كلما وقع حادث إرهابيّ في إحدى كنائسنا، مخلفًا وراءه عشرات القتلى ومئات الجرحى وآلاف القلوب المهشمة على ضياع ذويها؛ إلا وتجد الأعلام يسارع في استضافة عائلات الضحايا. في كل مرة يفعل فيها الإعلام ذلك، إلا وتجد حديث أسر الضحايا يدور حول الرحمة والنعمة والغفران، عوض عن الغضب والكراهية.
ومثل هذه اللقاءات والفيديوهات يبدأ الناس في مشاركتها عبر وسائل التواصل الإجتماعي وهم في حالة من الدهشة من جرّاء هذا التصرف الرائع. ولكن على الرغم من روعة هذا الفعل، إلا أنه ليس سهلاً على الإطلاق.
ما أخشاه حقًّا في عصر مقاطع الفيديو القصيرة أن نندفع لمشاهدة هذه الفيديوهات على فيسبوك وتويتر، ونتفاعل معها بشكل وقتيٍّ، لكن لا نفهم أو نقدِّر المغزى العميق من ورائها.
نحن بحاجة إلى أن نهدأ ونفكِّر مليًّا فيما يتطلَّبه الأمر لتقديم هذا النوع من الغفران، وما تكبَّده هؤلاء الأشخاص حتَّى يحافظوا على روح الغفران. في الحقيقة، الغالبيَّة منَّا تخطَّى هذا الحدث. أمَّا بالنسبة لذوي الضحايا، ومجتمع الكنيسة التي ينتمون إليها، ستظلُّ ذكرى هذا الحدث عالقة بأذهانهم.
لقد اختاروا طريق الغفران. لكن دعونا ندرك أنَّ طريق الغفران مكلِّف وطويل وصعب.
تكلُفة الغفران
الغفران لا يحدث بسهولة ودون ثمن، الغفران دائمًا تكلفته عظيمة على الشخص المظلوم. في بعض الحالات، يدفع الشخص المظلوم ثمنًا طويل المدى. حين يختار أن يدفع ثمن الجروح حتَّى النهاية، مادِّيًّا وعاطفيًّا وروحيًّا، عوضًا عن السعي إلى الانتقام (بالمثل، وبنفس المقدار) من الشخص المُسيء. عندما يفعل المؤمن هذا، يتمثَّل بالمسيح، الذي واجه الظلم من المتمرِّدين الخطاة، وتألَّم ومات، حتَّى يغفر لنا خطايانا ويصالحنا مع الله.
نحن دائمًا نحتفي بعمل المسيح، لكن دعونا نتذكَّر أنَّ عمله هذا تسبَّب له في ندبات دائمة على جسده. حتَّى في داخل قلبه نفسه، هناك ذكرى دائمة للثمن الغالي الذي قدَّمه من أجل أن يغفر لنا.
لذا، من السذاجة أن نشير إلى تصرُّف ذوي ضحايا حادث الكنيسة، ونقول لمن يتألَّمون من جرَّاء ظلم بيِّن: “يجب أن تتخطُّوا ذلك”، حتَّى تغفروا عوض أن تغضبوا.
في الواقع، الغضب شيء طبيعيٌّ وغريزيٌّ عندما يُساء إلينا. فكِّر في ردَّة فعلك آخر مرَّة سُلب منك امتياز معيَّن، أو أُسيء الظنُّ بك. إن سَبَب شهرة الفيلم السينمائي Taken، ليس لأنَّ الشخصيَّة الرئيسيَّة في القصَّة (الأب) قرَّر أن يغفر ويتصالح مع خاطفي ابنته، بل لأنَّه انتقم منهم انتقامًا دمويًّا. وقد رأينا في عديد من الحوادث المأساويَّة الأخرى، مثل حادث مقتل الجنود المصريين في سيناء، أو حرق الدولة الإسلاميّة (داعش) للطيار الأردني معاذ الكساسبة، كيف ارتفعت صيحات الغضب للمطالبة بالقصاص الفوريِّ.
لذلك، نشعر بالصدمة عندما نرى الضحيَّة لا تسعى إلى الانتقام. عندما يختار شخص أن يغفر، فهذا يتطلَّب منه أن يدفع ثمنًا باهظًا للغاية.
