دفعني لكتابة المقال تداول مقاطع مصورة وإجابات مختصرة منتشرة لشرح المقصود بالتجديف على الروح القدس باعتباره “الخطية التي بلا توبة.” وفي ذلك ترديد لصدى مقولة ذائعة الصيت منسوبة لأحد القديسين: “ليست خطية بلا مغفرة إلا التي بلا توبة.”
ورغم صدق المقولة السابقة، إلا أنها ليست كافية لشرح مفهوم “التجديف على الروح القدس” في سياقه الكتابي وفي ارتباطه بموقف القيادة الدينية اليهودية تجاه شخص وعمل الرب يسوع باعتباره “المسيا.” فهو من دشن ملكوت السماوات والذي حل عليه الروح القدس إبان معموديته في نهر الأردن؛ ليبدأ بعدها خدمته العلنية لشعب إسرائيل بقوة وقيادة الروح القدس.
حتى أن الروح القدس هو من اقتاده للبرية ليُجرب من إبليس، وليحقق أعظم انتصار على الشيطان. فسره هو فيما بعد بتقييد للشيطان، مكنه من نهب بيت القوي وسلب أمتعته. لاحظ الترتيب المنطقي الذي يحتكم إليه المسيح لشرح طرد الشياطين في خدمته. ربط القوي يأتي أولًا، وحينئذ (أي على أساسه وتاليًا له) ينهب بيته. لنقرأ معاً كلام المسيح:
إِنْ كُنْتُ أَنَا بِرُوحِ ٱللّٰهِ أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ، فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ! أَمْ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ ٱلْقَوِيِّ وَيَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ، إِنْ لَمْ يَرْبِطِ ٱلْقَوِيَّ أَوَّلاً، وَحِينَئِذٍ يَنْهَبُ بَيْتَهُ؟ (متى٢٨:١٢-٢٩)
لذلك، ففي السطور التالية، نستعرض السياق الكتابي لفهم المدلول التاريخي لكيفية تجديف قادة اليهود على الروح القدس، وبالتالي ارتكابهم للخطية التي لم ولن تغفر.
القرينة المباشرة للتجديف على الروح القدس
بدايةً، وردت عبارة “التجديف على الروح القدس” في الإنجيل بحسب متى ٢٢:١٢-٣٢، وما يقابله في الإنجيل بحسب مرقس ٢٢:٣-٣٠ (الموقف يتشابه إلى حد بعيد وإن اختلفت مفردات السرد).
شفى الرب يسوع مجنونًا أعمى وأخرس، حتى أنه أبصر وتكلم. تحرير الرب يسوع لهذه المريض من الروح الشرير، الذي تسبب في مرضه المُركّب، قوبل من جانب الفريسيين بمحاولة لتعطيل أي إيمان ممكن كرد فعل على قوة الروح القدس العامل في الرب يسوع، بدلًا من الإيمان بالرب يسوع الذي بقوة الروح القدس أخرج الشيطان.
فسر الفريسيون مصدر قوة المسيح على أنه رئيس الشياطين (بعلزبول). وهو الرأي الذي استقر فيما بعد في الفكر اليهودي، والذي لم ينكر تاريخية يسوع المسيح في العموم أو حتى أنكر تاريخية المعجزات التي عملها وسط إسرائيل، بل اعتبره ساحرًا أو نبيًا كاذبًا (راجع تثنية ١:١٣-٥).
“هَذَا لاَ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ إِلاَّ بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ الشَّيَاطِينِ” (متى 12: 24)
كان تفسير الفريسيين بمثابة رفض مطلق للنظر لما وراء مُعجزات الرب يسوع المسيح. بشكل أكثر وضوحًا، كان رد فعل الفريسين يعني أنه مهما عمل وعلم يسوع للبرهنة على كونه المسيا ابن الله، سيقابل بالرفض على اعتباره أمرًا شيطانيًا.
