معركة الإرادة 4: ويسلي وجوناثان إدواردز

التعريف

استمرَّ الخلاف بخصوص الإرادة حتَّى القرن الثامن عشر، بين أناسٍ من قبيل جون ويسلي وجوناثان إدواردز. تبنَّى ويسلي، بصفته أرمينيًّا، الرأي القائل بأنَّ الإرادة تُمنَح نعمة مسبَقة، تتيح لها أن تختار إراديًّا أن تتبع المسيح. في المقابل، قال جوناثان إدواردز إنَّ رغبات القلب نفسها تُمنَح للقلب إمَّا من الله وإمَّا من طبيعة الإنسان الخاطئة. ومن ثَمَّ، يتحكَّم الله في قرارات الإنسان، بينما يسمح له في الوقت نفسه بأن يختار وفقًا لرغباته، وهو ما كانت حريَّة الإرادة تعنيه لإدواردز.

الملخَّص

استمرَّ الخلاف بخصوص دور الإرادة في الخلاص حتَّى القرن الثامن عشر. ويمكن فهمه بوضوح من خلال وضع الفكر اللاهوتيِّ لاثنين من أبرز اللاهوتيِّين ورعاة الكنائس جنبًا إلى جنب، وهما جون ويسلي وجوناثان إدواردز. تبنَّى جون ويسلي، بصفته أرمينيًّا، الرأي القائل بأنَّ الإرادة تُمنَح نعمة مسبقة، تتيح لها أن تختار اتِّباع المسيح، على نحو إراديٍّ. يعني ذلك أنَّ كلَّ إنسان قادر أن يختار طواعيةً أن يتبع المسيح أو لا يتبعه، لكنَّه يعني أيضًا أنَّه بإمكان الإنسان أن يفقد خلاصه. فضلاً عن ذلك، آمن ويسلي بإمكانيَّة بلوغ المؤمن مستوى من الكمال المسيحيِّ، ينطوي على تحرُّره من كلِّ خطيَّة يرتكبها عن وعيٍ. في المقابل، قال جوناثان إدواردز، بصفته أحد أتباع التقليد الكالفينيِّ، إنَّ رغبات القلب نفسها إمَّا تُعطى له من الله، وإمَّا تحدِّدها الطبيعة الخاطئة للبشر الساقطين. وقد حفظ ذلك كلاًّ من سيادة الله ومسئوليَّة الإنسان، والطبيعة المجَّانيَّة للخلاص بالنعمة. وفي حين أنَّ رغبات الإنسان، أو ميوله، معيَّنة بالفعل، يتصرَّف البشر دائمًا على نحو إراديٍّ وفقًا لرغباتهم. وبذلك، حفظت حُجَّة إدواردز أيضًا حريَّة إرادة الإنسان.


كان جون ويسلي وجوناثان إدورادز من أبرز وأهمِّ الوعَّاظ المسيحيِّين في القرن الثامن عشر. وإنَّ خدمات وكتابات كلٍّ منهما تركت أثرًا ليس فقط على المؤمنين والكنائس المعاصرة لهم في كلِّ أنحاء البلاد، بل توارثت الأجيال التي جاءت بعدهم أيضًا الإرث الذي تركاه. لكن في حين كان كلا هذين الرجلين مكرَّسين للوعظ والتعليم بالإنجيل نفسه، اختلفت رواية كلِّ واحد منهما، وبالتبعيَّة اختلف فكرهما اللاهوتيُّ.

جون ويسلي

ربَّما يعود اهتمام جون ويسلي (1703-1791) المبكِّر بالتقوى والتديُّن إلى الأيَّام التي قضاها في أكسفورد. فقد أظهر ويسلي تكريسًا جادًّا، تميَّز بتقيُّد صارم بالاستقامة الأخلاقيَّة. وقد تأثَّر اهتمامه بالتقوى والتديُّن بالمؤلَّف الذي قدَّمه الأسقف تايلور (Bishop Taylor) بعنوان Rules and Exercises of Holy Living and Dying (“قواعد وتدريبات للحياة والموت في القداسة”). أسَّس تشارلز، أخو جون، “النادي المقدَّس” (Holy Club) الذي كان بمثابة فرصة للانضمام إلى شباب آخرين في العزم على اتِّباع القداسة. تأثَّر هؤلاء كثيرًا بكتاب ويليام لو (William Law) بعنوان Christian Perfection (“الكمال المسيحيُّ”)، الذي نادى بإنكار الذات وصُنع الأعمال الصالحة. وقد سخر الذين من خارج من أعضاء هذا النادي المقدَّس، داعين إيَّاهم “عثُّ الكتاب المقدَّس”، أو “الميثوديُّون” [Methodists، ومعناها “المنهجيُّون”].

