لَطَالَمَا تَصَدَّى المسيحيون الإنجيليون بوجهٍ عام لمسألة تفسير الأناجيل بمنأى عن العناصر التي يعتبرها البعض أسطورية وخيالية وغير حقيقية، والتي يَتِمُّ فيها تفسير قيامة يسوع، على سبيل المثال لا الحَصْر، على أنَّها تصويرٌ خياليٌّ أسطوريٌّ لمبدأ الحياة الجديدة. في الواقع، جادَلَ الإنجيليون بقوة أنَّ مسألة تاريخية القيامة بالتحديد هي لُبُّ الموضوع. ولكن فيما يَخُصُّ الشخصيات الكتابية لآدم وحواء، كان هناك استعدادٌ أكبرُ بِكَثِيرٍ لتفسيرها على أنَّها شخصياتٌ أسطوريةٌ أو رمزيةٌ.
يَهدِف هذا المقال ببساطة إلى توضيح أنَّه من الضروريّ كتابيًّا ولاهوتيًّا أن يؤمن المسيحيون بآدم باعتباره شخصًا تاريخيًّا خَرَجَ من صُلْبِه كُلُّ الجنس البشري، وأنَّ هذا ليس بالأمر الهامشيّ الذي يَشْغَل فقط المُفرِطين في التدقيق مِمَّنْ يُفَسِّرون الكتاب المقدس حَرْفِيًّا.[1]
كان آدم شخصًا تاريخيًّا
الأَدِلَّة الكتابيّة
تَستَخدِم الإصحاحات الأولى من سفر التكوين كلمة «’ādām» أو «آدم» أحيانًا لتعني «الجنس البشري» (مثل تك ١: ٢٦، ٢٧)، وبالنظر إلى البِنْيَة الأدبية الواضحة لتلك الإصحاحات، ذهب البعض لِيَرَى شخصية آدم كأداةٍ أدبيةٍ بدلًا من أن يروه كشخصٍ تاريخيٍّ، وهذا يطرح بالفعل سؤالًا: هل يجب علينا الاختيار بين هذا أو ذاك؟ ألا يجتمع الاثنانِ؟ نَرَى في جميع أنحاء الكتاب المقدس حالاتٍ تَمَّ فيها استخدام أدواتٍ أدبية لتقديم مادةٍ تاريخيةٍ: فَكِّرْ مَثَلًا في مجيء نيقوديموس إلى يسوع ليلًا، أو فَكِّرْ في التركيز الموجود في الأناجيل على موت يسوع في وقت الفصح. إنَّ مُعظَم المُفَسِّرين على أَتَمِّ الاستعداد للاعتراف باستعمال الكتاب المقدس في بعض الأحيان لأدواتٍ أدبيةٍ بِغَرَضِ لَفْتِ انتباهنا إلى المَغْزَى اللاهوتي من الأحداث التاريخية التي يَسْرُدُها؛ فلا يَستَلزِم «الأدبيّ» استبعاد «الحَرْفِيّ» (التاريخي).
يجب أن يكون السؤال التالي إذًا هو: هل يَستَبعِد «الأدبيُّ» «الحَرْفِيَّ» في حالة آدم؟ والإجابة هي أنَّ الأجزاء الأخرى في الكتاب المقدس التي تُشير إلى آدم لا تُعَبِّر عن ذلك؛ فسلاسل الأنساب المذكورة في (تك ٥؛ ١أخ ١؛ لو ٣) تَرَى جميعها آدم الأب الأول، وبينما تُسقِط سلاسل الأنساب الكتابية بعض الأسماء في بعض الأحيان لأسبابٍ مختلفةٍ، فإنَّه من غير المعروف عنها أنَّها تُضيف أسماء شخصيات خيالية أو أسطورية. كذلك، عندما عَلَّمَ يسوع عن الزواج في (مت ١٩: ٤–٦)، وعندما أشارت رسالة يهوذا إلى آدم في (يهوذا ١٤)، لم يستخدما أيَّة محاذير أو أيَّ شيءٍ يُشير إلى شَكِّهما في حقيقة كَوْنِ آدم شخصًا تاريخيًّا أو يُشير إلى اختلاف رؤيتهما له بأيِّ شكلٍ من الأشكال عن رؤيتهما لباقي شخصيات العهد القديم. وعندما يتحدث بولس أيضًا عن جَبْلِ آدم أولًا، ثم مجيء المرأة منه (١كو ١١: ٨، ٩؛ ١تي ٢: ١١–١٤)، فمن المُؤَكَّد أنَّه كان يفترض أنَّ ما وَرَدَ في (تكوين ٢) هو سَرْدٌ تاريخيٌّ لِمَا حدث، وإلَّا كانت سَتَنْهار حُجَّتُه تمامًا وتُصبِح بلا معنى إذا قَصَدَ أنَّ آدم وحواء كانا مُجَرَّد رَمْزَيْنِ أُسْطُورِيَّيْنِ للحقيقة الخالدة التي تقول إنَّ الرجال سَبَقوا النساء في الوجود.
الضرورة اللاهوتِيَّة
يمكننا اعتبار المقاطع الكتابية المذكورة أعلاه أَدِلَّةً ظَرْفِيَّةً[2] على أنَّ كُتَّاب الوحي رأوا آدم شخصًا حقيقيًّا كان موجودًا تاريخيًّا، وهذه الأَدِلَّة الظَّرْفِيَّة نافِعةٌ وهامةٌ، ولكن لدينا من الأَدِلَّة ما هو أكثر حَسْمًا؛ حيث إنَّ الدور الذي يلعبه آدم في لاهوت بولس يجعل حقيقة تاريخية آدم جزءًا لا يتجزأ من القصة الأساسية للإنجيل، وإذا كان الأمر كذلك، فلا يمكن اعتبار تاريخية آدم قضيةً جانبيةً، بل هي مُكَوِّنٌ رئيسيٌّ في أساسات الإيمان المسيحي.
رومية ٥: ١٢–٢١
والمُسْتَنَد الأول الذي سَنقوم بِعَرْضِهِ هو (رومية ٥: ١٢–٢١)، حيث يُبرِز بولس الفرق بين خطية «الإِنْسَانِ الْوَاحِدِ» (آدم)، وبِرِّ «الإِنْسَانِ الْوَاحِدِ» (المسيح). وإذا أخذنا بِعَيْنِ الاعتبار أنَّ بولس هو ذلك الرسول الذي شَعَرَ أنَّه من الضروري توضيح الفارق، الذي يبدو دقيقًا للغاية، بين «نَسْل» بصيغة المفرد و«أَنْسَال» بصيغة الجمع (غل ٣: ١٦)، فَلَنْ نكون مخطئين على الأرجح إذا افترضنا أنَّ هذا الرسول لم يَكُنْ يقصد «البشر» وهو يتكلم عن «الإِنْسَانِ الْوَاحِدِ»، غيرَ مُدرِكٍ ماذا يقول أو مُتَحَدِّثًا باندفاعٍ وبلا تَرَوٍّ أو تفكيرٍ. في الواقع، نَجِد بولس يضع «الإِنْسَانَ الْوَاحِدَ» بصفةٍ متكررةٍ في مقابلةٍ مع الكثير من البشر (الْكَثِيرِينَ)، وأيضًا تقوم حُجَّة بولس ذاتها على فكرة «الواحِد»؛ حيث تدور هذه الحُجَّة في الأساس حول إطاحة الخلاص الواحد الذي قَدَّمَه الإنسان الواحد (المسيح) بالخطية الواحدة التي ارتكبها الإنسان الواحد (آدم) من المُلْكِ على حياة الكثيرين.
