لاحظت على مدار العشر سنوات الماضية أنَّه يوجد كمٌّ هائل ومتزايد من الكتب والمقالات والمنشورات التي تتناول الحديث عن الرجل والمرأة. لقد أصبحت الثقافة السائدة اليوم لا تتجادل فقط بشأن الأسئلة المتعلِّقة بالمساواة بين الجنسين، بل حتَّى بشأن أبسط المسائل الأساسيَّة، مثل: مَن يكون الرجل؟ أو مَن تكون المرأة؟ والمُحزِن، أنَّ الغالبيَّة لم يعودوا يعرفون الجواب! أو على الأقلِّ، يخشون التصريح بآرائهم.
الكنائس لديها جواب رائع وإيجابيٌّ لتشارك به بخصوص هذا الموضوع. على سبيل المثال: يعود بنا سفر التكوين إلى بدء الخليقة، وجوهر الطبيعة الإنسانيَّة، إذ يقول: “فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ” (تكوين 1: 27).
يضع سفر التكوين الأساس لتمييز الفرق بين الرجل والمرأة. أمَّا يسوع المسيح، الذي يفتدي الرجال والنساء الخطاة على حدٍّ سواء، فهو لا يفتديهم بمحو الفرق بين الجنس والنوع، وإنَّما بتعزيزه. وهو بهذا الفداء لا يعود بنا فقط إلى حالة الإنسان في جنَّة عدن، لكن يوجِّه أنظارنا نحو الغاية العظمى لمعنى الإنسانيَّة: أن يعرف الإنسان المسيح ويثبت فيه. بالنسبة للمؤمنين، فإنَّ أعمق وأصدق شعور بهويَّتنا يكمن في التبنِّي، في البنويَّة الإلهيَّة.
“كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ، إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ، لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ”. (أفسس 1: 4-6)
هذه المفاهيم الفريدة في الكتاب المقدَّس قدَّمت على مدى قرون عديدة المكوِّن الأساسيَّ لمفاهيم مثل التقبُّل المجتمعيّ وقيمة الإنسان. لذلك، لا عجب الآن أنَّه كلَّما ابتعدت ثقافتنا عن هذه المفاهيم، كلَّما وجدنا تزايدًا في الارتباك بخصوص فهم طبيعة الفرق بين الرجولة والأنوثة. نحن لم نقُم فقط بإزاحة الأساس الكتابيِّ لتقدير تميُّز الطبيعة الإنسانيَّة، بل حتَّى شكلها وتكوينها البيولوجيِّ. لقد أصبح الحديث عن مسألة الرجال والنساء ليس فقط أمرًا شائكًا، بل ممنوعٌ!
بحسب رومية 16: الرجال والنساء يخدمون الربَّ معًا
في هذه المقالة، أريد أن أجذب انتباهكم لرومية 16. ليس هدفي التعمُّق في تفسير كلِّ التفاصيل والأسماء الواردة بهذة اللوحة الجميلة الموجودة في الأصحاح، بل آمَل أن أقدِّم نموذجًا صادقًا، وفقًا لما سجَّله الرسول بولس. أصلِّي أن تكون مقالةً مفيدةً للكنائس وهي تفكِّر بجديَّة عن دور الرجل والمرأة، وكيف يمكن للكنائس أن تحقِّق قصد الله من جهة الكنيسة، بأن تكون “عمودًا وأساسًا للحقِّ”.
عند دراسة كلِّ العقائد المسيحيَّة، نحن مطالبون بالأخذ بكلِّ ما ورد في الكتاب المقدَّس، ومراعاة الخطِّ العامِّ، والمبدأ الذي يدور حوله (أي الخلق، ثمَّ السقوط، ثمَّ الفداء، وأخيرًا بلوغ مرحلة الكمال).
أعِظ هذه الفترة في الكنيسة من رسالة تيموثاوس الأولى، وسيكون أمامنا بضعة أسابيع للتأمُّل بخصوص دور الرجل والمرأة في الكنيسة والبيت. في أثناء التحضير لهذه العظات، قمت بالرجوع إلى رومية الأصحاح 16، وفي هذا الجزء من كلمة الله، أريد أن أسجِّل بعض الملاحظات.
