عقيدة عصمة الكتاب المقدس عقيدة مركزية للإيمان المسيحي الكتابي: لإن كل الكتاب المقدس هو أنفاس الله، فلا يمكن أن يحتوي أي أخطاء (تيموثاوس الثانية ١٦:٣). بالرغم من ذلك، كثيرًا ما واجه المسيحيين صعوبات متنوعة في التعامل مع نصوص كتابية تتعارض للوهلة الأولى مع مصادر تاريخية، أو حقائق علمية خارج الكتاب المقدس. وأحيانًا ما يكون التناقض بين نص كتابي وآخر.
كيف نتعامل مع الأخطاء الظاهرية في الكتاب المقدس؟
للإجابة على هذا السؤال، علينا أولَا مراجعة مفهوم العصمة بشكل دقيق: الكتاب المقدس معصوم في مخطوطاته الأصلية، وصادق في كل ما يؤكده، وعصمته محفوظة، ندركها عندما يُحسَن قراءته. لذلك، فمن الضروري أن نضع نصب أعيننا ما يترتب على هذا التعريف ونحن نتعامل مع صعوبات الكتاب المقدس.
عصمة المخطوطات الأصلية
تنطبق العصمة على المخطوطات الأصلية لأسفار الكتاب المقدس، ولكن الله لم يعد بعصمة النُساخ. إذا كنت لا تصدق ذلك، فكل ما عليك فعله هو أن تجتمع ببعض الأصدقاء وتطلب من كل واحد على حدة نسخ أحد أسفار الكتاب المقدس بخط يديه لإدراك صعوبة الأمر. غالبًا، سيكون هناك اختلافات، بل وتناقضات بين النسخ التي سيقدمها كُل منهم!
لذلك، فالمخطوطات الكتابية معصومة من الخطأ فقط بقدر ما تحافظ بأمانة على كلمات النص الأصلي. لكن الخبر السار الذي يدعم ثقتنا في كلمة الله هو أنه تم اكتشاف العديد من المخطوطات التي تُمَكِّن علماء النقد النصي من تحقيق النص الأصلي للكتاب المقدس كله بدرجة كبيرة من الدقة.
ومع ذلك، ففي بعض الأحيان قد يكون هناك بعض الشك حول تفاصيل نصيّة ثانوية (على سبيل المثال، قارن سفر الرؤيا 1: 8 في أكثر من ترجمة للكتاب المقدس، وابحث: هل يجب أن تظهر كلمة “الله” أم لا؟). عندما نواجه صعوبة نصيّة من هذا النوع، يتطلب إيماننا بعقيدة عصمة الكتاب المقدس تحري الدقة لتحديد أي ترجمة استندت إلى المخطوطات التي من المرجح أنها تعكس القراءة الأصليّة.
تساعدنا مقاصد المؤلفين على إدراك ما يعنيه النص
يشير تعريف العصمة إلى أن الكتاب المقدس صحيح في كل ما يؤكده. لذلك إذا أردنا معرفة ما يؤكده حقًا، فمن الضروري تحديد ما يقصده الكُتّاب من خلال الدراسة الأمينة للنص، والتحقيق في الغرض الذي كتبوا من أجله. ويجب علينا ألا نتجاهل فقرات كتابيّة معينة لكونها تتعارض ظاهريًا مع قناعتنا وأفكارنا المُسبقة بإنكار كونها موحى بها من الله.
على سبيل المثال، نعلم اليوم أن حبة الخردل ليست أَصْغَرُ جَمِيعِ ٱلْبُزُورِ (متى ٣٢:١٣)، لكن الرب يسوع يقول إنها كذلك (مرقس 4 :31). هل هذا خطأ في الكتاب المقدس؟ لا! ليس هذا بيت القصيد. فقد قدَّم يسوع مَثَلًا عن ملكوت السماوات، واستخدم تشبيهًا فهمه مستمعوه الأصليون. لم يكن قصد يسوع أن يُقدَّم تصريحًا عِلميًا في المطلق حول حجم حبة الخردل.
