التعريف
“التبنّي هو عمل من أعمال نعمة الله المجانية، به نُقبل ضمن أولاد الله، ونصير مستحقين لكل امتيازات أبناء الله.”
(دللي إقرار إيمان وستمنستر المُختصر، السؤال 34)
الملخص
رغم أن كلمة “التبنّي” (باليونانية huiothesia) وردت في الكتاب المقدس خمس مرات فقط، إلا أن معنى التبنّي متأصل في قصد الله ومُصوَّر بشكل رمزي في العهد القديم، ومُتَشابِك في نسيج لاهوت العهد الجديد—وخاصة في كتابات الرسول بولس. ورغم ارتباط التبنّي الواضح بالتبرير والتقديس، إلا أن معناه يتجاوز حدود كليهما. فالتبنّي هو مصطلح يحمل في طيّاته الامتياز والهوية، ويُدخلنا إلى عناصر فائقة لما يقدّمه يسوع في الخلاص، ويُظهِر من هم الذين يتمتّعون بهذه البركات.
بكلمات موجزة ومُفعمة بالوقار، قدّم جي. آي. باكر ملخصًا للإنجيل عبر ثلاث كلمات وهي “التبنّي بواسطة الكفّارة…”. ثم أضاف قائلاً: “لا أتوقّع أبدًا أن أجد تلخيصًا أغنى أو أكثر شمولًا للإنجيل من تلك الكلمات.”[1] لقد تم إرضاء غضب الله العادل ضد الخطاة بشكل كامل بموت ابنه البار الكفّاري وقيامته/تمجيده الذي يُثبِت برّه (رومية 1: 3–4؛ 4: 25؛ تيموثاوس الأولى 3: 16). وبنعمة إلهية، وبينما يحتمل المخلّص غضب الله نيابةً عنا، يدير المخلّص وجه الآب نحونا بمغفرة كاملة (عدد 6: 22–24). يا لها من مصالحة عجيبة!
لكن هذا التعامل المملوء نعمة مع خطايانا وطبيعتنا الخاطئة لا يَستنفِد مضمون الإنجيل. فعمل المسيح الكفّاري من أجلنا ينطوي على بركات أعظم بكثير، مثل مجد التبنّي وغناه. وكما يؤكد الكتاب المقدس، فإننا نحن الخطاة، الذين غُفرت خطاياهم، لا يدخلون ملكوت المسيح كمجرد فقراء، بل نصبح أبناء ملوكيين، وأعضاء في عائلة الله، وإخوة لملك الملوك، لا يستحي الرب يسوع أن يدعوهم إخوة له (عبرانيين 2: 11).
بما أن مفهوم التبنّي يحمل مثل هذا القدر من الأهمية، والمجد والامتياز، فقد نتوقّع أن يظهر مصطلح “التبنّي” (huiothesia) بشكل متكرر في العهد الجديد. ومع ذلك، نجده لا يرد إلا خمس مرات فقط: مرة واحدة في غلاطية، ومرة واحدة في أفسس، وثلاث مرات في رومية. هذه الندرة النسبية (خاصة إذا قورنت بمصطلحات مثل “التبرير”) قد تُغري البعض بالاستنتاج أن التبنّي مفهوم جميل وجذاب، لكنه ربما ليس محوريًا في فهمنا للإنجيل كما صوّره باكر. إذًا، بأي مقياس يستثمر باكر كل هذا الرصيد اللاهوتي من الإنجيل في مصطلح نادر الظهور مثل “التبنّي”؟
لم يكن باكر وحده في هذا التصوّر. فقد نسج كالفن مفهوم التبنّي في كامل كتاباته، وبدرجة من التركيز جعلت بعضهم يصف لاهوته الخلاصي بأنه “إنجيل التبنّي”.[2] وبعد قرن من ذلك، وصف جون أوين التبنّي بأنه “الامتياز الأعظم والمنبع”[3] للخلاص الذي في المسيح. أما في الأزمنة الحديثة، فقد أطلق جون موراي على التبنّي وصف “ذروة النعمة والامتياز.”[4]
ورغم تقديرهم العميق لعقيدة التبرير، أصرّ هؤلاء اللاهوتيون العظام على أن “الرموز الكتابية للخلاص لا تبقى في قاعة المحكمة الكونية (أي التبرير أمام الله الديان)، بل تتقدّم بجرأة وحميمية إلى البيت وقلب الله الأبوي (أي التبنّي). فالله ليس ديّانًا فحسب؛ بل هو أبٌ مليء بالنعمة، والمؤمن لا يقف فقط كمجرم مُبرّر، بل كابن قد تم تبنّيه…”[5] إن استخدام الرسول بولس لمصطلح التبنّي يرشدنا ويعلّمنا أكثر.