يعطينا رومية 16 نظرة مختلفة عن تلك التي نقرأها في أجزاء أخرى من العهد الجديد. وهنا لا يوجد تناقض في المضمون، لكن الشكل مختلف؛ فعوضًا عن التركيز على النظرة الكتابيَّة للرجل والمرأة، تعطينا رومية 16 قائمة بأسماء –أطول قائمة بين كلِّ رسائل بولس- يرسل فيها تحيَّاته ويوجِّه نصائحه لشركائه في الخدمة وللكنيسة في روما.
بين شركاء الخدمة نجد أناسًا من مختلف مناحي الحياة، رجال ونساء كثيرون. رغم أنَّ تضمين أسماء النساء في الرسالة كان أمرًا ثانويًّا، فإنَّ هذا الأصحاح يخبرنا كثيرًا عن محبَّة بولس لشركاء الخدمة وتوجُّهه في الخدمة. ويُعتبَر رومية 16 صورة التُقِطت في الوقت الصحيح، لتصوِّر لنا بدقَّة تقدُّم الإنجيل عبر منطقة البحر المتوسِّط.
لنلقي نظرة على بعض الأشخاص الذين وردَ ذكرهم في الأصحاح.
- في البداية نقرأ: “أُوصِي إِلَيْكُمْ بِأُخْتِنَا فِيبِي، الَّتِي هِيَ خَادِمَةُ الْكَنِيسَةِ الَّتِي فِي كَنْخَرِيَا، كَيْ تَقْبَلُوهَا فِي الرَّبِّ كَمَا يَحِقُّ لِلْقِدِّيسِينَ، وَتَقُومُوا لَهَا فِي أَيِّ شَيْءٍ احْتَاجَتْهُ مِنْكُمْ، لأَنَّهَا صَارَتْ مُسَاعِدَةً لِكَثِيرِينَ وَلِي أَنَا أَيْضًا” (الآيات 1-2).
- ثمَّ بريسكلاَّ وأكيلا، الزوجان اللذان شاركا بولس لسنوات عديدة في رحلاته المختلفة (الآيات 3-5).
- وأبينتوس، صديق بولس المقرَّب وأوَّل المؤمنين في آسيا (الآية 5ب).
وبعض الأشخاص الذين ذُكرت أسماؤهم دون الإشارة إلى دورهم في الخدمة، لكن بولس يعرفهم ويقدِّرهم. يُظهر لنا ذلك محبَّة بولس، ومدى اتِّساع الخدمة لتشمل الرجال والنساء.
لكنَّها سقطة لو استنتجنا من هذا الجزء أنَّه يعني عدم وجود خطٍّ فاصل يحدِّد كيفيَّة خدمة الرجل والمرأة جنبًا إلى جنب.
نشر مؤخَّرًا صديقي وأخي في المسيح مايك بيرد، بعض الأفكار عن رومية 16. يُعتبَر مايك لاهوتيًّا ذا شأن، ويتميَّز بأسلوب كتابة أشبه برمي الأحجار في المياه الراكدة. وقد أحدث جلبةً بعض الشيء حين كتب أنَّ رومية 16 قادته إلى تبنِّي مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في قيادة الكنيسة، إذ يقول:
بالنسبة لي، لقد جعلتني قراءة رومية 16 ألاحظ كلَّ النساء اللاَّتي ذكرهنَّ بولس، ورؤية وصفه لما يفعلن لأجل الخدمة جعلني أقتنع تمامًا بالمساواة في القيادة داخل الكنيسة.
ما زلت غير مقتنعٍ. فإنَّ رومية 16 هي جزء رائع ومشجِّع، يظهر لنا حجم الفريق الذي يخدم مع بولس، والرأفة التي يتعامل بها مع كلِّ واحد منهم. فبعيدًا عن التعليمات بشأن القسوس والشيوخ، وأيضًا مهمتيّ الوعظ والتعليم، واجتماعات الآحاد، تتوافق رومية 16 تمامًا وبشكل رائع مع حدود هذه التعاليم.
فيبي كانت شمَّاسة. في العهد الجديد، الشمامسة هم خدَّام أمناء، يُختَارون من قِبَل الكنيسة ليرعوا خدمة تسديد الاحتياجات. الشمامسة مختلفون عن القسوس والشيوخ (انظر فيلبي 1:1؛ 1 تيموثاوس 3): القسوس والشيوخ، يُفرَزون لخدمة الكنيسة المحليَّة، بالأساس لأجل الوعظ والتعليم.
