الرَّدُّ عَلَى يَسُوع التَّارِيخِي

التَعْرِيف

حَاوَلَتْ مَسَاعِي البحث عن يسوع التَّارِيخِي اكتشاف مَن هو يسوع التاريخ الحَقِيقِيُّ بِمَعْزِلٍ عَنْ الشَهَادَةِ الكَامِلَةِ لِروايات الإنجيل، لكِن بفَهْم طريقة نَقْلِ القِصَص المُهِمَّة فِي الأزمنة القَدِيمَة وَكَيْفَ وَصَلَت إِلَيْنَا تِلْكَ القِصَص، لَدَى المَسِيحِيِّينَ مبرِّرٌ هائلٌ لِلثِّقَة بأَنَّ رِوَايَات الإنجيل تُصَوِّر بِدِقَّة الشَّخْصِيَّة التَّارِيخِيَّة لِيَسُوع النَّاصِرِيّ وَأَنَّ اِدِّعَاءَات هذه الروايات قد تَمَّ التَّحَقُّق مِن صحَّتها تَارِيخيًّا عبر الأَحْدَاث نَفْسهَا.

المُوجز

حَاوَلَتْ مَسَاعِي البحث عن يسوع التَّارِيخِي اكتشاف مَن هو يسوع التاريخ الحَقِيقِيُّ بِمَعْزِلٍ عَنْ الشَهَادَةِ الكَامِلَةِ لِروايات الإنجيل، مُشَكِّكَة أغلب الأحيان فِي المصداقية التاريخية لكَثِير مِنْ رِوَايَات الإنجيل. وَمَعَ ذَلِكَ يُجِب عَلِينَا أَنَّ نَفْهَم أَوْلاً أَنَّ التَّارِيخ القَدِيم (وَالتَارِيخَ بِشَكْلٍ عَامٍّ) يُمَثِّل معًا أحداثًا مُسَجَّلَة مع وَجْهَاتِ نَظَرٍ حولَهَا. بِالإضَافَة إِلَى ذَلِكَ يَجِب أَلَّا يَسْتَثْنِيَ المَرْءُ عملَ الله مِنَ القِصَّة، خَاصَّةً عندما يكون الله هو الشَّخْصِيَّة الرَّئِيسَة فِيهَا. بالأحرى، بوسعنا أن ندرك أن الأَحْدَاث التَّارِيخِيَّة تُشِير إِلَى عملٍ إلَهيٍّ، وَخَاصَّةً رِوَايَات القِيَامَة. كَمَا أن الاِخْتِلَاَفَات الرئيسة الثَّقَافِيَّة والمجتمعية تلعب دَوْرًا فِي الحُكم عَلَى تَارِيخِيَّة أَيَّة رِوَايَة قَدِيمَة؛ ولذلك، يَتَعَيَّنُ على المُؤَرِّخين المعاصرين أن يتأَكَّدوا من فَهْمِ المصادر القَدِيمَةَ بِأَقْصَى قَدْرٍ ممكن من الدِّقَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَقَافَةِ المجتمعية القَدِيمَةِ. لقَد نُقِلَتْ روايات الإنجيل شَفَاهةً، وَهِي عَمَلِيَّة لدينا مبررٌ هائل لتقديرِها والثِّقَةِ فيهَا، وَبِالتَّالِي تَرَسَّخَت مجتمعيًّا بِعُمْق فِي سِيَاقَاتهَا القَدِيمَة. يُفَسِّر هَذَا بَعْضَ الاِخْتِلَاَفَات التِي نَرَاهَا فِي الرِّوَايَات والتي لَا يَنْبَغِي أَنْ تُقدِّم لنا أيَّ مبرِّرٍ لِلشَّكِّ فِي صِحَّتهَا.


