لقد حلَّ علينا عصر الذكاء الاصطناعي (AI). فهل أنت من المتفائلين به الذين يرونه “أفضل ما حدث على الإطلاق”، أم من المتشائمين الذين يصرخون: “يا للمصيبة! الذكاء الاصطناعي سيستولي على العالم؟”
سواء عَدَدْتَ نفسك من هواة الذكاء الاصطناعي أم لا، فالأغلب أنّك تستخدمه كلَّ يوم تقريبًا. فمن “جوجل” و”شات جي بي تي”، إلى مجلد الرسائل غير المرغوب فيها (Spam)؛ كل هذه تطبيقات للذكاء الاصطناعي. بل إن تطبيقات طلب سيارات الأجرة، مثل “أوبر”، تستخدم التعلم الآلي للتسعير الديناميكي، والتنبؤ بالمسارات، ومطابقة السائقين بالركاب.
إذاً، أجل، لقد حلَّ علينا عصر الذكاء الاصطناعي حقاً وبشكل راسخ.
إن الذكاء الاصطناعي ليس تقنية واحدة، بل هو مصطلح شامل يندرج تحته مجموعة من التقنيات المترابطة بشكل فضفاض. ما يوحّد هذه التقنيات هو قدرتها على التعلم من البيانات. وسواء كنت تقوم بتطوير الذكاء الاصطناعي، أو تدريب البيانات التي تشغله، أو مجرد استهلاكها، فإن واجبك المسيحي هو تجاوز الضجيج والنظر في كيفية العيش كما يدعونا الله، في عصر الذكاء الاصطناعي هذا.
فيما يلي ست تأملات للاقتراب من الذكاء الاصطناعي بمنظور كتابي:
1. مجد الله
“فَإِنْ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ أَوْ تَشْرَبُونَ، أَوْ تَفْعَلُونَ شَيْئًا، فَافْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ لِمَجْدِ اللهِ” (1 كورنثوس 10: 31). عندما أوصانا الله، على لسان بولس الرسول، بأن نفعل كل شيء لمجده، حتى أبسط الأمور كالأكل والشرب، فلا شكّ أنّ ذلك يشمل تعاملنا مع الذكاء الاصطناعي أيضًا. ولِمَ لا؟ أليس هو الإله العالِم بكلّ شيء، الذي “يُخْبِرُ مُنْذُ الْبَدْءِ بِالأَخِيرِ” (إشعياء 46: 10)؟ فما الصورة العملية التي تُمجِّد الله في عصر الذكاء الاصطناعي؟
إنَّ نقطة البداية الجيدة هي أن نتذكر الوصية الأولى: “لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي” (خروج 20: 3). فبمجرد أن نُقرَّ بأن الله، كما وصف نفسه في الكتاب المقدس، هو الجدير بالعبادة وحده، سنفكر مرتين قبل أن نمنح الذكاء الاصطناعي مكانًا يشبه العبادة. فعلى أية حال، لقد سجد الناس عبر العصور لأمور أكثر غرابة بكثير، كما حدث مع العجل الذهبي.
وفي الجهة الأخرى، سنُفكّر مرتين قبل أن نصف عطيةً صالحة بأنّها شرّ. يجب ألا نخطئ؛ فالذكاء الاصطناعي هو عطيةٌ صالحة من الله (يعقوب 1: 17). فهو نتاج نعمة الله العامة العاملة في كل خليقته، شأنه شأن سائر التقنيات التي ينتفع بها البشر. وأرى أنّ أحد أوجه تمجيد الله في عصر الذكاء الاصطناعي هو اجتناب الوقوع في الفخَّين المتقابلين: تأليهه من جهة، أو شيطنته من جهة أخرى.
2. صورة الله
“فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ” (تكوين 1: 27). فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي خُلق على صورة الله.
أنا شخص متحمس للذكاء الاصطناعي، ليس فقط لأنني أعمل في شركة للذكاء الاصطناعي، ولكن أيضاً لما تمتلكه هذه التقنية من قوة هائلة في تعميم المعرفة وإتاحتها للجميع. فأنا قادر اليوم على تعلّم الكيمياء التحليلية من خلال روبوت الدردشة المفضّل لديّ. لم يكن هذا ممكنًا في أيّ حقبة سابقة من التاريخ. بل إنّ عصر الإنترنت نفسه يبدو ضئيلاً بالمقارنة مع هذا التحول.
ولكن، لا يجب أن نقع في خطأ الاعتقاد بأن الذكاء الاصطناعي خُلق على صورة الله. وحتى لو بلغنا يومًا ما مرحلة الذكاء الاصطناعي العام، أو ما يُسمّى بالذكاء الاصطناعي الفائق، فإنّ هذه التكنولوجيا لن تستطيع أبدًا أن تُسقِط الإنسان من مكانته الفريدة بوصفه موضع محبّة الخالق.
3. السقوط
عندما مدّ آدم وحوّاء أيديهما إلى تلك الثمرة المُغرية، أدخلا بقيّة البشريّة في دائرة الهلاك. فَلَعَنَ اللهُ كلَّ جهودنا: “بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ” (تكوين 3: 19). وهذا يعني أن هناك قدراً معيناً من العبثية (أو الزوال) يحيط بجميع أعمالنا تحت الشمس، كما لاحظ بحق كاتب سفر الجامعة.
