قراءة كالڨينيَّة في لاهوت التَّحرير المُعاصر

إنَّ الآراء والأفكار الواردة في هذا المقال تعبِّر عن رؤية الكاتب الشخصية، ولا تُمثِّل بالضرورة التوجّه الفكري لموقع ائتلاف الإنجيل (TGC عربي).


يعيش اللَّاهوت العربيّ المسيحيّ في مفترق بالغ الحساسية، إذ تتقاطع فيه قضايا الخلاص الإلهيّ مع نداءات التَّحرير الاجتماعيّ، وتتحاور النِّعمة مع العدالة في ساحة ممتدة بين الأرض والسَّماء. ومع أنّ جذور هذا الحوار تمتد إلى لاهوت العهدين القديم والجديد، فإن تجلّيه الأبرز في العصر الحديث أخذ شكلًا مغايرًا؛ إذ ارتبط بالتَّحولات السياسيَّة والاجتماعيَّة في العالم العربيّ، وبخاصة في السِّياق الفلسطينيّ. من هنا ينشأ السُّؤال اللَّاهوتيّ العميق: هل يمكن أن يوجد لاهوت تحرير عربيّ متجذِّر في واقع الظُّلم والاستبداد، دون أن يفقد جوهر النِّعمة والسِّيادة الإلهيَّة كما فهمها اللَّاهوت الكالڨينيّ؟

لاهوت التحرير

نشأ لاهوت التَّحرير في الأصل في أمريكا اللَّاتينيَّة مع جوستافو جوتييريز وليوناردو بوف، بوصفه ردًّا روحيًّا ولاهوتيًّا على البؤس الاجتماعيّ والاستغلال الطَّبقيّ والاستعمار الجديد. رأى جوتييريز أنّ الله ينحاز إلى الفقراء، وأنّ الخلاص في الكتاب المقدَّس لا يقتصر على الرُّوح، بل يشمل الإنسان في جسده ومجتمعه وتاريخه.[1] غير أنّ هذا الخط اللَّاهوتيّ حين انتقل إلى العالم العربيّ، تكيّف مع بيئة تختلف في عمقها السِّياسيّ والدِّينيّ. فالتَّحرر هنا لا يرتبط فقط بالفقر الاقتصاديّ، بل بالاحتلال وفقدان الأرض وتهميش الهُويَّة وتقييد الحُرِّيات داخل منظومات تشريعيَّة واجتماعيَّة مُركّبة.

لاهوت التحرير الفلسطينيّ

في قلب هذا السَّياق، ظهر عدد من اللَّاهوتيين العرب الذين سعوا إلى صياغة رؤية مسيحيَّة للتَّحرير متجذّرة في أرض فلسطين والعالم العربيّ. لعلّ أبرزهم نعيم عتيق في كتابه “لاهوت التَّحرير الفلسطينيّ” A Palestinian Theology of Liberation، الذي قدَّم فيه قراءة فلسطينيَّة للكتاب المقدَّس ترى المسيح مُحرِّرًا للإنسان والتَّاريخ معًا، ومؤكدًا أنّ العدل ليس خيارًا سياسيًا بل فعلًا لاهوتيًّا أصيلًا.[2] وكذلك مِتري الرَّاهب، الذي أعاد قراءة نصوص الكتاب المقدَّس بعين فلسطينيَّة، مؤكدًا أنّ التَّجسُّد الإلهيّ يقدّس الجغرافيا ويُحوّل الأرض إلى مكان للشِّهادة.[3] ومعهما برزت أصوات عربيَّة أخرى، في لبنان ومصر والأردن، حاولت أن توازن بين الالتزام الوطنيّ والعمل الكنسيّ، بين الرُّوح والواقع.