بريسكلاَّ وأكيلا هما زوجان مشهوران بكرم الضيافة. لقد فتحا منزلهما لبولس حين زار كورنثوس. ثمَّ انضمَّا لاحقًا للخدمة ورافقا بولس في رحلته إلى أفسس. وفي أثناء إقامتهما في أفسس، رحَّبا ببقاء أبلُّوس معهما، وشرحا له طريق الربِّ. مرَّةً ثانية في رومية 16 يأتي الحديث عن كرم ضيافتهما، وإضافتهما للكنيسة في بيتهما.
أمَّا يونياس (الذي يأتي ذكره مع أندرونكوس) فهو شخصيَّة غامضة. ويوجد جدل بخصوص ما إذا كان الاسم يشير إلى رجل أم امرأة –لأنَّه يتَّجه رأي غالبيَّة الباحثين إلى اعتباره امرأة لعدَّة أسباب (لن أخوض فيها، لكنني أتَّفق مع هذا الرأي). السؤال التالي هو: هل النصُّ اليونانيُّ يجب أن يُقرأ “المعروفان من الرسل” أم “المعروفان بين الرسل”؟ بحسب القواعد اللغويَّة، فإنَّ القراءة صحيحة في التعبيرين. بمعنى آخر، هل يونياس وأندروكوس شخصان تمتَّعا بسمعة طيِّبة بين الرسل، أم أنَّهما رسولان؟ ينقسم دارسي العهد الجديد بخصوص تفسير هذه المسألة، وغالبًا يعتمد ما يتوصَّلون له من استنتاج على ما يتبنَّونه من أفكار بخصوص دور الرجل والمرأة في خدمة الكنيسة.
ملحوظة أخيرة هامَّة تتعلَّق بشخصيَّة يونياس، أنَّ كلمة “رسول” لها أكثر من معنى في العهد الجديد. يوجد الاثنا عشر رسولاً الذين كانت لهم مهام خاصَّة وفريدة في الكنيسة الأولى، وكان لهم سلطة فريدة ولا يمكن أن توكَل لغيرهم. وهذا بالطبع يجعلنا نستبعد يونياس من هذا الافتراض –أي إنَّه (أو إنَّها) رسول. كلمة “رسول” أحيانًا تشير إلى الشخص الذي يحمل رسالة (2 كورنثوس 8: 23؛ فيلبي 2: 25). وهذه قراءة مناسبة لكل من يونياس وأندرونكوس. إذ كان حاملوا الرسائل يلعبون دورًا حيويًّا في تقدُّم رسالة الإنجيل وتوصيلها للكنائس المختلفة. أمَّا افتراض مساواتهما بمهمَّة الرسل أنفسهم، أو شيوخ الكنيسة، فهذا له متطلّبات تفوق مجرَّد توصيل الرسائل بكثير.
نسيج الخدمة
يمثِّل رومية 16 النسيج الذي يتوافق مع الفهم الكتابيِّ لدور الرجل والمرأة في الكنيسة. ربَّما يقول المرء: إنَّ رومية 16 تلخِّص بإيجاز ما قد يبحث عنه حتَّى أنصار القيادة الذكوريَّة في الكنيسة، إذ نجد الرجل والمرأة يخدمان جنبًا إلى جنب، وبطرق متنوِّعة، ومن دون تخطِّي الحدود المرسومة للقيادة بكلِّ العهد الجديد.
بالعودة إلى الصورة الأكبر، في ما يلي بعض الملاحظات السريعة على رومية 16:
- كان بولس ممتنًّا وشاكرًا لفريق الخدمة معه. فكيف نعبِّر نحن عن شكرنا لهؤلاء الأشخاص الكثيرين الذين يخدمون بطرق متنوِّعة، حتَّى نمجِّد الربَّ معًا ونرى رسالة الإنجيل تتقدَّم؟
- شركاء الخدمة يقومون بعمل الكثير من المهام المختلفة. دعونا نكرم بعضنا بعضًا، ليس فقط بشكل رسميٍّ أمام الجميع، ولكن أيضًا بشكل شخصيٍّ وغير متكلِّف، في بيوتنا ومعاملاتنا اليوميَّة.
