كلامنا النهاردة عن صلاة من أكتر صلوات المؤمنين المتألمين في تعبيرها عن الحزن وانقطاع الرجاء. صحيح مزامير كتير سجلت صلوات لداود النبي وغيره عبر فيها عن آلامه المختلفة، أشهرها مزمور 22 واللي افتتحه بالصرخة اللي رددها المسيح على خشبة الصليب: “إلهي، إلهي، لماذا ترَكتَني” (مزمور 22: 1)، إلا إن صلاة هيمان الأزراحي (أخبار الأيام الأول 6: 33، 37) ميزها غياب نبرة الحمد والتسبيح اللي بتختم صلوات المتألم في مزامير تانية كتيرة، ذي مزمور 73، ومزمور 102، وحتى مزمور 22 نفسه! واللي بيسود فيها نبرة الرجاء بعد ما المتألم يدخل مقادس الله ويشوف الأمور بعينيه. على النقيض، مزمور 88، بيختم كلماته في النص العبري بكلمة “الظلمة“!
السؤال المحوري اللي هنجتهد نجاوب عليه هو: “إيه الدور اللي بيلعبه المزمور ده، والسبب اللي من أجله تم تضمين الصلاة دي ضمن سفر المزامير؟” ومن خلال النقاط اللي جاية هنلخص تلات دروس أساسية بتبدأ بكلمة “الظُّلمَة“.
أولًا: الظلمة ممكن تمتد لفترة طويلة
حتى بالنسبة للمؤمنين الصارخين في النهار والليل (آية 1)! والكتاب المقدس واقعي لا يخدعنا ذي بعض الكليشيهات الدينية اللي بتركز على بركات حياة الإيمان والطاعة، بحجة تشجيع المؤمنين ورغبتهم في الإيجابية، وبتهمل حقيقة الألم… مش بس الآلام المحيطة بنا من الخارج، لإن الظلمة اللي بيحكي عنها المرنم مكانتش مجرد ظروف صعبة أحاطت بالمرنم من الخارج اللي كان شاعر إنه على وشك الموت (آية 10-12)، لكن في أعماقه كان مفتقد للتعزية الإلهية، للدرجة اللي فيها بيقول في آية 7: “علَيَّ استَقَرَّ غَضَبُكَ، وبكُلِّ تيّاراتِكَ ذَلَّلتَني،” وبيقول لله في آية 18 إنه الشخص اللي أبعد عنه المُحب والصاحب!
الدرس الأول هو التحذير من انعدام التوازن الكتابي في نطرتنا لحياة الإيمان، واللي بيحرمنا بركة الاستعداد الروحي النفسي في مواجهة الألم وبيعرضنا لخطر الصدمة؛ وده لأن التوقعات العظيمة بيكون وراها إحباطات عظيمة! المحبة الحقيقية هي إن الكتاب المقدس يعلمنا عن الألم ويجهزنا لمواجهته من غير إنكار أو تغييب!
ثانيًا: الظلمة فرصة للتعلم عن إله النعمة وحياة الإيمان
الألم في حد ذاته مش ضمان للتشكيل الروحي النفسي. لو تعاملنا مع الألم بشكل سلبي واستسلمنا للإحباط، أو لجأنا لطرق غير مقدسة للتخفيف عن شدته، أو للهروب المؤقت منه (ذي الإدمانات بأنواعها أو البحث عن اللذة الحسية بغض النظر عن مصدرها وصحتها)، هيكون نتايجه مدمرة. وهنضيف على مشكلة الألم المؤقتة خطية تجاه الله، وتشوهات روحية ومرارة الإحساس بالذنب! عشان كده ضروري جدًا نفهم الطريقة اللي بها كلمة الله بتعلمنا نتعامل بشكل إيجابي ونتعلم عن الله، ونتشكل في رحلتنا وسط الألم.
لكن لازال فيه سؤال محتاج إجابة: ليه من الأساس صلوات ذي كده تتسجل في الكتاب المقدس، صلوات مليانة بصرخات ألم، ويغيب عنها نبرة الرجاء؟! وهنا محتاجين نتكلم عن إله النعمة.
إله النعمة
الله لا يستحي إنه يُدعى إله المؤمنين المتألمين، حتى وهما في عمق الألم، وصلواتهم مليانة حيرة وصراخ، ويمكن ينقصها كتير من الرجاء. هو مش بس إله أبطال الإيمان اللي بنقرا عنهم في عبرانيين 11، لكن هو إله خلاصهم وهما لسه محبطين ويعوزهم الرجاء والثقة في الخروج من دوامة الإحباط. أول كلمات المزمور كانت مناداته لله باعتباره إله خلاصه في آية 1. صحيح إنه في باقي المزمور قال كلام صعب نتوقع إننا نسمعه في أي ترنيمة في كنايسنا النهاردة. كلام بيفكرنا بصلوات أيوب البار بدايةً من الأصحاح الثالث، اللي فيه لعن يوم ولادته وعبر عن شكواه وحيرته لله بشكل مكثف، وأطول بكتير من مزمور 88.
لكن المفاجأة هي تقرير الله عن أيوب بعد كل الصلوات دي لما قال لأصحاب أيوب: “أنَّكُمْ لَمْ تقولوا فيَّ الصَّوابَ كعَبدي أيّوبَ.” (أيوب 42: 7) صحيح كلمات الشكوى والأنين كانت مليانة مرارة وألم، لكن اللي مجد الله فيها إنها كانت صلوات! أيوه، صلوات وجهها أيوب لله بعد ما خسر كل حاجة تقريبًا في حياته، إلا التجاءه لله في وقت الألم وإيمانه إن الإجابة هتكون عند الله.