التبنّي ومشورة الله
في رسالة أفسس 1، ينطلق الرسول بولس في تسبيح، مبهورًا بعظمة الإنجيل ومجده. فالخلاص، كما يصفه بولس، هو عمل مقرَّر من الآب الأزلي (أفسس 1: 3–6)، تم إنجازه على يد ابن الله (أفسس 1: 7–10)، ويطبقه الروح القدس في حياتنا (أفسس 1: 11–14). وأثناء شهادته على انسجام العمل الخلاصي بين أقانيم الثالوث، يشهد بولس إلى مشورة الله الحكيمة والشاملة التي تحرك التاريخ بأكمله. وجدير بالملاحظة، أن مكانة التبنّي هي في قلب فكر الله الأزلي، “اختارنا فيه قبل تأسيس العالم… إذ سبق فعيّننا للتبنّي” (أفسس 1: 4–5). في إطار أفسس 1، يصبح التبنّي هو التفسير لمعنى التاريخ، والغاية من وراء تجسّد المسيح وعمله الفدائي، وهدف الله النهائي من الخليقة بأسرها. وبينما يشهد بولس على عهد الثالوث السابق للخلق، يكتشف أن غاية التاريخ هي تبنّي شعب الله.
التبنّي وإسرائيل
لا يزال التبنّي بارز بشكل لافت في رسالة رومية 9. فعندما يردّ بولس على الاعتراضات التي أُثيرت بشأن إعلانه عن يسوع المسيّا وبشارته الموجّهة للأمم، يُذكّر إخوته اليهود بالامتيازات التي نالوها، والتي كانت تمهّد لمجيء المسيّا. “أي امتياز استثنائي لم يمنحه الله لهذا الشعب؟”[6] يشير بولس إلى امتيازات بني إسرائيل القدماء كتذوق مُبارك ومسبق للبركات الكاملة والوعود المتحقّقة في زمن العهد الجديد.
للدفاع عن رسالته، يُذكّر بولس قرّاءه بستة أوجه من النعمة التي تمتع بها الشعب منذ أيام الآباء. هذه الامتيازات في العهد القديم تبلغ كمالها وتحقُّقها في المسيح:
الَّذِينَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ، وَلَهُمُ التَّبَنِّي وَالْمَجْدُ وَالْعُهُودُ وَالاشْتِرَاعُ وَالْعِبَادَةُ وَالْمَوَاعِيدُ، وَلَهُمُ الآبَاءُ، وَمِنْهُمُ الْمَسِيحُ حَسَبَ الْجَسَدِ، الْكَائِنُ عَلَى الْكُلِّ إِلهًا مُبَارَكًا إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ (رومية ٩: ٤–٥).
