“المسيح مات، المسيح قام، المسيح سيأتي ثانية!” هذا القرار الليتورجي البسيط يُذكِّرنا بالحق البالغ الأهميّة بأن الأمور الأخرويّة (الأخرويات) متأصّلة بعمق وعلى نحو غير قابل للانفصام في الإنجيل. فإن الفعلين “مات” و”قام” اللذين جاءا في صيغة الماضي هما الأساس الذي بناء عليه يثابر المؤمن في رجاء أن “المسيح سيأتي ثانية”. ونقول ببساطة إن ما قد أتمّه الله بالفعل في الماضي من خلال حياة، وموت، وقيامة ابنه هو الأساس لما يقول الكتاب المقدس إنه سيفعله في المستقبل، عند اكتمال كل شيء.
فإن الرجاء المسيحي ليس تشبثًا راجيًا بغد غير يقيني، بل هو انتظار واثق متأصل في حقيقة ما حدث منذ ألفي عام. فإن فاعليّة وغائيّة عمل المسيح الفدائي، إلى جانب قيامته وتمجيده رباً عن يمين الآب، هو ما يعلّل الانتظار الذي لدى جميع المؤمنين لمجيء المسيح ثانية، وللتتميم النهائي لقصد الله الأزلي في السماوات الجديدة والأرض الجديدة.
وقد تم إيجاز رجاء المؤمن الأخروي على نحو جيد في الفقرة الثالثة عشر والأخيرة من إقرار إيمان هيئة ائتلاف الإنجيل. فإن هذه الفقرة لا تتناول مختلف سيناريوهات الأيام الأخيرة الموجودة في العالم الإنجيلي، بل هي مُخصَّصة لتحديد تلك العناصر الرئيسيّة التي تشكّل رجاءنا الأخروي، والتي يقبلها جميع من يقبلون بسلطان النص الموحى به. ولذلك، تعد هذه الفقرة تصريحًا إنجيليًا شاملاً وعامًا يتجنّب الاختلافات المذهبيّة والطائفيّة التي شوّهت في كثير من الأحيان النقاش حول مقاصد الله بشأن الأيام الأخيرة. وهذه الفقرة تقول الآتي:
نؤمن بالمجيء الثاني الشخصي، والمجيد، لربنا يسوع المسيح بالجسد مع ملائكته القديسين، حين يُمارس دوره كالديّان الأخير، وحين يكتمل ملكوته. ونؤمن بقيامة كل من الأبرار والأشرار بالجسد — الأشرار إلى الدينونة، وإلى العقوبة الأبديّة بوعي في الجحيم، كما علّمنا ربنا نفسه، والأبرار إلى النعيم الأبدي في محضر ذاك الجالس على العرش والحمل، في السماء الجديدة والأرض الجديدة، مسكن البر. وفي ذلك اليوم، ستمثُل الكنيسة بلا عيب أمام الله بسبب طاعة المسيح، وآلامه، وغلبته، وستطهَّر من جميع خطاياها، وتزول عنها جميع تأثيراتها الرديئة إلى الأبد. وسيصير الله الكل في الكل، وسيُسبىَ شعبه بآنية قداسته الفائقة الوصف، ويصير كل شيء لمدح مجد نعمته.
المجيء التأسيسي والاكتمال التام لملكوت الله:
إن “الرجاء المبارك” للمؤمن، وبالتالي الفكرة المسيطرة على علم الأخرويات الكتابي، هو “ظُهُورَ مَجْدِ اللهِ الْعَظِيمِ وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ” (تيطس ٢: ١٣)، ليُتمّم ملكوت الله. ولكي نفهم ما يستلزمه هذا الإتمام، لابد أن نستكشف أولاً معًا عملية تأسيس حكم الله السيادي في المجيء الأول للمسيح. وكما ذكرنا فيما سبق، نحن نرى هنا مرة أخرى أن مفتاح المستقبل يكمن في الماضي.