يشير القالب الأدبي إلى ما يسعى النص لتأكيده
يجب أن نحترم شكل النص الكتابيّ وطبيعة اللغة التي يستخدمها كُتّاب الكتاب المقدس. سنفهم الكتاب المقدس بشكل أفضل إذا توقفنا عن التعامل مع لغته على أنها لغة تقنيّة ودقيقة للغاية، كما لو كانت كتابًا في الرياضيات أو العلوم. بدلاً من ذلك، فإن لغة الكتاب المقدس هي لغة التواصل الاعتيادية، وفي كثير من الأحيان تُشبِه لغتنا اليومية. علاوة على ذلك، فإن الكتاب المقدس مَليء بالاستعارات والمُبالغات الأدبيّة والأمثال وحتى السُخرية.[1]
يجب أن نتعرّف على خصائص النص هذه ونقرأها بشكلٍ طبيعيّ. على سبيل المثال، يتحدث كاتب المزمور عن حركة الشمس بقوله أنها “تشرق” و “تغرب” (مزمور 113: 3)، لكننا نعلم اليوم أن الشمس لا تتحرك فعليًا حول الأرض. فهل أخطأ كاتب المزمور؟ في الواقع، يجب أن نراعي هنا الطبيعة الأدبية للنص. والواقع أننا في لغتنا اليومية لا نتهم عالِم الأرصاد بالكذب أو الخطأ العلمي عندما يخبرنا عن وقت غروب الشمس. إذ أنه يستخدم مفردات اللغة اليومية الدارجة، ولكنه مع ذلك يظل صحيحًا تمامًا. وكذلك الكتاب المقدس.
لنكن حذرين. فمن ناحية، فإن أولئك الذين يرفضون عقيدة العصمة يجعلون الكتاب المقدس يقول أقل مما قصده الله من خلاله، مما يُقوِّض بعض أو العديد من تعاليمه. فيجب ألا نُسكِت فقرات معينة تتعارض مع أفكارنا المسبقة بإنكار كونها وحيًا إلهيًا. لكن من ناحية أخرى، لا ينبغي أن نجعل الكتاب المقدس يقول أكثر مما أراد الله أن ينقله عندما لا نفهم جيدًا ما يدعيّ حقًا قوله. إذا كنا غير مميزين لمقاصد المؤلف واستخدامه لأدوات اللغة، يمكن أن ينتهي بنا الحال لتبني استنتاجات غريبة جدًا، مثل الإصرار على كون حبة الخردل هي الأصغر أو أن الأرض تقع في مركز النظام الشمسيّ.
من الضروري أن نتحلى بالاتضاع والذي يدفعنا للمزيد من الاجتهاد
في كثير من الأحيان، لا نفهم الكتاب المقدس لأننا لا نقرأه جيدًا. يقول عالم اللاهوت كيڤين ڤانهوزر Kevin J. Vanhoozer أن “كلمة الله موثوقة تمامًا. لكن مفسريها البشريين، ليسوا كذلك في بعض الأحيان”. بدلاً من الشك في النص، يجب أن نشك في أنفسنا.
غالبًا ما ترجع “الأخطاء” التي نعتقد أننا نراها في الكتاب المقدس إلى محدوديتنا كقراء. يمكن أن ترتبط، كما رأينا، بنقص معرفتنا للطبيعة الأدبيّة للنص والتي تُمكننا من تفسير لغة الكتاب المقدس جيدًا. تشمل محدوديتنا أيضًا نقص المعرفة بالمحتوى والسياقات الكتابيّة.
لذلك، يجب أن نتعامل بتواضع مع الصعوبات التي نقابلها في النص ونحن نسعى جاهدين لقراءة أفضل.
عليك أن نقرأ بصبر وتأني
عندما نصادف نصوصًا كتابية تبدو متناقضة، فالاختيار السهل هو أن نقفز على النتائج بوجود “تناقض!” ونضع حَجَر فوق آخر لبناء صرح ضخم من الشكوك في صدق كلمة الله. لكن الإيمان بعقيدة العصمة يُعلّمنا أن نتحلى بالصبر. فبدلاً من الخروج بنتيجة مُتَسَرّعة، يجب علينا المثابرة والانخراط في دراسة أكثر تعمقًا تُمكّننا من فَهم النص بشكل أفضل.