من جانبه، رد الرب يسوع على الفريسيين بحجج منطقية توضح أنه لا يخرج الشياطين بقوة رئيسهم، وإلا فقد انقسمت بذلك مملكة الشيطان (متى 12: 25-29). ثم أكمل حديثه، فتكلم عن التجديف على الروح القدس:
لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ خَطِيَّةٍ وَتَجْدِيفٍ يُغْفَرُ لِلنَّاسِ وَأَمَّا التَّجْدِيفُ عَلَى الرُّوحِ فَلَنْ يُغْفَرَ لِلنَّاسِ. وَمَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ يُغْفَرُ لَهُ وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ لاَ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَلاَ فِي الآتِي. (الآيات 31-32)
لا يقصد الرب يسوع أن يقول إنه لن يغفر لهم إن تابوا وإن آمنوا به. لإنهم إن فعلوا لن يكون ما قاموا به تجديفاً على الروح القدس من الأساس. لنتذكر مرة أخرى: التجديف على الروح القدس هو الإصرار إلى النهاية على رفض عمل الرب يسوع والإيمان به والتوبة إلى الله في شخصه. إذ أن المُجدف على الروح القدس يكون بذلك أحكم غلق أي مجال يقوده للتوبة والإيمان بالمسيح. فلن يكون في هذا الدهر ولا الدهر الآتي (أي في المطلق) غفرانًا له. إذ أن الإيمان بالرب يسوع كالمسيا هو جوهر الإيمان والتوبة.
فالتجديف هو نسب الشر إلى الله أو إنكار كل خير يقدمه لنا في المسيح باعتباره أمرًا شيطانيًا. وكأن شخص المسيح به روح شرير، وليس ممتلئًا من الروح القدس.
هل يمكن أن يقع أي إنسان في خطية التجديف على الروح القدس في يومنا هذا؟
الإجابة بكل وضوح هي لا! فهناك سياق تاريخي متفرد لموقف الفريسيين لا ينطبق على المؤمنين به. فقد كان لهم الناموس والأنبياء. وكان الروح القدس يبكت قلوبهم مرارًا لقبول الرب يسوع، وشهد لابن الله مرات ومرات من خلال الآيات والمعجزات التي صنعها. مع ذلك رفضوه للنهاية بتفسيرهم لشخصه وعمله على كونه شخص مسكون بروح شرير يصنع معجزاته بقوة رئيس الشياطين. فلو كان لأحد أن يدرك شخص المسيح كالمسيا ابن الله، فهم الفريسيون. ولكنهم اختاروا الرفض للنهاية. ونسبوا عمل الروح القدس إلى الشيطان متعمدين، رغم أنهم كانوا يعرفون الحق وكان لديهم الدليل عليه.
أبعاد خطية الفريسيين في رفض الإيمان بيسوع المسيا ابن الله رفضًا واعيًا ومتعمدًا
من الضرورة بمكان أن نستوعب حقيقة رفض الفريسيين وأبعادها. فلم تكن المشكلة هي احتياجهم لمزيد من البراهين والإجابة على شكوكهم حوله. وحادثة القيامة خير دليل. فربما يتضح إصرار الفريسيين في أكثر من موقف كما رأينا في متى ١٢. لكن معرفتهم بتعليم المسيح يسوع عن قيامته وحديثهم لبيلاطس بخصوص هذا الأمر يشهد – ربما أكثر من أي أمر آخر – على حقيقة الرفض الواعي والمتعمد.
فبعد دفن جسد الرب يسوع، ٱجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ إِلَى بِيلاَطُسَ قَائِلِينَ: “يَا سَيِّدُ، قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ ٱلْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ.” فَمُرْ بِضَبْطِ ٱلْقَبْرِ إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ، لِئَلاَّ يَأْتِيَ تَلاَمِيذُهُ لَيْلاً وَيَسْرِقُوهُ، وَيَقُولُوا لِلشَّعْبِ إِنـَّهُ قَامَ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ، فَتَكُونَ ٱلضَّلاَلَةُ ٱلْأَخِيرَةُ أَشَرَّ مِنَ ٱلْأُولَى! فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: «عِنْدَكُمْ حُرَّاسٌ. اِذْهَبُوا وَٱضْبُطُوهُ كَمَا تَعْلَمُونَ». فَمَضَوْا وَضَبَطُوا ٱلْقَبْرَ بِـٱلْحُرَّاسِ وَخَتَمُوا ٱلْحَجَرَ. (متى٦٢:٢٧-٦٦).
