المقدمة
كلُّ يومٍ، يعاني آلافُ المسيحيين الاضطهاَد، وذلكَ ببساطةٍ، بسببِ اتباعِهِم المسيح. ويواجهُ ملايينُ من المؤمنين يوميّاً، خطرَ مصادرةِ ممتلكاتِهم، ويُعتدى على قادتِهم ويُسجنون، وتتعرضُ عائلاتُهم للضربِ والخطفِ وحتى القتلِ.
في الحقيقةِ، كان اضطهادُ المسيحيين في فكرِ مَرقُسَ عندما كتبَ ما هو اليومَ الإنجيلُ الثاني في العهدِ الجديدِ، أي إنجيلُ مَرقُس. وقد اختبرتِ الكنيسةُ المسيحيةُ الباكرةُ الألمَ في نواحٍ عدة. لكن كيف يفهمُ المؤمنون المغزى من ألمِهم؟ وما هو الدرسُ الذي يُمكنُهم أن يتعلموه من مثالِ يسوعَ وَسَط معاناتِهم؟ أجاب مَرقُس عن أسئلةٍ من هذا النوعِ بإخبارِهِم قصةَ حياةِ يسوعَ بطرقٍ دعّمَت إيمانَ المسيحيين الأوائلِ وشجعتْهم على الثباتِ.
هذا هو الدرس الثالث في سلسلتنا الأناجيل، وقد أعطينا هذا الدرس العنوان “الإنجيل حسب مَرقُس”. في هذا الدرس، سندرس عن قرب سِجل مَرقُس لحياة يسوع، بحيث يمكننا تطبيق تعاليمه بصورة فعَّالة أكثر على حياتنا اليوم.
تنقسم دراستنا لإنجيل مَرقُس إلى ثلاثة أقسام رئيسية. أول، خلفية إنجيل مَرقُس. ثانياً، بنية الإنجيل ومحتواه. ثالثاً، نحلِّل بعض المواضيع الرئيسية في إنجيل مَرقُس. لنبدأ بخلفية إنجيل مَرقُس.
الخلفية
سنتناول خلفية إنجيل مَرقُس عن طريق فحص الكاتب مَرقُس نفسه، وقراءه الأولين، والمناسبة أو ظروف الكتابة. لنبدأ أول بكاتب إنجيل مَرقُس.
المؤلف
نتناول كاتب إنجيل مَرقُس من ناحيتين. الأولى، الموقف التقليدي من كاتبه. والثانية، السيرة الشخصية للكاتب. لنبدأ بالموقف التقليدي من كاتب هذا الإنجيل.
الموقف التقليدي
يُجمِع التقليد الكنسي القديم على أنّ يوحنا مَرقُس هو مَن كتب إنجيل مَرقُس. ففي العهد الجديد، يظهر مَرقُس كأحد أنسباء برنابا. وهو رافق بولس وبرنابا في رحلتهما التبشيرية الأولى في أعمال الرسل. أما أم مَرقُس فقد كان لها بيت في أورشليم كان التلاميذ الأولون يجتمعون فيه. كما يشير بُطْرُس إلى يوحنا مَرقُس كابنه. وفي إحدى رسائله يقول بابياس إن يوحنا مَرقُس كان مع بُطْرُس في روما ودوّن كلّ تعاليمه بدقّة.
—د. روبرت بلَمَر
من بين الكتّاب المسيحيين الأوائل الذين أشاروا إلى مَرقُس ككاتب الإنجيل الثاني، بابياس. عاش بابياس في بداية القرن الثاني، وكان أسقفاً في آسية الصغرى حوالي عام ١٣٠ للميلاد.
نحن نعرف موقف بابياس من خلال مؤرخ الكنيسة الشهير يوسابيوس، فهو كتب حوالي عام ٣٢٥ للميلاد. في مؤلفه تاريخ الكنيسة، المجلد ٣ والفصل ٣٩ والجزء ١٥، اقتبس يوسابيوس عن بابياس ما يلي:
إن مَرقُس الذي أصبح مترجم بُطْرُس، دوّن بدقة، لكن ليس بالترتيب، كل ما تذكّره من أقوال وأعمال المسيح. فهو لم يسمع الرب ولا تبعه، لكنه، كما قلت آنفاً، صار لاحقاً من أتباع بُطْرُس، الذي كيّف تعليم الرب مع حاجات سامعيه.
وفق بابياس، يعتمد إنجيل مَرقُس بشدة على تعليم الرسول بُطْرُس. لم يكن مَرقُس شاهد عيان على خدمة يسوع، لكنه دوّن ما رآه بُطْرُس وسمعه من يسوع.
أعتقد أن تقاليدنا الكنسيّة الباكرة قريبة كفايةً من الحقبة التي كُتِبت فيها الأناجيل ومن حقبة بداية انتشار الأناجيل بين الناس. والمثال الأفضل على ذلك هو ما نعرفه من بابياس الذي كان أسقفاً لهيرابوليس في آسيا الصغرى في مطلع القرن الثاني. فقد كتب بابياس كتاباً كبيراً لم يبقَ منه أثرٌ، للأسف، ولا نملك حاليّاً من كتاباته إلا بعض المقتطفات الصغيرة، ومنها ما يضمّ بعض الملاحظات حول الأناجيل. ويقول لنا بابياس بالتحديد إنّ مَرقُس كتب إنجيله معتمِداً على كرازة بُطْرُس. فقد كان مَرقُس مترجماً لبُطْرُس بحسب بابياس، ما قد يعني أنّه قام بترجمة لغة بُطْرُس الآرامية إلى اليونانية أو اللاتينية. ويَعتبر بابياس أنّ مَرقُس كتب إنجيله مستنِداً إلى معلوماته التي جمعها من كرازة بُطْرُس. وأعتقد أنّ هذا التقليد قد يكون الأكثر مصداقيّةً وقِدَماً بين التقاليد المتعلّقة بالأناجيل، وأنا لا أرى أيّ سببٍ يدعو إلى الشك في صحّته.
—د. ريتشارد بوكام
أقرّ كتّاب آخرون في الكنيسة الباكرة أيضاً بالموقف التقليدي الذي يقول إن مَرقُس كتب هذا الإنجيل. على سبيل المثال، تؤكد مقدمة ضد مارقيون للإنجيل الثاني، التي كُتبت حوالي عام ١٧٠ للميلاد، بوضوح أن مَرقُس هو كاتب الإنجيل. أما إيريناوس وقد كتب حوالي عام ١٧٧ للميلاد، فيدعم هو أيضاً هذا الرأي. أيضًا، فإن المخطوطات اليونانية الباكرة التي تعطي عنواناً لهذا الكتاب، تسميه “حسب مَرقُس”.
كانتِ الأدلةُ التي تدعمُ مرقسَ ككاتبٍ للإنجيلِ الثاني، منتشرةً في الكنيسةِ الباكرةِ. في الواقعِ، لا يوجدُ عندنا أيُّ سجلٍ من الكنيسةِ الباكرةِ يشيرُ إلى خِلافٍ ذي شأنٍ حولِ هويةِ كاتبِه. ورَغْمَ أن بعضَ الدارسين في العصورِ الحديثةِ، حاولوا أن يُنكروا هذا المَوقِفَ التقليديَّ، لكنهم لم يدحضوا الشهادةَ القديمةَ القائلةَ إن مَرقُسَ هو كاتبُ الإنجيلِ، كما أنهم لم يتمكنوا من الإشارةِ إلى أيِّ شيءٍ في الإنجيلِ نفسِه يستبعدُ مَرقُسَ ككاتبٍ. لهذه الأسبابِ، يُمكن للمسيحيينَ في عصرِنا أن يُقِرّوا بثقةٍ بأن مَرقُسَ كتبَ هذا الإنجيلَ.
الآن وقد أثبتنا صحة الموقف التقليدي الذي يدعم مَرقُس ككاتب للإنجيل، لنفحص سيرته الشخصية لنتمكن من فهم ما دوّنه بصورة أفضل.
السيرة الشخصية
وفق أعمال الرسل ١٢: ١٢، فإن مَرقُس هو ابن امرأة تدعى مريم، تعيش في أورشليم، اجتمع في بيتها بعض المسيحيين في أورشليم للصلاة من أجل بُطْرُس عندما كان في السجن. لذا، فإن علاقة مَرقُس ببُطْرُس وبقية الرسل بدأت على الأقل في هذه المرحلة الباكرة.
مَرقُس هو أيضاً ابن عم برنابا، بحسب النص الأصلي لكولوسي ٤: ١٠. كما أنه عاون بولس وبرنابا في رحلتهما التبشيرية الأولى. لكنه، كما ورد في أعمال الرسل ١٣: ١٣، تركهما في منتصف الرحلة وعاد إلى أورشليم.
وقد رفض بولس، نتيجة لذلك، أن يسمح لمَرقُس بالانضمام إليه في رحلته التبشيرية الثانية. وهكذا افترق بولس عن برنابا بسبب هذه المسألة كما نقرأ في أعمال الرسل ا١٥: ٣٦ – ٤١: فأخذ برنابا مَرقُس معه للخدمة في قبرص، بينما اختار بولس سيلا بدل برنابا ليرافقه في سفره.
لكن بحسب كولوسي ٤: ١٠، يبدو أن مَرقُس استعاد ثقة بولس، حتى إنه كان معه في إحدى فترات سجنه.
لاحقاً، عاون مَرقُس بُطْرُس في خدمته في روما. في الواقع، ربطته ببُطْرُس علاقة حميمة حتى دعاه بُطْرُس بحنان: “ابني”، في ١ بُطْرُس ٥: ١٣. ويُرجّح أنه خلال هذه الفترة علّم بُطْرُس مَرقُس معظم التفاصيل عن خدمة يسوع الأرضية التي نجدها مدوّنة في إنجيل مَرقُس.
مَرقُس، أو بالأحرى يوحنّا مَرقُس باسمه الكامل، هو شخصيّةٌ مثيرةٌ للاهتمام في الكتاب المقدّس. فهو لا يظهر إلا في حالاتٍ قليلة، وأمّه كانت تُدعى مريم، وكانت تملك بيتاً في أورشليم. ونعرف ذلك لأنّ الكنيسة كانت تجتمع في بعض الأحيان في هذا البيت. وقد كان مَرقُس نسيب برنابا الذي كان أحد رفاق الرسول بولس في التبشير. وقد سافر مع بولس وبرنابا في رحلتهما التبشيرية الأولى. ونقرأ في تاريخ الكنيسة أنّه كان قريباً من بُطْرُس أيضاً. وفي الواقع، يقول لنا تقليد الكنيسة إنّ إنجيل مَرقُس كان فعل نوعاً من الاستعادة لأقوال بُطْرُس. فيتساءل البعض “مَن مَرقُس هذا؟ فهو ليس برسول”؛ هذا صحيح، فهو حتماً لم يكن رسول، ولكن أنظروا إلى حياته المذهلة. فهو على الأرجح قد رأى وعرف يسوع وهو بعدُ شاب. فقد كان إذاً شاهداً على وجود المسيح، وربّما شاهِد عيان على القيامة. ولكن مَن كان مرشدوه؟ المرشدان الأساسيّان كانا بولس رسول الأمم وبُطْرُس الذي يمثّل فعل التلاميذ الإثني عشر؛ ما يعني أنّه مؤهَّل تماماً لكتابة إنجيل يسوع المسيح.
—د. مارك ستراوس
بعد أن تكلمنا عن مَرقُس ككاتب لهذا الإنجيل، فلنفحص هوية القرّاء الأولين لإنجيل مَرقُس.
القرّاء الأوّلون
إن شهادة الكنيسة الباكرة وبعض التفاصيل في إنجيل مَرقُس، تشير إلى الكنائس في إيطاليا، لا سيما في مدينة روما، كقرّاء مَرقُس الأولين.
سنفحص الرأي القائل بأن مَرقُس كتب إلى كنائس إيطاليا وروما عن طريق النظر باختصار إلى شهادة الكنيسة الباكرة وبعض التفاصيل في إنجيل مَرقُس نفسه. لننظر أول إلى شهادة الكنيسة الباكرة.
شهادة الكنيسة الأولى
الشهادات الثلاث التي ذكرناها سابقاً، بابياس الذي كتب حوالي عام ١٣٠ للميلاد، والمقدمة ضد مارقيون كُتبت حوالي عام ١٧٠ للميلاد، وإيريناوس الذي كتب حوالي عام ١٧٧ للميلاد، تخبرنا جميعها أن مَرقُس كتب إنجيله في إيطاليا، ويحدّد بعضها روما كمكان الكتابة. كما لم تُشر أي من تلك الشهادات إلى أن مَرقُس أرسل إنجيله إلى كنيسة في مدينة أخرى، أي أن مَرقُس كتب إلى الكنائس المحلية في المكان الذي عاش فيه. وما يدعم ذلك هو الشاهد في رسالة بُطْرُس الأولى ٥: ١٣، الذي يحدٍّد موقع مَرقُس في روما في الفترة التي خدم فيها إلى جانب بُطْرُس.
بالطبع، كما هي الحال بالنسبة إلى كل الأناجيل، برهن التاريخ أن الله أراد لإنجيل مَرقُس أن يُستخدم في كل الكنائس، في كل العصور. لكننا نكون أكثر استعداداً أن نفسّر إنجيل مَرقُس بالطريقة التي قصدها مَرقُس، عندما ندرك أن مَرقُس كتب بقلق بالغ على مصير المسيحيين الإيطاليين، ولا سيما مسيحيي روما في زمنه.
بالإضافة إلى شهادة الكنيسة الباكرة، تشير العديد من التفاصيل في إنجيل مَرقُس إلى أنه كتب إلى كنائس في إيطاليا، وأكثر تحديداً في روما. سنشير إلى أربعة تفاصيل في إنجيل مَرقُس تدعم الرأي بأنه كتب إلى كنائس إيطاليا وروما.
تفاصيل الإنجيل
أولاً، في مناسبات عدة، قام مَرقُس بشرح العادات الفلسطينية إلى قرائه. على سبيل المثال، شرح مَرقُس ممارسة الفَريسيين لعادة غسل الأيدي في مَرقُس ٧: ٣ – ٤. وشروح من هذا النوع تشير إلى أنه يوجد بين قرّاء مَرقُس، عدد كبير من غير اليهود الذين كانوا يعيشون خارج فلسطين.
تفصيل ثانٍ ينسجم مع فرضية أن القرّاء هم من إيطاليا وروما، هو شرح مَرقُس للعبارات الآرامية. استمع على سبيل المثال إلى شرحه للأسماء المُعطاة ليعقوب ويوحنا في مَرقُس ٣: ١٧:
وَيَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَا يَعْقُوبَ، وَجَعَلَ لَهُمَا اسْمَ بُوَانَرْجِسَ أَيِ ابْنَيِ الرَّعْدِ.
وقد قدّم مَرقُس شروح مماثلة في ٥: ٤١، و٧: ٣٤، و١٥: ٢٢، ٣٤. فسكان فلسطين الذين يتكلمون الآرامية، لم يكونوا بحاجة إلى هذه الشروح، وحتى اليهود خارج فلسطين، كانوا معتادين على الآرامية والعبرية في مجامعهم. من هنا، هذا التفصيل يقودنا إلى أن مَرقُس كتب إلى أشخاص غير يهود يعيشون خارج فلسطين.