نُلاحِظ أنَّ بولس في هذا المقطع الكتابي بِرُمَّتِهِ يتحدث عن آدم بنفس الطريقة التي يتحدث بها عن المسيح. ونَجِد أيضًا تَشَابُهًا بين لغة بولس هنا في الحديث عن مجيء الموت «من خلال» آدم إلى العالم، وبين طريقة حديثه في غلاطية ٣ عن مجيء البركة «من خلال» إبراهيم لِمَنْ هو مِنْ إيمان إبراهيم. يستطيع بولس كذلك الحديث عن وقتٍ قبل خطية هذا الإنسان الواحد عندما لم تَكُنْ هناك خطيةٌ أو موتٌ، ويستطيع الحديث أيضًا عن وقتٍ بعد خطية هذا الإنسان الواحد: تِلْكَ الفترة المُمْتَدَّة من آدم إلى موسى. في واقع الأمر، لم يوجد ما هو أَوضَح من ذلك ليقوله بولس عن اعتقاده بأنَّ آدم كان شخصية حقيقية وتاريخية تمامًا مثل المسيح ومثل موسى (ومثل إبراهيم). ليست لغة بولس فَحَسْب هي ما تُشير إلى إيمانه بآدم تاريخيٍّ، بل إنَّ حُجَّتَه بالكامل تعتمد على ذلك؛ فإذا كان بولس يَعقِد مقارنةً بين إنسانٍ تاريخيٍّ (المسيح) وآخَرَ أسطوريٍّ أو رمزيٍّ (آدم)، لَانْهَاَرَ مَنْطِقُه بِجُمْلَتِهِ، وإذا كان آدم وخطيته مُجَرَّد رموز، فَمَا الداعي حِينَئِذٍ لكَفَّارةٍ تاريخيةٍ؟ فكَفَّارةٌ أسطوريةٌ سَتَفي بالغرض لإبطالِ ما خَلَّفَه سقوطٍ أسطوريٍّ. بالإضافة إلى ذلك، إذا اعتبرنا آدم شخصيةً أسطوريةً، فقد يكون المسيح هو الآخَر (وفي الواقع، سيكون أفضل له أن يكون كذلك) مُجَرَّد رمزٍ للغفران الإلهي والحياة الجديدة. لكن تدور قصة بولس بدلًا من ذلك حول مشكلةٍ تاريخيةٍ تَتَمَثَّل في دخول الخطية والذنب والموت إلى الخليقة، وهي المشكلة التي اِسْتَلْزَمَتْ حلًّا تاريخيًّا.
إنَّ استبعاد هذه المشكلة التاريخية المُتَعَلِّقَة بخطية آدم لن يستبعد فقط الأساس المنطقي للحل التاريخي المتمثل في الصليب والقيامة، بل سَيُفقِد أيضًا إنجيل بولس مَلامِحَه جُمْلةً وتفصيلًا. من أين أَتَت إذًا الخطية والشر؟ إذا لم تَكُنْ الخطية والشر نتيجة معصيةٍ ارتكبها إنسانٌ واحِدٌ، فيبدو أنَّنا أمام خِيارَيْنِ لا ثالث لهما: إمَّا أنَّ الخطية كانت موجودة مُسْبَقًا، والشر هو جزءٌ لا يتجزأ من خليقة الله، أو أنَّها شيءٌ فرديٌّ يأتي تقريبًا من العَدَم إلى العالم من خلال كلِّ شخصٍ على حِدَة. يُعَدُّ الخِيار الأول غير مسيحيٍّ على نحوٍ سافِرٍ في إنكاره الأُحادِي أو الثُّنائي لخالقٍ صالحٍ وخليقته الصالحة، بينما يبدو الخِيار الثاني بيلاچِيًّا[3] حيث يصير الأفراد الصالحون بالطبيعة- أي الذين يملكون القدرة الأخلاقية على الاختيار بين فِعْلِ الخير أو الشر- خطاةً إذا حَذوا حَذْوَ آدم (ومن المُفْتَرَض أن يصيروا أبرارًا إذا حَذوا حَذْوَ المسيح).
كورنثوس الأولى ١٥: ٢١، ٢٢؛ ٤٥–٤٩
المُسْتَنَد الثاني الذي سَنقوم بِعَرْضِهِ، والذي يَشْهَد على أهمية تاريخية آدم كَحَجَر أساس في لاهوت بولس هو (كورنثوس الأولى ١٥: ٢١، ٢٢؛ ٤٥–٤٩). مرةً أخرى، يُقَدِّم بولس شرحًا مُفَصَّلًا لتوازٍ شديدٍ بين الإنسان الأول (آدم) الذي به أتى الموت، والإنسان الثاني أو الأخير (المسيح) الذي به تأتي الحياة الجديدة. مرةً أخرى، يتحدث بولس عن آدم بنفس الطريقة التي يتحدث بها عن المسيح. مرةً أخرى، يرى بولس آدم مصدرَ الموتِ كما أنَّ المسيح مصدرُ الحياةِ.
نَجِد بولس، في هذه الجزء من رسالة كورنثوس الأولى، في ذُرْوَةِ حُجَّةٍ طويلةٍ يُعالِج من خلالها مشكلاتٍ واجهها المسيحيون الكُورِنْثِيُّونَ فيما يتعلَّق بقيامة الجسد، ومن أجل إعطائهم الجواب الشافي لمشاكلهم الرَعَوِيَّة؛ شَرَعَ بولس في منحهم الثقة في واقِع قيامتهم الجسدية في المستقبل من خلال عرض الحقيقة التاريخية لقيامة يسوع الجسدية، فالحقيقة التاريخية لقيامة يسوع تُمَثِّل محور رَدِّ بولس. وإذا كان الأمر كذلك، ستكون قِمَّة الحماقة البلاغية أن يُوَازِي بولس بين آدم والمسيح إذا كان يعتقد أنَّ آدم كان شخصيةً أسطوريةً؛ فإذا صَلَحَ أن يكون الاثنانِ مُتَوَازِيَيْنِ، لَصَلَحَ حينها تفسير قيامة المسيح هي الأخرى على أنَّها أمرًا أسطوريًّا؛ وبذلك سيَفقِد خطاب بولس بأكمله فكرته الرئيسية، وغرضه، وقُوَّته وتأثيره.
إذا كان ما قَدَّمْتُه الآن عَرْضًا دقيقًا للاهوت بولس في هذه المقاطع الكتابية، فإنَّ مسألة استبعاد آدمَ التاريخيّ من إنجيل بولس وبقاء هذا الإنجيل على حاله هي ببساطةٍ مسألةٌ مستحيلةٌ؛ فسيؤدي القيام بذلك إلى إتلاف هذا الإنجيل كُلِّيًّا من خلال اعتبار كلِّ ما يحويه غيرَ تاريخيٍّ، مُسْتَوْجِبًا بذلك إقحام روايةً مختلفةً عن أصل الشر تَتَطَلَّب طريقًا مختلفًا تمامًا للخلاص.