كثيرًا ما كَانَ السَّعي في أبحاث يَسُوع التَّارِيخي أَمْرًا مُعَقَّدًا وَفي بعض الأحيان مُرْبِكًا. فقد نادى البَعْض بِأَنَّهُ مِنَ الأفْضَلِ الاِنْسِحَاب، لَكِن بالنسبة للمتسائلين أَوْ من تساورهم الشُّكُوك تتمثَّلُ المشكلة في أَنَّ الاِبْتِعَاد عَنْ هَذَا النِّقَاش يَتْرُك لديهم اِنْطِبَاعا بِأَنَّهُ لَا تَوَجُّد إِجَابَات عَلَى شُكُوكهم. عِنْدَمَا يَتَسَاءَل امْرِءٌ مَا عَمَّا إذا كَانَ الكِتَابُ المُقَدَّسُ يَحْمِل مُبَرِّرًا مُقْنِعًا لِفِكْرَةً مَا، فَمَا الَّذِي يلجأُ إليه المَرْءُ لِيَجْعَلَ النَّاس تتوقَّف وتعيدُ النَّظَر فيه؟ وَمَعَ ذَلِكَ، عِنْدَ الحَديث عَنِ مساعي البَحْثِ عن يَسُوع التَّارِيخي، يَتعيَّن على المَرْء أَيْضًا أَنْ يَكُون عَلَى دِرَايَة بِحُدود التَّارِيخ فِي التَّعَامُل مَعَ مِثل هَذِهِ الأسْئِلَة، وَأيضًا كيف يعملُ بِالشكلِ الأفْضَل. هَذِهِ القَضَايَا هي ما نفحصه هنا.

عَمَل التَّارِيخ وَحُدوده

مِنَ المُهِمِّ عِنْدَ مُعَالَجَةِ الأَسْئِلَةِ بشأن التَارِيخِ القَدِيمِ أَنَّ نكونَ عَلَى دِرَايَة بِكَيْفِيَّة عَمَل التَّارِيخ وَحُدوده. تقريبًا نَحْنُ نَتَعَامَل دائمًا مَعَ أَحْكَام أو قرارات تَرتبطُ بِالاحتِمَال عِنْدَ مُنَاقَشَة التَّارِيخ لِأَنَّ بَيَانَاتنَا المَلْمُوسَة مَحْدُودَة فِيمَا يَرتبط بِمَا تَمَّ العُثُورِ عَلَيه، وبِالتَّالِي فَإِنَّ أَدِلَّتنَا جُزْئِيَّة مُقَارَنَة بِمَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الأَصْل. ومن هنا، يَتَعَيَّنُ على المَرْءِ أَنْ يتَذَكَّر دَائِمًا أَنَّ ما لدينا لَيْسَ هو كُلُّ مَا كَانَ مَوْجُودًا؛ فَقَدْ تُؤَثِّر الاِكْتِشَافَات الجَدِيدَة عَلَى مَا نَرَاهُ.

هُنَاكَ مسألة أُخْرَى ترتبط بالفرق بين القَوْل بأن حَدَثًا مَا قَدْ وَقَّع وبين مُنَاقَشَة تَفْسِير ذَلِكَ الحَدَث. غَالِبا مَا تَزْدَاد الثِّقَة عِنْدَمَا نتساءل: هَلْ حَدَث هَذَا؟ وَمَعَ ذَلِكَ، عِنْدَ مُنَاقَشَة مُعَنَّى الحَدَث آنذاك والآن، تصبح المَسْأَلَة أَكْثَر تَعْقِيدًا وَغالبًا ذات أبعاد مُتَعَدِّدَة. بتعبيرٍ آخِر، يُقدِّمُ التَّارِيخ لنا الحَدَث مع مَنْظُورٍ لِفَهْمِهِ. ينطوي التفكِيرُ فِي المَنْظُور على كَيْفَيَّةَ اختبار المرء لِلحَدَثِ فِي وَقْتِهِ مُقَابِلَ مَا نَرَاهُ عِنْدَمَا نَتَمَكَّنُ مِنْ إعادة النظر فيه. كِلاَ المُسْتَوَيَيْنِ تَارِيخِيَّانِ لَكِنْ بِطُرُقٍ مُتَمَيِّزةٍ. يُمْكِنُ لِلْكُتَّابِ أَنْ يَخْتَارُوا السَّرْدَ لنا إما من زاوية واحدة أَو بدمج الاثنين مَعًا.

