كالفن لأجل العالم: الأهميَّة الدَّائمة لفكر جون كالفن السِّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ

في خضمّ التَّحديات السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة التي يشهدها العالم المعاصر، يعود الاهتمام مجدَّدًا بأصوات لاهوتيَّة كلاسيكيَّة تُعيد تشكيل رؤيتنا للحياة العامَّة، من أبرزها صوت جون كالفن. في كتابه Calvin for the World: The Enduring Relevance of His Political, Social, and Economic Theology، يسعى اللاهوتي روبين ر. رودريجيز إلى استنطاق تراث كالفن في قضايا تمسّ واقع الإنسان اليوم، كالهجرة والعدالة الاقتصاديَّة والتَّمييز العرقيّ. يأتي هذا الكتاب إسهامًا لاهوتيًّا معاصرًا يحاول أن يحرِّر كالفن من قراءات ضيقة تختزله في صراعات عقديَّة تقليديَّة، ويقدّمه بدلًا من ذلك كفيلسوف عمليّ للعدالة، ومهندس لرؤية كنسيَّة اجتماعيَّة عابرة للحدود. تهدف هذه الورقة إلى تقديم قراءة منهجيَّة لهذا العمل، تتضمن عرضًا لمحتواه ومنهجه، وتقييمًا نقديًّا لما جاء فيه، ومقارنته ببعض الدِّراسات الحديثة ذات الصِّلة.

رودريجيز، صاحب الأصول اللَّاتينيَّة، هو أستاذ اللَّاهوت النِّظاميّ في قسم الدِّراسات اللَّاهوتيَّة في جامعة سانت لويس في أمريكا وإسبانيا. يحمل درجة الدكتوراه في اللَّاهوت من كلية اللَّاهوت بجامعة برينستون -2004، وهو قس في الكنيسة المشيخيَّة. يُعرف رودريجيز بنشاطه الأكاديميّ والخدميّ، خصوصًا في مجال حقوق المهاجرين واللَّاجئين، في عمله مع منظمة (MIRA) – Missouri Immigrant and Refugee Advocates. له عديد من الدِّراسات الأكاديميَّة اللَّاهوتيَّة المنشورة، كما شارك في عديد من النشرات والدَّوريَّات.

صدر كتاب كالفن لأجل العالم: الأهميَّة الدَّائمة لفكر كالفن السِّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، عن دار نشر Baker Academic بتاريخ 27 أغسطس 2024، ويقع في 208 صفحات مقاس A5. يقع الكتاب في نطاق اللَّاهوت السِّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، حيث يختلف عن الدِّراسات اللَّاهوتيَّة التَّقليديَّة التي تركز على العقائد اللَّاهوتيَّة لدى كالفن. بدلًا من ذلك، يسلِّط الضَّوء على تطبيق التُّراث الكالفينيّ على القضايا الرَّاهنة مثل الهجرة والفقر والفساد السِّياسيّ والتَّمييز العرقيّ.

يعتمد منهج العمل على تحليل نصوص جون كالفن ضمن سياقها التَّاريخيّ، خصوصًا عمله الأبرز: أسس الدِّين المسيحيّ. والمقارنة مع سياقات معاصرة، مثل حركة التَّحرير في أمريكا اللَّاتينيَّة، وأزمة اللَّاجئين، ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. كما لا يُغفل الحوار مع تقاليد لاهوتيَّة أخرى، كتحليل علاقة كالفن مع اللَّاهوت التَّحرّري، والكاثوليكيَّة (ما بعد المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني)، والتَّسامح الدِّينيّ. يركز العمل على الإرث اللَّاهوتيّ الكالفيني-البروتستانتيّ في مناطق متنوعة جغرافيًا واجتماعيًا. على حدِّ قول كينث ستيوارت، قدَّم رودريجيز في هذا الكتاب محاولة منهجيَّة لإعادة وضع كالفن في مشهد العدالة الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة ضمن منظور تاريخيّ نقديّ متوازن، وهو ما تؤكده مراجعات أخرى للعمل.