هل هناك حَلٌّ وَسَطٌ؟
اقترح (دِنِس ألكسندر)- مُتَوَسِّعًا في جوهرِ نظريةٍ طَرَحَها (چون ستوت) في كتابه «Understanding the Bible» (صفحة ٤٩)- أنَّ هناك طريقًا لتجنب الانقسام الحاد بين وجهة النظر التقليدية التي تعتقد أنَّ آدم شخصٌ تاريخيٌّ، ووجهة النظر الأخرى التي تقول إنَّ مثل هذا الموقف لا يمكن تبريره علميًّا في وقتنا الحالي (في كتابه «Creation or Evolution: Do We Have to Choose?»، الفصول: ٩، ١٠)، ويَتَمَثَّل هذا الطريق في أنَّه بينما ينبغي علينا بِكُلِّ تأكيدٍ أن نَرَى آدم كشخصيةٍ تاريخيةٍ، نحن لسنا في حاجةٍ إلى الاعتقاد أنَّه كان الإنسان الأول؛ حيث يَتَبَنَّى النموذج التفسيري الذي يُفَضِّله (ألكسندر) أنَّ ‹البشر بشكلهم التشريحي الحديث›[4] ظهروا منذ مِئَتَي ألفِ عامٍ، وكانت اللغة موجودة منذ خمسين ألفِ عامٍ، ثم منذ ما يتراوح بين ستة آلاف إلى ثمانية آلاف عامٍ، اختار الله اثنينِ من مُزارِعي العصر الحجري الحديث، وأعلن لهم عن نفسه لأول مرة؛ وهكذا شَكَّل الله ‹Homo divinus› أو ‹البشر الإلَهِيِّينَ›: أوَّلُ البشرِ الذين يعرفون الله ويكونون أحياءً روحيًّا.
من المُؤَكَّد أنَّ هذا النموذج التفسيري يُمَثِّل تَوْلِيفًا مُبْتَكَرًا وذَكِيًّا بين الرأيَيْنِ السالِف ذِكْرهما، مُتَفَادِيًا ببراعةٍ الهُوَّة اللاهوتية التي أحدثها إنكار آدم التاريخيّ؛ لكنَّه على الجانب الآخر خلق لنفسه مشاكلَ عويصةً جديدةً. تَبْرُز المشكلة الأولى في هذا النموذج من السؤال المُتَعَلِّق بكيفية النظر إلى مُعاصِري آدم، أولئك البشر بشكلهم التشريحي الحديث الذين يقول عنهم (ألكسندر) إنَّهم كانوا بالفعل يسكنون العالم لعَشَرَات الآلاف من السنين. إنَّه يُناوِر بحكمةٍ بعيدًا عن فَهْمِهم على أنَّهم أيُّ شيءٍ أقل من كَوْنِهم بشرًا بالكامل، مُؤَكِّدًا بشكلٍ قاطِعٍ على أنَّ «البشرية جَمْعَاء دون أيِّ استثناء مخلوقةٌ على صورة الله بما في ذلك بالطبع جميع الملايين الآخرين من البشر الذين كانوا يعيشون في العالم في العصر الحجري الحديث» (صفحة ٢٣٨). إنَّ التصريح بِغَيْر ذلك كان من شأنه الإيقاع به في مأزقٍ غير سارٍ على نحوٍ خاص: وهو أنَّ السكان الأصليين لأستراليا، الذين يعتقد ألكسندر أنَّهم كانوا يعيشون بالفعل هناك منذ أربعين ألفِ عامٍ قبل ولادة آدم وحواء، سيهبطون إلى مَرْتَبَة الحيوانات غير البشرية. ومن المُفْتَرَض أن يكون والِدو آدم وحواء، وهُمْ أيضًا حيواناتٌ غيرُ بشريةٍ، مصدرًا شرعيًّا للغذاء- جنبًا إلى جنبٍ مع الأستراليين الأصليين- للـ ‹Homo divinus› أو ‹الإنسان الإلهي› الجائع.
وبينما يحاول ألكسندر تَجَنُّب كلِّ هذا، يَتَعَثَّر مُقْتَرَحُهُ في أرضٍ أَشَدَّ خطورةً في واقع الأمر من تلك التي أراد الابتعاد عنها. تأتي الخطوة الحاسمة عندما يبدأ ألكسندر في شرح ما هو بالضبط الذي أفرز آدم وحواء جانبًا عن مُعاصِريهما؛ حيث يقترح ألكسندر أنَّه عندما وُلِدَ آدم وحواء، كان هناك بالفعل عددٌ ضخمٌ من السكان في العصر الحجري الحديث، والذين كانوا جميعهم على صورة الله، لكن الذي حدث بعد ذلك ليُفرِز آدم وحواء جانبًا كـ ‹Homo divinus› أو ‹بشرٍ إلَهِيِّينَ› كان ببساطةٍ أنَّه «من خلال إعلان الله لآدم وحواء… أصبح فَهْمُ ما الذي عَنَتْهُ حَقًّا تلك الصورة من الناحية العملية واضحًا لهم» (صفحة ٢٣٨). لم يَكُنْ الأمر إذًا أنَّ الله قام الآن بخلق آدم وحواء على صورته؛ فَلَقَدْ كانوا بالفعل مولودين على صورة الله، ونسلَ سلسلةٍ طويلةٍ من حامِلي صورة الله؛ وإنَّما كان الفرقُ هو أنَّهم الآن فهموا ما عَنَاهُ ذلك (علاقةٌ شخصيةٌ مع الله).
إنَّ المشكلة الأولى التي تواجه هذا المنظور هي مشكلةٌ كتابيةٌ؛ فَنَرَى في (تكوين ١، ٢) أنَّ آدم وحواء على وجه التحديد والتخصيص هُم الذين يقوم الله بخلقهم على صورته (الحدث المذكور في تك ١: ٢٧ يُقَدِّمه الوحي مرةً أخرى بتفاصيلَ جديدةٍ في تك ٢: ١٨–٢٥)، فالأمر ليس مُجَرَّد أنَّ الله خَلَقَ بعض الكائنات على صورته، وأنَّه لاحقًا سيكون مُمكِنًا لاثنينِ من نسلهم إدراك معنى هذا؛ لكنَّ الأمر في واقِعِهِ على العَكْسِ تمامًا من ذلك، فيبدو أنَّ (تك ٢: ٧) يُمَثِّل خروج النص عن مَسَارِهِ لإعطاء أهميةٍ إضافيةٍ لعملِ خلقٍ خاصٍّ ومُباشِرٍ لإحضار الإنسانِ، آدمَ، إلى الوجود. يمكن اعتبار تلك المشكلة الكتابية قابِلةً للحل، ولكنَّ هذا المنظور خَلَقَ في الحقيقة مشكلةً ثانيةً لاهوتية الطابِع يبدو حَلُّها أمرًا مُسْتَعْصِيًا، وهي أنَّه إذا كان البشر على صورة الله بالفعل قبل آدم وحواء، فنحن أمامَ أَحَدِ سِيناريُوهَيْنِ: إمَّا أنَّه كان هناك قبل آدم وحواء أَوَّلُ إنسانٍ نَالَ صورة الله، وفي هذه الحالة سيكون لدينا اثنانِ من آدم: أولهما هو أَوَّلُ كائِنٍ كان بالفعل على صورة الله، وثانيهما هو آدم الذي هو أَوَلُّ إنسانٍ على صورة الله يُدرِك مَا عَنَاهُ ذلك، أمَّا السِّيناريُو الثاني فهو أنَّه إذا كانت صورة الله شيئًا تَطَوَّر ببطءٍ في البشرية عَبْرَ الزمن، فسينتهي بنا الحال عِنْدَئِذٍ بمجموعةٍ من البشر الذين يُعْتَبَرُ كلٌّ منهم أَوَلَّ إنسانٍ على صورة الله، ونَجِد أنفسنا أمام العديد من آدم.