رغم كلِّ هذا العزم على السلوك بالتقوى، عندما استرجع جون هذه الأيَّام، استنتج أنَّه لم يكن قد آمن بعد آنذاك برسالة الإنجيل. وعندما سافر إلى الولايات المتَّحدة في عام 1737، بغرض خدمة الهنود الشيكاساو كمرسَلٍ تابع لجمعيَّة “الكرازة بالإنجيل في الأراضي الأجنبيَّة” (The Society of the Preparation of the Gospel in Foreign Parts)، وعندما كان جون وتشارلز في الطريق إلى هناك، أصيبا بالذهول، على عكس توقُّعهما، من المورافيِّين الألمان. فعندما ضُرِبت سفينتهم برياح عاصفة، وهاج البحر، لم يعترِ هؤلاء المورافيِّين أدنى خوف، بل أظهروا ثقةً بالله، واتِّضاعًا يتعذَّر تفسيره. وبعدما لم يكلَّل جون بنجاحٍ يُذكَر في الكرازة للشيكاساو، عاد إلى إنجلترا، والتقى هناك بالمورافيِّين مرَّة أخرى. وفي تلك المرَّة، استرعى انتباه جون رجلٌ يُدعَى بيتر بوهلر (Peter Boehler)، علَّم بوجود علامتين لكون أحدهم مؤمنًا حقيقيًّا. أوَّلاً، لا بُدَّ أن يكون هذا الشخص مسيطرًا على الخطيَّة. وثانيًا، لا بُدَّ أن يتحلَّى بيقين راسخ في أنَّه نال غفران الخطايا، الأمر الذي ينتج عنه سلام استثنائيٌّ.

رأى كلٌّ من جون وتشارلز أنَّهما يفتقران في اختبارهما الشخصيِّ إلى هاتين العلامتين. ونتيجةً لذلك، ملأهما القلق والخوف. لكن في 24 مايو من عام 1738، حضر جون اجتماعًا مورافيًّا بشارع ألدرزجيت في مدينة لندن، حيث استمع إلى قراءة علنيَّة لمقدِّمة مارتن لوثر لتفسير الرسالة إلى رومية. شعر جون عندئذٍ “بدفء عجيب” يسري في قلبه. وفي وقتٍ لاحقٍ، قال عن هذا الاختبار: “شعرتُ حينئذٍ بأنَّني آمنتُ بالفعل بالمسيح وحده للخلاص، وتحلَّيتُ باليقين في أنَّه رفع عني خطاياي، وأنقذني من ناموس الخطيَّة والموت”. فقد جعله إنجيل يسوع المسيح يدرك اعتماده التامَّ على الله وحده من جهة غفران خطاياه والحياة الأبديَّة. وعندئذٍ، أدرك ويسلي أنَّ الطاعة الخارجيَّة للوصايا قد تبدو شبيهةً بالقداسة، لكنَّها قد تكون خادعة ومضلِّلة، وقد لا تعكس بالضرورة إن كان أحدهم مولودًا ثانية بحقٍّ أم لا. وقد شكَّل اختبار تجديد جون هذا أساسَ اعتقاده اللاحق بأنَّ الخاطئ لا يتبرَّر بأعمال الناموس، بل بالإيمان وحده. وفي حقيقة الأمر، في يوم الأحد الذي تلا اختبار شارع ألدرزجيت مباشرةً، اعتلى جون المنبر واعظًا بعقيدة الخلاص بالإيمان وحده وبالمسيح وحده.

كان هذا مجرَّد البداية لخدمة وعظ طويلة ومؤثِّرة مارسها جون. لكن، تمتَّع جون أيضًا بمواهب تدبيريَّة وإداريَّة، الأمر الذي تجلَّى في قدرته على تنظيم شؤون الجمعيات التي كان الناس يجتمعون فيها لطلب القداسة. وإذ لم يستطع جون أن يجد عددًا كافيًا من رعاة الكنائس ليقودوا هذه الجمعيَّات، ابتكر نظامًا دائريًّا، بموجبه كان الوعَّاظ يسافرون مسافات طويلة للإشراف على الجمعيَّات في أنحاء البلاد. عُرِفت هذه الجمعيَّات بتركيزها على الكرازة، لكن أيضًا بتركيزها الخاصِّ على حياة القداسة.