من الملفت أن التبنّي يأتي أولًا في هذه القائمة من العطايا. ورغم أن تبنّي إسرائيل الجماعي لم يكن يحمل العمق والثبات الذين نجدهما في التبنّي الكامل بالمسيح، إلا أن انطلاقًا من القصد الإلهي، كما نرى في أفسس ١، فإن بنوّة إسرائيل تُمثّل المرحلة التمهيدية اللاهوتية والتاريخية للتبنّي الكامل الذي يتحقّق في شخص المسيّا. رغم وجود تناقضات جوهرية بين تبنّي إسرائيل والتبنّي النهائي في المسيح، إلا أن أوجه الاستمرارية واضحة وقوية. فحتى في تطوّره الرمزي، ضمن تاريخ خطة الفداء، يحمل التبنّي دعوة إلى التوافق الأخلاقي والقيّمي. كما أن المفهوم الذي يربط بين التبنّي والطاعة يمهّد لحضور الروح القدس الفعلي في الأزمنة الأخيرة، وهو ذلك الحضور الذي يمكّن المؤمنين من التشبّه بالابن، فيكونوا على صورته، مشابهين له في طاعته الكاملة (رو 8: 29؛ 2 كو 6)”.[7] في خروج ٤: ٢٢–٢٣، يُشار إلى إسرائيل كـ”ابن لله”، وقد أُعطي التزامات، واضحة للإيمان، والطاعة والعبادة. (راجع تثنية ١٤: ١-٢؛ ٣٢: ٥-٦؛ إشعياء ٤٣: ١-٧، ٢٤-٢٧؛ هوشع ١١: ١). لكن فشل إسرائيل في عيش هذه البنوة بطاعة حقيقية، سلّط الضوء على الحاجة العميقة والملحّة إلى المخلّص الآتي—الابن الذي سيحقّق التبنّي ويضمنه لشعب الله.
في مقابل عصيان إسرائيل، وكحلّ له، جاء الابن الذي بلا لوم، ابن الله، ليؤسّس ويثبّت الإيمان والطاعة والعبادة نيابةً عن الأبناء الذين نالوا التبنّي. “لا يصبح التبنّي مفهومًا متماسكًا، ومتكاملاً إلا عندما يُعرَف الآب من خلال الابن بالروح القدس.”[8] لقد كان تبنّي إسرائيل بمثابة زرع للبذرة التي انتظرت اكتمالها بتوقع لبركات التبنّي الكاملة التي أتمّها وضمنها يسوع المسيح.
التبنّي والمسيح يسوع
جاء المسيح، الابن المُرسَل من الآب السماوي، في “ملء الزمان” (غلاطية ٤: ٤)، واتّخذ جسدًا بشريًا “ليفتدي الذين تحت [لعنة] الناموس” (غلاطية ٤: ٥ أ). لكن عمل النعمة الخاص بالفداء كان له هدف واضح، وهو التبنّي! كما يوضح النص في غلاطية ٤: ٥، فإن التبنّي هو أحد الأسباب العظمى التي من أجلها جاء الابن إلى الأرض. فالتبنّي الذي سبق الله وعيّنه قبل تأسيس العالم (أفسس ١)، والذي رُسم ظلاله في اختبار إسرائيل الجماعي (رومية ٩)، هو التبنّي الذي أتمّه الابن المتجسّد. لقد أتى المسيح، وتألم، ومات لكي ينال لنا تبنّيًا كاملاً ونهائيًا.
التبنّي والروح القدس
في الموضعين الآخرين حيث ورد مصطلح التبنّي، يشتدّ وهج النار اللاهوتية المشتعلة أصلًا. فقبل الإصحاح الثامن، لم يذكر بولس الروح القدس سوى خمس مرات في رسالة رومية. لكن في الإصحاح الثامن وحده، يذكره عشرين مرة! وكما في أفسس ١ وغلاطية ٤، يستعرض الرسول التاريخ من بدايته إلى نهايته. وبنظرة ثابتة ومتفائلة نحو ختام هذا التاريخ، يمدح بولس قوة وحضور “روح التبنّي” (رومية ٨: ١٥–١٧)، الذي يُظهِر أبناء الله المُتَبنّين في المسيح (رومية ٨: ١٨–٢٣).
في البنية اللاهوتية القائمة على وعد العهد القديم وتحقّقه في العهد الجديد، يُعتبَر انسكاب الروح دليلًا على أن وعود الله قد تمّت (رومية ٩: ١–٥؛ يوئيل ٢؛ أعمال ٢)، وأن المسيّا وخلاصه الإلهي قد أُعلنا بالفعل (غلاطية ٤: ١–٧). فمن خلال عمل ابن الله، وبالروح الذي أرسله، يحقّق الله مرةً واحدة وللأبد المصير المجيد لشعبه—وهو مصير يُعرَّف بالتبنّي. وبالرجوع إلى الأحداث الحاسمة كونيًّا لعمل المسيح وانسكاب الروح، يعلن بولس بحماس أن “روح التبنّي” قد أُعطي لنا الآن (رومية ٨: ١٥). وهذا الروح نفسه هو الذي سيكمّل المرحلة الأخيرة من التبنّي، أي تحوّل أجسادنا (رومية ٨: ٢٣). ففي انسجام تام مع مشيئة الآب وعمل المسيح، يُعطى لنا روح المسيح ليقودنا نحو تبنّينا المجيد.