تَعْكِسُ روايات الإنجيل كُلَّ هذا، وأحيانًا يَصْعُب فَصْل الزَّوَايَا المُتَدَاخِلَة عَنْ بَعْضهَا البعض. فِي الحَقِيقَةِ، لَا ينبغي أَنْ نَحَاوِلَ حتى القيام بذَلِكَ. تُقَدِّم لَنَا الروايات الإنجيلية الحَدَثَ وَالمَنْظُورَ، وأحيانًا يَتَضَمَّن هَذَا المَنْظُور مفاهيم تنْبَثِق مِنَ الحَدَث لَاحِقًا بَنَّاءً عَلَى التَّأَمُّل دون ارتباطها بالحَدَثِ فِي وَقْتِهِ. كُلُّ ذَلِكَ لا يَزَالُ تَارِيخِيًّا، لأَنَ التَارِيخَ دَيْنَامِي وَمُرْتَبِط بِتَسَلْسُل الأَحْدَاث عِنْدَمَا يَكُونُ تاريخًا مُهِمًّا. أَحْيَانًا يَنْسَى من يَبْحَثُونَ عَنِ يسوع التَّارِيخِي كلَّ هَذَا وَهُمْ يناقشون الأَصَالَةَ وَالدِّقَةَ التَّارِيخِيَةِ. إِنَّ مَعْرِفَة آلِيَّة عَمَل التَّارِيخ وَكَيْفَ يمكِنُ أَنْ يخدمَنَا أَمْرٌ مُهِمٌّ أثناء تَفْكِيرنَا فِي البَحْث عن يسوع التَّارِيخِي. وَمِنْ المُهِمِّ أَيْضًا أَنَّ نكونَ على وعي بحُدود التَّارِيخ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُفَسِّر بَعْض الآرَاء المُتَنَوِّعَة الَّتِي نَرَاهَا حَوْلَ مَا يَخْبُرنَا بِهِ التَّارِيخ.

الاِنْفِتَاح عَلَى عَمَل الله

تَحَدِّي ادِّعَاءَاتِ الكِتَابِ المُقَدَّسِ لِلتَارِيخِ يَتَأَثَرُ بِشَكْلٍ مُؤَكَّدٍ بِالطَرِيقَةِ الَتِي يَتَنَاوَل بِهَا المُؤَرِّخ المَسْأَلَة. عِنْدَمَا يَكُونُ اللهُ هُوَ البَطَل الرَّئِيسِ فِي القِصَّةِ وَيَشُكُّ المُؤَرِّخُ فِي أن اللهِ موجودٌ أَوْ أنه إلهٌ فاعلٌ، ينشأ لدينا صِدامٌ قبل أن نقرأ كلمة واحدة من نصِّ القصَّةِ. مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، هَلْ يُمْكِنُ لِلتَارِيخِ أَنْ يُثْبِتَ أَنَ اللهَ إله فاعلٌ؟ يَزْعُمُ البَعْضُ أَنَّ التَّارِيخَ لَيْسَ قَادِرًا عَلَى الوصول إلى حُكْمٍ مثل هذا. كُلُ مَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ هُوَ إِثْبَاتُ أَنَ شَيْئًا غَيْرَ مُعْتَادٍ قَدْ حَدَثَ لكنه يتحدَّى أيَّ تَفْسِيرٍ ساذجٍ. مِنْ نَاحِيَة ما، هَذَا هو كُلُّ مَا يُمْكِن لِلتَّارِيخ إنجازُه؛ هذا شيء واحد من حُدودِهُ. لَكِن هُنَاكَ المَزِيد. فِي روايات الإنجيل، يَقُول يَسُوع أحيانًا بِأَنَّهُ لِفَهْم مَا لَا تَرَاهُ، ينبغي عَليكَ أَوَلَا إلقاء نظرة على مَا تَرَاهُ. عَلَى سَبِيل المِثَال، عِنْدَمَا أعلن غفرانه لخَطَايَا المفلوج (وَهُوَ أَمْر لَا يُرَى)، يُمْكِن للمرء أَنْ يدرك أَنَّ لِاِبْن الإِنْسَان سُلْطَان عَلَى غُفْرَان الخَطَايَا بعد أن قَال يسوع لِلرَّجُل المَفْلُوج قُم وَاِمْش، فمشى. يُشِير الشِّفَاء إِلَى حَقِيقَة أُخْرَى. عِنْدَمَا مَشَى ذَلِكَ الرَّجُل، تَجَلَّى سُلْطَان اِبْن الإِنْسَان عَلَى غُفْرَان الخَطَايَا. الفِعْلُ غَيْرُ العَادِيِّ الَّذِي يُرَى يُشِير إِلَى رِسَالَة لَا يُمْكِن رُؤْية ادِّعَاء المسيح فيها. لَا عَجَبَ أَنَ المُعْجِزَاتِ كَانَتْ تُدْعَى آيَاتٍ.