في حين تمسَّك جون بأساسيَّات عقيدة الخلاص المسيحيَّة (أي الميلاد الجديد، والتبرير بالإيمان)، تبيَّن أنَّ بعضًا من قناعاته بشأن الخلاص كانت مثيرة للجدل. فعلى سبيل المثال، حسب ويسلي نفسه أرمينيًّا وليس كالفينيًّا، وأيَّد فكرة النعمة المسبقة، التي يعطيها الله لجميع الناس، كي تبطل تأثيرات الخطيَّة الأصليَّة. ومن ثَمَّ، آمن بأنَّ إرادة غير المؤمن قادرة إمَّا على التعاون مع أعمال النعمة اللاحقة، وإمَّا على مقاومتها وإحباط مقاصدها وجهودها الخلاصيَّة. كما آمن بأنَّ ميلاد الإنسان ثانيةً من عدمه معتمدٌ على إرادة الإنسان. فربَّما يتودَّد الله للخاطئ، لكن لا يمكن لنعمته أن تكون فعَّالة أو غير قابلة للمقاومة، لأنَّ هذا ينتهك حريَّة اختيار الإنسان بين نقيضين. وبالتالي، ففي حين أنَّ نعمة الله مُسبَقة، تعتمد نعمته اللاحقة على قرار الإنسان بأن يؤمن، حتَّى يولد ثانية. وتماشيًا مع الفكر الأرمينيِّ، علَّم ويسلي بأنَّ الاختيار مشروط، وبأنَّ الكفَّارة عامَّة وشاملة، وكذلك بأنَّه توجد إمكانيَّة أن يفقد المرء خلاصه. وهذه الأرمينيَّة التي تبنَّاها ويسلي وضعته في صدام مع الكالفينيِّين في عصره، مثل جورج وايتفيلد (George Whitefield).

علَّم ويسلي أيضًا بنوعٍ من أنواع الكمال المسيحيِّ، وذلك في ضوء تركيزه الشديد على التقديس والقداسة. كان الكمال، بحسب ويسلي، يعني أنَّ المؤمن يستطيع أن يبلغ حالة يصير فيها حرًّا من الخطايا المعروفة لديه. بتعبير آخر، يمكن أن تصل قداسة المؤمن إلى مستوى من النجاح بحيث لا يعود يرتكب تعدِّيات عن وعيٍ. وعرَّف ويسلي الخطيَّة بأنَّها “تعدٍّ إراديٌّ على وصيَّة معروفة، لدينا القدرة على إطاعتها”. وإذا كانت الخطيَّة تُعرَّف بأنَّها فعل إراديٌّ وواعٍ، يستطيع المرء إذًا بلوغ حالة من الخلوِّ من الخطيَّة، حتَّى وإن كان يرتكب في حياته أفعالاً خاطئة غير واعية أو لا إراديَّة.

يتَّضح من خلال مؤلَّف ويسلي الذي صدر في عام 1767 بعنوان Plain Account of Christian Perfection (“حديث صريح عن الكمال المسيحيِّ”) أنَّ بلوغ هذه الحالة من الكمال المسيحيِّ هو موهبة من مواهب الروح القدس، لكنَّها مع ذلك موهبة يمكن للمؤمن أن يجتهد في غيرة وحماس للحصول عليها. لكن، لئلاَّ يبالغ المؤمن في ثقته بنفسه، علَّم ويسلي أيضًا بأنَّ الإنسان يمكن أن يفقد خلاصه. وبسبب آراء ويسلي الأرمينيَّة عن التقديس، وتعليمه بمذهب الكمال، ظنَّ بعض الكالفينيِّين أنَّ ويسلي انحدر إلى تأييد الخلاص بالأعمال، وهو الرأي الذي كان في تعارض تامٍّ مع تركيز فكر الإصلاح على التبرير بالإيمان وحده. لم يَقبَل ويسلي بهذا الاتِّهام، بل قال إنَّ الخلاص بأكمله، بما في ذلك الكمال نفسه، هو فقط نتاج إحسانٍ مجَّانيٍّ من الله.