التبنّي والهوية
بعد استعراض المواضع الخمسة التي ورد فيها مصطلح التبنّي، واكتشاف دوره الواسع في التعبير عن جوهر الإنجيل، يصعب المبالغة في وصف عظمة هذه النعمة ومجدها. إن عدم ذكر هذا المصطلح بكثرة لا يقلّل من عمقه، بل يقدم اتساعًا أكثر لمعنى هذا المصطلح. إن الإنجيل، كما يراه بولس، في جوهره هو التبنّي.
ومع هذا الامتداد الشامل، فليس من المستغرب أن يُلقي التبنّي بظلاله على باقي بركات اتحادنا بالمسيح ويُشكّل معانيها. وفي هذا السياق، يُبرِز ما يُسمّى بـ”إنجيل التبنّي” عند جون كالفن خيطين متلازمين من نِعَم الإنجيل، عُرفا باسم “النعمتين المزدوجتين(duplex gratia) ” وهما التبرير والتقديس. هاتان النعمتان تقدّمان إجابة على سؤال: “ماهية” عمل يسوع — حيث يحدد التبرير الجانب القانوني من عمل يسوع، بينما يشير التقديس إلى أثره التحويلي في حياتنا. التبنّي يشمل جانبًا أوسع عن “ماذا” أنجز المسيح، لكنه يتجاوز ذلك ليكشف امتيازات جوهرية في ملكوت الله تخص العائلة الملكيّة، وبذلك يقدّم في النهاية إجابة عن “من” هو الذي في قلب رسالة الإنجيل. يكشف التبنّي عن امتيازات هويتنا الروحية الغنية: نحن أولاد الله، إخوة للمسيح، ورثة معه، وشركاء في المُلك ضمن ملكوته.
التبنّي والتبرير
رغم أن كثيرين تعاملوا مع التبنّي كمجرد مرادف للتبرير، إلا أن المفهومين يحملان سمات مميزة وواضحة. تُصوّر الأسفار بوضوح حالة الذنب التي يقع فيها الخطاة أمام الله (مزمور ٣٢؛ ٥١؛ رومية ٣: ٩–٢٠). التبرير يتعامل مع ذنبنا، بحيث ننال الغفران المبارك في المسيح: “طوبى للذي غُفِرَ إثمه وسترت خطيته، طوبى للإنسان الذي لا يحسب له الرب خطية.” (مزمور ٣٢: ١–٢أ). حقًا، يا لها من طوبى. فكل خطايانا تُغفر بالكامل وبالعدل على يد الديّان البار، لأن المسيح يقف عنا كمحامٍ بارّ (رومية ٣: ٢٦؛ يوحنا الأولى ٢: ٢). التبرير يؤكّد موقفنا الصحيح أمام الله، في المسيح ومن خلاله.
التبنّي يصف الخطاة المُبرَّرين بطريقة مختلفة، وإن كانت منسجمة مع التبرير. فالتبنّي في السياق الروماني الإمبراطوري، وهو الإطار التاريخي، في القرن الأول، الذي استخدم فيه بولس هذا المصطلح، يساهم في توضيح مقصده اللاهوتي بشكل لافت. في السياق الروماني، كان التبنّي وسيلة لضمان استمرارية السلالة الإمبراطورية. فعندما يرى الإمبراطور أن أولاده البيولوجيين غير مناسبين لخلافته، كان يختار ابنًا بالتبنّي من خارج عائلته المباشرة ليكون الوريث للعرش. وكان الإمبراطور يختار هذا الابن بناءً على تميّزه الظاهر، وصفاته الأخلاقية الواضحة، واعتماديته المُثبتة عبر الزمن. عندما يتبنّى الإمبراطور هذا الابن البالغ الذي أثبت نفسه، يرث الابن المملكة بأكملها ويُعيَّن ليتسلّط عليها.