تفصيل ثالث يشير حتى بأكثر وضوح إلى قرّاء في إيطاليا وروما، هو استخدام مَرقُس كلمات لاتينية أكثر من أي من كتّاب الأناجيل الآخرين، ما يدل على أن عدداً كبيراً من قرائه يفهمون اللاتينية.
في القرن الأول، لم تكن اللغة اللاتينية محكية على نطاق واسع في عالم البحر المتوسط. فقد كانت محصورة بالدرجة الأولى بإيطاليا، الوطن الأُم للإمبراطورية الرومانية. من هنا، لا شك في أن استخدام مَرقُس كلمات لاتينية ١٥ مرة في إنجيله أمر له دلالته. مثل في مَرقُس ١٢: ٤٢ كتب الكلمة اللاتينية لبتا بأحرف يونانيّة، للإشارة إلى قطعة نقود نحاسية صغيرة. وكان من المستبعد أن يفهمها أولئك الذين لا يتكلمون اللاتينية.
أما التفصيل الرابع الذي يدعم إمكانية كتابة مَرقُس إلى كنائسِ إيطاليا لا سيما روما، هو ذكر مَرقُس لشخص يدعى رُوفُس.
في مَرقُس ١٥: ٢١، نقرأ أن الرجل الذي حمل صليب يسوع إلى الجلجثة، كان والد رُوفُس وأَلَكْسَنْدَرُس، وهما شخصان لا يلعبان أي دور في إنجيل مَرقُس. فما القصد من ذكر مَرقُس لهما؟ أحد أفضل التفاسير المعروفة، هو أنهما كانا معروفَين من قبل قرّاء مَرقُس أو على الأقل من بعضهم. في الواقع، ورد اسم رُوفُس كعضو في كنيسة روما في رسالة رومية ١٦: ١٣. وإذا افترضنا أن روفس هذا هو الشخص ذاته المشار إليه في مَرقُس، يمكننا أن نستنتج أن مَرقُس كتب إلى الكنيسة التي في روما.
أيٌّ من هذه النقاطِ منفردةً لا يمكنُها أن تُثبِتَ أن روما هي المكانُ الذي كتبَ إليهِ مَرقُسُ إنجيلَه. لكنها مجتمعةً معاً، تدعمُ الشهادةَ القويةَ للكنيسةِ الباكرةِ. وكما سنرى لاحقاً في هذا الدرسِ، فإن قراءةَ الإنجيلِ وفي ذِهنِنا قرّاءٌ رومانٌ، يُمكنُ أن يُساعِدَنا على فهمِ بعضِ تشديداتِ مَرقُسَ الخاصةِ، وعلى تطبيقِها على حياتِنا في كنيستِنا اليومَ.
مع إبقاء الكاتب والقرّاء الأولين لهذا الإنجيل في ذهننا، صرنا مستعدين أن نفحص ناحية ثالثة لخلفية إنجيل مَرقُس: المناسبة أو ظروف الكتابة.
المناسبة
سنتناول مناسبة إنجيل مَرقُس من ناحيتين. أول، سننظر في التاريخ الذي كتب فيه مَرقُس. وثانياً، سنفحص القصد من كتابته. لنبدأ بالنظر في تاريخ إنجيل مَرقُس.
التاريخ
لا يمكن تحديد تاريخ كتابة مَرقُس بكل يقين. لكن بصورة عامة، يبدو أن الأدلة تشير إلى تاريخ في منتصف الستينيَّات من القرن الأول.
والشهادات القديمة أمثال “إيريناوس” و”مقدمة ضد مارقيون” لمَرقُس، تعلن أن مَرقُس كتب إنجيله بعد موت بُطْرُس. وعلى الأرجح أن بُطْرُس استُشهِد في روما خلال فترة اضطهاد الإمبراطور الروماني نيرون للكنيسة، الذي نشب بعد حرق روما عام ٦٤ للميلاد. قد نستنتج من كلام بابياس أن مَرقُس بدأ عمله أثناء حياة بُطْرُس، لكنه لا يستبعد إمكانية موت بُطْرُس قبل أن ينهي مَرقُس إنجيله. من هنا، من المنطقي أن نعتبر أن التاريخ الأبكر لإتمام مَرقُس كتابة إنجيله هو حوالي عام ٦٤ للميلاد.
أما تحديد التاريخ الأقصى لكتابة مَرقُس فهو أصعب. فكما رأينا في درس سابق، يعتقد الكثير من الدارسين أن مَرقُس هو أول إنجيل كُتب، وأن متى ولوقا استخدما مَرقُس كمرجع عندما كتبا إنجيليهما. وإذ لم يشر أي من هذه الأناجيل الثلاثة إلى دمار أورشليم وهيكلها، الذي حصل عام ٧٠ للميلاد، يستنتج الكثير من الدارسين أن متى ومَرقُس ولوقا كتبوا جميعاً قبل ذلك الوقت. وفي حال استلم كل من متى ولوقا إنجيل مَرقُس واستخدمه قبل إتمام إنجيله، فمن الآمن أن نقول إن مَرقُس قد تمت كتابته في تاريخ أبكر من عام ٧٠ للميلاد – بلا ريب قبل نهاية عام ٦٩ للميلاد، وعلى الأرجح في عام ٦٧ كتاريخ باكر، مما وفّر الوقت الكافي لمتى ولوقا ليتعرّفا إلى إنجيل مَرقُس قبل كتابة إنجيلَيهما.
مع إبقاء تاريخ إنجيل مَرقُس في ذهننا، فلننظر الى القصد من كتابته.
القصد
يمكن القول إن مَرقُس والأناجيل الأخرى اشتركت معاً في قصد واحد: وهو الحفاظ على سجل تاريخي حقيقي عن حياة يسوع وتعاليمه. فبعد عام ٥٠ للميلاد تزايد عدد الذين ماتوا من الرسل، ومن الشهود لحياة المسيح وموته وقيامته. من هنا، كانت هناك حاجة متزايدة للحفاظ على شهادتهم. وكما أشار يوسابيوس وغيره من كتّاب الكنيسة الباكرة الذين أشرنا إليهم، فإن جزءاً من قصد مَرقُس كان الحفاظ على سجل بُطْرُس لخدمة يسوع.
لكن الحفاظ على هذا السجل لم يكن قصد مَرقُس الوحيد. فكما هي الحال بالنسبة إلى كل كاتب إنجيل، لم يشأ مَرقُس أن يَعْرفَ قراؤه فقط عن يسوع، بل أرادهم أن يستخلصوا دروساً من حياة يسوع ويطبقّوها على حياتهم الخاصة. ولكن ما كانت ظروف حياتهم؟
كانت فترة الستّينيّات بعد الميلاد في روما صعبةً جدّاً على المسيحيّين. فلا يمكن أن ننسى أنّه حتّى هذه الفترة، في القانون الروماني، كانت اليهودية الديانة الوحيدة المُعتَرَف بها؛ وكانت تُدعى باللاتينية ريليجيو ليسيتا أي الديانة الشرعيّة. لذلك لم يتعرّض اليهود المسيحيّون إلى الكثير من الاضطهاد لأنّ الرومان كانوا يعتقدون أنّهم جزءٌ من اليهود. ولكن ماذا سيحصل عندما تبدأ السلطات الرومانية بالشكّ في أنّ هذه الديانة الجديدة تستقبل الأمم، أي غير اليهود، وأنّها مختلفة عن الديانة اليهودية؟ فجأةً لن تعود هذه الديانةُ آمنةً وقد يسبّب ذلك نوعاً من التوتّر لدى السلطات الرومانية. وهذا بالتحديد ما كان يحصل، أو ما سُجّل في روما في مطلع الستّينيّات بعد الميلاد. فأوّل خمس سنوات من عهد نيرون مرّت على خير نوعاً ما. ولكن منذ ذلك الحين وحتّى موته في العام ٦٨ كانت تصرّفاته غير متوقّعةٍ. ثمّ لدينا بولس الذي وصل إلى روما حوالي العام ٦٠ للميلاد، وكان مستعدّاً أن يموت من أجل المسيح، وأن يُظهِر أنّ هذه الديانة الحديثة هي للجميع، بما فيهم الإمبراطور نيرون. وحتماً عندما سيكتشف نيرون ذلك سيدرِك أنّ هذه الديانة لا تُعجِبه. “فمن المفترض أن أكون أنا المسؤول، وهم يعلنون أنّ يسوع هو الرب”. فعند اندلاع حريق روما الكبير في ١٨ من تمّوز من العام ٦٤ للميلاد، وقع اللّوم على نيرون، لكنّه اتهم هذه المجموعة الجديدة، أو البدعة الجديدة التي تُدعى المسيحيّة. وكم هو محزنٌ ما نسمعه حول تلك الحادثة.
—د. بيتر واكر
خلال السنوات التي يرجح أن مَرقُس كتب فيها، كانت الكنيسة في روما تعاني من الاضطهاد إبان حكم الإمبراطور نيرون. حَكمَ نيرون في الفترة بين ٥٤ و٤٨ للميلاد. وقد اشتهر باتهامه المسيحيين زوراً بحرق روما سنة ٤٤ للميلاد، وبمعاقبتهم بطرق رهيبة.
في عهد نيرون، قامت روما باضطهاد الكنيسة بقسوة. ففي البداية، كانت روما مؤسَّسة كجمهورية. لاحقاً، وبعد اغتيال يوليوس قيصر، قام أُغسطس بقيادة جيشه واحتلّ مدينة روما وحلّ مجلس الشيوخ. فأصبحت الجمهورية الرومانية الإمبراطورية الرومانية وأصبح أغسطس إمبراطورها الأوّل. ويشير ذلك إلى بداية تاريخ الشراسة الرومانية. ففي الواقع، لم يكن نيرون الأسوأ في اضطهاد المسيحيين. فأباطرة آخرون هاجموا المسيحيّة بعنفٍ أكبر، والكثير من المسيحيّين عانوا الأمرّين وقُتِلوا صلباً أو أُحرِقوا حتّى الموت، كما ذُكِر في السجلات التاريخية. والكثير من الشهداء في عهد الكنيسة الأولى شهدوا في موتهم لرحمة الله وبرّه.
—د. ستيفين تشان
كانت الحياة قاسية من عدة أوجه بالنسبة إلى المسيحيين في روما وضواحيها في تلك الفترة. وكما سنرى، فقد هدف مَرقُس بإنجيله ليعينهم في ظروفهم القاسية. وعلى الرغم من وجود عدة نواح نصِف من خلالها قصد مَرقُس من الكتابة، سنركز في هذا الدرس على الرأي القائل بأن مَرقُس كتب إنجيله ليقوّي المسيحيين المضطهدين في روما.
أوضحَ إنجيلُ مرقسَ أنه مهما كانتِ الصعوباتُ والتجاربُ التي واجهَها المسيحيون الرومانُ في تألمِهم لأجلِ المسيحِ، يُمكنُهم أن يَثقوا بأن يَسوعَ قد اختبرَ تلك الآلامَ. فقد حُكِمَ عليه ظُلماً في مَحكمةٍ رومانيةٍ، وضُرِبَ من قِبَل جنودٍ رومان. وصُلبَ على صليبٍ رومانيٍّ. لكن وَسَطَ آلامِه هذه، كان يسوعُ منتصراً. وأراد مَرقُسُ أن يؤكِدَ لقُرائه أنهم في حال تبعوا يسوعَ بأمانةٍ، فسوف ينتصرون هم أيضاً. صحيحٌ أنهم سيتألمون، لكنَّ ألمَهم سيكونُ طريقَهم إلى المجدِ، كما كانتِ الحالُ بالنسبةِ ليسوعَ.
الآن وقد نظرنا في خلفية إنجيل مَرقُس، لننتقل إلى بنيته ومحتواه.
البنية والمحتوى
ينقسم إنجيل مَرقُس إلى حد كبير إلى خمسة أجزاء رئيسية. في الجزء الأول، يفتتح مَرقُس إنجيله بـإعلان موجز عن يسوع أنه المسيح وذلك في ١: ١ – ١٣. أما الجزء الثاني فهو جزء طويل يتحدث عن سلطان المسيح وذلك في ١: ١٤ – ٨: ٢٦. أما الجزء الثالث فهو قصير، محوري وهام، يظهر فيه اعتراف الرسل بالمسيح في ٨: ٢٧ – ٣٠. أما الجزء الرابع فهو جزء كبير قصصي يتناول آلام المسيح من ٨: ٣١ – ١٥: ٤٧. أما الجزء الخامس فهو خاتمة قصيرة تدوّن انتصار المسيح في ١٦: ١ – ٨. وسننظر في كل من هذه الأجزاء بصورة أعمق، بدءًا من الإعلان عن المسيح.
الإعلان عن المسيح
استمع كيف يبدأ إنجيل مَرقُس في ١: ١:
بَدْءُ إنجيل يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللهِ.
عندما أشار مَرقُس إلى يسوع على أَنه المسيح، استخدم الترجمة اليونانية للكلمة العبرية مَشِيح. وعلى نحو مشابه، فإن عبارة ابن الله هي دليل آخر على أن يسوع هو مسيح الله.
في العهد القديم وفي اللاهوت اليهودي المعاصر، كان يجب أن يكون المسيح الموعود من نسل الملك داود الذي سيستعيد عرش إسرائيل الملكي ويقود الشعب إلى ملكوت الله على الأرض.
هذا الإعلان الافتتاحي تبعه سجل مختصر عن معمودية يسوع على يد يوحنا المعمدان في مَرقُس ١: ٢ – ١١. في نهاية معمودية يسوع، نزل الروح القدس على يسوع، وسمع صوت الله الآب من السماء معلنًا أن يسوع هو ابنه الحبيب. وهكذا، أكدّ الروح القدس والآب كلاهما بأن يسوع هو حقًا المسيح الذي طال انتظاره.
من المشوّق أن نفكّر في موقف اليهود في زمن يسوع من مجيء المسيح الموعود. في الواقع، كانت المواقف مختلفةً آنذاك. فبعض الوثائق في مخطوطات البحر الميّت تُظهر أنّ البعض كان يؤمن بمجيء مسيحَيْن، مسيح نبي ومسيح ملك. ولكنّ التوقّع السائد كان أنّ المسيح سيكون إبنًا لداود وأنّه سيجلب معه السلام السياسي وحتماً سيطرد الرومان. أعتقد أنّ النظام الديني كان يؤمن بأنّ الملكوت سيأتي إذا أطاعت إسرائيل الشريعة. وقد اعتبروا في الواقع أن يسوع يشكّل تهديدًا في هذا الصدد بالنسبة إلى هذا النظام، لأنّ يسوع لم يُظهر أيّ خضوع للشريعة بل قام بانتهاكها، على الأقلّ بنظرهم. فهو لم يأتِ بالإصلاحات السياسية كما توقعوا منه، ولم يتصرّف أيضًا كما توقعوا من نحو الشريعة، لذلك كان الشعب، على ما أظنّ، مصدومًا منه. وأعتقد أنّهم رأوا يسوع كما في سفر التثنية ١٣، كشخصٍ صنع آيات ومعجزات، غير أنّه نبيٌّ مزيّفٌ ولذلك يجب أن يُقتَل.