يصعب أن نكون مبالغين مهما شدَّدنا على عظم تأثير وعظ جون ويسلي. فالبعض يقدِّرون أنَّه وعظ ما يزيد على 40000 مرَّة خلال حياته. ويعتقد آخرون أنَّه سافر لمسافات تزيد على 250000 ميلٍ على ظهر الخيل ليلقي عظاته في كلِّ أنحاء العالم. وبحلول وقت وفاته، كان نحو 294 واعظًا ميثوديًّا في إنجلترا خاضعين تحت إشرافه. وهؤلاء بدورهم أشرفوا أيضًا على عشرات الآلاف من الميثوديِّين، سواء في إنجلترا أو أمريكا.

جوناثان إدواردز

وُلِد جوناثان إدواردز (1703-1758) في العام نفسه الذي وُلِد فيه ويسلي، لكنَّه مات في ريعان شبابه، قبل أن يلفظ ويسلي أنفاسه الأخيرة بعقودٍ. وبعد وفاة إدواردز بثلاثة قرون، وصفه المؤرِّخون واللاهوتيُّون بأنَّه كان واحدًا من أبرع العقول اللاهوتيَّة والفلسفيَّة في عصره.

لكن، لم يكن إدواردز رجلاً أكاديميًّا يقيم في برج عاجيٍّ منفصل عن الواقع، لكنَّه كان راعيًا لكنيسة في إقليم نيو إنجلاند، يكرِّس غالبيَّة أسبوعه للدراسة والتحضير لعظة كلِّ أحد. أطلق البعض عليه لقب “البيوريتانيّ الأخير”، ربَّما لأنَّ أسلوبه في الكتابة والوعظ، بالإضافة إلى منطقه وقناعاته اللاهوتيَّة، كانت تحمل نكهة بيوريتانيَّة. فمن ناحيةٍ، ألقى إدواردز عظةً بعنوان “خطاة بين يدي إلهٍ غاضبٍ” (1741)، صبَّ فيها كثيرًا من التركيز على غضب الله، باعتباره الدينونة العادلة على الخطاة المتمرِّدين، وهي العظة التي كان الغرض منها هو دفع المستمع إلى التوبة والرجوع إلى الله. ومن ناحيةٍ أخرى، كتب إدواردز كتابًا بعنوان Heaven, a World of Joy (“السماء، عالمٌ من الفرح”)، تأمَّل فيه ليس فقط في الرجاء الذي هو من نصيب كلِّ مؤمن في المسيح، في الحياة ما بعد الموت، بل أيضًا في المتعة والمجد اللذين ينتظران المؤمن. ويتعلَّق سبب مثل هذا الفرح المستقبليِّ كليَّةً بهويَّة الشخص الموجود في السماء، وهو الله نفسه، الذي قال إدواردز عنه إنَّه ينبوع لا ينضب من الجمال والمحبَّة. فبحسب إدواردز، ليس مجد الله وفرح المؤمن طرفي نقيض، لكنَّهما متشابكان ومتداخلان معًا بحُكم الطبيعة.

كذلك، كان إدواردز فيلسوفًا ولاهوتيًّا قديرًا. فإذ كان يصارع مع أفكار حركة التنوير، حاول أن يكتشف كيف يمكن للمرء أن يفهم الإيمان المسيحيَّ بعيون الإيمان والمنطق. وفي الوقت ذاته، اعتبر إدواردز نفسه وريثًا للتقليد الكالفينيِّ، إذ دافع عن عقائد النعمة ضدَّ نظرائه من الأرمينيِّين، لكنَّه فعل ذلك بما يتماشى مع ظروف عصره. ففي المؤلَّف الذي قدَّمه إدواردز في عام 1754 بعنوان Freedom of the Will (“حريَّة الإرادة”)، دحض الرأي الأرمينيَّ عن حريَّة الإرادة، مفترضًا أنَّ الإرادة مقيَّدة بعوامل داخليَّة وخارجيَّة، سواء كانت الخطيَّة والعالم، أو الله نفسه. ومن ثَمَّ، ليست ميول الإنسان مستقلَّة، لكنَّها ملزَمة باختيار شيء دون الآخر. ودون ذلك، لن يتسنَّى لنا تفسير الدافع وراء عمليَّة اتِّخاذ القرار. ومع ذلك، فبقدر كون المرء مقيَّدًا باختيار الخيار أ، وليس الخيار ب، يظلُّ اختياره حرًّا لأنَّه يختار دائمًا بحسب أقوى ميل لديه.