القِيَامَةُ تتبرهن بِالطَرِيقَةِ نَفْسِهَا. ما تعلنه هو أنَّ اللهَ قد فَعَلَ شَيْئًا غَيْرَ مُعْتَادٍ، وهي تُصَادقُ أَيْضًا عَلَى مَا كَانَ يَسُوعُ يُعَلِّمُ بِهِ وَيَدَّعِيه. إِنَّهَا تَبْرِير لروايات الإنجيل. ولدى الروايات سَبَبٌ قَوِي لترسيخ هَذَا الارتباط، بناءً على القَبْرِ الفَارِغِ وَالتَغْيِير الفكري لدى التَّلَامِيذ بسبب القيامة. الآنَ، مع أنها لا تزال اِدِّعَاءً، أو مَنْظُورًا، إلا أنها مَنْظُورٌ مُقَدَّم بِمَنْطِق سَلِيم، وَيُشِير إِلَى اِحْتِمَالية حقِيقِيَّة بوُجُود إلَه يَعْمَل فِي خَلِيقَته.

تَقْدير الخَلْفِيَّة المجتمعية

ثمة عُنْصُر آخَرٌ من أجل الاستفادة من التاريخ هُوَ فَهُمْ السِّيَاقَات المجتمعية. بعض الممارسات يتم صياغَتُها بحسب طريقة رؤيتها. لَا يَتَطَلَّب اِسْتِحْضَار المُعَنَّى الكَثِير عِنْدَمَا يشترك القَارِئ وَالكَاتِب في نفس السِّياق المجتمعي. كَقُرَّاءٍ لاحِقِينَ، أَحْيَانًا لَا نَشْتَرِكُ فِي ذَلِكَ السِّيَاقِ المجتمعي، وَمن ثمَّ نَغْفَل المَغْزَى بِسُهُولَةٍ. عَلَى سَبِيل المِثَال، إن قال أحدهم: ” رُعَاة البَقَر صاعدون إِلَى التَّنَدرَا المُتَجَمِّدَة لإذابة الجُبْن”، فإن قولتَه تمثِّلُ جُمْلَةً إنجليزية سَلِيمَة تَمَامًا. لَكِن إِن لَمْ يَفْهَم المرءُ مغزاها الثَّقَافِي أو المجتمعي، تَبْدُو الجُمْلَة هُرَاءً. فِي حقيقةِ الأَمْرِ، ربما يستخدم الناطقُ بالعربية، الذي يدرُس الإنجليزية، قاموسًا للبحث عَنْ معنى كُلِّ كَلِمَة في هذه الجملة، لكن في النهاية لن يَفْهَمها. إِنَّهَا نَصُّ يرتبط بثقافة مجتمعية محددة. بِالنِّسْبَة لِمَنْ يَعْرُف هَذا المجتمع، تَرتَبِط تلك الجُمْلَةُ بكلِّ وضوحٍ بِكُرَة القَدَم الأَمْرِيكِيَّة أَمَّا بِالنِّسْبَة لِلْآخِرَيْنِ فَهِي غَيْر مِنْطَقِيَّة، أَوْ عَلَى الأَقَل يفوت معناها عليهم.

فِي روايات الإنجيل نقرأ عن أُمُور عديدة متجذرة فِي الفكر المجتمعي، لكن يَبْذُل الباحثون وَالمُؤَرِّخُون جَهْدًا كَبِيرًا للإحاطة بها ولتَفْسِيرهَا. أَحَدُ الأَمْثَلَة عَلَى ذلِكَ اِدِّعَاء يَسُوع أَنَّ الله سَيُقِيمهُ لِيَجْلِس عَنْ يَمِينِهِ، كَيْفَ يَفْهَمُ المَرْءُ هَذَا الادِّعَاءَ فِي إطار نظرة اليهود عن “الوَحْدَانِيِة الإلَهِيَّة” ؟ هُنَاكَ خِيَارَانِ فَقَطْ. إِمَّا أَنَهُ تَجْدِيفٌ، أَوْ تَّمْجيد إلَهِيُّ إِلَى مَنْزِلَة يُظْهِرُ الله فيها أَنَّ يَسُوع يُشَارِكهُ السُّلْطان الإلَهِيَّ. كِلاَ الخِيَارَيْنِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا صَحِيحَيْنِ نظريًّا فِي هَذا المجتمع. وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِنَّ عَمَل الله كَمَا نادى يَسُوع، يُظْهِر الإِجَابَة وَيُحَدِّد الخِيَار. هَذَا هُوَ جَوْهَر القِيَامَة. هذا ما يكون على المحك في القيامة. يَرْتَكِز هَذَا المَنْظُور جُزْئِيًّا عَلَى فَهُمْ مجتمعي لِمَا تعْنِيهِ الوَحْدَانِيَةُ الإلَهِيَّة عِنْدَمَا يُظْهِرُ الله أَنَّ يَسُوع يُشَارِكهُ سُلْطَانه وَمَكَانَتهُ الفَرِيدَة. هَذَا مَنْظُور يعتمد عَلَى حَدَثٍ مُتجذر فِي فِكْرَة تَفَرُّد الله وَأَفْعَاله. إِنَّهُ اِسْتِنْتَاجٌ رَاسِخٌ مُتأصِّلٌ فِي الاِتِّجَاه الَّذِي تَقُودنَا إِلَيْهُ الأَحْدَاث. استنتاج يمكن فهمه عِندَما ينظر المَرْءُ بعين الاعتبار إلى السِّيَاق المجتمعي الَّذِي يَعْمَل فيه.