وبِغَضِّ النظر عن الصعوبة البالِغة لهذا الموقف، فإنَّ تَبِعَاتِهِ ستَتَوالَى سريعًا؛ فإذا كان الوجود على صورة الله، حَسْبَما يُؤَكِّد ألكسندر، يعني أن تكون في علاقةٍ شخصيةٍ معه، فلا بُدَّ أنَّ كُلَّ هؤلاء البشر الذين على صورة الله قبل آدم وحواء، والذين لم يَتَلَقَّوْا الإعلان عن ما عَنَاهُ ذلك، كانوا يعيشون في الخطية؛ فبينما هُمْ مخلوقون على صورة الله ليكونوا في علاقةٍ معه، لم يكونوا في الواقع في علاقةٍ معه. إنَّ الصورة التي يرسمها ألكسندر هي في الحقيقة صورةٌ لبشريةٍ مُنْغَمِسَةٍ في الوثنية مع أنَّه لا يستخدم تلك الكلمة بِحَصْرِ اللفظ؛ فَنَجِده يقول: «كانت المعتقدات الدينية موجودة قبل هذا الوقت [وقت آدم وحواء]؛ حيث سعى الناس وراء الله أو وراء آلهةٍ في أنحاءٍ مختلفةٍ من العالم، مُقَدِّمينَ تفسيراتهم الخاصة لمعنى حياتهم» (صفحة ٢٣٧). وبهذا نجد أنَّ النموذج التفسيري الذي يُفَضِّله ألكسندر يحتوي بالفعل على خطيةٍ قبل السقوط.
مِن المُفْتَرَض أنَّ الله قد تجاهل تلك الخطية (ولكن على أيِّ أساسٍ فعل الله ذلك؟ لا يُخبِرنا ألكسندر)، ولكن إذا فعل الله ذلك، فسيصطدم هذا بما يقوله بولس في (رومية ١: ١٨–٣٢) حيث يُوَضِّح أنَّ غضب الله قائِمٌ ضد كُلِّ البشرية، ليس بسبب عدم الالتفات لإعلانٍ مُعَيَّنٍ عن معنى الوجود على صورة الله؛ وإنَّما بسبب عدم الاعتراف بإعلانِ الله عن نفسه الذي أَظْهَرَهُ في الخليقة منذ أن خَلَقَها. في الواقع، وبالنظر إلى (رومية ١: ١٨ والآيات التي تليها)، يبدو أنَّ ‹Homo sapiens› أو ‹البشر العاقلين› المُتَدَيِّنين/الوثنيين الذين عاشوا قبل آدم في نموذج ألكسندر كانوا حَتْمًا تحت غضب الله. ولكن حتى لو أمكن تَوْفيق (رومية ١) مع هذا النموذج، فَعَلَى أقل تقديرٍ مُمْكِنٍ، سيبدو من الغريب حقًّا أن يخلق الله الفرصة للخطية والوثنية وهو لم يُوَفِّر بَعْدُ أيَّ إمكانيةٍ للبِرِّ والمعرفة الحقيقية بشخصه مِثْلَمَا سيفعل لاحِقًا مع آدم.
وماذا عن آدم نفسه؟ لا بُدَّ أنَّه كان إنسانًا خاطئًا بالفعل عندما اختاره الله ليَتَلَقَّى الإعلان عن معنى الوجود على صورة الله؛ فهو لم يَكُنْ في علاقةٍ مع الله حَسْبَما خَلَقَه الله ليكون. والسؤال هنا هو: هل أُعْلِنَ آدم آنَذَاك بلا خطيةٍ مُؤَقَّتًا؟ أم كان آدم دائمًا إنسانًا خاطئًا، والفرق الوحيد في أحداث (تكوين ٣) هو أنَّه أخطأ للمرة الأولى عن عِلْمٍ؟ وإذا كان الاختيار الثاني، فلماذا كان مُمْكِنًا رَفْعُ اللوم والذنب عن خطية آدم السابقة التي ارتكبها دون أن يكون واعِيًا بها، بينما يقول الوحي لاحقًا إنَّه حتى الخطية التي يرتكبها الشخص دون أن يكون واعِيًا بها تجلب الذنب عليه (لا ٥: ١٧؛ مز ١٩: ١٢)؟
إنَّ حقيقة أنَّ الله يخلق الفرصة للخطية قبل أن يخلق أيَّ فرصةٍ لمعرفته بوقتٍ طويل تعكس الأمر الأكثر إزعاجًا رُبَّما في هذا التَّوْليف الذي يطرحه ألكسندر: فَنَجِد الله هنا يبدو كإلهٍ مُجْبَرٍ بشكلٍ ما على العمل في وضعٍ أقل من أن يُعْتَبَر مثاليًا. يشعر المَرْء في الواقع خلال قراءته لمُقْتَرَح ألكسندر بكامِلِهِ أنَّ على الله العمل وفقًا لقواعد شخصٍ آخر كما لو كان يعمل في عالَمٍ يَخُصُّ شخصًا آخر، وليس عالَمَهُ.
يظهر هذا الأمر بوضوح في تعليقات ألكسندر على خَلْقِ المرأة؛ فهو يرى أنَّ حواء كانت شخصًا موجودًا بالفعل ذا أَبَوَيْنِ بَشَرِيَّيْنِ تمامًا مثل آدم، فَهْيَ لم تُؤخَذ جسديًّا من جَنْبِ (ضِلْع) آدم؛ لكن يقول ألكسندر إنَّ الغرض من (تكوين ٢: ٢١) بدلًا من ذلك هو تأكيد التَّكَامُل بين الذَّكَر والأُنثَى (صفحة ١٩٧). يُعَدُّ هذا بلا شكٍّ أَحَدَ أغراض هذا النص الكتابي، ولكنَّ ألكسندر من خلال جَعْلِهِ (تكوين ٢: ٢١) أسطوريًّا/رمزيًّا فقط، يُصبِح عاجِزًا عن إيجاد أيَّ واقِعٍ وُجُودِيٍّ يبني عليه ذلك المعنى الخاص بالتَّكَامُل بين الذَّكَر والأُنثَى. إذا كان لحواء أصلٌ جسديٌّ مُسْتَقِلٌّ عن آدم، فبينما قد يرغب الله لأسبابٍ غامضةٍ خاصة به في تأكيد التَّكَامُل بين الذَّكَر والأُنثَى، لن يكون لديه أساسٌ وُجُودِيٌّ للقيام بذلك. بعبارةٍ أخرى، إنَّ تأكيد الله هنا (وعلى المَرْء افتراض أنَّ بعض تأكيداته الأخرى على الأقل) يَسْبَحُ بعيدًا عن الواقع، فالله يَسْتَمِدُّ لاهوته في واقِع الأمر- حَسَب هذا النموذج- مِنْ الفراغ. ولكنَّ الله الذي يبدو كإلهٍ مُضطَرٍّ إلى إضفاء معنًى ما على الأحداث (أو ما لا تُعَدُّ أحداثًا حتى، أي أساطير/رموز) التي لا تحمل في ذاتها أيَّ معنًى من هذا القبيل لا يبدو وكأنَّه خالِقٌ ذو سيادةٍ.
