٢:١٧). لنسأل: هل الوحدة هي عمل المؤمنين في المقام الأول؟ وهل الانقسامات الطائفية تعنى أن طلبة المسيح لم تستجب؟
بالنظر لصلاة المسيح التي كررها في عدة مرات في صلاته الأطول في يوحنا ١٧، نجد أن الرب يسوع طلب من الآب السماوي في أكثر من موضع أن يحفظ المؤمنين به ليكونوا واحدًا، والوحدة التي تحدث عنها الرب هي وحدة على مستوي وحدة الآب والابن نفسه: “ٱحْفَظْهُمْ فِي ٱسْمِكَ ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونـُوا وَٱحِداً كَمَا نَحْنُ” (يوحنا ١١:١٧).
وبالرغم من أن الصلاة نفسها لا تحوي تفاصيل عملية محددة إلا أنها تؤسس مبادئ وقواعد الوحدة.
1. هي وحدة تم إنجازها بالفعل
الطوائف لا تعني أن صلاة المسيح لم تستجب من قبل الآب، وكأننا نحاول أن ننجح فيما فشل فيه المسيح. حاشا! لكن العهد الجديد يقر بأن هناك وحدة موضوعية Objective Truth أساسها ما صنعه المسيح بصليبه وقيامته وصعوده وإرساله للروح القدس (غل٢٨:٣؛ ١ كو٢٧:١٢؛ ١٨:١١)
2. هي وحدة نحن مدعوون لنحياها ونعكس مضمونها (ع ٢٣)
كما يحدث في العائلة الواحدة، قد يتنازع الإخوة ويختلف أحدهما مع الآخر. لكننا مدعوون لحفظ الوحدانية في الآب والابن والتي صنعها المسيح بموته وقيامته وصعوده وإرساله الروح القدس. يقول الرسول بولس: “مُجْتَهِدِينَ أَنْ تَحْفَظُوا وَحْدَانِيَّةَ ٱلرُّوحِ بِرِبَاطِ ٱلسَّلاَمِ.” (أفسس ٣:٤). باختصار، حفظ الوحدانية يعني ضمنيًا أنها وحدة موجودة بالفعل، ونحن مدعوون لنحياها ونعكس مضمونها في حياتنا كما يعلم باقي الأصحاح في أفسس ٤. فلا يمكن أن نحفظ ما ليس موجوداً ومحققًا بالفعل!
3. هي وحدة لها مضمون، ومضمونها هو كلام الرسل وتعاليمهم
وأخيرًا، الوحدة المسيحية ليست وحدة مجوفه بلا مضمون أو محتوى. لكنها وحدة المؤمنين بتعليم الرسل (كلامهم) وهو قلب رسالة الإنجيل: “وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هَؤُلاَءِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً مِنْ أَجْلِ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكلاَمِهِمْ، لِيَكُونَ ٱلْجَمِيعُ وَٱحِداً، كَمَا أَنـَّكَ أَنـْتَ أَيُّهَا ٱلْآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونـُوا هُمْ أَيْضاً وَٱحِداً فِينَا، لِيُؤْمِنَ ٱلْعَالَمُ أَنـَّكَ أَرْسَلْتَنِي.” (يوحنا ٢٠:١٧-٢١)
للأسف نعرف جميعاً من يدعي الإيمان بالمسيح، والسعي لوحدة كنيسته، وفي نفس الوقت يتجاوز عن اختلافات جوهرية، معتقدًا أن تهميش وتحييد العقائد الجوهرية للمسيحية الكتابية التي انقسمت بسببها الطوائف تجاهلاً للبحث والدراسة الجادة لكلمة الله الحية المعصومة، و هو السبيل الوحيد للوحدة. أقول لمن يفكر بهذه الكيفية: “أنت تبحث عن سراب!”
فللوحدة طريق واحد ووحيد، هو العودة الأمينة لتعليم الرسل والتمسك بمبادئ الكتاب وحده، الكتاب كله. تلك المبادئ التي وضعت كلمة الله ورسالة الإنجيل في مكانها الطبيعي؛ الصدارة.
“إِلَى الشَّرِيعَةِ وَإِلَى الشَّهَادَةِ. إِنْ لَمْ يَقُولُوا مِثْلَ هذَا الْقَوْلِ فَلَيْسَ لَهُمْ فَجْرٌ!” (إشعياء ٢٠:٨)