في ما يتعلَّق بالنعمة، ميَّز إدواردز بين القدرة الطبيعيَّة والقدرة الأخلاقيَّة. فالقدرة الطبيعيَّة هي الخصائص المادِّيَّة الكامنة في صلب أن يكون المرء إنسانًا، في حين أنَّ القدرة الأخلاقيَّة هي سمة روحيَّة تأثَّرت بفعل الخطيَّة الأصليَّة. وفي عالَم ما بعد السقوط، يمكن للإنسان أن يتمتَّع ببعض الملكات والإمكانيَّات المادِّيَّة، مثل القدرة على الاختيار، لكنَّه مع ذلك مستعبَد روحيًّا، ويفتقر إلى القدرة الروحيَّة على اختيار الله، دون الخطيَّة والعالم.

لهذا السبب، فإنَّ غير المؤمن في حاجة ماسَّة إلى التجديد أو الميلاد الثاني، الذي بموجبه ينفخ الروح القدس حياة جديدة في الأموات روحيًّا، مجدِّدًا بهذا ميول الإنسان، ومعيدًا تشكيلها. ففي ما سبق، كان غير المؤمن يبغض المسيح، لكنَّه صار الآن يشتهي المسيح أكثر من الحياة نفسها. فقد صارت ميوله ورغباته محكومة بنعمة الروح القدس الفعَّالة. وبسبب تجديد الروح القدس، لم تَعُد ميوله ضدَّ المسيح، بل أصبح يشتاق ويؤمن بالمسيح. باختصار، بنى إدواردز فكره على إسهامات الذين سبقوه، معرِّفًا الإرادة على نحو رآه متَّسقًا مع وجهة النظر الكالفينيَّة بشأن الطبيعة والنعمة. فإنَّنا نستطيع أن نلاحظ في عظاته منذ وقت مبكِّر، أي منذ عام 1733، وفي عظة من قبيل “A Divine and Supernatural Light” (“نور إلهيٌّ وفائق للطبيعة”)، بذار ما تطوَّر بعد ذلك إلى فكره الناضج والمكتمل.

بقدر تركيزنا على إنجازات إدواردز الفكريَّة، ينبغي ألاَّ نتجاهل أيضًا إسهامه الرعويَّ. كان سولومون ستودارد (Solomon Stoddard)، جدَّ إدواردز (لوالدته)، هو راعي كنيسة نورثامبتون في ماساتشوتيس. وخدم إدواردز تحت قيادته من عام 1727، ثمَّ خلفه بعد وفاته في عام 1729.

ومن عام 1734-1735، شهدت كنيسة إدواردز في نورثامبتون صحوة ونهضة. فبعدما قدَّم إدواردز سلسلة عظات عن التبرير بالإيمان وحده (وكتب عن هذا الموضوع نفسه في أطروحة رسالة الماجستير التي كان من شأنها الحصول عليها من جامعة ييل)، الكثيرون في كنيسته بل وخارجها أيضًا نُخِسوا في قلوبهم، ودفعهم هذا دفعًا إلى التوبة والإيمان بالمسيح، وكذلك إلى تكريس والتزام أكبر بالقداسة والمحبَّة الثابتة من نحو الآخرين. وفي مؤلَّف إدواردز بعنوان A Faithful Narrative of the Surprising Work of God in the Conversion of Many Hundred Souls in Northampton, and the Neighbouring Towns and Villages of New [sic] Hampshire in New-England (“شهادة صادقة عن عمل الله المذهل في تجديد مئات النفوس في نورثامبتون والمدن والقرى المجاورة في نيو هامبشاير بإقليم نيو إنجلاند”)، وصف إدواردز هذا الاختبار قائلاً:

قيلت بعض الأمور علانيةً بشأن التبرير بالإيمان وحده.. وتبيَّن أنَّها كانت كلمات قيلت في حينها، وصاحبتها بوضوح شديد بركة لافتة للنظر من السماء على نفوس أهالي هذه المدينة.. ثمَّ في الجزء الأخير من شهر ديسمبر [من عام 1734]، ابتدأ روح الله يقيم في وسطنا على نحو فائق للطبيعة، ويعمل على نحو رائع في وسطنا. ففجأة، كان الروح القدس يعمل في شخص تلو الآخر، على نحو غير عاديٍّ” [ص. 149].