أخيرًا، فإنَّ الطريقة التي يَفرِض بها نموذج ألكسندر عليه قراءة سفر التكوين تجعل المَرْء يشعر وكأنَّ ألكسندر نَجَّارٌ يحاول تَعْشِيق خشبةٍ مُستَدِيرةٍ في تجويفٍ مُرَبَّعٍ. مرةً أخرى، يُعْتَبَر خَلْقُ المرأة مثالًا جيدًا على ذلك: «عندما تَعَرَّف آدم على حواء على أنَّها ‹عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي›، لم يَكُنْ يَتَعَرَّف فقط على أَحَدِ نُظَرَائِه من ‹Homo sapiens› أو ‹البشر العاقلين›- فقد كان هناك بالفعل الكثير من هؤلاء حوله- بل كان يَتَعَرَّف على نظيره المُؤْمِن» (صفحة ٢٣٧). إنَّ هذا لا يتجاهل فقط المحتوى الذي يبدو بالأَخَصِّ جسديًّا لِمَا يَسرُدُه هذا المقطع الكتابي (وهو الأمر الذي لا غِنَى عنه بالنسبة للإشارات الكتابية اللاحقة إلى هذا المقطع، راجِعْ ١كو ٦: ١٦، ١٧؛ أف ٥: ٢٨–٣١)؛ بل يجعل أيضًا البحث السابِق عن «مُعِينٍ» لآدم يبدو بلا معنى. في الواقع، إذا كان (تكوين ٢: ١٨–٢٠) يُشير إلى أيِّ شيءٍ، فهو يُشير إلى عدم وجود أيِّ عُضْوٍ آخر من جِنْسِ آدم في هذا الوقت. ثُمَّ إذا كان الأمر مُجَرَّد بحثٍ عن مُؤْمِنٍ آخر، فلماذا التَّفْتِيش إذًا بين حيوانات البرية وطيور السماء؟ لماذا لا يَذكُر الوحي قيام الله بإحضار البشر لآدم بدلًا من الحيوانات والطيور؟ وهل لم يَكُنْ بمقدور الله ببساطةٍ أن يُعلِنَ معنى الوجود على صورته لأيٍّ من ‹Homo sapiens› أو ‹البشر العاقلين› المحيطين، وبهذا يكون قد أَوْجَدَ «المُعِين» المطلوب؟
نَجِد أيضًا مَنْطِقًا مُمَاثِلًا وراء تفسيره لـ (تكوين ٦: ٢) حيث يَتَزَاوج أبناء الله وبنات الناس؛ فَيَرَى ألكسندر أنَّ هذا ببساطةٍ يُمَثِّل دخول عائلة آدم الحيَّة روحيًّا في علاقات زواج مع مُعاصِريها من ‹Homo sapiens› أو ‹البشر العاقلين› الذين لم يكونوا قد تَلَقَّوْا إعلان الله عن نفسه، ومِنْ ثَمَّ كانوا موتى روحيًّا. والتطبيق العملي لهذا الأمر واضِحٌ: «آنَذَاك، وكما هو الحال في يومنا هذا، لا تتزوَّجوا من غير المؤمنين» حيث «يبدو واضِحًا أنَّ ذلك يجلب الدينونة كما نرى في قصة الطوفان الوارِدة في [٦: ٥ وما يليها]» (صفحة ١٩٩). ولكن إذا كان موضوع (تكوين ٦) هو زواج الأتقياء بغير المؤمنين من خارج نَسْلِ آدم، فلماذا لم تأتِ دينونة الطوفان عندما اِتَّخَذَ قايين «التَّقِيّ» زوجةً من خارج نَسْلِ آدم، حَسْبَما يعتقد ألكسندر (صفحة ٢٤١)؟
رأيي هو أنَّ «الحَلّ الوَسَط» الذي يطرحه ألكسندر، والذي يَتَمَسَّك بآدمَ تاريخيٍّ، ولكن بدون الاعتقاد أنَّه كان الإنسان الأول- مع كُلِّ ما يحمله هذا الحل من براعةٍ وإبداعٍ- يُعَدُّ حَلًّا غيرَ قادرٍ على تقديم قراءة مُتَمَاسِكَة ومُتَرَابِطَة لنَصِّ سفر التكوين، فضلًا عن أنَّه يخلق مشاكل لاهوتيَّةً أكثر مِمَّا يَحِلّ. يبدو بعض هذه المشاكل (مثل قراءته لتكوين ٦) صغيرًا بلا شكٍّ، ولا يَبعُد كثيرًا عن كَوْنِه مُؤَشِّراتٍ على أنَّ نموذج ألكسندر على الأرجح غير مُتَمَاسِكٍ داخليًّا وغيرَ مُتَمَاشٍ مع الرواية الكتابية؛ بينما يُعتَبَر البعض الآخر (مثل النتائج المُحْتَمَلة لفَهْمِهِ لله من جهة كَوْنِهِ خالِقًا ذا سيادةٍ) خطيرًا للدرجة التي يبدو معها إيجاد علاجٍ لحُجَّتِهِ أمرًا مستحيلًا.
خَرَجَ من صُلْبِ آدم كلُّ الجنس البشري
آدم رَأْسُ البشرية
تميل النِّقَاشات حول علاقة آدم بباقي البشرية دائمًا للعودة إلى الجِدَال القديم بين أوغسطينوس وبيلاچيوس. لم يَكُنْ لدى بيلاچيوس شَكٌّ في الارتباط الجسدي بين آدم وباقي البشرية، لكنَّه جادل أنَّ أيَّ ارتباطٍ من هذا القبيل ليس له أيُّ دَخْلٍ تقريبًا بخلاصِ الإنسان؛ حيث يرى بيلاچيوس أنَّ كُلَّ فردٍ على حِدَة هو المسؤول الأول والأخير عن تقرير مصيره، إمَّا بالخلاص أو الهلاك: لا يَهْلك الشخصُ بِحُكْمِ أيِّ ارتباطٍ ضِمْنِيٍّ بآدم، بل من خلال مُحَاكَاتِهِ لخطية آدم، وعلى نَفْسِ المِنْوَال، لا يَخْلُص الشخص بِحُكْمِ أيِّ ارتباطٍ ضِمْنِيٍّ بالمسيح، بل من خلال مُحَاكَاتِهِ لبِرِّ المسيح. بعبارةٍ أخرى، يرى بيلاچيوس أنَّ الخلاص والهلاك لا يَتَعَلَّقانِ بامتلاك الموقف القانوني لشخصٍ آخر؛ وإنَّما يَتَعَلَّقانِ بالاقتداء بِمَنْ ترغب أن تُشَارِكَه مصيره. أَوْضَحَ رَدُّ أوغسطينوس في المقابل (من بين أشياءٍ أخرى كثيرةٍ أَوْضَحَها) أنَّ هذا ببساطةٍ لا يمكن أن يتوافق مع (رومية ٥: ١٢–٢١) حيث يقول الكتاب إنَّ الناس يُدانون على أساس خطية آدم، ويتبرَّرون على أساس بِرِّ المسيح؛ فَبِحَسَبِ فَهْمِ أوغسطينوس لبولس، يتعامل الله مع الجنس البشري كُلِّه من خلال إنسانٍ من اثنين: إمَّا من خلال آدم، الإنسان الأصلي الذي اِنْحَدَرَتْ منه كُلُّ البشرية، والرأس الأصلي لها؛ أو من خلال المسيح، الأَوَّل والرأس فوق البشرية التي أعاد الله خَلْقَها وأَحْضَرَها جديدةً.
ولكن لماذا تُواصِل الأسئلة حول هُوِيَّة آدم وعلاقته بباقي البشرية الرجوع إلى الجِدَال الأوغسطينِيّ البيلاچِيّ؟ يبدو أنَّ هناك سَبَبَيْنِ لذلك: (١) لا مَفَرَّ من أنَّ قضايا هذا الجِدَال تَمَسُّ أساسات الإيمان المسيحي؛ حيث إنَّها تُمَثِّل بالفعل جِدَالًا بين الإنجيل المسيحي ونَهْجٍ مختلفٍ تمامًا عن الله والخلاص. (٢) لا تزال بُنُود الجِدَال وثيقة الصلة حتى بأكثر الصِّيَغ الحديثة تطورًا. لِنأخذ على سبيل المثال الفكرة القائلة بأنَّ آدم وحواء هُما رمزان لِمَا كان في الواقع شعبًا كاملًا (من العصر الحجري الحديث على الأرجح)، وأنَّ الخطية ظَهَرَتْ وَسْط هذا الشعب، ومنه انتقلت لكُلِّ الجنس البشري. نَجِد في هذا المنظور أنَّ مشكلة البيلاچِيَّة تَمَّ فقط تَقْلِيصها من أن تشمل السَّواد الأعظم من البشرية لتشمل قِلَّةً بِدائِيَّةً تنتمي للأزمنة الغابِرة بحيث تبدو المشكلة ضئيلةً لا تُذكَر.
