التعريف
تمحور الجدل بخصوص الإرادة الذي نشأ بين لوثر وإيراسموس حول قدرة الإرادة على التعاوُن مع نعمة الله في الخلاص. قال لوثر إنَّ الإرادة عاجزة عن إبداء مثل هذا التعاوُن الضروريِّ، في حين قال إيراسموس إنَّ الإرادة لا بُدَّ أن تتعاون مع نعمة الله.
الملخَّص
مع أنَّ الجدل بخصوص قدرة الإرادة البشريَّة لا يحظى بالقدر نفسه من الاهتمام الذي تحظى به جدالات أخرى تخصُّ الإصلاح البروتستانتيّ، شكَّلت هذه القضيَّة أساس عديد من الخلافات التي نشبت بين البروتستانت والكاثوليك الرومانيِّين. قال إيراسموس -وهو عالم كاثوليكيٌّ من أتباع المذهب الإنسانيِّ، وكذلك عالم لغة مبجَّل- إنَّ إرادة الإنسان تتمتَّع بالحريَّة إمَّا لتقاوم النعمة الإلهيَّة وإمَّا لتتعاون معها، حتَّى بعد السقوط وتأثُّرها بالخطيَّة الأصليَّة. وهكذا، تستطيع الإرادة أن ترفض نعمة الله، ومن ثَمَّ، تكون هذه النعمة قابلة للمقاومة. في المقابل، قال لوثر إنَّ إرادة الإنسان لا يمكن أن تكون حرَّة ومستقلَّة بهذا الشكل لعدَّة أسباب. أوَّلاً، يَعلَم الله كلَّ شيء مسبقًا، ومن ثمَّ، لا يمكن أن تكون الإرادة مستقلَّة في اختياراتها دون أن تُبنَى على معرفة الله المسبقة. ثانيًا، كلُّ ما يَعلَمه الله هو في صميم مشيئته؛ ومن ثمَّ، شاء الله أوَّلاً كلَّ ما سوف نختاره. ثالثًا، دون المسيح، تكون إرادتنا في حالة عبوديَّة للخطيَّة، ولا يُنسَب إلينا سوى الذنب والفساد. ومن ثَمَّ، تكون النعمة ضروريَّة ولازمة للإيمان، لأنَّها تحرِّر إرادتنا، وتعيد إلينا القدرة على أن نحبَّ الله ونطيعه. هذه النعمة لا ترغمنا على شيء، لكنَّها تعيد إلينا برفقٍ القدرة على أن نحبَّ ما هو محبَّب بحقٍّ.
عندما نكون بصدد التحدُّث عن حركة الإصلاح البروتستانتيّ في القرن السادس عشر، تحظى عقائد من قبيل سولا سكريبتورا (“الكتاب المقدَّس وحده”) والتبرير بالإيمان وحده (“سولا فيدي”) بكلِّ الاهتمام. يوجد سبب وجيه لذلك، لأنَّ هاتين القضيَّتين كانتا محوريَّتين في الشقاقات مع كنيسة روما. لكن تحت السطح، كان يوجد جدل آخر، وصفه لوثر بأنَّه لُبُّ الخلاف وجوهره، وهو الجدل بخصوص حريَّة الإرادة، الذي اندلع في فترة مبكِّرة، في عشرينيَّات القرن السادس عشر، مفرِّقًا بهذا حركة الإصلاح الإنجيليّ عن الذين كانوا لا يزالون يتبنَّون وجهة نظر متفائلة عن إمكانيَّات الإنسان في الخلاص. وكانت الشخصيَّتان اللتان مثَّلتا هذا الجدل اثنين من أكثر شخصيَّات ذلك الوقت تأثيرًا وبراعة، وهما إيراسموس، العالم الإنسانيُّ المتخصِّص في اللغة اليونانيَّة، في مقابل مارتن لوثر، المُصلِح الألمانيّ.
إيراسموس
دون شكٍّ، كان إيراسموس واحدًا من أعظم علماء اللغة في عصره، أو ربَّما يمكن أن نقول إنَّه كان أعظمهم على الإطلاق. وكان نفوذه يتزايد مع كلِّ إصدار يقدِّمه، ولا سيَّما عندما أصدر العهد الجديد باللغة اليونانيَّة. وأقلُّ ما يمكن أن يقال عن العهد الجديد باللغة اليونانيَّة الذي قدَّمه إيراسموس هو إنَّه كشف وحقَّق الكثير. ففي القرن السادس عشر، كان العهد الجديد مكتوبًا باللغة اللاتينيَّة، لكن هذه الترجمة اللاتينيَّة كانت أبعد ما يكون عن الكمال. وفي بعض الأحيان، كان سوء الترجمة يسفر عن فكر لاهوتيٍّ أيَّدته روما بلهفة، في حين رأى المصلحون أنَّه حائد عن الصواب (مثلما نرى في تعاليم من قبيل نظام التوبة والاعتراف، وعقيدة المطهر). وعندما عرض إيراسموس نظرة جديدة على العهد الجديد، مستمَدَّة من اللغة اليونانيَّة الأصليَّة، افتُضِحت الكثير من هذه النقائص.