العمل مقسّم إلى سبعة فصول، كل منها يتناول محورًا رئيسًا، كالتَّالي:

  • المقدِّمة: لماذا كالفن؟ ولماذا الآن؟: تطرح دوافع المؤلف في إعادة اكتشاف كالفن كمرجع لعالم اليوم، مشيرًا إلى أنه لا يجب اختزال كالفن بالنَّظر إلى العقيدة فقط، بل أيضًا إلى بعده العمليّ.
  • الفصل الأوَّل: لاهوت كالفن للحياة العامَّة: يستعرض العلاقة بين اللَّاهوت والدَّولة، حيث ينظر كالفن إلى الحكومة المدنيَّة كوسيلة لتحقيق العدل، لا كأداة للهيمنة.
  • الفصل الثَّاني: كالفن واللاهوت التَّحرّري (Liberation Theology): يحلّل كالفن من منظور تحرّري، ويربطه بشخصيات مثل رئيس الأساقفة روميرو وآخرين في أمريكا اللَّاتينية.
  • الفصل الثَّالث: “كالفن بلا وثائق”: يعرض كالفن اللَّاجئ السابق والمحامي، ويربط فكرته بالهجرة في جنيف ورسالته التَّبشيريَّة في البرازيل في القرن السَّادس عشر.
  • الفصل الرَّابع: رؤية كالفن لكنيسة مسكونيَّة عابرة للحدود: يستعرض تصوره للكنيسة المؤسسية المتجاوزة للحدود الوطنية، ويُقارن بينه وبين مارتن بوتسر.
  • الفصل الخامس: كالفن والتسامح الدِّينيّ: يناقش موقف كالفن من التَّسامح الدِّينيّ، خاصَّة في قضيَتي اليهود والمسلمين، وحالة ميخائيل سرفيتوس.
  • الفصل السَّادس: إرث مُبعثر: كالفن في أمريكا اللَّاتينيَّة: يركّز على تأثير كالفن على تعليم الديمقراطيَّة والمشاركة السِّياسيَّة في أمريكا اللَّاتينية، ويذكر كوتون ماذر الكاتكيزم الإسبانيّ، أواخر القرن التَّاسع عشر (1835).
  • الفصل السَّابع: كالفن ضدّ الفصل العنصريّ: يشرح كيف كانت العقيدة الكالفينيَّة مصدر قوة لحركات مناهضة التَّمييز العنصريّ في جنوب أفريقيا.
  • الخاتمة: تلخص أهمية إعادة مقاربة كالفن في سياق القضايا الحديثة، مع إبراز الإمكانيَّة الكامنة في التَّخلص من الصّور النَّمطيَّة عنه.

منهجيَّة البحث في هذا العمل تعتمد على المنهج التَّاريخي-المقارن، حيث يعتمد الكاتب على دراسة المصادر الأصليَّة لكالفن، وتحليلها في مقابل قضايا الواقع المعاصر. كما يجمع أيضًا بين التَّحليل التَّاريخيّ، والنَّقد اللَّاهوتيّ، والرُّؤية التَّنمويَّة الاجتماعيَّة. يستخدم المؤلف صوت المؤرخين، مثل: فريد جراهام واللَّاهوت التَّحرّريّ. الوضوح التَّنظيميّ هو السِّمة البارزة في هذا العمل، حيث يعرض المواضيع كأسئلة عصريَّة (الهجرة، التَّسامح…) ثم يربطها بجذور كالفينيَّة تاريخيَّة.

نعدّ هذا العمل توسيعًا لمنظور قراءة كالفن، إذ يتجاوز العمل المألوف، ويربط بين كالفن والقضايا المعاصرة، ويُبرز كالفن كمرجعٍ أخلاقيٍّ/سياسيٍّ. كما يمتاز هذا العمل -في رأينا- بتنوع المصادر بين دراسات تاريخيَّة لجنيف، إلى صور من أمريكا اللَّاتينيَّة وجنوب أفريقيا. الخلفية الفريدة للمؤلف -أمريكيّ من أصول لاتينيَّة- أفادت في الجمع بين التَّقاليد الإصلاحيَّة وتقاليد المجتمعات اللَّاتينيَّة بتوازن. ولا يمكننا إغفال إضاءته الثَّريَّة على كوتون ماذر وكالفينيَّة البرازيل التي يندر الحديث عنها. أخيرًا، إشادة باحثين أمثال Elsie McKee وJonathan Tran وغيرهم في مطلع الكتاب لا بُدّ أن تُأخذ بعين الاعتبار.

لكن، بعض الفصول اعتمدت على دراسات قديمة، مثل: قضيَّة البعثة الجنيفيَّة إلى البرازيل. كما أنَّ حماسة المؤلف لإظهار كالفن بشكل أكثر تطورًا، ربما أضرّت كالفن، فقد تحمِّله -في قراءة متسرِّعة- مِسحة ليبرالية حديثة. تناول الكاتب قضيَّة مثل: التَّسامح الدِّينيّ بشكل غلب عليه التَّسطيح، وغاب عنه التَّعمق في تحليل ضرورة مواجهة علاقات القوَّة.