- تضمَّن فريق الخدمة مع بولس الكثير من الرجال والنساء. القيادة الفرديَّة تمثِّل كارثة، وطالما أنَّ بولس احتاج إلى فريق كبير معه في الخدمة، فإذًا بالأولى نفعل نحن كذلك. يجب أن نعمل جميعًا معًا، وأن يكون كلُّ عضو عامل له أهميَّته في الكنيسة.
- رومية 16 تتَّفق بالتحديد مع ما نتوقَّعه بشأن موقف الكتاب من الرجل والمرأة ودور كلٍّ منهما.
- إنَّه لتحدٍّ للكنيسة التي تدعم القيادة الذكوريَّة أن ترى بولس يشجِّع النساء -تمامًا مثل الرجال، وأنَّهنَّ مؤهَّلات للخدمة أيضًا. لذا، ادعوا الرجال والنساء إلى حضور التدريبات. نحن في منتون، فتحنا فرصة الانضمام لتدريب بدوام كامل للنساء. وفي مناسبة ترسيم قائد التدريب، كان أكثر من 50% من الحضور من النساء.
- طالما أنَّه ليس مسموحًا للنساء أن تُرسَمن كقسوس، أو أن يعِظن يوم الأحد، إذًا يجب أن نتأكَّد من زرعهنَّ في مهامٍ أخرى تفيد الحياة الكنسيَّة، وأن تكُنَّ مكرَّمات في خدمات أيَّام الآحاد.
- القسوس بحاجة إلى البحث عن طرق تمكِّنهم من الإصغاء إلى أفكار ومشكلات وهموم تلك الفئات التي لا تمثِّل جزءًا من قيادة الكنيسة، مثل النساء، والرجال الآخرين الذين ليسوا في القيادة، والشباب، وكبار السن، إلى آخره.
نحن نعيش في زمن يصارع فيه العالم ليعرف كيف يعرِّف الآخر ويتآلف معه، ويصارع لكي يفهم أهمَّ الأسئلة الأساسيَّة والوجوديَّة. أنا لا أفترض بأيِّ حال من الأحوال أنَّني أعطي جوابًا نهائيًّا. فإنني فقط أشارك بمساهمة صغيرة بأن ألفت الانتباه لهذا النصِّ الكتابيِّ العظيم. أنا أؤمن أنَّ الكتاب المقدَّس يعطي الجواب عن كلِّ هذه الأسئلة. فقد رسم الكتاب المقدَّس الصورة بشكل رائع متمثِّلة في الكنيسة المحليَّة. ولهذا، يجب ألَّا نخوض في تلك المحادثات العقيمة بشأن الرجل والمرأة، بل على العكس، نجدُّ في إثرِ حديثٍ مفعم بالنعمة واللطف.
في الأغلب، تسقط الكنائس وتفشل إمَّا في فهم الفرق بين الجنسين، وإمَّا في المبالغة في الدفاع عن هذا الفرق. ليس فقط الارتباك في فهم الجنسانيَّة الذي يسبِّب الكثير من المشكلات في مناحي الحياة المختلفة، بل مشكلات التحرُّش البشعة التي أصبحت تظهر بوضوح بين شعب الله، وهذا لا يجب أن يحدث. إذا كانت كنيستك تتبنَّى نهج الكراهية ضدَّ النساء، إذًا، يجب أن تتوب عن ذلك قبل أن يطفئ المسيح سراجها.
نحن جميعًا يجب، ونستطيع، أن نتعلَّم من المثال المُعطى لنا في كلِّ الكتاب المقدَّس، وبخاصَّة البانوراما الرائعة التي يصوِّرها لنا رومية 16. كما ذكَّرنا توم شراينر مؤخَّرًا:
يجب أن نعود إلى الكتاب المقدَّس عند كلِّ جدل بخصوص أيِّ مسألة، لأنَّ كلمة الربِّ ما زالت قادرة على إزاحة الظلام، وقادرة على تشكيلنا لنعرف كيف نفكِّر وكيف نعيش. ما زال أمامنا الفرصة للإصغاء إلى الكتاب المقدَّس، والإيمان به واتِّباعه، حتَّى ولو كنَّا في أضعف حالاتنا.