لكنَّ هذا لا يعني أنَّ إيراسموس كان مُصلِحًا، مع أنَّ الكثيرين تمنَّوا أن يصير كذلك، بل وحاولوا إقناعه بذلك. فصحيح أنَّ إيراسموس هاجم روما -على سبيل المثال، انظر كتابه بعنوان Praise of Folly (“في مديح الحماقة”)، حيث استخدم أسلوب الهجاء لفضح فسق روما وافتقارها إلى العقلانيَّة- لكنَّه مع ذلك ظلَّ مخلصًا للكنيسة الأمِّ، ورفض الانضمام إلى صفوف أناس أمثال مارتن لوثر والمُصلِحين الآخرين. في عام 1519، كتب لوثر خطابًا إلى إيراسموس، طالبًا منه الانضمام إلى المصلحين، لكن إيراسموس رفض ذلك.
حريَّة الإرادة
بقدر ما كان إيراسموس ينتقد روما، لكنَّه انزعج حين قرأ هجوم لوثر على البابا وعلى نظام صكوك الغفران. وبالإضافة إلى صدِّ الجهود التي بُذِلت لإقناعه بالانضمام إلى حركة الإصلاح، حاول البحث أيضًا عن وسيلة ينأى بها بنفسه تمامًا عن لغة الإصلاح وأهدافه. وقد أتيحت له هذه الفرصة في عام 1524. كتب إيراسموس كتابًا بعنوان De libero arbitrio، أو “عن حريَّة الإرادة”، مستهدفًا فيه لوثر، ولا سيَّما إيمانه بأنَّ كلَّ شيء يحدث بموجب الحتمية الإلهيَّة. وقال إيراسموس إنَّ مثل هذه الحتمية لا يمكنها الحفاظ على حريَّة إرادة الإنسان، ودافع عن استقلاليَّة إرادة الإنسان، قائلاً إنَّه حتَّى بعد السقوط، ظلَّت إرادة الإنسان حرَّة لتختار إمَّا أن تقاوم النعمة الإلهيَّة وإمَّا أن تتعاون معها. وعلى سبيل المثال، عرَّف إيراسموس حريَّة الإرادة بأنَّها “قدرة تتمتَّع بها الإرادة البشريَّة، بها يستطيع الإنسان أن يَقبَل الأمور التي تؤدِّي إلى الخلاص الأبديِّ، أو أن يرفضها”.
مارتن لوثر
بهذا الهجوم الذي شُنَّ ضدَّ لوثر، تبدَّد أيُّ أمل في انضمام هذا العالم الإنسانيِّ إلى صفوف المُصلِحين. وفي العام التالي، أي عام 1525، قدَّم لوثر ردَّه على إيراسموس في كتابٍ ختم على هذا الشقاق، وهو الكتاب الذي أصبح لقرون تالية أشهر تناوُلٍ لهذه القضيَّة، وعنوانه De servo arbitrio، أو “عبوديَّة الإرادة”، وكان الغرض منه هو التصدِّي لرفع إيراسموس من شأن الإرادة، ومن قدرتها على الاختيار بين نقيضين.
عبوديَّة الإرادة
وجَّه لوثر لإيراسموس عديدًا من الانتقادات، كما طرح عديدًا من الحُجج التي تثبت عبوديَّة الإرادة للخطيَّة، وحاجتها الماسَّة إلى نعمة فعَّالة وكليَّة القدرة. لنتناول فيما يلي بعضًا من هذه الحجج. أوَّلاً، قال لوثر إنَّ الحُجَّة “القاضية” التي تدحض استقلاليَّة الإرادة تتمثَّل في الحقيقة البسيطة التي مفادها أنَّ الله يتمتَّع بمعرفة مسبقة أزليَّة وغير قابلة للتغيير. كتب لوثر يقول: “يعلم الله مسبقًا كلَّ شيء ليس من قبيل احتماليَّة تحقُّقه، لكنَّه يتوقَّع كلَّ شيء، ويعيِّنه، ويتمِّمه، بمشيئته غير القابلة للتغيير، والأزليَّة، والمعصومة من الخطأ”. إذا كان هذا صحيحًا، فلا يمكن لخيارات الإنسان أن تكون مستقلَّة، أي إنَّه لا يستطيع دائمًا أن يختار بحريَّة تامَّة بين نقيضين، لأنَّ الله لن يكون حينئذٍ عالمًا مسبقًا، وعلى نحو مؤكَّد، بخياره. قال لوثر: “إذا كان شيء ما معروفًا مسبقًا من الله، فهذا الشيء لا بُدَّ أن يحدث حتمًا”. بتعبير آخر، “يعرف الله مسبقًا كلَّ شيء على نحو حتميٍّ”.