طَبِيعَة الذاكرة والنقل الشَّفَاهِيِّ قَبْلَ تدوين روايات الإنجيل

عُنْصُر آخرٌ فِي مناقشة يَسُوع التَّارِيخي هُوَ مَا وَقَعَ فِي نَقْل الأَحْدَاث قَبْلَ تَدوينهَا كروايات للإنجيل. هَذِهِ العَمَلِيَّة متجذرة فِي الثقافة الشَّفَاهِيَّة الَّتِي سَادَت الحَيَاة القَدِيمَة. لَمْ تَكُن الكُتُبُ شَائِعَةً، وَبِالتَّالِي كَانَ تدوين الأمور بِشَكْلٍ مَكْتُوب نَادِرًا أَيْضًا. وَقَدْ أُجْرِيَت دِرَاسَاتٌ كَثِيرَة عن هَذِهِ العَمَلِيَّة، بِالإضَافَة إِلَى البحث عن قضايا الذَّاكِرَة فِي العصور الحَديثَة بالتوازي مع مساعي البَحْث في يسوع التاريخي. لَا يُزَال هَذَا المَجَال مَوضِعَ جَدَلٍ، لكِن يُمْكِن تَقْديم حُجَّة قَوِيَّة عَلَى أَنَّ القُدَمَاء كَانُوًا يَتَوَخُّون الحرصَ فِي كَيْفِيَّة نَقْل الأُمُور متى كان الأَمْرُ مُهِمًّا. تُظْهِر الدِرَاسَات بشأن الذَّاكِرَة أَنَّهُ عَلَى الرَّغْم مِنْ “تَسَرُّب الذَّاكِرَة” إِلَّا أَنَّ جَوْهَر مَا حَدَث يكونُ أكثرَ دقةً بما فيه الكفاية عما نُسِيَ.

عند تَوضِيح هَذِهِ النُّقطَة، مِنَ المُهِمِّ أَيضًا أَنْ نَتَذَكَّر أَنَّ الطَّرِيقَة الَّتِي نُقَدِّمُ بِهَا حَدَثًا مَا يُمْكِنُ أن تكون بالتدوين بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ أَوْ بالتلخيص، أَوْ بإعادة الصِياغَة. بِتعبيرٍ آخَر، طريقة سردنا لحَدَثٍ مَا فيها شيء من التنوُّعِ، وَمن ثمَّ تَعْكِس لنا تفضيل الكَاتِب. تَقْتَرِن هَذِهِ الفِكْرَة بِحَقِيقَة أَنَّ مَا تَمَّ تَذَكُّرُهُ عَنْ يَسُوع كَانَ بواسطة جماعة الإيمان التي انخرطت في أحداث مُتَكَرِّرَة بِانْتِظَامٍ فِي إِعَادَة سَرْد هَذِهِ القَصَص. هَذِهِ العَوَامِلُ تَزِيدُ مِنْ قُدْرَتِنَا عَلَى الثِّقَةِ فيمَا تَمَّ نَقْلُه، حَتَّى وإن وَصَلَ إِلَيْنَا بشيءٍ من التباينات. مَا تَمَّ تَذَكُّرُهُ لَمْ يَكْن مُجَرَّد تَذَكُّر شَخْص وَاحِد، كما أنه يشتمل على مُشَاهِد قد أُعِيد سَرْدُهَا مِرَارًا وَتَكْرَارًا حَتَّى تَمَّ تَدوينها. قَدْ تنطوي عَمَلِيَّة إِعَادَة السَّرْد هَذِهِ على بَعْض الاِخْتِلافات لَكِن جَوْهَر القِصَّة يَبْقَى مُتَّسِقًا. الأَمْر الذي من المُهِمِّ أَن نَرَاهُ كَمَسْأَلَة تَارِيخِيَّة هُوَ أَنْ يَكونَ جَوْهَر القِصَّة مُتَّسِقًا، وقابلاً للثِّقَة بِهِ. إن الأَمْرَ على الأرجح هو أَن من عَاشُوا ثَلَاثَ سنوَات مَعَ يَسُوع بِشَكلٍ دَائِمٍ أدركوا وَنقلوا بِأمانة مَا قَالَهُ عَن نَفسِهِ بوصفه الشاغل لمركز خُطَّةِ اللهِ، وأنه أَكْثَر مِنْ مُجَرَّد نَبِيٍّ. تَسْتَعْرِض دِرَاسَات كِنِث بِيلِي Kenneth Bailey وَرُوبِرْت ماكفر Robert McIver عَلَى وَجْه الخُصُوصِ مكانة مثل هَذِهِ المُنَاقَشَات حَوْلَ الطبيعة الشَّفَاهِيَّة وَالذَّاكِرَة اليَوم.