وتاريخيًّا، يمكن القول إنَّ الأقليات المسيحيّة في الشرق الأوسط، دفعت الثمن أكثر من كلِّ الأقليات والعراق الأخرى في بلادنا ذات الغالبية المسلمة. لكنَّ هذا لا يعني أن نستبيح هذا الغفران ونستهين به ونعتبره حقًّا مكتسبًا، بل أن نشكر الله في كلِّ مرَّة عندما نراه.
الغفران عمليَّة طويلة وصعبة
على الرغم من اختفاء أخبار المذبحة الإرهابية التي حدثت على مدار عقود طويلة ضد المسيحيين وكنائسهم من عناوين الأخبار، فإنَّها ستبقى حاضرة دائمًا في أذهان الأشخاص الذين تألَّموا بسببها. لقد امتدحنا ما فعلوه، وشاركنا أخبارهم على الفيسبوك، ثمَّ انتهى الأمر وانشغلنا بأمر آخر جديد. أمَّا عائلات ضحايا تلك الحوادث الإرهابية، ستظلُّ تسعى لتحافظ على روح الغفران كلَّ يوم.
الغفران لا نستطيع أن نحياه بسهولة، لأنَّه يتطلَّب ممارسة يوميَّة، ورغبة حقيقيَّة في أن ننظر إلى الندبات التي سبَّبها لنا الظلم، ونختار أن نعالجها بالنعمة، عوض أن نلتفت إلى الخلف بغضب ونسعى إلى الانتقام. مع الوقت، سيتلاشى الغضب ورغبة الانتقام أكثر وأكثر من المشهد.
لكنَّنا لا نصل إلى هذه المرحلة بسرعة، خاصَّةً لو كان الجرح عميقًا. ولهذا، يشبه الغفران سباقًا طويلاً وليس مجرَّد عمل سحريّ في لحطة. بعض الخطوات قد تكون أشدَّ ألمًا من الأخرى.
في بعض الأحيان نجتاز في صراع مرير وكأنَّنا نضارب الهواء، عندما نفكِّر أنَّنا فقدنا أحباءنا بسبب الكراهية والتعصب البغيض، في هذه اللحظات يكون الغفران صعبًا ومتعبًا. كثيرًا ما تعلو صرخة “إلى متى يا ربُّ؟” من الأقليات المسيحية المُضطهدة في الشرق الأوسط بسبب وطأة الشعور بالظلم، وهم يحاولون الحفاظ على إيمانهم بالربِّ، مع تزايد الإحباط وفقدان الأمل، من أن يروا نهاية قريبة للعنصريَّة ضدهم، ولحملات الإيادة والتهجير الممنهجة، دون محاسبة حقيقيّة للإرهابيين.
رصيد النعمة
التصرُّف الذي غالبًا ما تسلك عائلات ضحايا المؤمنين، ليس أمرًا سحريًا نستغله في كسب الجدالات بين المسيحيّة والإسلام على مواقع التواصل الإجتماعيّ، ولا هو مجرّد فرصة نستغلها لفتح ملفات حقوق الأقليات المسيحيّة المقهورة في الدول ذات الغالبية المسلمة.
بل هو موقف مشرِّف، يجب أن نفكِّر فيه باهتمام. ويجب أن يشجِّعنا ذلك على النظر إلى ذواتنا أوَّلاً، حتَّى نفكِّر في الثمن الباهظ الذي يجب أن ندفعه، حتَّى نظهر نعمة الله في حياتنا للآخرين، وبخاصَّة هؤلاء الذين سبَّبوا لنا الألم أكثر من غيرهم.
نشكر الرب لأن رصيد النعمة الذي لنا ليس فارغًا، بل ممتلئ. طالما كان هناك ذاك الذي دفع أغلى ثمن للغفران قبل أن يفكِّر أو يفعل ذلك أيُّ شخص منَّا (2 كورنثوس 8: 8). ليت هذا الفداء يقودنا إلى أفكار أكثر وكلام أكثر وأفعال أكثر عن نعمة المسيح، لتظهر من خلالنا لكلِّ العالم.