—د. توماس شراينر
لكن يسوع لم يكن ذلك المسيح الذي توقعه الكثيرون. بصورة عامة، ظن اليهود في القرن الأول أن المسيح سيدخل إسرائيل في موكب عسكري ويقلب الحكم. لكن نتعلم من مَرقُس ١: ١٢ – ١٣، أنه مباشرة بعد معموديته، أرسل الروح القدس يسوع إلى البرية ليجرّبه الشيطان. في النهاية سينتصر. لكن في طريقه إلى النصر سيسلك دربًا طويلاً وشاقًا.
بعد الإعلان أن يسوع هو المسيح، وصف مَرقُس سلطان المسيح في ١: ١٤ – ٨: ٢٦.
سلطان المسيح
في هذا الجزء من كتاب مَرقُس، بدأ يسوع يظهر قوته وسلطانه على أَنه المسيح. واحتشد حوله الكثير من الجموع ليُعاينوا خدمته ويستفيدوا منها، لكنهم لم يدركوا أن السلطان الذي كان يسوع يمارسه هو البرهان على أنه المسيح. في الواقع، في كل هذا الجزء، لم يشر إليه أحد على أساس أنه المسيح. حتى يسوع نفسه بقي صامتًا من ناحية هويته، وشجّع الآخرين كي يبقوا هم أيضًا صامتين.
بالطبع، كان القرّاء الرومان الأولون لإنجيل مَرقُس مسيحيين. لذلك، كانوا يعرفون أن يسوع هو المسيح الموعود. لكن براعة مَرقُس في هذا القسم من الرواية سمحت لهم أن يشعروا بتوتر الجموع حول يسوع وهم يتساءلون من هو هذا الإنسان صانع المعجزات؟ وما الغرض من مجيئه؟
مع الأسف، غالبًا ما اعتبر علماء النقد صمت يسوع إشارةً إلى عدم إدراكه لدوره المسيحاني خلال خدمته الباكرة. لكن كما رأينا في مَرقُس ١: ١١، أعلن الله نفسه دور يسوع أنه المسيح، عند معموديته. على ضوء هذه الحقيقة، من الأفضل جدًا أن نفهم صمت يسوع كجزء من خطة. فقد كان ليسوع هدف محدّد يريد تحقيقه، وكان يعرف أنه كلما اندفعت الجموع وراءه كلما واجه عراقيل في تحقيق هدفه.
ويمكن تقسيم رواية مَرقُس التي تصف سلطان المسيح إلى أربعة أقسام. في القسم الأول، كتب مَرقُس مقدمة حدّدت مسار القصة بكاملها. في القسم الثاني، ركّز مَرقُس على خدمة يسوع المحلية قرب مدينة كفرناحوم. في القسم الثالث، شرح مَرقُس أن خدمة يسوع امتدت إلى بقية منطقة الجليل. في القسم الرابع، أخبرنا أن يسوع ذهب في النهاية إلى ما بعد الجليل، حتى إلى مناطق ذات غالبية وثنية. سننظر إلى كل من هذه الأقسام، بدءًا من مقدمة مَرقُس ١: ١٤ – ١٥.
المقدمة
استمع إلى الطريقة التي يلخّص فيها مَرقُس كرازة يسوع في مَرقُس ١: ١٥:
وَيَقُولُ [يسوع]: «قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ».
هنا أشار مَرقُس إلى أن قصد يسوع الرئيسي في الجليل، كان الكرازة بالإنجيل أو الأخبار السارة بأن ملكوت الله قد اقترب، وبأن بركاته متوفرة لكل الذين يتوبون ويؤمنون.
ركّز مَرقُس في كل ما دوّنه على سلطان يسوع المسيح، وعلى خدمته في منطقة الجليل وحولها، التي بدأت قرب مدينة كفرناحوم، ثم انتشرت إلى أماكن أخرى. وعن طريق مقارنة سجل مَرقُس مع بقية الأناجيل، يبدو لنا أن مَرقُس أغفل أوقاتًا خدم فيها يسوع في أماكن أخرى خارج الجليل. وهذا الإغفال يدلّ على أن هدف مَرقُس كان تدوين نشاطات يسوع وخطته في منطقة الجليل، بدل أن يقدّم لنا سجلاً مفصّلاً عن كل تنقلاته.
بعد المقدمة، وصف مَرقُس خدمة يسوع قرب مدينة كفرناحوم في منطقة الجليل في مَرقُس ١: ١٦-٣: ٦.
قرب كفرناحوم
بدأ مَرقُس ذلك، بإخبارنا كيف دعا يسوع تلاميذه الأولين في مَرقُس ١: ١٦ – ٢٠. في هذا الجزء، نجد أن إحدى الطرق التي تجاوب فيها الناس مع يسوع كانت من خلال الطاعة الجذرية. وقد طلب منهم يسوع أن يتبعوه، فتركوا ما كانوا يفعلونه وصاروا من تلاميذه.
ثم، كرز يسوع بالإنجيل عن طريق التعليم وصنع المعجزات في كفرناحوم في مَرقُس ١: ٢١ – ٣٤.
خلال هذا الوقت، ذاعت شهرة يسوع في كل الجليل، واستمرت بالاتساع خلال كل خدمته. وبسبب شهرته المتزايدة هذه، بدأت الجموع تحتشد حول يسوع، بحيث أعاقت قدرته على الكرازة بالإنجيل وإظهار قوته. لذلك، بدأ يوصي الآخرين بأن لا يروّجوا له بأنه المسيح.
بعد ذلك غادر يسوع كفرناحوم وبدأ يعلّم ويصنع معجزات في القرى المجاورة، كما نقرأ في مَرقُس ١: ٣٥ – ٤٥. وقد انتقل يسوع إلى القرى المجاورة، من جهة لينشر إنجيله بواسطة التعليم والمعجزات. ولكن، من جهة أخرى، ليبتعد عن الجموع في كفرناحوم التي كانت تحول دون خدمته بحُرية. وكما فعل سابقًا، شجّع الذين التقاهم على عدم إذاعة الأخبار عنه.
ثم يخبرنا مَرقُس أن يسوع عاد إلى كفرناحوم، حيث اصطدم مع القادة اليهود، كما نقرأ في ٢: ١ – ٣: ٦.
يتناول هذا الجزء من إنجيل مَرقُس أمورًا مثل سلطان يسوع على مغفرة الخطايا، ودفاعه عن خدمته للخطاة، وتعاليمه حول السبت. لكنه يمهّد أيضًا إلى نتيجة أخرى لشهرته المتزايدة: إذ بدأ معارضوه يزدادون عددًا، ويقاوموه بأكثر شدة. في الواقع، ينتهي هذا الجزء بإعلان يسوع عن اقتراب موته. في مَرقُس ٣: ٦، يخبرنا مَرقُس أن خصوم يسوع كانوا غاضبين لدرجة بدأ الكثيرون منهم يخططون لقتل يسوع.
لم يكن يسوع مقبولاً، وذلك بسبب تعليمه ومعجزاته. فعندما نقرأ العهد الجديد، نتساءل لماذا لم يقبله الناس؟ لماذا لم يروا قوّته؟ ولا يصغون إلى تعاليمه؟ هناك أسبابٌ كثيرةٌ دفعت الشعب إلى رفض تعاليم يسوع. أوّلها أنّ فحواها لم يكن ما أرادوه. فقد كانوا يتوقّعون ملكوتًا على هذه الأرض، وهو كان يتكلّم على ملكوت يدخل القلب ويغيّر حياة الناس، إنه مملكة الله في قلوب الناس. وسببٌ آخر هو أنّ تعاليمه تضرب قلوبهم في الصميم. أمّا معجزاته فكانت بالطبع مرفوضةً لأنّ أعداء المسيح الذين لم يوافقوا على تعاليمه كانوا يعرفون أنّ هذه المعجزات تُثبِت نوعًا ما أقواله. والقلب الساقط ليس حاضرًا بطبيعته لقبول تعاليم الله، وخدمة المسيح هي خير مثالٍ على ذلك لأنّ الله كان بين هؤلاء الناس ومع ذلك رفضوه.
—د. جيف لومان
غالبًا ما نأتي إلى يسوع وفي يَدِنا جدول أعمالنا. ونرسم توقّعاتنا حول كيف ينبغي أن يكون وكيف ينبغي أن يعمل. وغالباً، عندما يتحدّى يسوع جدول أعمالنا وتوقّعاتنا، يفوق هذا التحدّي قدرتنا على التحمّل. ولذلك الناس يكرهون عندما يبشّرهم يسوع بملكوت مختلف لملكوتهم المثالي. فهو يأتي كمسيحٍ لا يلائم توقّعاتهم حول ما ينبغي أن يكون ذلك المسيح. ويكون قد خالف توقّعاتهم، وهذا لن يعجبهم. فهو كان يأتي بمخطّطٍ يختلف كلّ الاختلاف عن مخطّط رجال الدين آنذاك. فقد أتى يبشّر بملكوت سيزيل القوّة والشهرة والسلطة والوجاهة التي كانوا يتمتّعون بها في إطار المراكز الدينية التي كانوا يحتلّونها، وطبعاً لم يريدوا ذلك. لذلك، كلّما أتينا إلى الله بجدول أعمالنا، نضع أنفسنا في مواجهةٍ معه بدلاً من أن نأتي إليه بقلوبٍ متواضعة لسماع التعاليم وكلّنا ثقةٍ به مهما كان ما سيضعه في طريقنا.
—د. ك. إريك ثيونيس
الآن وقد استعرضنا عمل يسوع قرب كفرناحوم، دعونا ننظر كيف وسّع يسوع خدمته في كل منطقة الجليل من مَرقُس ٣: ٧ – ٦: ١٣.
منطقة الجليل
في هذه المرحلة، كرز يسوع بملكوت الله في مناطق جديدة وبرهن عن اقترابه، منتقلاً من كفرناحوم إلى بقية المناطق المجاورة. وإذ كرز بالتوبة والإيمان في تلك المناطق، استمر في جذب الجموع وبإثارة مقاومة شديدة عليه.
يبدأ هذا الجزء بانسحاب يسوع من بين الجموع في مَرقُس ٣: ٧ – ١٢.
حدّد هذا المقطع، اتجاه الجزء بكامله عن طريق التشديد على أن شهرة يسوع ذاعت في كل مكان، رغم محاولاته التقليل من هذه الشهرة. والجموع التي احتشدت حوله نتيجة ذلك، جعلت من الصعب عليه أن يقوم برسالته. ويبدو أن هذه الصعوبة هي إحدى الأسباب وراء امتداد خدمته إلى مناطق جديدة في الجليل.
أما الجزء التالي من سجل القصة فيخبرنا عن اختيار يسوع لاثني عشر تلميذًا ليكونوا أتباعه المميّزين، كما نقرأ في مَرقُس ٣: ١٣ – ١٩.
اختار يسوع هؤلاء التلاميذ الاثني عشر ليساعدوه في الكرازة بالإنجيل وصنع المعجزات. لكن مَرقُس يُذَكِّر أيضًا قرّاءه بأن واحدًا من أولئك التلاميذ سوف يخون يسوع في النهاية. فمعارضة يسوع لم تقتصر على أعدائه فقط، بل امتدت أيضًا إلى أقرب أتباعه.
بعد ذلك، يخبرنا مَرقُس عن المعارضة التي واجهها يسوع من معلمي الشريعة ومن عائلته، كما نرى في مَرقُس ٣: ٢٠ – ٣٥.
وتظهر هذه القصة كيف أنه بينما أعلن يسوع إنجيل الملكوت بقوة خارقة، واجه معارضة من كل صوب. وبدل أن يقبلوه على أنه المسيح، اعتقد معلمو الشريعة أنه كان مسكونًا من إبليس، وظنت عائلته أنه فقد عقله.
بعد ذلك، نادى يسوع بالإنجيل من خلال أمثال ملكوت الله في مَرقُس ٤: ١ – ٣٤.
وقد علّم يسوع بصورة عامة بالأمثال عندما كان محاطًا بغير المؤمنين. وقد فعل ذلك ليعلن ملكوت الله لأولئك الذين آمنوا، وليخفيه عن أولئك الذين لم يؤمنوا. وكما أخبر تلاميذه في مَرقُس ٤: ١١ – ١٢:
فَقَالَ لَهُمْ: «قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِرَّ مَلَكُوتِ اللهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِالأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ، لِكَيْ يُبْصِرُوا مُبْصِرِينَ وَلاَ يَنْظُرُوا، وَيَسْمَعُوا سَامِعِينَ وَلاَ يَفْهَمُوا، لِئَلاَّ يَرْجِعُوا فَتُغْفَرَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ».
مع الأسف، أربكت أمثال يسوع أيضًا تلاميذه. لكن عندما حدث ذلك، فسّر لهم يسوع ما قصده على انفراد ليتأكد من أنهم فهموا.
النقطة الرئيسية في الأمثال في هذا الجزء من رواية مَرقُس، هي أن الله سيُحضر ملء ملكوته فقط بعد عملية طويلة من النمو البطيء من خلال انتشار الإنجيل. كان يسوع يحقّق ملكوت الله على الأرض. لكنه كان يفعل ذلك بصورة مطوّلة ما تطلّب غالبًا من أتباعه مواجهة الألم والمعارضة، كما حصل له.
تبع سجل مَرقُس لأمثال يسوع، عدة إظهارات للقوة من مَرقُس ٤: ٣٥ – ٤٣.
يخبرنا مَرقُس هنا، أن يسوع سيطر على الطقس وطرد الأرواح الشريرة وشفى المرضى وأقام الأموات. في كل من هذه القصص، كان الناس خائفين أمام الخطر. لكن بعد أن أنقذهم يسوع بصورة خارقة، زاد في الواقع خوفهم، لأنهم لم يفهموا من كان رجل المعجزات هذا.
يعبّر التلاميذ، أي أتباع يسوع، أحيانًا عن خوفهم في الإنجيل عند رؤيتهم يسوع يقوم بأمور مؤثّرة ويقوم بمعجزات مذهلة. فهم يخافون عندما يعمل الله. ففي الفصل الرابع من إنجيل مَرقُس مثلاً، هبّت عاصفةٌ هوجاء وفاجأت التلاميذ في البحر وأخذت الأمواج تضرب القارب حَتَّى كَادَ يَمْتَلِىءُ مَاءً ويغرق، وأما يسوع فكان في مؤخّر القارب نائمًا على وسادة. فَأَيْقَظُوهُ آملين أن يساعدهم على إنقاذ القارب، وَقَالُوا لَه “يَامُعَلِّمُ، أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟“ فنهض يسوع وأمر الريح والأمواج أمرها بالسكوت. وهكذا أنقذهم بعد أن كانوا خائفين جدًّا من العاصفة. وهنا يقول مَرقُس إنّ خوفًا شديدًا ملأهم. ولكن لمَ هذا الخوف؟ فالعاصفة زالت والأمواج هدأت. إنّهم خائفون لأنّهم أدركوا أن الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يهدئ الرياح والأمواج، هو الله نفسه خالق الرباح والأمواج. فقد أدركوا أنهم في القارب مع الله نفسه الذي أسكت الرياح والامواج. وقد ولد ذلك الخوف فيهم، لأنهم لم يعرفوا تمامًا هوية الإله الذي أمامهم. فقد وُضعوا نوعًا ما في هذه الظروف المفاجئة وهم يجهلون شخصيّة يسوع.