والتشبيه بالإنجيل هنا في غاية الجمال والروعة. فكما يتّضح من البنية اللاهوتية الممتدة من العهد القديم إلى العهد الجديد في فهم بولس للخلاص، يقوم الله بنقل الخطاة المغفور لهم إلى ملكوت المسيح (كولوسي ١: ١٣). يفتح بولس أمامنا كنزًا من البركات الروحية في السماويات (أفسس ١: ٣)، وهي بركات يشترك فيها المسيح مع عائلته المُتَبَنّاة. أبناء الله المُبرَّرون لا ينالون فقط الغفران، بل ينالون الميراث الكامل، بل ويشاركون في المُلك مع يسوع المسيح، ملك الملوك ورب الأرباب. وهكذا، فنحن من نلنا روح التبنّي، نشارك في المُلك لأن الله “أقامنا معه، وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع” (أفسس ٢: ٦).
التبنّي والتقديس[9]
إن القداسة هي من الثمار الأساسية لعمل الروح في حياة شعب الله. وبالنظر نحو الكمال المستقبلي والتشبه الكامل بصورة يسوع المسيح (رومية ٨: ٢٩)، يربط بولس بين النمو في القداسة وعمل روح التبنّي.
“فإذًا أيها الإخوة، نحن مديونون، ليس للجسد لنعيش حسب الجسد. لأنه إن عشتم حسب الجسد فستموتون. ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون. لأن كل الذين ينقادون بروح الله، فأولئك هم أبناء الله. إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف، بل أخذتم روح التبنّي، الذي به نصرخ: يا أبا الآب!” (رومية ٨: ١٢–١٥).
مع كون روح التبنّي هو الدافع الداخلي والمُمكِّن لنا، تصبح طاعة الله مصدر فرح وليس عبء. فبالنسبة لابن الله، وصايا الآب ليست ثقيلة (١ يوحنا ٥: ٣). في هذا الموضع، يبرز سؤال “من نحن” في صميم رسالة الإنجيل. فالمؤمنون، وقد تحرّروا من سيادة الخطية عليهم (رومية ٦: ١٤)، صاروا كأبناء مُتَبَنّين أحرارًا للطاعة (غلاطية ٥: ١)، ويسعون بفرح لإماتة الخطية وأعمال الجسد المتبقية في حياتهم (رومية ٨: ١٣). ويعتمد النجاح في هذا الصراع بالكامل على روح التبنّي الساكن فينا (رومية ٨: ١٥).
بولس لا يجمّل الكلام: فبدون التقديس، لا توجد حياة روحية حقيقية. ولهذا، فإن وجود روح التبنّي في حياة المؤمن هو ما يجعل أبناء الله يتقدّمون فعليًّا في مسيرة التقديس (انظر عبرانيين ١٢: ١٤). كما قيل: “إن نشاط المؤمن في مقاومة الخطية هو دليل على عمل الروح فيه، وعمل الروح هو السبب في هذا النشاط.”[10] فبفضل عمل روح التبنّي، ينمو أولاد الله في قداسة المسيح.
التبنّي والتمجيد
بينما نتمتع بحضور روح التبنّي المنسكب فينا، نستريح في برّ المسيح، ولكننا في الوقت ذاته نجد أنفسنا نتوق بلهفة متزايدة إلى الكمال والتشبّه الكامل بصورة المسيح. وتُقدّم نعمة التبنّي إجابة مدهشة على هذا الاشتياق العميق الذي يسكننا. ففي اليوم الأخير، وبروح التبنّي، “سيُغيّر الرب يسوع المسيح شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده” (فيلبي ٣: ٢٠ب–٢١أ). سوف نصير أبناء مُمَجَّدين، نُشبه أخينا البكر المُمَجَّد، بل نصير مثله: “ولكن نعلم أنه إذا أُظهر نكون مثله” (١ يوحنا ٣: ٢ب). وفي الروح المُحيي (١ كورنثوس ١٥: ٤٥)، سنبلغ التبنّي الكامل في نهايته المجيدة: “التبنّي، فِداءَ أجسادِنا” (رومية ٨: ٢٣ب). سيُتوّج روح المسيح تبنّينا بالتمجيد، أي بالتحوّل الكامل إلى صورة ابن الله القائم من بين الأموات (رومية ٨: ١٧، ٢٩).