فلابد أن يُنظَر إلى مناداة المسيح بملكوت الله في القرن الأول من حيث علاقتها، بل من حيث مقابلتها مع، تطلّعات الشعب اليهودي في زمنه. فإن الاتجاه والرجاء التوقّعي لإسرائيلي القرن الأول كان يدور حول السيادة في الأرض التي وعد بها الله إبراهيم ونسله، بالإضافة إلى عرش أبدي، وهيمنة عالميّة، وفوق الكل حضور الملك نفسه في قوة ومجد ليحكم شعب الله. فإن الأسئلة التي كان صداها يتردّد في قلب الشعب اليهودي في زمن يسوع كانت: “متى سيرسل يهوه المسيّا ليخلّصنا من مُضطهدينا، ويُتمّم مواعيد العهد المُعطاة لآبائنا؟ أين تتميم الملكوت الذي وعد به الله؟”
لا أحد يختلف بشأن حقيقة أن بؤرة تركيز خدمة المسيح كانت هي إعلان حلول ملكوت الله: “قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ” (مرقس ١: ١٥؛ انظر أيضًا متى ٣: ٢؛ ٤: ١٧، ٢٣؛ ١٠: ٧؛ لوقا ٤: ٤٣؛ ١٠: ٩). وقد كان مفهوم الملكوت الغالب على ذهن يهودي العهد القديم يختص بنصرة الله المنظورة على أعدائه، ومساندة شعبه إسرائيل وردهم ليتسلطوا على الأرض، بالإضافة إلى تتميم الوعود المختصّة بعرش داودي، وحكم أرضي في قوة ومجد.
يقول إن. تي. رايت: “إن ملكوت الله، بالنسبة لليهودي البسيط في النصف الأول من القرن الأول، كان يعني النصرة العتيدة لشعب إسرائيل، والانتصار على الوثنيين، وهبة السلام، والعدل، والرخاء التامة. وليس من المثير للدهشة على الإطلاق أنه حين ظهر نبي يعلن أن فجر هذا الملكوت كان عتيدًا أن يبزغ، وأن إله إسرائيل كان أخيرًا سيصبح ملكًا، وجد آذانًا صاغية”.[1] فإن القضية المحوريّة كانت: متى سيعود يهوه إلى صهيون ليسكن مع شعبه، وليصفح عنهم، ويردّهم؟ فإن الرجاء اليهودي، كما يُبدي رايت ملاحظته:
كان رجاءً صلبًا، ومحددًا، ومتمحورًا حول الشعب ككل. فلو ظل بيلاطس يحكم اليهوديّة، فإن الملكوت إذن لم يأت بعد. ولو لم يُبن الهيكل ثانية، فإن الملكوت لم يأت بعد. ولم لم يكن المسيّا قد جاء بعد، فإن الملكوت لم يأت بعد. ولو لم يحفظ شعب إسرائيل التوراة على نحو سليم (بغض النظر عن كيفيّة تعريفنا لهذا)، فإن الملكوت لم يأت بعد. ولو لم يُهزَم الوثنيون، ويتدفقون أفواجًا إلى صهيون ليتعلّموا الشريعة، فإن الملكوت لم يأت بعد. فإن هذه البنود والعلامات الملموسة والماديّة جميعها شديدة الأهمية.[2]
فبالنسبة للقادة الدينيّين في زمن يسوع وأيضًا بالنسبة للرجل العادي، كان ملكوت الله العتيد أن يأتي يتعلّق بمسألة تحرير قومي، وهزيمة حربيّة للمُضّطهِدِين الوثنيّين. هذا الفكر ربما ساهم في حيرة وارتباك يوحنا المعمدان بشأن يسوع:
أَمَّا يُوحَنَّا فَلَمَّا سَمِعَ فِي السِّجْنِ بِأَعْمَالِ الْمَسِيحِ، أَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَقَالَ لَهُ: «أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمَا: «اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ». (متى ١١: ٢-٦)
وفي رد يسوع على تلاميذ يوحنا، كان يدَّعي أن تتميم رجاء العهد القديم مع بركاته المصاحبة له كان في حقيقة الأمر حاضرًا في شخصه وفي خدمته. إلا أن التتميم لم يكن يحدث بحسب الطرق والوسائل المتوقّعة، ومن هنا جاءت حيرة يوحنا.