وهذا يعني أيضاً أن الأدوات التي نطورها ستعكس حتماً طبيعة البشرية الساقطة والفاسدة. فالذكاء الاصطناعي ليس شريرًا في ذاته، لكننا نحن الأشرار بطبيعتنا. فنحن مَن نستخدمه لندمر أنفسنا والآخرين. وأرى أنّ كثيرًا من النقاشات حول أخلاقيّات الذكاء الاصطناعي وسلامته ينبغي أن تبدأ من هنا: أن ننظر أوّلًا في مرآة كلمة الله، وأن نقبل بتواضع أنّ الذكاء الاصطناعي يحمل آثار سقوطنا نحن.
4. النعمة العامة
“فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى ٱلْأَشْرَارِ وَٱلصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى ٱلْأَبْرَارِ وَٱلظَّالِمِينَ” (متى 5: 45). من الطرق المفيدة لفهم “النعمة” هي وضعها جنباً إلى جنب مع “الرحمة”. فالنعمة تعني نوال ما لا نستحق، بينما تعني الرحمة ألا ننال ما نستحق (أي العقاب). والذكاء الاصطناعي هو إحدى صور النعمة العامّة؛ عطيّة يمنحها الله للبشر جميعًا، للمؤمنين وغير المؤمنين على حدٍ سواء، بوصفها صلاحًا غير مستحقّ.
لقد دبّر الله بطرقٍ عديدة أن يبلغ الذكاء الاصطناعي ما بلغه اليوم من انتشار وضجيج. فمن جون مكارثي (أبو الذكاء الاصطناعي)، إلى سام ألتمان (الرئيس التنفيذي لـ OpenAI)، ينفّذون، عن قصد أو غير قصد، مشيئة الله الذي يظلّ متسلّطًا على الكل.
وكما قال أبراهام كايبر، رئيس وزراء هولندا الأسبق، ذات مرة: “لا يوجد شبر واحد في نطاق وجودنا البشري كلّه، لا يصرخ فيه المسيح، الذي هو المُتسيّد على الكل: ” هذا لي”! فماذا يقول الله عن الذكاء الاصطناعي؟ يقول عنه: ” هذا لي”. ثم يمنحه، في نعمته العامّة، للبارّ والظالم معًا لأجل منفعتهم وتمتّعهم به.
5. النعمة المُخلِّصة
ونرى في الكتاب المقدس أن الله قد دعا البعض للخروج من العالم الساقط، ومنحهم قلوبًا لحمية جديدة عوضًا عن قلوبهم الحجريّة، وأمرهم أن يحيوا فيه وبه ولمجده. فلم نعد نحيا لأنفسنا، بل لمُخلّصنا. ورغم أننا لا زلنا نحيا في هذا العالم، لكننا نعيش فيه كغرباء. لا زلنا نعمل فيه كسائر البشر، ونستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي كغيرنا. فكيف علينا أن نعيش في عصر الذكاء الاصطناعي، في ضوء هذه النعمة الخاصة؟
نقطة البداية الجيدة هي أن نتذكر أن المؤمن الذي آتى إلى الإيمان يتبرر على أساس حياةٍ وموتِ الرب يسوع. هكذا يُمنَح قداسةً مكانية. ثم يدعوه الله إلى النمو ليصبح أكثر شبهاً بالمسيح، ليتقدم باستمرار في القداسة. وفي النهاية، يوعده بالمجد في ذلك اليوم الأخير، حين ينال القداسة الكاملة.
لذا، فإن الله يأمر شعبه بأن يكونوا قديسين، كما أنه هو قدوس (بطرس الأولى 1: 16). إذاً، كيف يمكن للمسيحي أن يطبق القداسة في استخدامه للذكاء الاصطناعي؟ يكون ذلك بتذكّر أنّه سواء أكنتَ تأكل أو تشرب أو تطوّر الذكاء الاصطناعي، أو تستهلكه، فافعل كلّ شيء لمجد الله، وفي إطار السعي لتصبح أكثر شبهاً بالمسيح.
6. عودة المسيح
لا يحتاج المسيحي إلى ذكاء اصطناعي تنبؤي ليلمح المستقبل. فقد كشف الله بالفعل عن النهاية في كلمته. لذلك يعيش المسيحيون على رجاء سماع تلك الكلمات المباركة عند عودة المسيح: “نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ… اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ” (متى 25: 21).
وإلى أن يأتي ذلك اليوم، ننظر إلى الذكاء الاصطناعي على أنّه أداة أودعها خالقنا بين أيدينا. نستقبلها بفرح وامتنان، مع رفض استخدامها لتمجيد الذات أو لإيقاع الأذى بالآخرين. إنّه وسيلةٌ لِمحبّة القريب وخدمته. ويجب ألا ننسى أنه عندما يعود المسيح، فإن البشرية (وليس الذكاء الاصطناعي) هي التي ستقف أمام كرسي دينونة الله.