—د. فرانك ثلمان
بعد إظهارات القوة هذه، كتب مَرقُس عن المعارضة التي واجهها يسوع في مسقط رأسه في الناصرة في مَرقُس ٦: ١ – ٦. وهذه الرواية تعيد التشديد مرة ثانية على أن قومًا عارضوه بشدة في هذه المرحلة من خدمته. حتى مع انتشار إنجيله بقوة، وتزايد أتباعه، فان الناس في موطنه رفضوه ورفضوا إنجيله.
أخيرًا، اختتم مَرقُس سجل خدمة يسوع في منطقة الجليل بإرسال التلاميذ الاثني عشر في مَرقُس ٦: ٧ – ١٣. أرسل يسوع تلاميذه الاثني عشر ليكرزوا بإنجيل الملكوت، وليصنعوا المعجزات في كل أرض فلسطين. لكن يسوع أوضح أيضًا أنه بينما نشر التلاميذ إنجيل التوبة والإيمان، سيتجاوب الناس معهم بالطريقة ذاتها التي تجاوبوا فيها معه. البعض سيقبلهم، وآخرون سيرفضونهم. وقد علّم يسوع بثبات أن ملكوت الله سيستمر في النمو على الرغم من المعارضة.
بعد أن أخبرنا عن خدمة يسوع التبشيرية قرب مدينة كفرناحوم ومحيط منطقة الجليل، وجه مَرقُس انتباهه إلى سلطان المسيح في خدمته فيما بعد الجليل في مَرقُس ٦: ١٤ – ٨: ٢٦.
ما بعد الجليل
في تدوينِه لخدمةِ يسوعَ ما وراءَ منطقةِ الجليلِ، استمرَّ مَرقُسُ في تشديدِه على بعضِ المواضيعِ التي سبقَ ومررنا بها. فقد أخبرَنا عن انتشارِ الإعلانِ عن الملكوتِ، وردّةِ فعلِ الجموعِ المُتَحَمِّسةِ، وتزايدِ عددِ خصومِ يسوعَ.
لكن مرقسَ بدأَ أيضًا يركّزُ على التلاميذِ بطرقٍ جديدةٍ. فشدّد على الطرقِ التي درَّبَهم فيها يسوعُ على مواجهةِ الأيامِ الصعبةِ التي كانت تنتظرُهم. ولفت الانتباهَ كيف أساؤوا فَهمَ تعاليمِه باستمرارٍ وفشِلوا في التزامِهم بها.
ما دوّنه مَرقُس عن خدمة يسوع في منطقة ما بعد الجليل يبدأ بشهرته المتزايدة في مَرقُس ٦: ١٤ – ٢٩.
في الماضي، عندما حصر يسوع خدمته في المنطقة حول كفرناحوم، ذاعت شهرته في كل منطقة الجليل. والآن صارت شهرته تسبقه. وبينما بقي يسوع في ضواحي الجليل، فإن شهرته ذاعت في كل فلسطين ووصلت حتى إلى الملك هيرودس. وهنا اغتنم مَرقُس هذه الفرصة ليطرح سؤالاً حول هوية يسوع. وقد شرح مَرقُس على وجه الخصوص أن يسوع لا يمكن أن يكون يوحنا المعمدان، لأن هيرودس قتل يوحنا.
ثم دوّن لنا مَرقُس عدة معجزات في مَرقُس ٦: ٣٠ – ٥٦. يبدأ هذا الجزء مع محاولة يسوع الانسحاب من بين الجموع، ثم يصف عدة أعمال خارقة تبين لماذا احتشد الناس في البداية. أظهر يسوع سلطانه بإشباعه ٥٠٠٠، ثم ٤٠٠٠ من الناس، وبمشيه على الماء في بحر الجليل، وبشفائه أعمى وأطرش. وقد برهنت معجزاته سيطرته المؤكدة على كل الخليقة. وبسبب هذه الأعمال الخارقة، تبعته الجموع حيثما ذهب. حتى إنهم سبقوه في بعض الأحيان.
بعد معجزات يسوع، يخبرنا مَرقُس عن معارضة الفريسيين المستمرة له في مَرقُس ٧: ١– ٢٣. وقد اصطدم يسوع والفريسيين حول مسألة حفظ شريعة العهد القديم، وقيمة التقاليد، وطبيعة القداسة. وقد أدى ذلك إلى ازدياد التوتر بين يسوع والفئات اليهودية المؤثرة.
أخيرًا، يخبرنا مَرقُس عن مجموعة أخرى من المعجزات في مَرقُس ٧: ٢٤ – ٨: ٢٦. يبدأ هذا الجزء وينتهي بتصريحَين حول سعي يسوع إلى تجنب الجموع، لا بل الحؤول دون الالتقاء بها. وبين هذين التصريحَين، نقرأ أن يسوع صنع العديد من المعجزات بين اليهود وغير اليهود. حتى إنه يدوّن لنا إيمان قوم من غير اليهود به.
في وسط لائحة المعجزات هذه، يلفت مَرقُس الانتباه إلى إخفاقات تلاميذ يسوع. في وقت سابق من خدمته، فشل التلاميذ في فهم مثل الزارع، كما نقرأ في مَرقُس ٤: ١٣. وعند هذه النقطة، لم يكونوا بعد قادرين أن يفهموا بعض تعاليمه. لذلك واجههم يسوع مباشرة.
استمع إلى ما دوّنه مَرقُس في ٨: ١٤ – ١٧:
وَنَسُوا أَنْ يَأْخُذُوا خُبْزًا، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِي السَّفِينَةِ إِلاَّ رَغِيفٌ وَاحِدٌ. وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: «انْظُرُوا! وَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَخَمِيرِ هِيرُودُسَ» فَفَكَّرُوا قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «لَيْسَ عِنْدَنَا خُبْزٌ». فَعَلِمَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ أَنْ لَيْسَ عِنْدَكُمْ خُبْزٌ؟ أَلاَ تَشْعُرُونَ بَعْدُ وَلاَ تَفْهَمُونَ؟ أَحَتَّى الآنَ قُلُوبُكُمْ غَلِيظَةٌ؟»
كان يسوع يتحدث عن الفساد الروحي لكن تلاميذه ظنوا أنه يتحدث عن الخبز للطعام. من السهل أن نفهم لماذا خاب أمله بهم.
في كل سجل مَرقُس حول سلطان يسوع بصفته المسيح، كانت معجزات يسوع وتعاليمه تؤيد كونه حقًا المسيح. لماذا إذن قاومه الكثيرون؟ لماذا رفضوه؟ لماذا وجد حتى التلاميذ، صعوبة كبيرة في فهمه وإتباعه؟ السبب إلى حد كبير يعود إلى أن يسوع لم يكن نوع المسيح الذي توقعه الشعب. فبدل أن يحقق التفوق السياسي الذي انتظروه استخدم سلطانه ليكرز بالإنجيل ويخدم حاجات الآخرين.
تُظهِر الدلائل العائدة إلى القرن الأوّل أنّ اليهود كانوا بالتحديد يتوقعون مسيحًا سياسيٍّا، مسيحاً عسكريٍّا يطرد الرومان ويهزمهم، ويقيم ملكوت الله في أورشليم. ومن هذا المنطلق، كان ما يبحثون عنه شديدَ القوميّة. فيسوع لم يُظهر أي إشارة تدلّ على أنّه سيلبّي هذا النداء القومي، بل كانت رؤيته حتمًا أبعد من ذلك بكثير. فلم يكن الأمر متعلّقًا بالرومان، بل بالخليقة بحدّ ذاتها. فالخليقة كانت في حالة سقوط والمسيح جاء ليقلب المقاييس وينقذها من هذا السقوط وليقيم ملكوت الله على الأرض؛ أي الانتصار على الخطيئة، والانتصار على إبليس، والانتصار على الموت. إذًا، كانت رؤية يسوع أبعد بكثير من انتصار سياسي أو عسكري.
—د. مارك ستراوس
كان اليهود ينتظرون على مدى خمس مئة أو ستّ مئة سنة قائدًا يعيد الملك لإسرائيل. فهم لم يحظوا بملك ولم ينالوا استقلالهم، فقد كان التوتّر سائدًا في فلسطين في القرن الأوّل. فعندما جاء يسوع يعلن الملكوت ويلمّح أنّه هو المسيح، تشوّقوا لسماع أقواله. ما الذي كانوا ينتظرونه؟ ربّما كانوا ينتظرون مسيحًا يعيد بناء الهيكل؛ ودارت شكوك حول ما إذا كان هذا الهيكل – وقد أعاد بناؤه الملك الوثني هيرودوس الأوّل – هو فعلاً الهيكل الذي يقصده الله. ولكن بالإضافة إلى ذلك، كان اليهود يتوقون إلى أن يفدي الله إسرائيل، وأن يفي بوعوده التي قطعها في العهد القديم. أين سيفي الله بوعوده؟ هذا ما كانوا يبحثون عنه. وربّما اتّخذ تفكيرهم المنحى التالي: ها نحن الآن تحت الاحتلال الروماني، وبالتأكيد إن كان الله سيفي بوعوده فهو سيُخلّصنا من الرومان. ثمّ يَظهر يسوع في ذلك الزمن معلنًا أنّه المسيح وأنّه مَن سيعيد بناء الهيكل – أو بالأحرى هو سيكون الهيكل الحقيقي – وأنّه هو مَن سيقيم الملكوت، ولكن لن تكون مملكة يهوديّة مستقلّة سياسيًّا، بل ستكون البُشرى التي تعلِن أنّ يسوع هو المسيح الملك وهو ربّ العالم. هذا مخالفٌ لتوقّعاتهم، غير أنّه وفاءٌ أعمقٌ للوعد الذي قُطِعَ.
—د. بيتر واكر
اختبر قرّاء مَرقُس الأولون التوتر ذاته الذي اختبره التلاميذ الاثنا عشر حول نوع المسيح الذي كأنه يسوع. زُرعت كنيسة روما في وقت كانت فيه المسيحية مقبولة. وكما هي الحال في الكنيسة الباكرة، كانوا يتوقعون أن يرجع يسوع بسرعة نسبيًا ليحقّق الملكوت على الأرض. لكن بدل ذلك، جلبت السنوات التي تلت الآلام والاضطهادات الرهيبة في أيام نيرون. لذلك، أوضح مَرقُس أن يسوع سيكون دائمًا المسيح القوي، حتى لو لم يقمْ دائمًا بالأمور التي يتوقعها أتباعه. ولأنه المسيح القوي، يمكن للمؤمنين أن يثقوا بأنه عندما يحين الوقت، سوف يحقّق ملكوته بانتصار كما وعد. لكن في غضون ذلك، ما زال هو الرب، ويمكنه أن يؤازرنا مهما كانت الظروف التي نواجهها.
بعد رواية مَرقُس الطويلة التي تصف سلطان المسيح، نصل إلى الجزء الرئيسي الثالث من إنجيله: وهي حادثة قصيرة تدوّن لنا اعتراف الرسل بالمسيح في ٨: ٢٧ – ٣٠.
اعتراف الرسل بالمسيح
هذا هو المشهد الشهير على الطريق إلى قيصرية فيلبي وفيه انتزع الرب يسوع اعترافًا من تلاميذه بأنه المسيح. ويوافق كل دارس لإنجيل مَرقُس أن هذا الاعتراف هو النقطة المحورية في إنجيل مَرقُس.
في أول عدد في الإنجيل، كتب مَرقُس: “بَدْءُ إنجيل يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللهِ”. فيسوع هو “المسيح”، أو المشيح. لكن بعد ذلك العدد لم تظهر كلمة “مسيح” أبدًا في إنجيل مَرقُس. فمَرقُس لم يتحدث عن يسوع أنه المسيح. ولم يخبرنا أن التلاميذ دعوه المسيح، أو أن الناس الذين عاينوه فكروا أنه المسيح، ولا حتى الأرواح الشريرة استخدمت كلمة المسيح.
في الحقيقة، كل واحد تقريبًا من الذين حاولوا أن يحدّدوا هوية يسوع أخطأوا. فقد ظنوا أنه صانع معجزات، أو نبي، أو يوحنا المعمدان، أو مجنون، أو مسكون بالأرواح الشريرة من قِبل بعلزبول. لكن في هذه الآونة، قرّر يسوع أنه حان الوقت أن يدفع تلاميذه إلى الاعتراف بهويته الحقيقية. استمع إلى حواره مع التلاميذ في مَرقُس ٨: ٢٧ – ٢٩:
ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ وَتَلامِيذُهُ إِلَى قُرَى قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ. وَفِي الطَّرِيقِ سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ قِائِلاً لَهُمْ: «مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا؟» فَأَجَابُوا: «يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ. وَآخَرُونَ: إِيلِيَّا. وَآخَرُونَ: وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ». فَقَالَ لَهُمْ: «وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟» فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: «أَنْتَ الْمَسِيحُ!» فَانْتَهَرَهُمْ كَيْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ عَنْهُ.
بعد ٨ فصول من البراهين، أقرّ الرسل أخيرًا بإيمانهم بأن يسوع هو المسيح، المشيح، الشخص الذي أتى بملكوت الله.
بعد اعتراف الرسل بالمسيح، تناول الجزء الرابع الرئيسي من إنجيل مَرقُس المسيح المتألم. وهذا الجزء يمتد من ٨: ٣١ – ١٥: ٤٧.
في القسم الأول من إنجيله، ركّز مَرقُس كيف أدَّت خدمة يسوع القوية إلى الاعتراف المجيد بأنه المسيح. لكن عند هذه النقطة، بدأ مَرقُس بالتشديد على ناحية مختلفة من خدمة يسوع المسيحانية: آلامه وموته في أورشليم.
آلام المسيح
ينقسم سجل مَرقُس عن آلام المسيح إلى ثلاثة أجزاء رئيسية: إعدادِ يسوع تلاميذه لآلامه وموته، ومواجهته مع القادة اليهود في أورشليم والتي أدت إلى آلامه وموته، وأخيرًا اختباره للموت. سنستعرض كل جزء من هذه الأجزاء، بدءًا من إعداده لتلاميذه في مَرقُس ٨: ٣١ – ١٠: ٥٢.
الإعداد
يمكن تقسيم المادة التي تصف إعداد يسوع لتلاميذه إلى ثلاثة أقسام رئيسية، يبدأ كل قسم بالتنبؤ عن آلامه وموته وقيامته. يركّز الجزء الأول على يسوع أنه رب الملكوت في مَرقُس ٨: ٣١ – ٩: ٢٩.
بدأ مَرقُس تقريره عن خطة يسوع غير المتوقعة للإتيان بملكوت الله على الأرض – أي آلام يسوع وموته وقيامته – التي شرحها مَرقُس من ٨: ٣١ – ٩: ١. في كل تعليمه في هذا الجزء، تحدث يسوع عن ألمه، وحذّر تلاميذه من أنه لا بد لهم أن يتألموا بينما هم يستمرون في خدمة الإنجيل.