فإن العنصر غير المُتوقّع هو أن التتميم كان يتحقّق بالفعل في يسوع، لكن دون الاكتمال الأخروي. فإن الرجاء النبوي للعهد القديم بشأن ملكوت الله المسياني الآتي كما وُعد به شعب إسرائيل كان يتحقّق بالفعل في شخص يسوع وفي خدمته، لكن لم يكن هذا هو الاكتمال بعد. فإن اليهود الذين عاشوا في زمن الرب، وتماشيًا مع ما كانوا يقرأونه في كتاباتهم المُوحى بها، كانوا يتوقّعون اكتمال الملكوت، والإطاحة التامة والنهائيّة بأعداء إسرائيل السياسيّين، وبداية عصر من السلام المبارَك، والرخاء في الأرض.
إلا أن الرب قد جاء برسالة تفيد بأنه قبل أن يأتي الملكوت في اكتماله الأخروي، جاء في شخصه وعمله بالروح والقوة. ولذلك، فإن الملكوت يعد هو ملك الله الروحي الحالي، وأيضًا العالم المستقبلي الذي سيملك عليه في قوة ومجد. وهكذا، يستنتج جورج لاد استنتاجًا سليمًا ويقول:
قبل الظهور الأخروي لملكوت الله في نهاية الزمان، صار ملكوت الله فعّالاً ديناميكيًا بين البشر في شخص يسوع ورسالته. فإن الملكوت في هذا العصر لم يكن هو المفهوم المُجرَّد عن حكم الله الكوني الذي لابد أن يخضع له البشر فحسب، بل هو بالأحرى قوة ديناميكيّة عاملة بين البشر… وقبل مجيء ملكوت الله الأخروي والاستعلان الأخير لحكمه لبدء عصر جديد، أظهر الله حكمه، وملكوته، لكي يجلب للبشر قبل العصر الأخروي بركات ملكه الفدائي.[3]
وفي رد يسوع على سؤال يوحنا، أشار إلى ربط إبليس كمثال على ظهور حكمه الملكي. “إن دلالة العلاقة بين إخراج يسوع للشياطين وملكوت الله هي هكذا بالتحديد: قبل الغلبة الأخرويّة لملكوت الله على الشر، وقبل إبادة إبليس، اجتاح ملكوت الله عالم إبليس ليوجه له هزيمة مبدئيّة لكنها حاسمة”.[4] وهكذا أيضًا، جسّدت كلمات يسوع نفسها مجيء الملكوت وعبّرت عنه: “فإن الكلمة نفسها التي نادى بها يسوع حقّقت ما نادت به: أي إطلاق الأسرى، وشفاء العمي، وتحرير للمضطهدين… فإن الرسالة قد أتت بالعصر الجديد… وأتاحت وجود علامات التتميم المسياني. فإن الكلمة تجلب ملكوت الله. والإنجيل في حد ذاتهِ هو أعظم العلامات المسيانيّة”.[5]
وهكذا فإن ملكوت الله هو مُلك الله الفدائي، أو ربوبيته السياديّة، العاملة ديناميكيًا لتثبيت وترسيخ حكمه بين البشر. وهناك لحظتان حاسمتان ودراميتان في استعلان وظهور هذا الملكوت: أولاً، لحظة تحقّقه في التاريخ في المجيء الأول للابن، حيث هُزم إبليس، واختبر الرجال والنساء بركات ملك الله؛ وثانيًا، لحظة وصوله إلى ذروة اكتماله في نهاية الزمن في المجيء الثاني للابن، حين يبيد أعداءه نهائيًا وإلى الأبد، ويخلّص شعبه وكل الخليقة من الشر، ويؤسّس حكمه الأبدي في السماوات الجديدة والأرض الجديدة.