اللَّاهوت الكالڨينيّ

لكنّ اللَّاهوت الكالڨينيّ ينظر إلى هذه المحاولات بحذر نقديّ. فالكالڨينيَّة، في عمقها، ترى أنّ الله هو السَّيّد المُطلق على التَّاريخ، وأنّ كل ما يجري في العالم لا يخرج عن دائرة العناية الإلهيَّة. السِّيادة الإلهيَّة ليست دعوة إلى السَّلبيَّة، بل تأكيد أنَّ التَّحرير الحقيقيّ يبدأ من الدَّاخل، من تحرير الإنسان من عبوديَّة الخطيَّة قبل عبوديَّة الأنظمة. يرى كالڨن أنَّ العدالة الاجتماعيَّة، مهما بلغت قوتها، تظل ثمرة لنعمة الله في القلب، لا ثمرة لصراع بشريّ. فالإنسان لا يستطيع أن يُقيم ملكوت الله على الأرض إلَّا بقدر ما يخضع هو نفسه لملكوت الله في ذاته.[4]

ما يُميّز الرُّؤية الكالڨينيَّة في هذا المجال، هو هذا التَّوازن بين النِّعمة والعمل. فالنِّعمة تسبق العمل وتُؤسِّسه، والعمل يأتي استجابة لها لا بديلاً عنها. لهذا رفض اللَّاهوت الكالڨينيّ كل محاولة لتحويل الخلاص إلى مشروع سياسيّ أو اجتماعيّ مستقل عن الفداء في المسيح. فالكنيسة مدعوة إلى أن تكون خميرة في العجين، لا حزبًا سياسيًا في البرلمان. ومع ذلك، لا ينفي هذا اللَّاهوت ضرورة مواجهة الظلم، بل يدعو إلى أن يكون الدِّفاع عن المظلومين فعل عبادة، لأنّ العدالة تَجَلٍّ لإرادة الله في التَّاريخ.[5]

في السِّياق العربيّ، أصبح هذا التَّوازن أكثر تعقيدًا بسبب البنية القانونيَّة والاجتماعيَّة التي يواجهها المسيحيون. فالميراث، والأحوال الشَّخصيَّة، وحقوق المرأة، والمواطنة، كلها ميادين اختبار لمدى تفاعل الكنيسة مع قضايا العدالة الاجتماعيَّة. ففي الأردن، وافقت المجالس الكنسيَّة في عام 2023 على مشروع قانون يمنح المساواة بين الرَّجل والمرأة في الميراث ضمن الإطار المسيحيّ، خطوة اعتُبرت تحولًا في التّفكير الكنسيّ العربيّ تجاه مفهوم العدل كمطلب إيمانيّ وليس سياسيًا فحسب.[6] وفي مصر، رفعت نساء قبطيَّات قضايا للمطالبة بتطبيق قوانين الميراث المسيحيَّة بدلًا من القوانين المستندة إلى الشَّريعة الإسلاميَّة، فبرزت إشكاليَّة التَّوازن بين المُواطنة والمعتقد.[7] أما في فلسطين، فإن لاهوت التَّحرير يتَّخذ بُعدًا وطنيًا؛ إذ يربط التَّحرُّر السِّياسيّ بحقّ العودة وبالكرامة الإنسانيَّة، مؤكدًا أنّ الإيمان لا يمكن فصله عن الأرض والعدالة.[8]

تبدو هذه المواقف الكنسيَّة وكأنها تسير في اتجاه رؤية إصلاحيَّة متدرّجة، لكنها في الوقت نفسه تواجه تحديات فكرية ولاهوتية. فبعض التيارات في لاهوت التحرير العربي تميل إلى استخدام أدوات تحليل اجتماعيّ واقتصاديّ ذات جذور ماركسيَّة أو قوميَّة، مما يُضعف مرجعيتها الكتابيَّة في نظر اللَّاهوت الكالڨينيّ. بينما يدعو الفكر المُصْلَح الكالڨينيّ إلى أن تُشتق العدالة من طبيعة الله وصفاته، لا من نظريات الصِّراع الطَّبقيّ أو من إملاءات السُّوق. فالكتاب المقدَّس هو المصدر الأوَّل لكل فهم للعدل، والنِّعمة هي البنية التي تمنح الفعل الأخلاقي شرعيَّته ومعناه.[9]

ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أنَّ الدَّعوة المُصْلَحة التي حملها كالڨن في القرن السَّادس عشر كانت في جوهرها “تحريريَّة.” فقد حرّر الضَّمير من سلطة الإكليروس، وربط الإيمان بحرية الإنسان أمام الله، وعدَّ العمل الاجتماعيّ امتدادًا للعبادة. لهذا فإنّنا نرى أنَّ اللَّاهوت الكالڨيني قادر على تجديد ذاته في السِّياق العربيّ، بحيث يتبنّى لغة العدالة من دون أن يفقد لاهوت النَّعمة. فالتَّحرير من الظلم يمكن أن يكون ثمرة التَّبرير، والعدل الاجتماعيّ يمكن أن يُفهم بوصفه استجابة للجسد الواحد الذي يُعيد المسيح تشكيله في الكنيسة والعالم.

لاهوت التَّحرير المُصْلَح العربيّ

من هنا تبرز الحاجة إلى تطوير ما يمكن تسميته “لاهوت التَّحرير المُصْلَح العربيّ.” يُعيد هذا اللَّاهوت ترتيب العلاقة بين العقيدة والعمل، فيضع الخلاص في المركز، لكنّه يُدرك أنَّ النِّعمة التي لا تُترجم عدالةً في المجتمع تبقى عقيمة. يمكن لهذا اللَّاهوت أن ينطلق من ثلاثة محاور: أولها، أنَّ الكتاب المقدَّس هو المرجعيَّة العليا التي تُعيد تعريف مفهوم التَّحرير بمعناه الرُّوحيّ والإنسانيّ. ثانيها، أنَّ الكنيسة ليست كيانًا روحيًّا منعزلًا، بل مسؤولة عن التَّعليم والمناصرة والعمل التَّشريعيّ ضمن حدود الشِّهادة الإنجيليَّة. ثالثها، أنَّ العدالة الاجتماعيَّة ليست صراعًا ضدّ الله، بل تَجَلٍّ لحضوره في العالم، لأنَّ الرَّبَّ نفسه هو “مُجْرِي الْعَدْلِ وَالْقَضَاءِ لِجَمِيعِ الْمَظْلُومِينَ.” (سفر المزامير 103: 6).

في ضوء ذلك، يمكن النَّظر إلى التَّجارب الفلسطينيَّة واللّبنانيَّة والأردنيَّة والمصريَّة كميادين عمليَّة للاهوت التَّحرير المُصْلَح. في فلسطين، يمثل نضال الكنيسة من أجل الكرامة الوطنيَّة نموذجًا لاهوتيًّا يجمع بين الشِّهادة والرَّجاء. وفي لبنان، حيث تتقاطع الطائفيَّة مع السِّياسة، يمكن للاهوت المُصْلَح أن يُعيد تعريف الحرية على أساس الشِّركة لا الامتياز. وفي مصر والأردن، تشكّل قضايا الميراث والمساواة والتَّمثيل البرلمانيّ اختبارًا حقيقيًّا لمدى قدرة الكنيسة على تطبيق العدالة الإنجيليَّة في المجال القانونيّ. هذه الأمثلة لا تُعبّر فقط عن صراع اجتماعيّ، بل عن اختبار لمدى تجسد الإيمان في الفعل التَّاريخيّ.

ويبقى السُّؤال: كيف يمكن للكنيسة العربيَّة أن تحافظ على ولائها للإنجيل، وفي الوقت نفسه تنحاز للضّعفاء؟ الجواب الكالڨيني سيكون دائمًا: بالعودة إلى النِّعمة كأساس لكل إصلاح. فالنِّعمة تخلق الإنسان الجديد القادر على أن يحبّ عدالة الله أكثر من امتيازاته، وأن يرى في الآخر صورة الخالق. هذا لا يعني انسحاب الكنيسة من الميدان السِّياسيّ، بل دخولها إليه من باب الخدمة لا من باب السَّيطرة. عندما تطالب الكنيسة بتعديل القوانين الجائرة أو بتعزيز المساواة، فهي لا تفعل ذلك باسم أيديولوجيا بشريَّة، بل باسم الملكوت الذي يعلن أنَّ الله عادل ومحبّ في آنٍ واحد.