مثال على ثمرة هذا الجهد هو الانسجام الذي يتضح بين تعليم بولس ويعقوب في رسالتي روميّة ويعقوب عن دور الإيمان والأعمال في التبرير (انظر رسالة رومية 3: 21-4: 8 ورسالة يعقوب 2: 14-26). إذا تحلينا بالصبر، فسنرى أن هناك تفسيرات جيّدة تحل معظم التناقضات الكتابيّة المزعومة.
من الضروري أن نقرأ متكلين على معونة الروح القدس
لنتذكر أن قراءة الكتاب المقدس تدريب روحي. في كثير من الأحيان يبدو معنى النص مشوهًا بسبب البشر الساقطين “ٱلَّذِينَ يَحْجِزُونَ ٱلْحَقَّ بِـٱلإِثْمِ.” (رومية 1 :18) لذا، نحن بحاجة إلى استنارة الروح القدس. نحن بحاجة إليه لتصحيح مفاهيمنا الخاطئة التي تعمي أذهاننا عن رؤية الحق، وتُمكّننا من مواجهة أفكارنا وسلوكياتنا في ضوء رسالة النص. بدون عمل الروح القدس، يصير من المستحيل قراءة الكتاب المقدس بشكلٍ صحيح (1 كورنثوس 2: 12-16).
من الضروري أن نقرأ بإيمان
أخيرًا، ماذا نفعل عندما لا نستطيع، بعد الصلاة والاجتهاد، الوصول لحل إشكالية كتابيّة بشكلٍ مُرضي؟
علينا أن نواجه الموقف بإيمانٍ لا يتجاهل الصعوبات ولا يُرضى بإجابات سهلة على أسئلةٍ صعبة. وذلك على أمل أن يتم حل الصعوبات عندما يتوفر لدينا المزيد من المعرفة تُمكّننا من قراءة النصوص عسرة الفهم أو التي تبدو ظاهريًا خاطئة بشكلٍ صحيح. على سبيل المثال، في العقود الأخيرة، تضاءلت التناقضات الواضحة بين السجل الكتابيّ والتاريخ خارج الكتاب المقدس نتيجة للاكتشافات الحديثة.
ومع ذلك، حتى لو لم نصل في حياتنا في هذا العالم إلى إجابةٍ واضحة لكل سؤال ونقض منطقيّ لكل الشكوك، لا ينبغي أن نتخلى عن ثقتنا في الكتاب المقدس. علينا أن نقرأ الكتاب المقدس بإيمان، بنفس الطريقة التي نعيش بها حياتنا المسيحية.
كان اختبار إبراهيم أن ينتظر سنوات عديدة من أجل ولادة إسحاق. لو كان قد حَكَم على صِدق الله بناءً على الأدلة التي كانت لديه في البداية، لوقع فريسة للشك (وفي الحقيقة، تعرض إبراهيم للشك في وقت ما!). ولكن الله تبرر في كلمته في النهاية عندما ولِدَ اسحَق. لذا، يجب أن يكون لدينا موقف مماثل تجاه الصعوبات الكتابيّة التي لا يزال يتعيّن حلها، واثقين من أن الله سوف يتمجّد في كلمته.
إلى أن يتحقق ذلك، علينا أن نثق في عصمة الكتاب المقدس وصدق كلمة الله: ونفسر محتواها وفقًا لما يُصرّح الله به عن نفسه عبر صفحاتها، وليس على أحكام البشر.
[1] والتفسير الحرفي للكتاب المقدس Literal Interpretation يُدرِك أهميّة تمييز القوالب الأدبيّة بتنويعاتها، بعكس الفكر الشائع، والذي يصف غالبًا المدارس التفسيرية المُبالغة في حَرفيتها والتي لا تراعي الأساليب الأدبيّة المختلفة أو السياقات Overly Literalistic Interpretations.