هذا التعبير غير المتوقّع عن الملكوت في صورته الحالية باعتباره ملك الله الفدائي هو بالتحديد الصورة السريّة للملكوت كما تم تصويرها في أمثال متى ١٣. فإن عرض الله بأن يأتي بملكوته، هو بالطبع ليس سرًا أو لغزًا. كما لم يكن سرًا أيضًا أن الملكوت كان عتيدًا أن يأتي في قوة ومجد. إلا أن اللغز والسر يكمنان في إعلان جديد يخص قصد الله من تأسيس ذلك الملكوت، وكي نكون أكثر تحديدًا ودقة، أن الملكوت الذي كان عتيدًا أن يأتي في المستقبل في قوة ومجد هو في حقيقة الأمر قد دخل بالفعل إلى العالم مقدمًا، في صورة خفيّة، كي يعمل سرًا في البشر وبينهم (انظر مرقس ٤: ٢٦-٣٢). ومرة أخرى، إلينا تفسير لاد لهذا:
ربما نستنتج أن “سر الملكوت” هو مفتاح فهم العنصر الفريد الموجود في تعليم يسوع عن الملكوت. فقد أعلن يسوع أن ملكوت الله قد اقترب، بل وأكد أنه كان قد أقبل حقًا على البشر (متى ١٢: ٢٨). فقد كان هذا الملكوت موجودًا في كلمته وفي أعماله المسيانيّة. كان موجودًا في شخصه، باعتباره الخلاص المسياني. وقد شكّل هذا الملكوت تتميمًا لتوقّع وانتظار العهد القديم. ومع ذلك فإن مجيئه وحلوله لم يكن غنيًا عن حاجته للتفسير والشرح، ولم يكن واضحًا من ذاته. فقد كان هناك شيء ما بشأنه لم يكن من الممكن فهمه سوى بالإعلان. وهذا كان يعني أنه في حين أن وجود الملكوت كان تتميمًا لتوقّع العهد القديم، لكنّه كان تتميمًا بمفردات ونواحي تختلف عمّا يمكننا توقّعه من الأنبياء. فقبل نهاية الزمان ومجيء الملكوت في قوة مجيدة، كان قصد الله أن تدخل قوى ذلك الملكوت الأخروي إلى التاريخ البشري لهزيمة مملكة إبليس، ولتفعيل وتشغيل القوة الديناميكيّة لملك الله الفدائي بين البشر. هذا الظهور الجديد لملكوت الله كان يتم على صعيد التاريخ البشري وكان متمحورًا حول إنسان واحد — يسوع المسيح.[6]
وبهذا، يوجد ظهور ثنائي لملكوت الله يتعلّق نوعيًا بمجيئي المسيح نفسه. فهو قد ظهر أولاً في خفاء واتّضاع، كي يتألم ويموت لأجل تبرئة عدل الله وبره ولأجل خلاص شعبه (رومية ٣: ٢٣-٢٦). وبهذا، كما يقول بولس، إن الله “أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ، وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ابْنِ مَحَبَّتِهِ، الَّذِي لَنَا فِيهِ الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا” (كولوسي ١: ١٣-١٤). ولكنّه سيظهر ثانية في قوة منظورة ومجد ليخلّص الأرض من لعنة الخطيّة، ويمجّد شعبه، ويؤسّس حكمه السيادي إلى الأبد في العظمة المُكتملة للسماوات الجديدة والأرض الجديدة.