بعد ذلك، لفت مَرقُس الانتباه إلى سلطان يسوع الفريد عن طريق إخبارنا عن حدث يُعرف عامة بالتجلي في مَرقُس ٩: ٢ – ١٣. في هذا الحدث، تجلى مجد يسوع بصورة ظاهرة أمام بُطْرُس ويعقوب ويوحنا. وظهر أيضًا مع يسوع موسى وإيليا، وهذه دلالة على أن يسوع أقرّ بتعاليم الشريعة والأنبياء في العهد القديم وأكملها. لكن الله أمر التلاميذ بأن يُمجدوا يسوع ويطيعوه فوق موسى وإيليا. وهذا الحدث أعدّ تلاميذ يسوع عن طريق تذكيرهم بالإبقاء على ولائهم ليسوع فوق كل ولاء، وعن طريق تشجيعهم بأن الولاء ليسوع هو أطهر أنواع الولاء لله ولإعلان العهد القديم.
أخيرًا، ركّز مَرقُس على فرادة سلطان يسوع عن طريق الكشف عن قدرة السيطرة على الأرواح الشريرة في مَرقُس ٩: ١٤ – ٢٩. لم ينجح تلاميذ يسوع بطرد روح شرير كان معاندًا بشكل خاص. وقد علّم يسوع بأن هذا النوع من الأرواح لا يمكن طرده سوى عن طريق الصلاة. أما يسوع، فاستطاع أن يطرده بأمر بسيط. وهو بهذه الطريقة برهن عن تفوقه على الآخرين، وأكّد لتلاميذه أنه يملك سلطانًا لا متناهيًا في تحقيق إرادته. ورغم الشكوك والمخاوف التي كانوا سيمرّون فيها عند موته، فإن قوته يجب أن تشجّعهم على الثبات في إيمانهم فيه.
يتناول القسم الثاني من سجل مَرقُس حول إعداد يسوع تلاميذه لآلامه وموته وقيامته، قيّم ملكوت الله، وهو موجود في مَرقُس ٩: ٣٠ – ١٠: ٣١.
كما هي الحالُ في كلِّ جزءٍ من روايةِ مرقسَ حول استعدادِ يسوعَ للذهابِ إلى أورشليمَ، يبدأُ هذا الجزءُ بإنباءِ يسوعَ بآلامِه وموتِه وقيامتِه. وهذا يساعدُنا كي نرى أن مرقسَ ما زال يشدّدُ على إعدادِ التلاميذِ لتلكَ الأحداثِ. بعد إنبائِه بتلكَ الأحداثِ، استمرَّ يسوعُ بإعدادِ التلاميذِ بشرحِه لهم أن اللهَ لا يَحكُمُ على الأمورِ بالطريقةِ ذاتِها التي يحكمُ فيها العالمُ، بل يجبُ أن يطمئنوا إلى أن اللهَ كان يستخدمُ تلك الأحداثَ ليأتيَ بملكوتِه وليمجّدَ يسوعَ.
بعد نبوة يسوع في مَرقُس ٩: ٣٠ – ٣١، دوّن لنا مَرقُس تعليم يسوع عن قيَم الملكوت. في هذا الجزء، بيّن يسوع كيف أن أفكار العالم تصطدم مع الحق الإلهي في خمسة مجالات في الحياة.
أولاً، تكلم يسوع عن الإكرام في مَرقُس ٩: ٣٢ – ٤٢ مشيرًا إلى أن الأشخاص الذين ينالون إكرامًا أعظم في ملكوت الله، هم أولئك الذين يُكرّمون أقل في هذه الحياة.
ثانيًا، تحدث يسوع عن كلفة التلمذة في مَرقُس ٩: ٤٣ – ٥٠. وقد أوصى أتباعه بأن يتخلصوا من أي شيء يعيقهم عن متابعة أهداف ملكوت الله، بغض النظر عن نفاسة تلك الأشياء في الحياة.
ثالثًا، تحدث يسوع عن الزواج في مَرقُس ١٠: ١ – ١٢. وكانت نقطته الرئيسية أنه يجب النظر إلى الزواج والطلاق من منظار شريعة الله بدل القانون البشري – حتى وإن بدت الشريعة البشرية أكثر عدلاً.
رابعًا، تحدث يسوع عن الأولاد مرة أخرى في مَرقُس ١٠: ١٣ – ١٦. على الرغم مما قاله يسوع من قبل، فإن تلاميذه استمروا بمنع الأولاد عن الاقتراب منه. في ردّه على ذلك، ذكّرهم يسوع بأن الله سبق وأعطى هؤلاء الأولاد الملكوت، لذلك برفضهم للأولاد كان التلاميذ يقاومون الله.
وخامسًا، تحدث يسوع عن الغنى في مَرقُس ١٠: ١٧ – ٣١. هنا نجد القصة الشهيرة للشاب الغني الذي أصابه الهلع عندما أخبره يسوع أن تعلقه بالمال كان يعيقه عن قبول قيّم ملكوت الله.
في كل من أقسام التعليم هذه، شرح يسوع قيَم ملكوت الله ليكون تلاميذه أكثر استعدادًا لقبول آلامه وموته، بالإضافة إلى المشقة التي كان عليهم أن يحتملوها لأنهم أتباعه.
أما القسم الثالث من سجل مَرقُس حول إعداد يسوع تلاميذه لما سيواجههم في أورشليم يتعلق بالقيادة في ملكوت الله، في مَرقُس ١٠: ٣٢ – ٥٢.
بعد إنبائه بآلامه وموته وقيامته في مَرقُس ١٠: ٣٢ – ٣٤، عالج يسوع مسألة القيادة في الملكوت على ثلاثة محاور.
الأول، قال إن على يعقوب ويوحنا أن يشتركا في آلامه، في مَرقُس ١٠: ٣٥ – ٤٠. وأنهما سيشربان من الكأس نفسه ويعتمدان المعمودية ذاتها. ونستنتج من هاتين الاستعارتين، أنه لا بد لأتباع يسوع أن يختبروا الآلام ذاتها بسبب خدمتهم له.
الثاني، وصف يسوع القيادة في الملكوت أنها خدمة في مَرقُس ١٠: ٤٠ – ٤٥. وقد سبق وأشار إلى هذه الفكرة مرتين عندما تحدث عن القيّم في الملكوت. لكن هذه هي المرة الأولى التي شرح السبب وراء ذلك: فالقادة المسيحيون يجب أن يكونوا خدّامًا لأنهم يتبعون مثال يسوع، هو الذي تصرّف كخادم عن طريق الألم والموت عن الخطيّة.
ثالثًا، برهن يسوع عن الدافع للقيادة الخادمة عن طريق إظهاره الرحمة للأعمى بارتيماوس. القادة الخدّام لا يقومون بتضحيات لمجرد أنهم يريدون مكافأة أكبر في الملكوت، بل لأنَّ لهم حنانًا حقيقيًا نحو الذين يخدمونهم.
يدعو يسوع القادة المسيحيّين ليكونوا مختلفين وليكونوا خدّامًا لشعبهم. ففي هذا المقطع الرائع من إنجيل مَرقُس ١٠: ٤٥، يلفت يسوع النظر إلى صفة القائد الذي ينبغي أن يكون صادقًا مع أتباعه المنتمين إلى الثقافة اليونانية والرومانية. فالمثال الأساسي للقيادة في أيّام مَرقُس كان إظهار الرومان للقوّة وكان إظهار الرومان للسيطرة على شعبهم. أمّا يسوع المسيح فقال لتلاميذه “لم آتِ لأُخدَم بل لأخدِم وأبذلَ نفسي فديةً عن كثيرين”. فيسوع يطلب إذًا من أتباعه ويسألهم أن يتّبعوا مسار قيادته، أي أن يقودوا بالخدمة لا أن يتّبعوا مثال السيطرة الرومانية الذي كان سائدًا في أيّام مَرقُس.
—د. جريج بيري
شدّد يسوع على أن القيادة في ملكوت الله لا يمكن أن تتبع نمط القيادة في العالم، بل تحتاج أن تتبع مثاله في الألم.
لا شك أن هذه الأخبار كانت، في بعض النواحي، مثبطة للعزيمة بالنسبة لقرّاء مَرقُس في روما. فبدل أن يطمئنهم بأن عذابهم كان استثنائيًا وسينتهي سريعًا، أكد لهم مَرقُس في إنجيله بأن الألم هو القاعدة لمن يتبعون المسيح. لكن في الوقت ذاته، كان لهذه الأخبار ناحية مشجّعة. فآلام الكنيسة هي جزء من خطة المسيح للانتصار. وكما كتب بولس في رومية ٨: ١٨:
فَإِنِّي أَحْسِبُ أَنَّ آلاَمَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِالْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا.
بعد أن أخبرنا مَرقُس عن إعداد يسوع تلاميذه، لننتقل للتحدث عن مواجهة يسوع مع القادة اليهود من مَرقُس الفصل ١١: ١ – ١٣: ٣٧.
المواجهة
يمكن تقسيم موضوع مَرقُس حول مواجهة يسوع إلى قسمَين رئيسييَن: قسمٍ روائي يصف المعارضة من ١١: ١ – ١٢: ٤٤. وقسمٍ ثان يتناول خطاب يسوع على جبل الزيتون في ١٣: ١ – ٣٧.
يخبرنا مَرقُس في كل هذا الجزء من الإنجيل، كيف أن يسوع أرغم القادة اليهود على التحرك. في أقسام سابقة من إنجيل مَرقُس، لم يسعَ يسوع إلى النزاع مع القادة اليهود. وقد واجه معارضة بالدرجة الأولى بسبب رفض الناس لخدمة الرحمة التي قدمها. لكن يخبرنا مَرقُس في هذا الجزء، أن يسوع سعى فعليًا إلى المواجهة، لكي يتقدم نحو الصلب:
أولاً، في دخول يسوع الظافر إلى أورشليم في مَرقُس ١١: ١ – ١١ أعلن يسوع علنًا أنه المسيح الموعود والملك الشرعي لإسرائيل.
ثانيًا، من خلال إدانته لإسرائيل كشجرة تين يابسة في مَرقُس ١١: ١٢ – ١٤، ٢٠ – ٢٥، وتطهيره للهيكل في الأعداد ١٥ – ١٩، هاجم يسوع وبشكل صريح الموقف الأخلاقي للقادة اليهود وقوّض سلطانهم وتأثيرهم على الشعب.
كما تجادل يسوع مع رؤساء الكهنة ومعلمي الشريعة والشيوخ من مَرقُس ١١: ٢٧ – ١٢: ١٢. فبعد دحضه تحدّيهم لسلطانه، أخبرهم مثل الكرّامين الذي فيه يتهم القادة اليهود بالتمرّد على الله. وقد باتوا الآن مستعدين أن يعتقلوه، لكن خوفهم من الجموع منعهم.
ثم تجادل يسوع مع الفريسيين والهيروديين حول الضرائب الرومانية في مَرقُس ١٢: ١٣ – ١٧.
بعد ذلك، برهن يسوع في مَرقُس ١٢: ١٨ – ٢٧، أن الصدوقيين قد أساءوا فهم ما تُعلمه الأسفار حول القيامة.
وأخيرًا، هاجم معلمي الشريعة في مَرقُس ١٢: ٢٨ – ٤٤. وعلى الرغم من إقرار يسوع بأن بعضهم يعرف الشريعة، فقد أصرّ أنهم بصورة عامة واقعون تحت سلطة الطمع والطموح الدنيوي.
بطريقة أو بأخرى، تعمّد يسوع أن يتواجه علنًا مع كل الأحزاب اليهودية المؤثّرة: الكهنة ومعلمي الشريعة والفريسيين والهيروديين والصدوقيين. وقد أعطى كل مجموعة سببًا لتكرهه وتطلب موته، لكي يحضّهم على قتله.
أما الجزء الثاني الرئيسي لمواجهة يسوع مع القيادة اليهودية فهو تعليم يسوع في حديثه مع تلاميذه. وهذا التعليم يُسمى غالبًا الخطاب على جبل الزيتون لأنه جرى على جبل الزيتون. وبصورة عامة هو يمتد من مَرقُس ١٣: ١ – ٣٧. في هذا الجزء، أنذر يسوع تلاميذه بالمشقات التي تنتظرهم في المستقبل حتى لا يؤخذوا على حين غرة. وقد أخبرهم أنهم سوف يُساقون أمام حكام ليشهدوا عنه. وسوف يُضربون ويُبغضون وتنقسم عائلاتهم. كما سيختبرون كوارث طبيعية وضيقة عظيمة. في الواقع، أوضح لهم بأن الاضطهاد والألم سيكونان سمة الكنيسة إلى حين رجوعه.
لكن يسوع أعطى التلاميذ أيضًا رجاءً عظيمًا عن طريق تأكيده لهم الانتصار النهائي لملكوت الله. على سبيل المثال، في مَرقُس ١٣: ٢٦ – ٢٧ ذكّرهم بالانتصار العظيم الذي سيكون لهم عندما يتحقق ملكوته بقوة ومجد، في حال بقوا أوفياء له.
وكما كان متوقعًا، فإن كلمات يسوع لتلاميذه استمرت بتحريض القادة اليهود ضده. على سبيل المثال، في مَرقُس ١٣: ١ – ٢، علّم يسوع تلاميذه بأن الهيكل سوف يدمّر. لكن كما نقرأ في مَرقُس ١٤: ٥٨، فإن كلماته سُمعت عرضًا وأسيء فهمها، بحيث اتُهمَ زورًا في محاكمته بالتخطيط لتدمير الهيكل.
الآن وقد نظرنا إلى سجل مَرقُس عن [ألم المسيح] بعلاقته بإعداد يسوع تلاميذه، والمواجهة مع القادة اليهود في أورشليم، غدونا مستعدين لننظر إلى اختبار يسوع للألم والموت في مَرقُس ١٤: ١ – ١٥: ٤٧.
الاختبار
إن سجل اختبار يسوع الفعلي للألم والموت مليء بالأحداث المشهورة: خيانة يهوذا، الإنباء بنكران بُطْرُس، عجز التلاميذ عن السهر والصلاة مع يسوع في جثسيماني، اعتقال يسوع، المحاكمتان ونكران بُطْرُس، وأخيرًا صلب يسوع ودفنه.
هذه فصول مظلمة وغير مريحة. والجو ينذر بالشر. وهي مليئة بالفشل: فشل القادة اليهود، فشل الجموع، فشل النظامَين الروماني واليهودي، وفشل التلاميذ. وعن طريق الكتابة إلى كنيسة رومانية مضطهدة، أوضح مَرقُس بأن آلام ولادة المسيحية في أورشليم كانت قاسية تمامًا مثل آلام ولادة المسيحية في روما.
يمكن تقسيم سجل مَرقُس اختبار يسوع للألم والموت إلى أربعة أقسام رئيسية، بدءًا من تكفينه في مَرقُس ١٤: ١ – ١١.