يبدو الهروب من بُنُود الجِدَال الأوغسطينِيّ البيلاچِيّ أمرًا بالِغ الصعوبة؛ حيث إنَّ إنكار آدم باعتباره رأس البشرية المُقَرِّر مصيرها يقود لا مَحَالَةَ إلى تفسير المصير الشخصي بشكلٍ فرديٍّ، بِقَدْرٍ ما على الأقل، وكُلَّما زَاَدَ قَدْرُ ذاتِيَّة تقرير المصير، زَاَدَ معه بالضرورة الميل إلى اعتبار المسيح مثالًا أكثر منه مُخَلِّصًا.
يرتبط الرَّأْسُ وُجُودِيًّا بِمَنْ يُمَثِّلهم
مرةً أخرى، نَجِدُ (دِنِس ألكسندر) في التَّوْلِيف الذي يطرحه يَتَجَنَّب بِفِطْنَةٍ مِثْلَ هذه المَزالِق. وليُبَرهِن أنَّه يُدرِك تمامًا الضرورة اللاهوتية الحتمية للاعتراف بآدم باعتباره رأس البشرية القديمة، يقترح ألكسندر طريقًا مختلفًا لدمج تلك الحقيقة اللاهوتية بنظرته أنَّ آدم لم يَكُنْ الإنسان الأول، ويَتَمَثَّل هذا الطريق في أنَّه يقوم فقط بِفَصْلِ الوضع القانوني أو الفيدرالي (تتكون الدولة الفيدرالية أو نظام الحكم الفيدرالي من مجموعة من الولايات أو المقاطعات أو الأقاليم أو المناطق التي تتحكم في شؤونها الخاصة، ولكنَّها تخضع أيضًا لسيطرة حكومة قومية واحدة- تُعرَف أيضًا بالحكومة المركزية أو الاتحادية أو الفيدرالية- تَتَّخِذ القرارات القومية ذات الأهمية للجميع، ومن ثَمَّ فإنَّ كلمة رأس فيدرالي تعني الرأس المُمَثِّل لجميع المُتَّحِدين به كالحكومة الفيدرالية المركزية المُمَثِّلة لجميع المُتَّحِدين بها. من الجَديرِ بالذِّكْرِ أنَّ كلمة فيدرالي هي كلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية «foedus» التي تعني اتحاد أو تَحَالُف أو معاهدة أو ميثاق – المترجم) لآدم باعتباره رأس البشرية عن أيِّ اعتقادٍ بأنَّ آدم كان بالطبيعة الرأس أو الأب للجنس البشري. هذا يعني أنَّ الله قد قام في مرحلةٍ ما بِتَنْصِيب آدم كالرأس الفيدرالي، ليس فقط لكُلِّ ‹Homo divinus› أو ‹إنسانٍ إلهيٍّ›، بل لكُلِّ ‹Homo sapiens› أو ‹إنسانٍ عاقلٍ›، وعلى هذا النحو، فعندما أخطأ آدم للمرة الأولى (عن عِلْمٍ)، استطاع الله أن يَحْسِب تلك الخطية لكُلِّ ‹Homo sapiens› أو ‹إنسانٍ عاقلٍ› بِغَضِّ النظر عن عدم ارتباطهم بآدم وُجُودِيًّا. في هذه المرحلة، أصبح ‹Homo sapiens› أو ‹البشر العاقلون› غير المُسْتَنِيرين- الذين لم يَتَلَقَّوْا إعلان الله- في أستراليا (كمثالٍ لمجموعةٍ من الناس سَبَقَ ذِكْرها لا صِلَةَ لها بمجتمعِ آدم الذي كان مجتمعًا مُنْتَمِيًا للعصر الحجري الحديث [بِخِلافِ أستراليا التي لَطَالَمَا اعْتُبِرَتْ أنَّها لم تَشْهَد فترةً من العصر الحجري الحديث، بل استمر أسلوب حياة الصيد والجمع فيها حتى وصول الأوروبيين – المترجم]) مُذنِبين أمام الله.
غَيْرَ أنَّ ألكسندر بِفَصْلِهِ رَآسَة (كَوْنه رَأْسًا) آدم الفيدرالية عن رَآسَتِهِ الجسدية الطبيعية يُواجِه ما أصبح الآن مشاكل مألوفة: أَوَّلها هو أنَّ الله يقوم مرةً أخرى بإعطاء تأكيداتٍ لاهوتيةٍ ليس لها أساسٌ وُجُودِيٌّ؛ فَنَرَى الله يُعلِن آدم على أنَّه شيءٌ (رأس البشرية) غيرُ ما هو عليه في الواقع المادي الملموس. بِناءً على ذلك، يبدو حِسْبان الله الخطية للأستراليين الأصليين الجالسين مُطْمَئِنِّين تَعَسُّفِيًّا؛ فَلَيْسَ هناك أيُّ أساسٍ لوجود ارتباطٍ بين آدم و‹Homo sapiens› أو ‹البشر العاقلين› الذين يعيشون على الطرف الآخر من الأرض مِنْهُ، وبهذا فإنَّ إعلان الله أنَّه يَتَوَجَّب عليهم الاشتراك في ذنب آدم لا يَسْتَنِد إلى أيِّ شيءٍ سِوَى نَزْوَةٍ إلهيةٍ.
إلَّا أنَّ هذه ليست الطريقة التي يعمل بها مفهوم الرَّآسَة كتابيًّا؛ فَنَرَى في الكتاب المقدس أنَّ النَّسْل على وجه التحديد هو الذي يَتَأَثَّر بما يَحْكُم به الله على الأفراد (ومِنْ هُنَا جاء انشغال العهد القديم بسلاسل الأنساب). يقع المرء في حَيْرَةٍ إذا أراد الاختيار من بين الأمثلة الكثيرة على ذلك في الكتاب، ولكن لننظر على سبيل المثال كيف أنَّ البركات التي على إبراهيم ويعقوب وداود تُؤَثِّر في نسلهم، أو كيف أنَّ اللعنة التي على يهوياكين تُؤَثِّر في نسله. ويعمل الأمر في الاتجاه المُعاكِس أيضًا؛ حيث يَعْتَبِر الوحي أنَّ لاوي «في» إبراهيم قد عَمِلَ عَمَلًا ما (أَدَّى العُشْر لِمَلْكِي صَادَق – المترجم) فقط لأنَّه كان «بَعْدُ فِي صُلْبِ» إبراهيم (عب ٧: ٩، ١٠). بعبارةٍ أخرى، لا يُصَوِّر الكتاب المقدس أبدًا رَآسَة الفرد أو طبيعته الاتحادية الجامِعة على أنَّها شيءٌ يمكن فَصْله عن روابط حقيقية موجودة بالفعل بين هذا الرأس ومَنْ يُمَثِّلهم.