من هذا المنطلق، يصبح لاهوت التَّحرير العربيّ دعوة مزدوجة: دعوة إلى التَّوبة قبل الثَّورة، وإلى الإصلاح قبل التَّغيير. إنَّ الإصلاح الكالڨينيّ حين يلتقي بنداء التَّحرير الفلسطينيّ، يمكن أن ينتج لاهوتًا عربيًا جديدًا يربط بين النِّعمة والحريَّة، بين الخلاص الشَّخصيّ والعدالة العامّة. فالتَّحرير الحقيقيّ هو أن يتحرَّر الإنسان من الخطيَّة، ومن ثمّ أن يُحرِّر مجتمعه من الظُّلم. وهكذا يُصبح السَّعي إلى العدالة فعل عبادة، والسِّياسة مجالًا للشِّهادة، والكنيسة ضميرًا حيًّا في قلب العالم العربيّ. إنّ مستقبل اللَّاهوت العربيّ لن يتحدَّد فقط بقدرته على مقاومة الظُّلم، بل بقدرته على أن يظلّ أمينًا لإنجيل النِّعمة. فالإيمان الذي لا يصنع عدلًا، يخون الكلمة؛ والعدل الذي لا ينبع من النِّعمة، يتحوَّل إلى أيديولوجيا. بين هذين القطبين يعيش اللَّاهوت الكالڨينيّ العربيّ رسالته: أن يرى في التَّحرير صورة للفداء، وفي العدالة برهانًا على السِّيادة الإلهيَّة التي تعمل في التَّاريخ لخلاص الإنسان والمجتمع معًا.


[1] Gustavo Gutiérrez, A Theology of Liberation: History, Politics, and Salvation (Maryknoll, NY: Orbis Books, 1973).

[2] Naim Stifan Ateek, A Palestinian Theology of Liberation: The Bible, Justice, and the Palestine-Israel Conflict (Maryknoll, NY: Orbis Books, 2017).

[3] Mitri Raheb, Faith in the Face of Empire: The Bible through Palestinian Eyes (Bethlehem: Diyar, 2014).

[4] John Calvin, Institutes of the Christian Religion, ed. John T. McNeill (Philadelphia: Westminster Press, 1960).

[5] “John Calvin’s Theology of Social Justice,” Christian Reformed Church in North America (CRCNA), accessed October 2025, crcna.org.

[6] “Christian Leaders Unanimously Approve Bill Granting Gender Equality in Inheritance Procedures,” The Jordan Times, June 2023.

[7] Egyptian Initiative for Personal Rights, “Female Share: The Inheritance of Egyptian Christian Women between the Constitutional Text and Court Doctrine,” Cairo, 2022.

[8] Kairos Palestine Document, “A Moment of Truth: A Word of Faith, Hope, and Love from the Heart of Palestinian Suffering,” Bethlehem, 2009.

[9] Abraham Kuyper, Lectures on Calvinism (Grand Rapids: Eerdmans, 1931).

شارك مع أصدقائك

جورج إسحق ثابت

معماريٌّ ومُحرِّرٌ وباحثٌ في التُّراثِ العربيّ المسيحيّ؛ مُحاضِر وكاتبٌ ومُزوِّد مقالات في عددٍ من المجلَّات والدَّوريَّات والمواقع الإلكترونيَّة. المُحرِّر العامّ لدار "رجاء للجميع" للنَّشر المسيحيّ؛ ومُدير تحرير دوريَّة "التُّراث العربيّ المسيحيّ،" (JACI-CCF) التي تصدر عن المركز الثّقافيّ الفرنسيسكانيّ في مصر؛ وعضو عامل في جمعيَّة أصدقاء التُّراث العربيّ المسيحيّ في مصر. ومُدَرِّس في برنامج دبلوما التُّراث العربيّ المسيحيّ -مركز دراسات مسيحيَّة الشَّرق الأوسط في كليَّة اللّاهوت الإنجيليّة في القاهرة. يدرس الآن درجة ماچستير في اللَّاهوت كليَّة اللَّاهوت الأسقفيَّة -القاهرة وكليَّة لاهوت (PRTS)-الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة. صدر له للآن أربعة كتبٍ، إلى جانب عددٍ من الدِّراسات الأكاديميَّة.