وهكذا، لابد أن نفكر في الملكوت بمفردات كل من “عالم البر أو الخلاص الحالي حيث يقبل البشر الملكوت أو يرفضونه، وأيضًا بمفردات العالم المستقبلي حين تستعلن قوى الملكوت في مجد منظور. فإن العالم الأول قد بدأ في بدايات غير ملحوظة دون استعلان خارجي، ومن يقبلونه لابد أن يعيشوا في اختلاط مع من يرفضونه حتى اكتمال كل شيء. حينئذ سيظهر الملكوت في استعلان قوي من القوة والمجد. فإن ملكوت الله سيأتي، والحالة الأخيرة ستشهد التحقيق التام والكامل لمشيئة الله في كل مكان وإلى الأبد”.[7]
القيامة:
إن العنصر الذي كثيرًا ما يتم تجاهله من جهة الرجاء الأخروي للمؤمن هو قيامة الجسد. فإن الصورة الشائعة لمؤمن دون ملامح أو شكل، يطفو في ضباب روحي غير مادي، ويتحرك من سحابة إلى أخرى في السماء، ترجع بشكل أكبر إلى الفلسفة اليونانيّة الثنائيّة أكثر من كونها ترجع إلى النص الكتابي. فإن شعب الله سيمضي الأبديّة في جسد، الذي مع كونه جسدًا مقامًا وممجدًا، لكنه ليس لذلك أقل ماديّة في طبيعته. وقد أكّد بولس على حقيقة هذه القيامة بوضوح وبشكل صريح في 1 كورنثوس 15: 50-57. حيث كتب:
فَأَقُولُ هذَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ: إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لاَ يَقْدِرَانِ أَنْ يَرِثَا مَلَكُوتَ اللهِ، وَلاَ يَرِثُ الْفَسَادُ عَدَمَ الْفَسَادِ. هُوَذَا سِرٌّ أَقُولُهُ لَكُمْ: لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ الْبُوقِ الأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ الأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ. لأَنَّ هذَا الْفَاسِدَ لاَبُدَّ أَنْ يَلْبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ، وَهذَا الْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ. وَمَتَى لَبِسَ هذَا الْفَاسِدُ عَدَمَ فَسَادٍ، وَلَبِسَ هذَا الْمَائِتُ عَدَمَ مَوْتٍ، فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ: «ابْتُلِعَ الْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ». «أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟» أَمَّا شَوْكَةُ الْمَوْتِ فَهِيَ الْخَطِيَّةُ، وَقُوَّةُ الْخَطِيَّةِ هِيَ النَّامُوسُ. وَلكِنْ شُكْرًا للهِ الَّذِي يُعْطِينَا الْغَلَبَةَ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ.
وتعد العبارة المفتاحيّة هنا هي تصريح بولس بأن “لَحْمًا وَدَمًا لاَ يَقْدِرَانِ أَنْ يَرِثَا مَلَكُوتَ اللهِ” (عدد ٥٠). وببساطة، لا يمكن للطبيعة الفاسدة والزائلة أن ترث ملكوتًا لا يفسد ولا يفنى أو تشترك فيه. كما لا يمكن أيضًا للأحياء (“اللحم والدم”) أو الأموات (“الفاسد”) أن يرثوا الملكوت في وضعهم الحالي.
فإن بولس، إذن، يصر ليس على ضرورة التجديد بل على ضرورة القيامة، أي التمجيد الأخير للمؤمن، الذي سيحدث عند المجيء الثاني للمسيح (قارن ١ تسالونيكي ٤: ١٣-١٨). وباختصار، من تغيّروا تمامًا جسدًا وروحًا بتلك القيامة/التمجيد الذي سيحدث عند عودة المسيح هم وحدهم من سيرثون ملكوت الله.