ثمَّ وصف إدواردز كيف تجلَّى ذلك عمليًّا، قائلاً:

فمع أنَّ الناس لم يهملوا في المعتاد أعمالهم الدنيويَّة، صارت الروحيَّات هي اهتمامهم الأكبر، وصار العالم بالنسبة لهم مجرَّد شيء عارض. فالأمر الوحيد الذي وضعوه نصب أعينهم هو الحصول على ملكوت السماوات. وبدا أنَّ الجميع يسعون سعيًا حثيثًا نحوه. فلم يكن من الممكن إخفاء انكباب قلوبهم على هذا الاهتمام العظيم، بل قد ظهر ذلك في ملامحهم نفسها. وعندئذٍ، بدا لنا أنَّه من المروِّع أن نوجد خارج المسيح، مهدَّدين كلَّ يوم بخطر السقوط في الجحيم. وقد عزم هؤلاء على أن ينجوا بحياتهم، ويهربوا من الغضب الآتي. واغتنم الجميع بتلهُّف الفرص المتاحة لفائدة نفوسهم، وصارت عادتهم أن يجتمعوا معًا في بيوتهم لغرض العبادة. وعندما كانت مثل هذه الاجتماعات تنعقد كانت تحتشد بالناس. [ص. 150]

هذه الصحوة الفجائيَّة كانت لافتة للنظر إلى حدٍّ كبير. فقد خلص ثلاثمئة شخصٍ فقط في غضون ستَّة أشهر، في مدينة لا يتعدَّى سكَّانها 1200 شخصٍ. وفي شهري مارس وأبريل من عام 1735، تلك الفترة التي مثَّلت أوج هذه النهضة، كان ثلاثون شخصًا يُقبِلون إلى الإيمان كلَّ أسبوع. وكان تأثير هذه الصحوة ملحوظًا على المجتمع الأكبر أيضًا:

ففيما استمرَّ عمل الله، وتضاعف عدد القدِّيسين الحقيقيِّين، سرعان ما وقع تغيير مجيد في المدينة، بحيث.. بدت المدينة ممتلئة بحضور الله. فهي لم تكن ممتلئة قبلاً قط بمثل هذه المحبَّة، أو الفرح، بل كانت مليئة بالضيق. وقد ظهرت علامات ملحوظة على حضور الله في كلِّ بيت تقريبًا. كان هذا وقت فرح بين العائلات بسبب الخلاص الذي نالته. فقد كان الآباء والأمَّهات يبتهجون لأجل ميلاد أولادهم من جديد، والأزواج يبتهجون لأجل خلاص زوجاتهم، والزوجات لأجل خلاص أزواجهن. وتجلَّت أعمال الله آنذاك في مقدسه، فكان يوم الربِّ باعثًا على السرور، وأماكن الاجتماع مليئة بالمحبَّة والودِّ. كانت اجتماعاتنا الجماعيَّة آنذاك رائعة، وأعضاء الكنيسة مفعمين بالنشاط في خدمة الله، وكان كلُّ واحد منهم مقبلاً بلهفة على العبادة الجماعيَّة. كذلك، كان جميع المستمعين يتلهَّفون على التجرُّع من كلام القسِّ الخارج من فمه. وكان الاجتماع بوجه عامٍّ، ومن آنٍ لآخر، ينفجر في البكاء في أثناء الوعظ بالكلمة، حيث ينوح البعض في حزن وضيق، فيما ينوح آخرون في فرح ومحبَّة، وينوح آخرون أيضًا في إشفاق وقلق على نفوس أقربائهم”. [صفحة 151]

ولاحقًا، كتب إدواردز المؤلَّف بعنوان A Treatise Concerning the Religious Affections (“دراسة عن العواطف الدينيَّة”)، الذي صدر في عام 1746، تناول فيه بشكل مطوَّل وجاد الخبرات الروحيَّة للمؤمن، مميِّزًا بين الإيمان الحقيقيِّ والزائف، وكذلك بين القداسة الحقيقيَّة في مقابل القداسة المصطنعة. وما من مؤلّف آخر استطاع أن ينافس تقييم إدواردز التحليليِّ للعلامات التي تميِّز النهضة الحقيقيَّة عن النهضة الزائفة، والعلامات التي تميِّز الروحانيَّة نفسها.