سَتُصبِح ضرورة وجود رابطٍ حقيقيٍّ أمرًا أكثر وضوحًا إذا انتقلنا بالحديث من كيف نُولَد «في آدم» إلى كيف يكون المسيحيون «في المسيح». لا نَرَى أبدًا في العهد الجديد المسيحيين يُمنَحونَ الولادة الجديدة أو البِرّ على أساس قضاءٍ إلهيٍّ غير مَبْنِيٍّ على ما حدث لهم بالفعل؛ ولكنَّ ما يحدث بدلًا من ذلك هو أنَّ الروح القدس يُؤَسِّس اِتِّحادًا وُجُودِيًّا حقيقيًّا بين المؤمن والمسيح، ويقوم بِتَطْعِيمِهِ في جسد المسيح. إذا لم يُؤَسِّس الروح القدس أيَّ اِتِّحادٍ من هذا القبيل، فإنَّ بِرَّ المسيحي المؤمن سَيَظَلُّ حقًّا خيالًا قانونيًّا (الخيال القانوني هو تَخَيُّل المحكمة حدوث شيءٍ ما أو وجود شخصٍ ما أو شيءٍ ما، غير حادثٍ أو موجودٍ في الواقع الفِعلي، من أجل السماح لقانونٍ ما بالعمل، أو من أجل تطبيق هذا القانون بطريقةٍ تختلف عن الغرض الأصلي الذي وُضِعَ له؛ وذلك بهدف تمكين المحكمة من حَلِّ مسألةٍ ما أمامها بشكلٍ قانونيٍّ وعادلٍ دون اللجوء لتغيير القانون نفسه، وهذا الأمر مسموح به في القانون في بعض الدول ولا سِيَّما في إنجلترا. مثال: إذا تَعَهَّد شخصٌ ما عَلَنِيًّا بالتنازُل عن إرثٍ، وهو عطيةٌ ممنوحةٌ له بموجب وَصِيَّةٍ، فَسَيَعتَبِر القانون هذا الشخص قد تُوُفِّي قبل المُوصِي بغرض توزيع التَّرِكَة على باقي الوَرَثَة، وهو الأمر الذي يُعَدُّ خيالًا قانونيًّا. مثال آخر: ما يحدث في عملية التَّبَنّي، فَبِمُجَرَّد صدور حُكْم المحكمة بالتَّبَنّي لصالح شخصٍ أو شخصَيْنِ، يُصبِح أَحَد الوالِدَيْنِ البيولوچِيَّيْنِ [أو الطبيعِيَّيْنِ] أو كليهما غريبَيْنِ عن الطفل من الناحية القانونية، ولم يعودا مُرتَبِطَيْنِ بالطفل، وليس لهما حقوق تَتَعَلَّق بهذا الطفل. وفي المقابل، يُعْتَبَر الوالد أو الوالدان اللذان تَبَنَّيَا الطفل والِدا الطفل من الناحية القانونية، ويتم إصدار شهادة ميلادٍ جديدة تعكس ذلك، وهو الأمر الذي يُعَدُّ أيضًا خيالًا قانونيًّا – المترجم)، ويعمل المبدأ في كِلا الاتجاهين: في كُلٍّ من الاتحاد بالمسيح عن طريق الروح القدس، والاتحاد بآدم عن طريق الجسد، يبقى الأمر الجوهري هو الرابط الوُجُودِي الفِعلي الخاص بِكُلِّ اِتِّحادٍ منهما. لا يمكن أن يكون أيٌّ منهما خيالًا قانونيًّا إذا أراد دَيَّانُ كُلِّ الأَرْضِ أن يَصْنَعَ عَدْلًا.
ثَمَّة مشكلةٌ أخرى في اقتراح أنَّ الله يمكنه أن يُؤَسِّس رَآسَةً فيدراليةً (بالنسبة لآدم أو المسيح) دون أن يُوَفِّر أيَّ أساسٍ وُجُودِيٍّ لها. لنأخذ مرةً أخرى مثال اِتِّحاد المسيحي بالمسيح، باعتباره القرين المُناظِر للاتحاد بآدم: تَخَيَّلْ أنَّ الله يقوم بتأسيس بِرَّ فَرْدٍ ما بأمرٍ إلهيٍّ حُرٍّ، ولكن بدون أن يقوم الروح القدس فِعلِيًّا بِجَعْلِ هذا الفرد المسيحي مُتَّحِدًا بالمسيح، فَمَا هو العنصر الذي سيكون مفقودًا في هذا النموذج برأيك؟ إنَّه الروح القدس بالطبع؛ وعلى هذا النحو، لن يكون هذا النموذج ثالوثِيًّا. إذا كانت مُوازاة بولس بين آدم والمسيح صحيحةً، فإنَّ الاقتراح القائل بأنَّه يمكن لـ ‹Homo sapiens› أو ‹إنسانٍ عاقلٍ› أن يَتَّحِد بآدم دون وجود أيِّ رابِطٍ حقيقيٍّ بينهما يُوقِعُنا في فَهْمٍ دُونَ ثالوثِيٍّ (أقل من ثالوثي) للخلاص.
من الجَديرِ بالذِّكْرِ أيضًا كيف أنَّ مَنطِق (١كورنثوس ١١: ٣) يَتَضَمَّن أنَّه تمامًا مِثْلَمَا سيكون من الغريب السماح لزوجٍ بأن يكون رأسًا لزوجته دون أن يربطه بها أيُّ رابطٍ وُجُودِيٍّ، هكذا سيكون من المثير للقلق الاقتراح أنَّ الله الآب كرأس المسيح لا يحتاج أن يكون لديه رابطٌ وُجُودِيٌّ بابنه. إنَّ تطبيق مثل هذه النظرة للرَّآسَة- تلك النظرة الهزيلة من الناحية الوُجُودِيَّة- على الثالوث من شأنه أن يميلَ بالمَرْء للسقوط إمَّا في الأَرْيُوسِيَّة (أو بِدْعَة أَرْيُوس، نِسبةً إلى أَرْيُوس الذي عاش في القَرْنَيْنِ الثالث والرابع الميلادِيَّيْنِ، والذي قال إنَّ المسيح كابن الله لم يَكُنْ موجودًا أزليًّا، بل قد خَلَقَه الله في نقطةٍ ما من الزمن قبل أن يوجد أيُّ شيءٍ، ثم خَلَقَ المسيح كُلَّ الأشياء، فهو أسمى كُلِّ المخلوقات إلَّا أنَّه يَظَلُّ مخلوقًا وله بداية في الزمن. بِناءً على ذلك، اِعْتَبَرَ أَرْيُوس المسيح أقل شأنًا من الله وغير مساوٍ لله؛ وإنَّما هو كِيانٌ مُمَاثِلٌ لله، رَسْم جوهره، بهاء مجده، بِكْر كُلِّ خليقة، خالِق العالم، ابن الله؛ لكنَّه ليس الله، وأَصَرَّ أَرْيُوس على أنَّ الكتاب المقدس لم يُعَلِّم بالأُلُوهِيَّة الكاملة للمسيح، وقد هَرْطَقَتْه الكنيسة في مجمع نِيقِيَّة الأول عام ٣٢٥م – المترجم) أو في الاعتقاد بثلاثة آلهةٍ بدلًا من ثالوث. وفي كلتا الحالتين، لا أَحَدَ يسعى بالطبع لِفِعْل أيِّ شيءٍ من هذا القبيل؛ ولكن يَحِقّ لنا بالتأكيد أن نسأل لماذا إذًا يتم التعامل مع الرَّآسَة على نحوٍ مختلفٍ تمامًا في مواقف مختلفة.
يبدو إذًا من الناحِيَتَيْنِ، الكتابية واللاهوتية، أنَّه إذا لم يَكُنْ آدم في الواقع المادي أَبَا الجميع، لَمَا أَمْكَن أن يكون رأسَ الجميع. وهكذا، وبِغَضِّ النظر عن الأَدِلَّة الكتابية الظَّرْفِيَّة التي يبدو أنَّها تُشير إلى أنَّ آدم هو الإنسان الواحد الذي أَتَتْ منه كُلُّ البشرية (أع ١٧: ٢٦)، فإنَّنا مُجْبَرون لاهوتيًّا على القول إنَّه بالنظر إلى أنَّ آدم- كما هو واضحٌ- يُرَى على أنَّه رأس كُلِّ البشرية، فهذا يعني أنَّه لا بُدَّ أن يكون أَبَا كُلِّ البشرية.