الرائع في صلوات أيوب مش قد إيه كانت منمقة وبتعكس إدراك مُحكم لحكمة الله، لأ! هو نفسه اعترف بعد كده بقصور فهمه، وقال: “ولكني قد نَطَقتُ بما لَمْ أفهَمْ. بعَجائبَ فوقي لَمْ أعرِفها… بسمعِ الأُذُنِ قد سمِعتُ عنكَ، والآنَ رأتكَ عَيني. لذلكَ أرفُضُ وأندَمُ في التُّرابِ والرَّمادِ.” (أيوب 42: 3-6)
الرائع فعلًا إن الصلوات دي كانت أكبر دليل إن نظرية إبليس كانت غلط لما ادعى إن أيوب كان بيعبد الله عشان البركة! أيوب فعلًا خسر كل شيء وفضل يكلم الله…حتى لو كلماته دي اعترف فيما بعد إنه قالها وهو لم يدرك عمق حكمة الله، فهي كانت صلاة لله؛ أيوه! شكواه وأسالته المتكررة كانت صلوات لله. تمام ذي اللي قالها هيمان الأزراحي:
لِمَاذَا يَا رَبُّ تَرْفُضُ نَفْسِي؟
لِمَاذَا تَحْجُبُ وَجْهَكَ عَنِّي؟ (مزمور 88: 14)
ملجأ أيوب وملجأ هيمان الإزراحي في مزمور 88، هو ملجأي، وملجأك وقت الألم والحيرة.
روعة الإيمان إنه بيتمسّك بالله وقت ما نكون مش فاهمين ويمكن حتى مش متعزيين. حتى لو في صراخنا وشكوانا مكانتش صلواتنا بتعكس فهم وإدراك كافي!
ثالثًا وأخيرًا: الظلمة لن تكون الكلمة الأخيرة
الظلمة اللي اجتازها هيمان الأزراحي وكلامه عن غضب الله اللي اجتازته نفسه كان نسبي جدًا…لكن بنتعلم من لاهوت الكتاب المقدس في المجمل إن المزامير اللي بتحكي عن البار المتألم بتشاور بشكل أعمق وأكبر عن البار المتألم بامتياز: ربنا يسوع المسيح، ورئيس كهنتنا الرحيم…هو وحده اللي اجتاز الألم ببر كامل لم يلوث كأي إنسان طبيعي.
هو وحده شرب كأس غضب الله بالكامل، وقال لبطرس: “ٱلْكَأْسُ ٱلَّتِي أَعْطَانِي ٱلْآبُ ألاَ أَشْرَبُهَا؟” (يوحنا 18: 11) الكأس تعبير مجازي عن تحمله لآلام الصليب النفسية وتحمله لعار وخزي الصليب…مكتوب عنه كشفيعنا ورئيس كهنتنا: “لأَنـَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّباً يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ ٱلْمُجَرَّبِينَ.” (عبرانيين 2: 18)
آلام ربنا يسوع المسيح مش مجرد آلام اجتازها كممثل لنا باعتباره قدوة ونائب عنا. لو قلنا كمثال إن لاعب الكرة الشهير “محمد صلاح” قدوة لكل رياضي مصري عربي، فده مش معناه إنه متحد بكل رياضي…هو مجرد قدوة.
لكن كاتب الرسالة للعبرانيين بيقول عن ربنا يسوع المسيح إنه وحّد نفسه بينا لما صار إنسان…اشترك في طبيعتنا البشرية: اللحم والدم (عبرانيين 2: 14) واتحاده بنا مكمل، وهنا ودلوقتي وللنهاية هو عن يمين عرش الله اجتاز السماوات يشفع فينا ونقدر بسببه نتقدم بثقة لعرش النعمة، ونجد نعمة وسند:
”فَإِذْ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ عَظِيمٌ قَدِ ٱجْتَازَ ٱلسَّمَاوَاتِ، يَسُوعُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، فَلْنَتَمَسَّكْ بِـٱلإِقْرَارِ. لأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْئٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ. فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ ٱلنِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْناً فِي حِينِهِ.” (عبرانيين 4: 14-16)
مش بس بيشفع فينا باعتباره رئيس كهنتنا، لكنه بروحه القدوس بيشفع بينا وبيعين ضعفنا في الصلاة: “وَكَذَلِكَ ٱلرُّوحُ أَيْضاً يُعِينُ ضَعَفَاتِنَا، لأَنـَّنَا لَسْنَا نَعْلَمُ مَا نـُصَلِّي لأَجْلِهِ كَمَا يَنْبَغِي. وَلَكِنَّ ٱلرُّوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ فِينَا بِأَنـَّاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا.” (رومية 8: 26)
الأنين ده لن يستمر للأبد، لأننا متوقعين اكتمال الفداء، فداء أجسادنا: “نَحْنُ أَنـْفُسُنَا أَيْضاً نَئِنُّ فِي أَنـْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ ٱلتَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا.” (رومية 8: 23) وقتها تنتهي الظلمة وينتهي الأنين للأبد!
ولحد الوقت ده، هو معنا. شفيعنا عن يمين الله الرب يسوع المسيح، وشفيعنا الروح القدس يسندنا في آلامنا ويشفع فينا بأنات لا ينطق بها.