أخبرنا مَرقُس في هذا الجزء، بعض التفاصيل الهامة جدًا. أولاً، قال لنا إن رئيس الكهنة ومعلمي الشريعة كانوا يبحثون عن طريقة ليعتقلوه ويقتلوه. ثانيًا، دهنت امرأة يسوع بعطر كثير الثمن، وقد تجاوب معها بإعلان أنها دهنته لتكفينه. بهذه الطريقة، أعلن يسوع بأنه سيُقتل في المستقبل القريب. ثالثًا، بدأ يهوذا الإسخريوطي بالتخطيط لتسليم يسوع لرؤساء الكهنة ومعلمي الشريعة. يمكننا أن نرى ذلك كنقطة تحوّل في قصة آلام يسوع وموته. فلم يعد موته تهديدًا غامضًا بل حقيقة وشيكة.
ثم يخبرنا مَرقُس عن ساعات يسوع الأخيرة مع تلاميذه في مَرقُس ١٤: ١٢ – ٤٢.
يبدأ هذا القسم من رواية مَرقُس باستعداد يسوع وتلاميذه لتناول العشاء الأخير في ١٤: ١٢ – ٣١. خلال هذا العشاء، أسس يسوع الفريضة المسيحية لعشاء الرب. كما استخدم هذا الوقت ليعطي تلاميذه بعض التعليمات الأخيرة ليساعدهم في فترة آلامه وموته. على سبيل المثال، أنذرهم بأنهم جميعًا سيتخلون عنه وأنبأ بنكران بُطْرُس له.
بعد العشاء الأخير، ذهبت المجموعة إلى بستان جثسيماني كما نقرأ في مَرقُس ١٤: ٣٢ – ٤٢. وفق هذا المقطع، كان يسوع حزينًا جدًا ومضطربًا، مسحوقًا بالحزن إلى درجة الموت. فمن الواضح أنه كان يتألم بشدة وهو يتوقع الصليب.
الجزء الثالث من سجل مَرقُس عن اختبار الألم والموت، هو سجل اعتقاله ومحاكماته، من مَرقُس ١٤: ٤٣ – ١٥: ١٥.
يبدأ هذا الجزء بخيانة يسوع على يد تلميذه يهوذا الإسخريوطي في مَرقُس ١٤: ٤٣ – ٥٢. ويستمر بمحاكمته أمام القيادة اليهودية في مَرقُس ١٤: ٥٣ – ٦٥. ثم نقرأ تقرير نكران بُطْرُس معرفته بيسوع واتباعه له في مَرقُس ١٤: ٦٦ – ٧٢. وأخيرًا، نقرأ عن محاكمته أمام الحاكم الروماني بيلاطس في مَرقُس ١٥: ١ – ١٥. في نهاية هذه الاختبارات المذّلة، جُلد يسوع ثم أُسلم إلى الجند الرومان ليُصلب.
القسم الرابع من سجل مَرقُس عن اختبار يسوع الألم والموت يغطي صلب يسوع في مَرقُس ١٥: ١٦ – ٤٧.
ويبدأ هذا القسم بتسليم يسوع إلى الجنود الرومان ليُجلد، ويُذَل، ويُقتل على الصليب كمجرم. من وجهة النظر البشرية كانت آلامه ساحقة.
كَون يسوع واجه سوء المعاملة هذه على يد الرومان، كان يعني الكثير بالنسبة إلى قرّاء مَرقُس الأولين من الرومان المسيحيين. فهم أدركوا فورًا التشابه بين ألم الرب وآلامهم هم، ولا شك أنهم تشجّعوا كدافع لهم ليثبتوا في مواجهة مشاكلهم.
لكن أسوأ جزء في آلام الرب هو خطيّة العالم التي أُلقيت عليه، وخضوعه لغضب الله الآب. أخيرًا، بعد موته، وُضع في قبر، دون أن يُحنط جسده بالطيوب لعدم توفر الوقت الكافي لذلك قبل حلول السبت.
الآن وقد نظرنا إلى إعلان المسيح، وسلطان المسيح، واعتراف الرسل بالمسيح وآلام المسيح، صرنا أخيرًا مستعدين لنلتفت إلى انتصار المسيح في مَرقُس ١٦: ١ – ٨، حيث يصف لنا مَرقُس قيامة ربنا.
انتصار المسيح
قبل أن نتطرقَ إلى محتوى هذا الجُزءِ، لا بدَّ أن نتوقفَ لنشرحَ لماذا نقولُ إن إنجيلَ مرقسَ ينتهي في الفصلِ ١٦ والعددِ ٨. في النهايةِ، مُعظَمُ كُتُبِنا المُقدَسةِ تتضمنُ عِشرينَ عددًا في هذا الفصلِ، لكن مُعظمَ هذه الكتبِ تشيرُ أيضًا إلى أن الأعدادَ من ٩ إلى ٢٠ لا تَظهرُ في أكثرِ المخطوطاتِ القديمةِ مصداقيةً لإنجيلِ مرقُسَ.
في المخطوطات اليونانية القديمة لإنجيل مَرقُس، يوجد ثلاث خاتمات. مجموعة من المخطوطات تنتهي عند العدد ٨. مجموعة ثانية تنتهي عند العدد ٢٠، وتضيف مجموعة ثالثة جملتين بعد العدد ٨.
وفحص دقيق للأدلة قاد الدارسين إلى الاستنتاج بأن مَرقُس ختم إنجيله بالعدد ٨. وتؤيد أقدم مخطوطات إنجيل مَرقُس وأهمها انتهاء الفصل ١٦ من مَرقُس عند العدد ٨ أي أنها تؤيد الخاتمة القصيرة بلا إضافات.
يعتقد كثير من الدارسين أن الخاتمتَين الأخيرتين أضيفتا من قبل ناسخٍ شعرَ بأنه من غير المريح أن يُختتم إنجيل مَرقُس بعبارة “كن خائفات”. لكن انزعاج الناسخ هذا ليس له أساس. في الواقع، إن مواضيع الخوف، والرعدة والحيرة تتردد في كل الإنجيل. ولهذا السبب، فالتشديد على الخوف مناسب جدًا في ختام هذا الإنجيل الخاص. في الحقيقة، إنه يتناسب تمامًا مع اختبارات قرّاء مَرقُس الأولين. فهم إذ واجهوا الاضطهاد بعد قيامة يسوع، لا شك أنهم تعزّوا بمعرفة أن تلاميذ يسوع الأولين اختبروا هم أيضًا الخوف.
دعونا ننتقل الآن إلى سجل قيامة يسوع في مَرقُس الفصل ١٦ والأعداد ١ إلى ٨. وسجل القيامة في مَرقُس هو أقصر من روايات الأناجيل الأخرى. لكن هذا الإيجاز يتناسب مع مخطّط هذا الإنجيل. فكما تذكرون، كان إعلان المسيح الذي استهل الإنجيل قصيرًا جدًا أيضًا، وكذلك اعتراف الرسل بالمسيح الذي شكل النقطة المحورية في الإنجيل.
هذا الجزء حول انتصار المسيح يبدأ مع النساء اللواتي أتين إلى القبر لتحنيط الجسد في اليوم الثالث بعد موته ودفنه. وقد لاقاهم زائر ملائكي كانت رسالته واضحة وصريحة. يسوع انتصر على الموت وقام منتصرًا، كما تنبأ عدة مرات أثناء خدمته. استمع إلى خاتمة إنجيل مَرقُس الفصل ١٦ والأعداد ٦ إلى ٨:
فَقَالَ لَهُنَّ: “لاَ تَنْدَهِشْنَ! … قَدْ قَامَ! لَيْسَ هُوَ هَهُنَا. هُوَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي وَضَعُوهُ فِيهِ. … فَخَرَجْنَ سَرِيعاً وَهَرَبْنَ مِنَ الْقَبْرِ، لأَنَّ الرِّعْدَةَ وَالْحَيْرَةَ أَخَذَتَاهُنَّ. وَلَمْ يَقُلْنَ لأَحَدٍ شَيْئاً لأَنَّهُنَّ كُنَّ خَائِفَاتٍ.
إن رد فعل النساء كان متوقعاً في إطار رواية مَرقُس: كن خائفات. تقريبًا الجميع في هذا الإنجيل تجاوب مع حضور الله القوي بالرعدة والحيرة والخوف.
ليس صحيحًا القول إن النساء أُمرن بإعلان قيامة المسيح، غير أنّهنّ شعرنَ بالخوف وهربنَ من غير أن يتفوّهنَ بأيّ كلمةٍ لأحد. ولكن ها نحن بعد ألفي سنة نقرأ هذه القصّة ونحن على علمٍ بأنّها لم تنتهي هنا. فنحن نعلم أنّ حقيقة الله انتصرت، ونرى مرة جديدة عجزًا إضافيًّا يتكرّر في الكتاب فنرى من جهة فشل الإنسان مقابل أمانة الله وقصده.
—د. روبرت بلامر
سيختبر شعب الله الضعف والعوز في هذه الحياة. وهذه كانت حال قرّاء مَرقُس الأولين في روما، وهذا ما صحّ بالنسبة إلى الكنيسة عبر العصور. لكن أخبار الإنجيل السارة هي أن ملكوت الله قد أتى. فقد انتصر المسيح على أعداء شعب الله – حتى على العدو الأخير، الموت نفسه. ولهذا السبب، يمكن لشعب الله أن يواجهوا أعداء إنجيل الملكوت. فالنصرة هي لنا منذ الآن.
بعد ان درسنا خلفية وبنية ومحتوى إنجيل مَرقُس، نحن الآن مستعدون أن ننظر في بعض المواضيع الرئيسية.
المواضيع الرئيسية
لا شكَّ أن هويةَ يسوعَ كالمسيحِ المُنتظرِ هي الموضوعُ الأكثرُ أهميةً في الرسالةِ التي ينقلُها إلينا مَرقسُ في إنجيلِه. فقد أراد مَرقسُ أن يتأكدَ من أن قرّاءَه عرفوا أن يسوعَ قد جاءَ فعلاً ليخلّصَهم من خطاياهم. فقد كان يسوعُ الملكَ الذي غلبَ الموتَ. كان قويًا، مخيفًا، لا يُقهرُ، ومجيدًا. كان الفاديَ الذي جاء ليخلّصَهم مُحضِرًا معهُ ملكوتَ اللهِ على الأرضِ. ورَغم حَقيقةِ أنهم ما عادوا يرَوْنَه، فهو لا يزالُ سيدَ الموقفِ، وقد وعدَ بأن يعودَ ليتمِّمَ الخلاصَ الذي بدأَه.
من أجل أغراضنا في هذا الدرس، سنقسم موضوع مسيحانية يسوع إلى قسمين. في القسم الأول سنتحدث عن يسوع على أنه العبد المتألم، وفي القسم الثاني سننظر في هويته على أنه الملك المسيحاني المنتصر. لنبدأ بدور يسوع كعبد متألم.
العبد المتألم
في بحثنا حول يسوع كـالعبد المتألم سنقسم الموضوع إلى ثلاثة أقسام. أولاً، سنشير إلى بعض التوقعات اليهودية المتعلقة بالمسيح الموعود. ثانيًا، سنشدّد بإيجاز على طبيعة خدمة يسوع كالعبد المتألم. وثالثًا، سنتحدث عن الاستجابة المناسبة التي أراد مَرقُس أن تكون عند قرائه فيما يتعلق بمسيحانية يسوع. لننظر أولاً إلى التوقعات اليهودية للمسيح التي كانت شائعة في أيام يسوع.
التوقعات اليهودية
لمئات السنين قبل زمن المسيح، عاشت الأكثرية الساحقة من شعب الله خارج أرض الموعد. والذين بقوا في الأرض عانوا من ظلم حكّام وثنيين. في البداية، كان هناك البابليون، ثم الماديّون، ثم الفرس، ثم اليونان، وأخيرًا الرومان. وهذا التاريخ الطويل من العذاب قاد اللاهوتيين اليهود ليشدّدوا على نبوات العهد القديم بأن الله سوف يرسل في النهاية المحرّر المسيحاني ليسترد الملك لإسرائيل.
أخذ الرجاء اليهودي المسيحاني أشكالاً عدة. على سبيل المثال، آمن الغيورون أن الله أراد إسرائيل أن تبشّر بيوم المشيح عن طريق الثورة على السلطات الرومانية. وقد آمنت مجموعات مختلفة بأن الله سوف يتدخل بطريقة خارقة ليدمّر أعداءه ويحيي شعبه. وقد كان هناك ناموسيون، مثل الفريسيين، آمنوا بأن الله لن يتدخل ما لم تُطعْ إسرائيل الشريعة. لذلك، كان هناك العديد من الناس في زمن يسوع الذين انتظروا طويلاً مجيء المسيح.
أتى يسوع كعبد متألم متواضع. والآمال اليهودية المسيحانية كانت تتوقع ملكوتًا أرضيًا سياسيًا عاجلاً تحت سلطة المسيح، شبيهًا بملكوت داود الذي حكم قبله بعدة قرون. لكن يسوع لم يسعَ أبدًا إلى تأسيس هذا النوع من الملكوت أثناء خدمته الأرضية. وهذا ما دفع الكثير من الناس إلى رفضه كالمسيح.
وما هو ملفت للنظر، هو أن فكرة المسيح كعبد متألم ليست جديدة. فقد أشار نبي العهد القديم إشعياء، إلى دور المسيح هذا، لا سيما في إشعياء الفصل ٥٣، الذي يطبّقه العهد القديم تكرارًا على يسوع. كما يمكننا القول إنه لو لم يتألم يسوع ويخدم لما كان لبى متطلبات العهد القديم للمشيح. ولذلك، بدلاً من تجريده من أهليته كالمشيح، فان خدمة يسوع المتألم هي الدليل على أنه هو حقًا المسيح. لكن قلة من الناس أدركوا هذه الحقيقة من العهد القديم خلال حياة يسوع. فقد استسلم معظمهم للأفكار اليهودية المعاصرة حول المسيح بحيث لم يتعرّفوا عليه عند مجيئه.
من الواضح أنّ مفهوم المسيح هو بغاية الأهميّة في العهد القديم. فالمسيح هو الممسوح، الملك الممسوح. ومن المهمّ أن نتساءل كيف كان المسيح ليأتي لو كان شعب إسرائيل شعبًا مطيعًا ولم يطلب ملكًا، غير أنّ الأمور لم تكن كذلك. فقد تتالى الأشخاص الممسوحون الذين لم يأبهوا لشعوبهم ولم يحقّقوا عدالة الله في العالم ولم يهتمّوا إلا بأنفسهم. ومن هنا نشأ هذا التوق في العهد القديم: آه، هل يمكننا أن نحصل على مسيحٍ يتمتّع بميزات المسيح الحقيقية؟ وهكذا نجد صورة الملك الآتي، ونجد لا سيما في سفر إشَعياء هذه العلاقة المذهلة بين الملك الآتي والروح القدس. فشعب العهد القديم لم يتُقْ إلى مجيء مسيحٍ فحسب بل كان يتوق إلى الروح القدس ليأتي ويمكّنهم من إطاعة التوراة. ومن المشوّق أن نرى الطرق التي يصوّر فيها سفر إشعياء تحديدًا العلاقة بين المسيح والروح القدس. فهذا المسيح سيكون ممتلئًا بالروح القدس؛ أي ممسوحًا من الروح القدس. وسيتكلّم بالروح القدس. وبذلك، لم يتفاجأ الرسل عندما قال لهم يسوع القائم من الموت انتظروا في أورشليم ما وعد به الله. وكأنّ المسيح قال أخيرًا ما كنّا نتوقّع من المسيح أن يقوله، سأرسل لكم الروح القدس. لكن ما لم يدركوه هو أنّ المجيء بملكوت الله وبعصر الروح القدس سيكون مكلفاً جدّاً بالنسبة إلى يسوع المسيح. هم لم يربطوا إشعياء ٥٣ بإشعياء ١١. ولم يربطوا فكرة أنّه على المخلّص أن يموت من أجل أن يقيم مملكة العدل والسلام هذه ومن أجل إرسال الروح القدس.