التبنّي وبركة العائلة
رغم أن التبنّي يحمل بُعدًا شخصيًّا عميقًا، إلا أنه ليس امتيازًا فرديًا خاصًا. فجميع المؤمنين متحدون في المسيح ذاته، وبنفس روح التبنّي. إن روح التبنّي هذا هو الذي يُنشئ ويُغذّي شركة جسد المسيح، (أي الإخوة والأخوات في كنيسة المسيح)، الذين يحبون بعضهم البعض (أفسس ٤: ٢)، ويغفرون (أفسس ٤: ٣٢)، ويشجّعون بعضهم البعض (١ تسالونيكي ٥: ١١). هذه الممارسات العائلية، والوحدة التي تقوم على أساسها تعتمد كلّيًا على التبنّي الصافي الذي أتمّه ابن الله من أجل إخوته، “لكي يكون هو بكراً بين إخوةٍ كثيرين” (رومية ٨: ٢٩ب).
علاوة على ذلك، يشرق “التبنّي في المسيح” بنور مجيد في النفوس المحبطة والمُثقَلة بالظلمة. يصف سنكلير فيرغسون ردّة الفعل اللفظية التي يصرخ بها الروح القدس في قلوب أولاد الله في وسط الألم، عندما يصرخون نحو أبيهم: “إن هذه الصرخة البنويّة [يا أبا الآب] لا تنبع فقط من لحظات النشوة الروحية، بل تُعبّر أيضًا عن أعمق لحظات الاحتياج.”[11] استخرج البيوريتان (حركة إصلاحية) كنوز التبنّي الرعوية العميقة. ففي التبنّي، اكتشفوا – ويجب أن نكتشف نحن أيضًا من جديد، بروح التبنّي – يقينًا عجيبًا وعزاءً في أشد الأيام ظلمة: “عندما يثقلنا الشعور بالخطية، أو يُهاجمنا إبليس، أو يغوينا العالم، أو تزعجنا مخاوف الموت، يشجّع البيوريتان المؤمنين على أن يلوذوا بأبيهم السماوي العزيز.”[12]
توفر ملامح التبنّي المجيدة لعائلة الله موارد روحية عذبة بقدر ما هي مدهشة. فالقديسون الذين غُفرت خطاياهم وتقدّسوا، هم أبناء الله المُتَبَنّون— وهم يتزيّنون بامتيازات مَلَكية عائلية، وراحة وعزاء لا ينقطع، ومجد يفوق الوصف.
[1] J. I. Packer, Knowing God, 20th anniversary edition (Downers Grove, IL: IVP, 1993), 214.
[2] Brian A. Gerrish, Grace and Gratitude: The Eucharistic Theology of John Calvin (Edinburgh: T&T Clark, 1993), 89.
[3] John Owen, Of Communion, (https://www.ccel.org/ccel/owen/communion.i.vii.x.html)
[4] John Murray, Redemption Accomplished and Applied, 134.
[5] David B. Garner, Sons in the Son: The Riches and Reach of Adoption in Christ (Phillipsburg, NJ: P&R, 2016), 25.
[6] Nygren, Romans, 356, emphasis added.
[7] David B. Garner, Sons in the Son, 165.
[8] Sinclair B. Ferguson, “Some Reflections on the ‘First Title’ of the Holy Spirit,” in The Holy Spirit and Reformed Spirituality (ed. Joel R. Beeke and Derek W. H. Thomas; Grand Rapids: Reformation Heritage, 2013), 105.
[9] David B. Garner, Sons in the Son, 112–113.
[10] John Murray, The Epistle to Romans (2 vols. Combined; Reprint, Grand Rapids: Eerdmans, 1997), 1:295.
[11] Ferguson, ‘First Title’, 107.
[12] Joel R. Beeke and Mark Jones, A Puritan Theology: Doctrine for Life (Grand Rapids: Reformation Heritage, 2012), 554.