ما الذي يعنيه ذلك فيما يتعلَّق بالقرارات التي نتَّخذها؟ خلص لوثر إلى الاستنتاج التالي: “كلُّ ما نفعله، حتَّى وإن بدا لنا أنَّه خاضعٌ للتغيير ولاحتمالات مختلفة، يحدث في واقع الأمر بشكل حتميٍّ ودون قابليَّة للتغيير…”. ومن ثَمَّ، على إيراسموس أن يجتهد ليفهم لا إرادة الإنسان، بل مشيئة الله، لأنَّ الله هو المتحكِّم سياديًّا في كلِّ شيء. “فإنَّ مشيئة الله فعَّالة، ولا يمكن عرقلتها أو منعها، لأنَّها تمثِّل قوَّة الطبيعة الإلهيَّة نفسها”.
استنتج لوثر إذًا أنَّ “كلَّ شيء يحدث حتمًا”. لكن بالنسبة للوثر، لم تكن الحتميَّة والإجبار متساويَين. فقد تقع إرادة الإنسان تحت إلزامٍ سواء من الخطيَّة أو من الله، لكنَّ هذا لا يعني أنَّ إرادة الإنسان مرغَمة. فبحسب لوثر، يوجد ما يسمَّى بالفعل بالحريَّة، لكن “الحريَّة الحقيقيَّة” (كما دعاها) تتعلَّق بما يسمَّى “التلذُّذ أو الرغبة”، وليس بالاستقلاليَّة أو حريَّة الاختيار بين نقيضين.
إذًا، ما هو الشيء الذي يُلزِم إرادة الإنسان؟ قبل المسيح، تكون إرادة الإنسان مقيَّدة بطبيعته الخاطئة، وليس فقط بميوله الداخليَّة أو رغباته، بل أيضًا بقوَّة إبليس التي تستعبده. فإنَّ إرادة الإنسان الطبيعيِّ لا تكون حرَّة مثلما ظنَّ إيراسموس، لكنَّها تكون عبدة للخطيَّة، لكن تلك العبوديَّة متعمَّدة وإراديَّة إلى حدٍّ كبير، أي إنَّها عبوديَّة مرغوب فيها، بدافع اللذَّة الشريرة. فإذا كان الله “غير حاضر أو عامل فينا” فإنَّ “كلَّ ما نفعله سيكون شرًّا، ولن نفعل بالضرورة أيَّ شيء مُجدٍ للخلاص”. ومجدَّدًا، كتب لوثر يقول: “فإذا كان الله وحده، بمعزل عنَّا نحن، هو الذي يعمل الخلاص فينا، فإنَّه قبل عمله هذا، نكون عاجزين تمامًا عن فعل أيِّ شيء له أهميَّة خلاصيَّة، سواء شئنا أو أبينا”.
يتعارض هذا مع رأي إيراسموس، الذي أقرَّ بالفعل بالتأثيرات المدمِّرة للسقوط، لكنَّه مع ذلك نسب إلى الإنسان بعد السقوط القدرة الروحيَّة على أن يتَّخذ بنفسه خطوات صوب الجعالة السماويَّة. أمَّا لوثر، فلم ينسب إلى الإنسان شيئًا من مثل ذلك. فقد استند لوثر إلى المكتوب، مسلِّطًا الضوء على عدم نسب كُتَّاب الأسفار الكتابيَّة شيئًا إلى الطبيعة البشريَّة الخاطئة سوى الذنب والفساد، اللذين أسفرا عن عجز روحيٍّ. فالفكر التآزريُّ [synergism] أو التعاونيُّ، أي كون مشيئة الله مشروطة بإرادة الإنسان، هو أمر مستحيل. وعلى الإنسان ألاَّ يثق بنفسه، بل أن يفقد الأمل في نفسه تمامًا. وطالما ظلَّ يظنُّ أنَّه حرٌّ، سيظلُّ في حالة من العبوديَّة. أوضح لوثر ذلك قائلاً: “إنَّ الاختيار الحرَّ، دون نعمة الله، لن يكون حرًّا على الإطلاق، لكنَّه يظلُّ دائمًا عبدًا للشرِّ، لأنَّه لا يستطيع أن يختار الخير من تلقاء ذاته”.