—د. جون أوزوالت
مع هذه التوقعات اليهودية بذهننا، لننظر إلى خدمة يسوع كالعبد المتألم.
خدمة يسوع
كان يسوع مسيحًا مذهلاً لأنه غلب عن طريق الموت. يخبرنا مَرقُس، باكرًا في الإنجيل، عن النزاعات التي قادت أخيرًا إلى الصلب. أما القسم الثاني من الإنجيل فيسيطر عليه في البداية موضوع آلام يسوع الوشيكة وموته، ومن ثم ألمه الفعلي وموته.
وبشكل متواز مع هذا التشديد على آلام يسوع، يأتي التشديد على خدمته. فقد شفى يسوع وخدم العديد من الناس. وقدّم حياته كفدية عن الخطاة. وأطاع إرادة الله بالكامل لمنفعة شعب الله.
أحد المواضع التي جمع فيها مَرقُس هذين الموضوعين، الألم والخدمة، هو مَرقُس الفصل ١٠: ٣٥ – ٤٥. في هذا المقطع، طلب يعقوب ويوحنا من يسوع أن يعطيهما مراكز شرف في ملكوته. فغضب التلاميذ العشرة الآخرون من هذا الطموح إلى المجد. لكن يسوع وبّخ الاثني عشر جميعهم. وحضّهم على حياة تتصف بالخدمة، وقدّم لهم حياته كنموذج.
القيادة في الخدمة لا تتطلّب من القائد سوى أن يكون مشارِكًا فاعلاً في حياة الخدمة وأن يكون راغبًا، كما يقول بولس، في بذل الذات في سبيل خدمة الآخرين ومساندتهم ودعمهم. فالقائد لا يصدر الأوامر فحسب. صحيح، الأوامر ضروريّةٌ حتمًا ولكن على القائد أن يمهّد الطريق من أجل تحقيق الأهداف. وهذا طبعًا يذكّرني بما قاله بولس عندما تكلّم عن العمل الشاق. قال إنّه عمل أكثر من جميع رفاقه في الخدمة. وهذا ما يساعدنا على فهم المعنى الرائع لأن نكون قادةً خدّامًا وطبعًا أن نختلط بالناس ونساعدهم على حمل أثقالهم ونخلصهم منها.
—القس لاري كوكريل
استمع إلى تفسير يسوع لهذا النوع من القيادة في مَرقُس ١٠: ٤٥:
لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضاً لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ.
أوضح يسوع أن القيادة هي نوع من الخدمة نحو الله ونحو الذين نقودهم. فالقيادة ليست فرصة للمجد. بل على العكس، فهي غالبًا ما تسبب الألم للقادة. في الواقع، عرف يسوع أن إرساليته في خدمة الآخرين ستؤدي في النهاية إلى الموت، لكنه قبلَ تلك المهمة وأمر تلاميذه بأن يقبلوها هم أيضًا.
يبدو مَرقُس في إنجيله، عازمًا على إيصال الرسالة إلينا بأنّ يسوع المسيح هو الخادم المتألّم الذي تمّ التنبّؤ عنه في العهد القديم. ففي النصف الأوّل من إنجيله، يركّز مَرقُس كثيرًا على دور يسوع كملك، وفي النصف الثاني ينتقل إلى وصف آلام المسيح وموته، وجاء في ١٠: ٤٥: “لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ”. ويأتي هذا العدد في إطارٍ تشجيع التلاميذ على أن يكونوا خدّامًا من هذا النوع، فيسوع هو مثالنا بعدم تمسكنا بحقوقنا بل التخلي عنها في سبيل تقدّم الإنجيل وتقدّم الملكوت. ومَرقُس، يقدّم لنا نموذجًا ليعلّمنا ألا نتفاخر بأنفسنا، فلا ينبغي أن نفتّش عن أفضل الأمكنة في السماء كما كان التلاميذ يفعلون، بل علينا اتّباع نموذج يسوع الذي بذل نفسه بإرادته من أجل الآخرين، وهذا هو النموذج الذي نقتدي به.
—د. سيمون فيبير
إذًا حين نفكّر في ماهيّة القيادة بروح الخدمة التي يأمرنا بها يسوع، يمكننا أن نرى في الأناجيل كيف بيّن لنا يسوع هذا النوع من القيادة. فأوّل ما نرى يسوع يفعله عندما يلتقي بمختلف الأشخاص ويطّلع على حاجاتهم هو الإصغاء. فهو يلتقي بهم حيث هم، ويهتم بحاجات حياتهم الماديّة تمامًا مثل اهتمامه بحاجات حياتهم المعنويّة. يصغي فعلاً إلى ما يقولونه ولا يكتفي بسماع كلماتهم، بل يقرأ بين السطور. فنقرأ مثلاً في إنجيل مَرقُس عن لقاء يسوع مع الأب الذي كان ابنه مسكونًا بالشياطين لسنوات وسنوات، وكان يجرِّح نفسه، وهكذا فقد الأب كل أملٍ على الإطلاق. فقال ليسوع “أعن ضعف إيماني”. فلم يوبّخه يسوع بل استجاب لطلبه وشفى ابنه. ثمّ نراقب مسار الإنجيل، ونسأل سؤالاً: أين يذهب يسوع بعدئذٍ؟ يسوع يذهب إلى أورشليم ليبذل ذاته من أجل أتباعه، ليدفع ثمن خطاياهم. فمن خلال هذا الحبّ المضحّي يتخلّى يسوع عن كلّ مجدٍ يتحلّى به ويبذل ذاته عن أتباعه. فهذا هو النموذج الذي يبيّنه يسوع في الإنجيل مظهِرًا كيفيّة اهتمامه بالناس الذين يلتقيهم واستماعه إليهم، ثمّ إلى أين يتوجّه؟ يتوجّه إلى أورشليم حتّى يبذل ذاته. هذه هي القيادة الخادمة.
—د. جريج بيري
مع إبقاء التوقعات المسيحانية اليهودية وخدمة يسوع في ذهننا، لنتأمل بـالاستجابات التي توقعها مَرقُس من قرّائه نحو هذه الناحية من كون يسوع هو المسيح.
الاستجابة المناسبة
علّم يسوع أتباعه أنه لا بد لهم أن يتألموا. فهم سيواجهون المقاومة في المجتمع. وسيكون لديهم صراعات في عائلاتهم. وسيجرّبون ويتضايقون من أرواح شريرة. كما سيُضطهدون، ويُقتل بعضهم. لكنه مع ذلك طالب بولائهم وثباتهم. استمع كيف لخّص يسوع هذه الفكرة في مَرقُس ١٢: ٣٠:
وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هَذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى.
هنا أشار يسوع إلى تثنية الفصل ٦ والعدد ٥ ليشدّد على جملة ما يطلبه الله من شعبه. يجب علينا أن نكون مكرّسين بالكامل لله في كل ناحية من نواحي حياتنا.
إتباع يسوع يتضمن التضحية والألم. وهو ما زال يطالبنا بأن نكون مكرّسين له بالكامل، وأن نكون مستعدين من أجل الملكوت، أن نحيا بطرق يحتقرها العالم.
كمثال واحد فقط، خذ قصة الشاب الغني في مَرقُس ١٠: ١٧ – ٣١. فقد جاء إلى يسوع ليسأله ما يجب عليه أن يفعل ليرث الحياة الأبدية، فقال له يسوع إن عليه أن يبيع كل ممتلكاته ويعطيها للفقراء. لكن متطلبات يسوع كانت أكبر مما كان بمقدور الشاب الغني أن يتحمّل، فمضى حزينًا. فقال يسوع لتلاميذه يجب ألّا يفاجئهم ذلك “فـمرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله!” وأكمل وقال إن على أتباعه أن يكونوا مستعدين أن يتخلوا عن عائلاتهم وبيوتهم وممتلكاتهم. عليهم أن يكونوا مستعدين أن يضطهدوا، بل حتى أن يستشهدوا لأجله. وكما قال يسوع في مَرقُس الفصل ٨: ٣٤ – ٣٥:
مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي. فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإنجيل فَهُوَ يُخَلِّصُهَا.
بطريقة أو بأخرى، كل مسيحي عنده صليب. لكن مجد وبركة الخلاص تستحقان التضحية.
قال لنا يسوع احملوا الصليب، ولكن تأتي لحظاتٌ في حياة بطرس ينظر فيها إلى يده فيرى سيفًا بدلاً من صليب. فيقطع أذن رئيس الكهنة. فقد شكّل ذلك صراعًا للكنيسة لقرون، أَسَيْفٌ أم صليب؟ هل نتّبع مسار المهارة البشرية، هل نتّبع مسار الطرق البشرية والحكمة؟ أو نُميت أنفسنا فننكر ذواتنا ونتبع يسوع. وهو كان واضحًا في كلامه عندما قال إنّ المجد الذي يقدّمه من خلال ابنه لا نجده إلا في الطريق نحو الصليب عندما نتبع مسار يسوع. فالمسألة ليست مسألةَ كيفيّة تقديم التسويات أو ما هي تلك التسويات؟ بل السؤال: هل نحن نتبع يسوع؟ وعندما يلتزم الناس بهذا الأمر ويفهمون أنّ الطريق إلى يسوع هو طريق الصليب وأنّهم حين يتبعونه يموتون عن أنفسهم ليعيشوا في المسيح، لا تعود المسألة مسألةَ تسوية أو غير تسوية، أو مسألة وحدة أو تفكّك، بل هذه الأمور تَحِلّ نفسها طالما كان الناس يركّزون على طبيعة الحياة المسيحية التي تستوجب سلوكهم لطريق الصليب.
—القس مايكل جلودو
التلمذة طريق صعب. في الواقع، كما قال يسوع، إن دخول ملكوت الله هو في الواقع مستحيل عندما نعتمد في ذلك على قوتنا. لكن استمع كيف شجع يسوع تلاميذه في مَرقُس ١٠: ٢٧:
عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ وَلَكِنْ لَيْسَ عِنْدَ اللَّهِ، لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللَّه
ليس لدينا القوة لنطيع يسوع بالطريقة الجذرية التي يطلبها لكن الله عنده القوة. وهو يستخدم هذه القوة التي فينا ليضمن لنا دخول ملكوته.
أحد أسوأ الأمور التي يمكن أن نقوم بها هي أن نفتّش عن النمو بالمسيح والطهارة والقداسة والاستقامة بعيدًا عن قوّة الروح. فهذا لا يرضي الله إذ نحن لا نعتمد على الله الذي خلّصنا ويريد أن يقدّسنا. من هنا فإن عمل الروح، قوة الروح، أساسي وضروري؛ هو مهمّ حتمًا لأي عملٍ صالح وأي نمو يبرز في حياتنا. والأمر المدهش، هذا ما نراه تمامًا في حياة يسوع، الذي هو مثالنا في بشريّته. فالروح القدس يدخل حياة المسيح ويعمل فيها فيمنحَه القوّة ويقوده ويمسحه في معموديته وفي بداية خدمته، وحتّى قبل ذلك، حين عمل في الحبل العذراوي وصار الله إنسانًا. ونرى الروح يقوده في الصحراء لكي يُجَرَّب. فيأتي الروح ويخدمه. هذا الروح هو مصدر القوّة في حياة المسيح، ما يجعله بالتأكيد مصدر القوّة في حياة كلّ مَن يتبع المسيح.
—د. ك. إريك ثيونيس
أراد مَرقُس أن يعرف قرّاؤه الأولون في روما أن الألم والاضطهاد هما العلامة بأنهم أتباع حقيقيون ليسوع. وهما جزء من خطة الله لملكوته. وأراد مَرقُس أن يتشجع قرّاؤه بهذه الحقيقة. أرادهم أن يثقوا بأن الله سيقويهم ليثبتوا وسط تحدياتهم، تمامًا كما قوّى يسوع، بحيث يواجهون ألمهم بشجاعة ورجاء.
ما زالَ يسوعُ يأتي بملكوتِ اللهِ ببُطءٍ. وما زالَ يستخدمُ آلامَ شعبِه كواسطةٍ لتلكِ الغايةِ. وهو يُقوّيهم ليثبتوا. لذا يجبُ ألا نسمحَ للتألمِ من أجلِ يسوعَ وملكوتِه أن يُثَبِطَ عزيمتَنا، بل يَجِبُ أن يُعزّيَنا ويُلهِمَنا. فنحنُ نَتَألمُ لأننا خُدّامُه، ونَثِقُ بأنَّه في يومٍ من الأيامِ ستُكافَأُ آلامُنا ببركاتٍ لا يُمكِنُنا تصوُّرُها – بركاتٍ تفوقُ بكثيرٍ الصعوباتِ التي نواجهُها.
الناحية الثانية في هوية يسوع التي سنتأمل فيها، هي دوره كـالملك المنتصر الذي سيجلب ملكوت الله إلى الأرض.
الملك المنتصر
أوضح العهد القديم أن المسيح الموعود سيكون من سلالة الملك داود، وأن دوره سيكون استرداد مجد عرش داود، والمُلك على إسرائيل إلى الأبد. ونرى هذه النبوات في أماكن مثل المزامير ٨٩، و١١٠، و١٣٢، ومؤكّدة في مَرقُس ١٢: ٣٥. من هنا، في كل مرة أشير فيها إلى يسوع أنه المسيح أو المشيح، أُقرّ أيضًا بمركزه الملكي. على سبيل المثال، هذا هو سبب دعوة يسوع “ابن داود” في مَرقُس ١٠: ٤٧ – ٤٨. ويسوع نفسه أعلن علنًا أنه الملك المسيحاني في مَرقُس ١٤: ٦١ – ٦٢ عندما حوكم أمام السنهدريم، وفي مَرقُس ١٥: ٢ عندما حوكم أمام بيلاطس.
سنتأمل في ثلاث نواح لدور يسوع كملك منتصر يشدَّد عليها مَرقُس. سنتأمل في حقيقة إعلان يسوع ملكوته. وسنرى كيف برهن قوته وسلطانه. وسنبيّن أنه غلب أعداءه. لنبدأ مع حقيقة أن يسوع أعلن ملكوته.
أعلن ملكوته
تذكّر الطريقة التي لخّص فيها مَرقُس خدمة كرازة يسوع بالإنجيل في مَرقُس ١: ١٤ – ١٥، حيث قدّم هذا التقرير:
وَبَعْدَ مَا أُسْلِمَ يُوحَنَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللَّهِ وَيَقُولُ: “قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللَّهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإنجيل”.
القصد الرئيسي من خدمة يسوع الكرازية كانت إعلان الإنجيل أو الأخبار السارة بأن ملكوت الله قريب، وأن بركاته مقدّمة لجميع الذين يتوبون ويؤمنون.