هنا يتحدثون عنه كالمُضل لكونه تنبأ عن قيامته. وحذروا بيلاطس من احتمالية سرقة التلاميذ لجسده لتفسيرهم الضلالة الأولى للمسيح (بحسب فكرهم الشرير) على أنها قيامة لتكون بذلك حسب كلامهم ضلالة ثانية أشر.
فهل تغير موقفهم بعد شهادة حراس القبر بعد القيامة؟
وَفِيمَا هُمَا ذَاهِبَتَانِ (اثنتان من النساء عند القبر) إِذَا قَوْمٌ مِنَ ٱلْحُرَّاسِ جَاءُوا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ وَأَخْبَرُوا رُؤَسَاءَ ٱلْكَهَنَةِ بِكُلِّ مَا كَانَ. فَـٱجْتَمَعُوا مَعَ ٱلشُّيُوخِ، وَتَشَاوَرُوا، وَأَعْطَوُا ٱلْعَسْكَرَ فِضَّةً كَثِيرَةً قَائِلِينَ: «قُولُوا إِنَّ تَلاَمِيذَهُ أَتَوْا لَيْلاً وَسَرَقُوهُ وَنَحْنُ نِيَامٌ. وَإِذَا سُمِعَ ذَلِكَ عِنْدَ ٱلْوَالِي فَنَحْنُ نَسْتَعْطِفُهُ، وَنَجْعَلُكُمْ مُطْمَئِنِّينَ». فَأَخَذُوا ٱلْفِضَّةَ وَفَعَلُوا كَمَا عَلَّمُوهُمْ، فَشَاعَ هَذَا ٱلْقَوْلُ عِنْدَ ٱلْيَهُودِ إِلَى هَذَا ٱلْيَوْمِ. (متى١١:٢٨-١٥)
هنا نرى بوضوح دليلاً لا يقبل الالتباس على تعمدهم تزييف حقيقة القيامة. هنا يقدم البشير متى مفارقة ساخرة، فإن ادعاءهم الأول أمام بيلاطس كان الحرص على حماية الشعب من الضلال. بينما يظهرهم كما هم بالحقيقة، أي كمروجي الضلال عند اليهود إلى يوم كتابته بشارة الإنجيل!
كلمة ختامية
كما بدأت المقال، أختمه بالعودة للقول المأثور: “ليست خطية بلا مغفرة إلا التي بلا توبة.” بعد أن أوضحت تفرد موقف الفريسيين في زمن المسيح من الإيمان به والتوبة إلى الله بقبول إنجيل المسيح. يُعلمنا الكتاب المقدس في سياق آخر أن “اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً، بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ” (يوحنا 3: 36).
وبالتالي فإن المبدأ العام بسيط للغاية. كُل من يرفض التوبة والإيمان – أيًا كانت خلفيته الدينية أو معرفته اللاهوتية – يمكث عليه غضب الله. فالواقع أن ما يقوله يوحنا في هذه الآية يردد صدى تعليم بولس في (رومية ١٨:١-٢٠:٣). فالحالة الطبيعية للإنسان بعيدًا عن الإيمان المُخلص والتوبة هي حالة الغضب تحت لعنة الناموس التي حلت على الأممي واليهودي. وبالتالي، فمن يرفض الإيمان بعمل المسيح الفدائي الذي يسترضي غضب الله على أساس عادل وبار يحكم على نفسه بالهلاك ويرتضي أن يظل تحت الغضب. حتى وإن اختلف المعنى والسياق عن خطية “التجديف على الروح القدس.”