ومن ثمَّ، توجد حاجة إلى تحرير فائق للطبيعة لا يستطيع سوى الله وحده أن يحقِّقه. قال لوثر: “علينا أن نجتهد جميعًا لإنكار حريَّة الاختيار، ناسبين كلَّ شيء إلى الله”. وتعمَّد لوثر بالفعل أن يقول “كلَّ شيء”. فالإنسان عاجز حتَّى عن أن “يجهِّز نفسه بأعماله الصالحة لنعمة الله”. فعلى الله أن يفعل كلَّ شيء. وبدلاً من الفكر التآزريِّ [السينرجيزم]، علَّم لوثر بالعمل الأحاديِّ [المونرجيزم]، من جانب الله وحده، الذي يجري ميلاد الخاطئ ثانية، وبالروح القدس يُنهِض حياة جديدة في جثَّة كانت لتظلَّ لولا ذلك ميتة روحيًّا. فإنَّ عبوديَّة الإنسان للخطيَّة وإبليس هي عبوديَّة حقيقيَّة، وجادَّة، وقابضة، لدرجة أنَّ الله وحده هو القادر أن يطلق سراحه منها. فالإنسان لا يفعل شيئًا، بل الله هو مَن يفعل كلَّ شيء. وبذلك، على الإنسان في النهاية أن ينسب كلَّ الفضل في صحوته وحريَّته إلى الله.
لكن مرَّة أخرى، هل يعني ذلك أنَّ الله يرغم الخاطئ؟ كلاَّ البتَّة. فحين يجدِّد الروح القدس الإرادة، تتجدَّد بكلِّ ملكاتها وإمكانيَّاتها، بحيث يعاد توجيه رغباتها بالكامل. وقال لوثر إنَّه بفضل الروح القدس، تعمل الإرادة بدافع من “رغبة بحتة، وميل، من تلقاء ذاتها، وليس بالإكراه، بحيث تصير عاجزة عن الذهاب في أيِّ اتِّجاه آخر بفعل أيَّة مقاومة تواجهها، وبحيث لا يمكن أن تقوى عليها حتَّى أبواب الجحيم نفسها. لكن بالأحرى، تظلُّ الإرادة راغبةً في الخير، ومتلذِّذة به، ومُحِبَّة له، تمامًا مثلما كانت قبلاً راغبة في الشرِّ، ومتلذِّذة به، ومُحِبَّة له”.
هذا التصريح الأخير الذي أدلى به لوثر يكشف الكثير. فقد كان الغرض من عنوان كتاب لوثر -“عبوديَّة الإرادة”- هو التعبير عن عبوديَّة الإنسان للخطيَّة، وفضح ثقة إيراسموس الخاطئة في قدرة الإرادة على التحوُّل عن الخطيَّة وإبليس، والالتفات إلى الله لنوال البرِّ والحياة الأبديَّة. لكن في الوقت نفسه، ليس من الصائب أن نقول إنَّ لوثر لم يفسح أدنى مجال لإرادة الإنسان. فهو لم يلغِ الإرادة تمامًا، مختزلاً الإنسان بهذا إلى مجرَّد حيوان بريٍّ. لكن، تذكَّر جيِّدًا أنَّ لوثر كان يؤمن بمبدأ الحتميَّة، لا بمبدأ الإكراه. فقد كان يؤمن بالفعل بحريَّة الإرادة، لكنَّه آمن بأنَّ قدرة هذه الإرادة على التوبة والإيمان بالمسيح ينبغي أن تعقب عمل الروح القدس بالنعمة، المتمثِّل في تحرير الإرادة، وتجديد رغباتها، حتَّى ترغب في الخير، وليس في الشرِّ. وعندما يعمل الروح القدس على هذا النحو، لن يستطيع حتَّى الجحيم نفسه أن يثني عزم الخاطئ، أو يعيده إلى الوراء. فعندما يولَد الإنسان ثانية، ويتجدَّد، يُعتَق ويُطلَق سراحه، بحيث يتسنَّى له التلذُّذ بمخلِّصه. فإنَّ “الإرادة تتغيَّر” فقط لأنَّ “روح الله نفخ فيها برفقٍ”.
وإذ تحرَّر الإنسان، صار الآن يخدم سيِّدًا جديدًا.