أَخَذَ المسيح بشريتنا
حتى قبل أن يستطيع غريغوريوس النِّزْيَنْزِي أو Gregory Nazianzen (الأسقف واللاهوتي من القرن الرابع الميلادي، والمعروف أيضًا بغريغوريوس اللاهوتي، وهو أَحَد أعظم آباء الكنيسة – المترجم) أن يُعَبِّر بإحكام عن هذا المُعتَقَد، كان جزءٌ كبيرٌ بالفعل من كريستولوچيا (دراسة شخص وعمل المسيح) الكنيسة المُبَكِّرة من عصر ما بعد الرُّسُل مُتَشَكِّلًا بهذا المُعتَقَد: كُلُّ ما لم يَتَّخِذه المسيح في تَجَسُّدِهِ لا يمكن «شفاؤه» أو خلاصه (Nicene and Post-Nicene Fathers: Second Series, Volume VII Cyril of Jerusalem, Gregory Nazianzen، المُحَرِّر: Philip Schaff، صفحة ٤٣٨). كان هذا المُعتَقَد في جوهره محاولةً لصياغة عقيدة (عبرانيين ٢: ١١–١٧) الذي يقول إنَّ يسوع كان لا بُدَّ أن يكون واحِدًا مع أولئك الذين قد أتى ليُخَلِّصهم، مُشتَرِكًا معهم في ذات اللحم والدم حتى يمكن لهذا اللحم والدم عَيْنهما- بجسد المسيح- أن يجتازا في لعنة الموت، ويَعبُرا منها إلى الحياة الجديدة التي للقيامة. ولهذا السبب، لم يأخذ المسيح في تَجَسُّدِهِ جسدًا مَلائِكِيًّا- لم يَكُنْ هذا ليُفيدنا بشيءٍ- بل أخذ جسدنا نحن حتى يمكنه أن يكون بالحقيقة مثلنا، وبالحقيقة يُخَلِّصنا. كان هذا اللاهوت هو الذي حَمَى الكنيسة من تلك الهرطقات التي فَتَّتْ في عَضُدِ الإنسانية الحقيقية للمسيح، وبذلك فَتَّتْ في عَضُدِ الخلاص الذي أتى به.
غَيْرَ أنَّه إذا لم يَكُنْ آدم هو الشخص الذي اِنْحَدَرَتْ منه كلُّ البشرية، بل كان مُجَرَّد عضوٍ في واحِدٍ من الفروع التي لا حَصْرَ لها من ‹Homo sapiens› أو ‹الإنسان العاقل› والمنفصلة عن بعضها البعض، فستبدأ عِنْدَئِذٍ مقولة غريغوريوس النِّزْيَنْزِي أن تكون مُقلِقةً نوعًا ما؛ حيث إنَّه إذا لم يَتَّخِذ المسيح جسدي، بل جسد بشريةٍ أخرى، فَهْوَ في هذه الحالة ليس وَلِيِّي ذا القرابة لي (يقصد شريعة الوَلِيّ – المترجم)؛ لأنَّه إذا كانت كنيسة ما بعد الرُّسُل مُحِقَّةً في قراءتها لـ (عبرانيين ٢) وفي فَهْمِها للتَّجَسُّد، فإنَّ ما كان يَهُمُّ حقًّا ليس أنَّ المسيح اِتَّخَذَ أيَّ بشريةٍ، بل أنَّه اِتَّخَذَ على وجه التحديد بشريتنا نحن.
الحُكم في هذه القضية: آدم التاريخي يَهُمُّ
عندما يَتِمّ تحرير العقائد اللاهوتية من مَرْسَى الحقائق التاريخية المَمْسوكة فيه، يكون من الأسهل دومًا مُوَاءَمة هذه العقائد مع المُعطَيَات والأيديولوچيات الأخرى، وهناك بالطبع عددٌ لا بأس به من العقائد التي بطبيعتها لا تُعَدُّ تاريخيةً بشكلٍ مباشرٍ.
لقد كان احتجاجي هو أنَّ هُوِيَّة آدم، ودوره كالأصل الجسدي للجنس البشري لَيْسَا بالعقائد المُستَقِلَّة أو القابِلة للفَصْل عن باقي عقائد المسيحية. إنَّ حقيقة تاريخيَّة آدم هي سبيلٌ لا غِنَى عنه للحفاظ على الرواية المسيحية للخطية والشر، والفَهْم المسيحيّ لله، والأساس المنطقي للتَّجَسُّد والصليب والقيامة. كذلك، فإنَّ أُبُوَّة آدم الجسدية لكُلِّ الجنس البشري تحفظ عَدْل الله في إدانته لنا في آدم (ومِنَ ثَمَّ عَدْل الله في فِدائِهِ لنا في المسيح)، وتَصُون مَنطِق التَّجَسُّد. لا يمكن إعادة تفسير أيٍّ من المُعتَقَدَيْنِ دون أن يَلحَق ذلك أَشَدُّ العواقِب وَخَامَةً.
[1] التفسير الحرفي: أي تفسير الأحداث التاريخية والخارِقة للطبيعة المذكورة في الكتاب المقدس على أنَّها أحداثٌ حقيقية وتاريخية. ولا يُفسر أرباب هذه المدرسة تلك الأحداث على أنها أساطير أو رموز. وإنما يُفَسِّرون رمزيًّا أو شِعْرِيًّا أو اِستِعَارِيًّا فقط ما قَصَدَ الكتاب أن يكون كذلك – المترجم.
[2] الأدلة الظرفية هي أَدِلَّةٌ تُسْتَمَد من ظروف القضية ومُلابَسَاتها، وتُسَمَّى أيضًا أَدِلَّة غير مباشرةٍ نظرًا لأنَّها لا تُثبِت الحقيقة بشكل مباشر وقاطع؛ وإنَّما تُساعِد في الوصول للحقيقة من خلال الاستدلال المنطقي والربط بين هذه الظروف والمُلابَسَات، وهي عَكْسُ الدليل المباشر الذي يُثبِت الحقيقة بشكل مباشر وقاطع دون الحاجة لأَدِلَّة أخرى أو استدلال إضافي – المترجم.
[3] البلاجية: نِسبةً إلى بيلاچيوس، الراهب واللاهوتي من القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الميلادِيَّيْنِ، والذي علَّم بأنَّ خطية آدم لم تُفقِده الطبيعة الصالحة التي خُلِق عليها القادرة أن تختار بين أن تفعل الخير أو أن تفعل الشر، ولم تؤثر أيضًا خطيته على كُلِّ نسله من بني البشر؛ بل عَلَّمَ بيلاچيوس أنَّ كُلَّ إنسانٍ يُولَد في هذا العالم لديه القدرة الأخلاقية على الاختيار بين فِعْلِ الخير أو الشر، ولم يفقد هذا الإنسان بخطية آدم القدرة الأخلاقية على إطاعة الله. وبِناءً على ذلك، يرى بيلاچيوس أنَّ الإنسان هو مَنْ يُقَرِّر مصيره، إمَّا بأن يفعل الشر ويهلك أو أن يفعل البر ويدخل ملكوت الله. من الجَديرِ بالذِّكْرِ أنَّ الكنيسة هَرْطَقَتْ بيلاچيوس في مجمع قرطاجة عام ٤١٨م.
[4] يُقصد بمصطلح “البشر بشكلهم التشريحي الحديث” التمييز بين النوع الموجود في التصنيف البيولوچي، ‹Homo sapiens› أو ‹الإنسان العاقل›، الذي يَتَوافَق تشريحيًّا مع البشر المُعاصِرين، وبين الأنواع البشرية القديمة المُنقَرِضَة، وذلك وفقًا لما تقوله النظريات العلمية.