كما أعلن يسوع ملكوته أيضًا عن طريق تعليم أسراره لتلاميذه. في الواقع، هذا هو السبب وراء تعليمه غالبا بالأمثال – معلنًا أسرار الملكوت للمختارين، مع إبقائها مخفية عن غير المختارين. استمع إلى ما قاله يسوع لتلاميذه في مَرقُس ٤: ١١ – ١٢:
قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِرَّ مَلَكُوتِ اللَّهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِالأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ، لِكَيْ يُبْصِرُوا مُبْصِرِينَ وَلاَ يَنْظُرُوا، وَيَسْمَعُوا سَامِعِينَ وَلاَ يَفْهَمُوا، لِئَلاَّ يَرْجِعُوا فَتُغْفَرَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ.
وبالطبع، كثيرًا ما وصف يسوع ملكوت الله. على سبيل المثال، في مَرقُس ١٠ شبّه الذين يدخلون ملكوت الله بسهولة، بالأولاد، والذين يدخلونه بصعوبة بالغة، بالأغنياء.
الناحية الثانية في دور يسوع كملك منتصر، هي أنه برهن قوته وسلطانه كرأس ملكوت الله الأرضي.
برهن قوته وسلطانه
برهن يسوع عن قدرته وسلطانه الملكيَين بصورة رئيسية من خلال المعجزات. على سبيل المثال، نقرأ في مَرقُس ٤: ٤١ أن الخليقة تطيع أوامره. والأرواح الشريرة غالبًا ما اعترفت به أنه ابن الله، كما نقرأ في أماكن مثل مَرقُس ١: ٢٤، ٣: ١١، ٥: ٧. وقدرة يسوع على فرض إرادته على الطبيعة والأرواح الشريرة، كانت إعلانًا قويًا بأنه جاء ليحقق ملكوت الله على الأرض. والأمر نفسه ينطبق على شفاءاته الخارقة. وتتضمن بركات الملكوت الحياة والصحة. من هنا عندما شفى يسوع الناس، كان يوزّع بركات الملكوت عليهم، وفق نعمه الملكية.
صنع يسوع المعجزات على الأقلّ للأسباب الثلاثة التالية: الأوّل أنّه كان يريد إظهار عطفه، أي عطف الله على الشعب الذي يتألّم. فكان يشفي الناس لأنّه رؤوف ويشفق عليهم. وكان يريد تلبية حاجاتهم، ولكن عبر قيامه بذلك، كان يُعلِن أيضًا عن حقيقته، عن أنّه المسيح الذي سيجلب الخلاص. فالمعجزات هي علامات تعرّف عن هويّته. فهي لا تدلّ على أنّه ابن الله القادر فحسب، بل تُظهِر أنّه المسيح. وأمّا السبب الثالث فهو أنّ المعجزات تُعلِن أنّ الخلاص المسيحاني قد حان وأنّ الـعهد الذي وعد به الله دخل التاريخ وبدأت اللعنة تفقد مفعولها، أقصد لعنة المرض فها الناس تشفى من أمراضها. وبدل محدودية الطعام والشراب ها هو يكثر الطعام والخمر. فالمعجزات أبرزت التغييرات التي أحدثها الله في التاريخ لأنّه المسيح ومهمّته أن يُدخِل هذه التغييرات إلى حياتنا.
—د. جون ماكينلي
بالإضافة إلى صنع المعجزات، برهن يسوع أيضًا عن قدرته وسلطانه الملكيَين بطرق أخرى. على سبيل المثال، في مَرقُس ١: ١٦ – ٢٠ دعا يسوع تلاميذه بشكل جريء إلى ترك بيوتهم وعائلاتهم وأشغالهم واتباعه. فهو لم يقدّم لهم نصائح حكيمة فقط. بل دعاهم إلى استجابة تغير حياتهم. وهو في الواقع، يطلب ذلك من كل من يسمع الإنجيل، ويتوقع منهم الاستجابة ذاتها. ويجب على كل إنسان أن يطيع يسوع، ويستودع حياته بين يديه ويتبعه حيثما يقوده.
لعل المثل الأشهر لسلطان يسوع هو عندما غفر خطايا المفلوج في مَرقُس ٢: ٣ – ١٢. فيسوع والجميع يعرفون أن الله وحده يمكنه أن يغفر الخطايا. لكن المذهل، هو أن يسوع لم يقل للرجل أن يطلب الغفران من الله، بل غفر له خطيّته بسلطان. وبالتالي، لم يكن ذلك التصريح مجرد تأكيد لغفران خطيّته، بل أيضًا لسلطان يسوع الملكي. فعن طريق غفران خطايا الرجل، برهن يسوع أن له سلطانًا إلهيًا على إقامة العدل في ملكوت الله. وبشفائه للرجل فورًا بعد غفران خطاياه، برهن يسوع أن رسالته جاءت حقًا من الله.
بالطبع، سلطان يسوع على مغفرة الخطايا، هو أحد أعظم الأسباب لكي نتبعه. فبواسطته، تُمحى خطايانا، ونتمكن من أن نتصالح مع الله. وبدل أن نكون أعداءه، يمكننا أن نكون مواطنين أوفياء لملكوته، وننال كل البركات الأبدية التي تأتي مع ذلك الملكوت.
أما الناحية الثالثة لدور يسوع كملك منتصر. فهي أنه غلب أعداءه.
غلب أعداءه
كان ليسوع عدة أعداء خلال حياته: من القادة اليهود الذين قاوموه، إلى غير المؤمنين الذين رفضوه، إلى الأرواح الشريرة التي طردها، بالإضافة إلى الأعداء الآخرين. وفي كل مرة اصطدم بها مع أعدائه، انتصر. فقد دحض حججهم، وتجنب مؤامراتهم. وحرّر الناس من ظلمهم. حتى إنه استخدم مؤامراتهم ليتمّم مقاصده الخاصة، سامحًا لهم بأن يصلبوه على الصليب لكي يكفّر عن الخطيّة. كلُّ هذه الانتصارات برهنت أن يسوع هو حقًا المسيح الموعود، الملك من نسل داود الذي جاء ليحقق ملكوت الله على الأرض.
مجموعة من الأعداء الذين يشير إليهم مَرقُس غالبًا، هم الأرواح الشريرة. في الواقع، شدّد مَرقُس على سلطان يسوع على الأرواح الشريرة والقوى الشيطانية أكثر من كتّاب الأناجيل الآخرين. فقد ركّز انتباه قرائه على سيطرة يسوع على الأرواح الشريرة.
بالنسبة لمَرقُس، هذا النزاع بين يسوع والأرواح الشريرة كان الدليل على أن يسوع أتى بملكوت الله. فحضور الملكوت لا يعني حياة مسالمة دون صراع. بل على العكس، فهو يعني أن ملكوت يسوع قد جاء ليُحارب وينتصر في النهاية على قوى ملكوت الشر الشيطانية. بالنسبة للمسيحيين في روما، يعني ذلك أن آلامهم هي جزء من حرب روحية أكبر. وعلى الرغم من أنهم قد يُظلمون ويُضطهدون أحيانًا، لكنهم ما زالوا في الجهة الرابحة، وفي يوم من الأيام سيكون لهم الانتصار الكامل. وهذا ينطبق أيضًا علينا اليوم.
وبالرغم من عظمة سلطان يسوع على الأرواح الشريرة، فإن انتصاره الأعظم هو على الموت نفسه، الذي يدعوه بولس “العدو الأخير” في ١ كورنثوس ١٥: ٢٦. فكما سبق ورأينا، شرح يسوع قبل موته تكرارًا لتلاميذه، أن موته كان وسيلة انتصاره. فالموت هو عدو. لكن يسوع سينتصر على هذا العدو ويستخدمه لتحقيق مقاصده. كمثل واحد فقط، استمع كيف طمأن يسوع تلاميذه أثناء العشاء الأخير في ١٤: ٢٤ – ٢٥:
وَقَالَ لَهُمْ: “هَذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ، الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ بَعْدُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ جَدِيداً فِي مَلَكُوتِ اللَّهِ”.
كراع لطيف، وعد يسوع بأن موته لن يكون أبدًا سببًا لانهيار العزيمة، فموته هو عهد الله بالانتصار على الخطيّة ونتائجها. كما وعد أيضًا بأن ذلك لن يكون العشاء الأخير الذي سيشاركه مع تلاميذه. فبعد كل تلك الأمور المرعبة التي كانت على وشك الحدوث – إعتقاله، ومحاكماته، وآلامه وموته – سوف يشرب معهم الكأس ثانية عندما يتحقق ملكوته بكل مجده. فمن قرّاء مَرقُس الأولين في العالم القديم إلى الكنيسة عبر العصور، تُذكّرنا احتفالاتنا بعشاء الرب بأن انتصار المسيح سيتغلب في النهاية على كل آلامنا. ويومًا ما، سنُكافأ عن طريق الاحتفال بوليمة الانتصار مع يسوع نفسه.
في صلبه وموته ودفنه، سمح يسوع للموت بأن يتسلط عليه لفترة، لكي يفدينا من الخطيّة. لكنه لم يبق تحت سلطانه. فبقيامته، غلب حتى الموت، مبرهنًا دون أدنى شك أنه المسيح، الملك المسيحاني الذي أرسله الله ليسترد ملكوته على الأرض.
لكن إن كان يسوع قد أتى ليملك، فهل هذا يعني أنه فشل؟ لا شك أن هذا السؤال أزعج قرّاء مَرقُس المضطهدين، تمامًا كما يزعج الكثير من المسيحيين في كل عصر. فنحن لا نرى يسوع يملك على الأرض اليوم. ولا يبدو أنه تمّم كل ما يتوقع من الملك المسيحاني أن يفعله.
نلحظ في إنجيل مَرقُس، في النصف الأوّل من الإنجيل، التركيز الكبير على يسوع كملك، فقد برهن أن له سلطانًا على المرض. وبرهن أيضًا أن له سلطان على الطبيعة. وأنّه أيضًا قادرٌ أن يجمع أتباعًا حوله. فهو يفعل كلّ ما نتوقّع أن يفعله ملكٌ إله بيننا. ولكنّ المفاجأة التي صعُب على التلاميذ تقبّلها، خصوصًا في إنجيل مَرقُس، هي عندما أعلن يسوع وأكّد أنّه الملك، وما إن بدأت عقولهم ترى النور، حتى أكمل قائلاً إنّه سيُرفَض ويتألّم ويموت. وأظنّ أنّهم في البداية وجدوا صعوبةً كبيرةً في تقبّل فكرة أنّ الملك سيأتي بينهم كشخصٍ يخدِم. وإذا أعدنا النظر الآن في نبوءات الملك الآتي، يمكننا أن نستنتج من مقاطع مثل إشعياء ٥٣ تتحدث عن ملكٍ سوف يأتي لكنه سيتألّم أيضًا ويموت. وآمن يسوع أنّه مات كفدية عن خطية البشر، وأنّه على الصليب سيتخلى عن جلاله للتكفير عن خطية البشر. ولكن هذه ليست نهاية القصّة لأنّ المسيح قام من بين الأموات وصعد إلى السماء وهو الآن ملك على الخليقة بأسرها وسيعود ليدين الأحياء والأموات.
—د. سيمون فيبير
لم يكن يسوع ذلك المسيح الذي كان معظم الناس يتوقعونه في القرن الأول، وهو ليس نوع المسيح الذي يريده معظم الناس اليوم. فقد عاش حياة الخادم المتألم، ودعا شعب ملكوته أن يفعلوا الشيء ذاته. ففي مثلَيه عن الزارع وحبة الخردل في مَرقُس ٤، علّم يسوع أن أتباعه سيتضايقون بسبب الاضطهاد، وسيبدو كما لو أن ملكوته سينهزم.
لكنه علّم أيضًا أن عند بعض الناس كلمة الملكوت تتجذر وتنتج ثمرًا. فهم يقبلون ملكوت الله بطاعة، ويتبعون يسوع ويثمرون، وهكذا ينمو ملكوت الله.
الملكوت محجوب وقتيًا. وهو ينمو ببطء. لا بل هو يعاني الآن. لكن في النهاية سيأتي ملكوت الله بكل ملئه. وكما قال يسوع في ٤: ٢٢:
لَيْسَ شَيْءٌ خَفِيٌّ لاَ يُظْهَرُ، وَلاَ صَارَ مَكْتُومًا إِلاَّ لِيُعْلَنَ.
رسالة مَرقُس الى قرّائه الأولين وإلينا واضحة: ملكوت الله ينمو بصورة خفية، متصارعًا مع الاضطهاد والألم والأعداء. لكنه ينمو بدون شك وفق جدول الله. فملكوت الله وخدمة يسوع لا يمكن أن تتوقفا. في يوم من الأيام سيعود يسوع ليُنهي ما بدأه. وسوف يغلب نهائيا وبصورة كاملة كل أعدائه، ونحن سنتمجد، إذ ندخل الحالة النهائية للحياة الأبدية التي لن تنتهي أبدًا. في ذلك الوقت، لن تبقى نبوة من العهد القديم دون أن تتحقق. فسوف يتمّم كل شيء.
الخاتمة
درسنا في هذا الدرس، خلفية إنجيل مَرقُس بعلاقتها بمَرقُس ككاتب، وبقرّائه الأولين ومناسبة الكتابة. كما تناولنا بنية ومحتوى إنجيله. وركّزنا على اثنين من مواضيعه الرئيسية: هوية يسوع كخادم متألم وكملك منتصر. إن قرأنا الإنجيل مع هذه الأفكار في ذهننا، سنجد أننا نفهم مَرقُس بصورة أعمق، وسنتمكن من تطبيقه بصورة أفضل على حياتنا في عالمنا المعاصر.
يشدّدُ إنجيلُ مَرقُسَ على نَواحٍ في شَخصيةِ يسوعَ وخِدمتِه، لا تشدّدُ عليها الأناجيلُ الأخرى. وهو يصفُ لنا يسوعَ كمُعلمٍ قويٍّ نشيطٍ مليءٍ بالحركةِ في محيطِه. لكنه يبيّنُ لنا أيضًا أنه رَغمَ سُلطانِه، قام يسوعُ طوعًا بلَعِبِ دَورِ الخادمِ المتألمِ. ويدعونا مَرقسُ إلى استجاباتٍ متنوعةٍ في تتبُّعِنا لمثالِ ربِّنا. فهو يريدُنا أن نقعَ عند أقدامِ يسوعَ بدهشةٍ، وأن نُصغيَ إليه بصمتٍ، ونتجاوبَ مع كلماتِه بطاعةٍ جِذريّةٍ. كما يريدُنا أن نكونَ مستعدين أن نتألمَ من أجلِ ملكوتِ اللهِ، تمامًا مثلما فعلَ يسوعُ. كذلك يريدُنا أن نتشجعَ، عالمين أنه عندما انتصرَ يسوعُ على أعدائِه بواسطةِ الصليبِ، ضَمَنَ لنا الانتصارَ أيضًا. ونحن نَثبُتُ على هذا الرجاءِ إلى اليومِ الذي يرجِعُ فيه المسيحُ بمجدٍ ليعطيَنا ذلك الانتصارَ عند اكتمالِ ملكوتِه.