لكن رغم وقوع مثل هذه النهضة، لم تنتهِ خدمة إدواردز الرعويَّة نهاية سعيدة. فبمرور الوقت، بدا واضحًا أنَّ إدواردز يختلف في الرأي مع سولومون ستودارد السابق له، والذي كان يسمح لغير المؤمنين بالتناول من مائدة الربِّ. أضف إلى ذلك وقوع سلسلة معقَّدة من الأحداث التي أدَّت إلى نفور بعض الأشخاص، بل وعائلات كاملة أيضًا، من إدواردز لأسباب مختلفة. وماذا كانت النتيجة؟ أُقيل إدواردز من منصبه في عام 1750. أدَّت هذه النتيجة المأساويَّة إلى سلسلة من الأحداث الأخرى التي لم تكن متوقَّعة. فقد غادر إدواردز وعائلته المدينة متَّجهين إلى ستوكبريدج لخدمة سكَّان أمريكا الأصليِّين. كذلك، مكَّنت هذه النقلة إدواردز من الكتابة، الأمر الذي أسفر عن فيض من الإصدارات اللاهوتيَّة التي لم يكن لإدواردز أن يكملها لو لم يحدث ذلك.

وبحلول عام 1757، طلبت جامعة برينستون، التي كانت لا تزال في مهدها، من إدواردز أن يكون رئيسًا لها. وافق إدواردز على تولِّي هذا المنصب. وفي شهر يناير من العام التالي، غادر إدواردز مكان إقامته، وكان من المفترَض أن تتبعه عائلته إلى برينستون في الشهور التالية. لكن في 22 مارس، مات إدواردز بشكل فجائيٍّ من جرَّاء تلقِّيه لقاح مرض الجدري. وكان موته مدمِّرًا بقدر ما كان مفاجئًا.

لكن، أظهر إدواردز في موته، كما في حياته أيضًا، ذلك “الاتِّحاد الاستثنائيَّ” الذي كان يتمتَّع به مع زوجته، سارة، فضلاً عن ثقة استثنائيَّة منه بمشيئة الله، وفي عنايته الأبويَّة، وأمانته. وإذ كان يعلم أنَّ الموت وشيك، قال لابنته لوسي الكلمات التالية:

عزيزتي لوسي، يبدو أنَّني بمشيئة الله سأرحل عنكم قريبًا. ولذلك، أرجو أن توصلي محبَّتي الشديدة والعميقة لزوجتي العزيزة، وتخبريها بأنَّ الاتِّحاد الاستثنائيَّ الذي لطالما كان موجودًا بيننا، والذي أثق أنَّه كان روحيًّا في طبيعته، سيستمرُّ إلى الأبد. وأرجو أن تختبر التعزية والسلوان في مواجهة تجربة بهذا العنف، وأن تخضع بسرورٍ لمشيئة الله. أمَّا بالنسبة لأولادي، فإنَّكم على الأرجح ستُترَكون دون أب، الأمر الذي أرجو أن يحفِّزكم جميعًا على أن تلتفتوا إلى ذلك الأب الذي لن يخذلكم البتَّة. (هذا الكلام دوَّنه إدواردز في رسالة إلى زوجته)

وقد عكس ردُّ سارة ما كان لدى زوجها أيضًا من ثقة في عناية الله وإحسانه، حتَّى في خضم الحزن الغامر والشديد، قائلة:

ابنتي الحبيبة والعزيزة، ماذا يمكنني أن أقول؟ إنَّ إلهنا القدُّوس والصالح ظلَّل فوقنا بغيمة قاتمة ومظلمة! … الربُّ فعل ذلك. وقد جعلني أعشق صلاحه الذي أتاح لنا أن نقضي كلَّ هذا الوقت معه [مع جوناثان]. لكنَّ إلهي حيٌّ، وقلبي ملكٌ له. ما أعظم هذا الإرث الذي تركه لنا زوجي ووالدكِ! فإنَّنا جميعًا بين يدي الله، وإنَّني هناك، وهناك أحبُّ أن أكون. (في رسالة منها إلى ابنتها)

حقًّا ما أعظم هذا الإرث!

شارك مع أصدقائك

أستاذ اللاهوت المسيحي في كليّة ميدويسترن المعمدانية للاهوت.