يُعدّ الكتاب جزءًا من حركة واسعة لإعادة تأويل كالفن اجتماعيًا، لكنه لا يغني عن الأعمال الأوسع شمولًا، وإنما يُضيف بُعدًا، فالتَّعدديَّة الثَّقافيَّة والشَّخصيَّة العالميَّة للمؤلف، ساعدت في الكشف عن كالفن كـ “صوت عالميّ” له صدى في قضايا الهجرة والتَّمييز، لكن وجب الإشارة إلى دراستين موسَّعتين أُخريين:

Graham, Fred. The Constructive Revolutionary: John Calvin and His Socio-Economic Impact. Richmond. VA: John Knox, 1979.

تتناول الجانب الاجتماعيّ–الاقتصاديّ لكالفن، لكن دون الرَّبط بالصِّراعات المعاصرة.

Oxford Handbook to Calvin and Calvinism. Oxford: Oxford University Press, 2021.

دراسة موسوعيَّة تغطي التَّأثير الكالفينيّ عالميًّا (الصِّين، أفريقيا، كوريا)، وتتميز بشموليَّة أوسع.

أخيرًا، يُعدّ هذا العمل -في رأينا- محاولة جادة لتقديم جانب عمليّ اجتماعيّ سياسيّ في إرث جون كالفن، يتناسب مع السِّياقات الرَّاهنة للعدالة في العالم. يتميّز الكتاب بمنهجه المتعدِّد التَّخصصات، وبسياقه المتأصل في تجربة المؤلف كأميركيّ ذو جذور لاتينيَّة، ويضيف أصواتًا أهليَّة تدخل في الحوار الأكاديميّ. ورغم أنَّ بعض التَّحليلات لا تبتعد كثيرًا عن الدِّراسات السَّابقة، إلَّا أنَّ الكتاب يُضيف بُعدًا عمليًّا يُفيد الدَّارس اللَّاهوتيّ. يقدِّم الكتاب، فهمًا موسّعًا للعلاقة بين اللَّاهوت والسِّياسة، قراءةً تاريخيَّةً لإعادة تأويل الإجابات عن قضايا مثل الهجرة والتَّمييز، ورؤيةً حيويّةً تُحرّر كالفن من محاكمة تاريخيَّة ضيّقت من تأثيره. يُعدّ هذا الكتاب مناسبًا للقراءة الأكاديميَّة في برامج اللَّاهوت، وهو موثّق بأسلوب أكاديميّ يناسب برامج الدِّراسات العُليا.


مراجع

Bailey Pickens. “Pulling Calvin out of Predestination’s Shadow.” Christian Century, 2024.

Graham, Fred. The Constructive Revolutionary: John Calvin and His Socio-Economic Impact. Richmond, VA: John Knox, 1979.

Oxford Handbook to Calvin and Calvinism. Oxford: Oxford University Press, 2021.

Rosario Rodríguez, Rubén. Calvin for the World: The Enduring Relevance of His Political, Social, and Economic Theology. Grand Rapids: Baker Academic, 2024. Stewart, Kenneth J. “Review of Calvin for the World by Rubén Rosario Rodríguez.” Themelios, 2024.

شارك مع أصدقائك

معماريٌّ ومُحرِّرٌ وباحثٌ في التُّراثِ العربيّ المسيحيّ؛ مُحاضِر وكاتبٌ ومُزوِّد مقالات في عددٍ من المجلَّات والدَّوريَّات والمواقع الإلكترونيَّة. المُحرِّر العامّ لدار "رجاء للجميع" للنَّشر المسيحيّ؛ ومُدير تحرير دوريَّة "التُّراث العربيّ المسيحيّ،" (JACI-CCF) التي تصدر عن المركز الثّقافيّ الفرنسيسكانيّ في مصر؛ وعضو عامل في جمعيَّة أصدقاء التُّراث العربيّ المسيحيّ في مصر. ومُدَرِّس في برنامج دبلوما التُّراث العربيّ المسيحيّ -مركز دراسات مسيحيَّة الشَّرق الأوسط في كليَّة اللّاهوت الإنجيليّة في القاهرة. يدرس الآن درجة ماچستير في اللَّاهوت كليَّة اللَّاهوت الأسقفيَّة -القاهرة وكليَّة لاهوت (PRTS)-الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة. صدر له للآن أربعة كتبٍ، إلى جانب عددٍ من الدِّراسات الأكاديميَّة.