القُدْرَة عَلَى الثقةِ بِالنَّتِيجَة

يُعَدُّ تَقْديم التَّارِيخ القَدِيم مَهَمَّة مُعَقَّدَة، وَلِذَلِكَ ما يُقَدَّمُ يخضعُ غالبًا لكثير من النقاش. يَزْعُمُ المَسِيحِيُّونَ المُلتزمون أَنَ هُنَاكَ أَسْبَابًا قَوِيَّةً لِلثِّقَة بِمَا تَقُولُهُ روايات الإنجيل عَنْ يَسُوع، وَلديهم فِي ذَلِكَ أسْبَابٌ وَجِيهَةٌ. ما تعنيه فِكْرَة الحَدَث وَالمَنْظُور أَنَّ مَا تقوله روايات الإنجيل عَنِ مَسِيح الإيمان يَعْكِس أحيانًا مَا انبثق عن يَسُوع التاريخي بَعْدَ إعادة نظر أَكْثَر عُمْقًا وَمَعْرِفَةً بِالأَحْدَاث اللَّاحِقَة الَّتِي تَأَثَّرَت بِوُجُودِهِ. لَكِنْ هَذِهِ الصُّوَر الانعكاسية مرتبطةٌ بِشَكْلٍ وَثِيقٍ بِالأَصْلِ وَلَا تُمَثِّلُ تَشويهًا عما كان عليه يَسُوعُ ومن يكونه. إِنَّ التَّبَايُن الَذِي نَرَاهُ فِي الرِّوَايَاتِ يَعْنِي أَنَّ هُنَاكَ بَعْضَ التَفَاصِيلِ الَتِي تمَّتْ مناقشتها والبحث بشأنها أثناء صنع القَرَار بشأن كَيْفِيَةِ رَبْط كُلِّ شَيْءٍ مَعًا. وَهَذَا جُزْء يرتبط بحدود التاريخ والقرارات التي يحتمها. وَمَعَ ذَلِكَ، فإن الصُّورَةَ الجَوْهَرِيَّةَ عن يَسُوع، المُقَدَّمَةَ بوصْفِهِ شَخْصِيَّة فَريدة وَمَرْكَزِيَّة فِي خُطَةِ اللهِ، بِرِسَالَةٍ واضِحَةٍ لدعوة النَّاس إِلَى اللهِ مِنْ خِلَالِهِ، تُجسِّد مَا تعلنه هَذِهِ المَصَادِرُ، وَهِيَ مَصَادِرٌ مَغْرُوسَةٌ بِعُمْقٍ فِي التَارِيخِ حتى أنه يُمْكِن سَبْر أَغْوَارهَا وَتقديرُها لِمَا تُخْبِرُنَا بِهِ.

يمكنك تحميل كتيب يسوع التاريخي لداريل بوك من هنا.

شارك مع أصدقائك

أستاذ العهد الجديد في كليّة دالاس للاهوت، وقد ألّف وحرّر أكثر من 45 كتابًا.