ويعد نص ٢ كورنثوس ٥: ١-٥ نصًا محوريًا في هذا الشأن. ففيه يشبّه بولس الموت الجسدي، أي تحلّل الجسد، بنقض خيمة. لكن الموت لابد ألا يؤدي إلى اليأس، لأننا “لَنَا فِي السَّمَاوَاتِ بِنَاءٌ مِنَ اللهِ، بَيْتٌ غَيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، أَبَدِيٌّ” (عدد ١). ومن بين مختلف التفسيرات، يعد أفضل خيار هو أن نرى هذا إشارة إلى الجسد الممجّد والمُقام، أي ذلك الجسد الأخير والنهائي الذي سنحيا فيه إلى الأبد.[8]
أما الاعتراض الرئيسي على هذا الرأي فهو استخدام بولس لزمن المضارع، “لَنَا … بِنَاءٌ مِنَ اللهِ” (وليس “سيصير لنا“). وهذا يبدو أنه يوحي بأن المؤمن سينال، بعد الموت مباشرة، جسده الممجّد. لكن هذا بدوره يتعارض مع ١ كورنثوس ١٥: ٢٢-٢٨، ٥١-٥٦؛ و١ تسالونيكي ٤-٥، وربما ١ يوحنا ٣: ١-٣، تلك النصوص التي تشير جميعها إلى أن التمجيد يحدث عند المجيء الثاني للمسيح.
علاوة على ذلك، نجد مرارًا وتكرارًا ذكر الكتاب المقدس لحقيقة مستقبليّة، أو ملكيّة يقينيّة ومؤكّدة ومضمونة للغاية من وجهة نظر الكاتب، حتى أنه يتم الحديث عنها في زمن المضارع، وكأنها لنا بالفعل اختباريًا. وهكذا، فإن زمن المضارع الذي استخدمه بولس “لنا” على الأرجح يشير إلى حقيقة وواقع الامتلاك كما إلى دوام هذا الامتلاك، لكن ليس إلى آنية الامتلاك. هذه هي لغة الرجاء.
وقد تجادل البعض في أن بولس ربما يستخدم زمن المضارع لأن القديسين في السماء لا يشعرون ولا يعون الفترة الواقعة ما بين الموت الجسدي والقيامة الأخيرة، وهكذا فإن نوال جسد القيامة يبدو وكأنه يتبع الموت مباشرة. لكن يقف ضد هذا التعليمَ الواضح للكتاب المقدس بأن من ماتوا يختبرون عن وعي الحالة الوسطيّة (انظر ٢ كورنثوس ٥: ٦-٨؛ فيلبي ١: ٢١-٢٤؛ رؤيا ٦: ٩-١١). فإن كان المؤمن الميت قد “انطلق” ليكون “مع المسيح” (فيلبي ١: ٢٣)، وهو بهذا سيكون “مع” المسيح حين يأتي ثانية (١ تسالونيكي ٤: ١٧)، فقد يبدو إذن أن نوعًا ما من الوجود الواعي يسود في الفترة ما بين موت الشخص والقيامة العامة، ولهذا نشير إلى هذا الوقت باعتباره الحالة الوسطيّة.
وعلى الرغم من أن بولس يبدو وكأنه يتصوّر إمكانيّة (احتماليّة؟) موته الجسدي، لكنّه مع ذلك كان لديه رجاء في أنه سيظل على قيد الحياة حتى يأتي المسيح ثانية. ولهذا كتب:
فَإِنَّنَا فِي هذِهِ [الخيمة] أَيْضًا نَئِنُّ مُشْتَاقِينَ إِلَى أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا مَسْكَنَنَا الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ. وَإِنْ كُنَّا لاَبِسِينَ لاَ نُوجَدُ عُرَاةً. فَإِنَّنَا نَحْنُ الَّذِينَ فِي الْخَيْمَةِ نَئِنُّ مُثْقَلِينَ، إِذْ لَسْنَا نُرِيدُ أَنْ نَخْلَعَهَا بَلْ أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا، لِكَيْ يُبْتَلَعَ الْمَائِتُ مِنَ الْحَيَاةِ. وَلكِنَّ الَّذِي صَنَعَنَا لِهذَا عَيْنِهِ هُوَ اللهُ، الَّذِي أَعْطَانَا أَيْضًا عَرْبُونَ الرُّوحِ. (٢ كورنثوس ٥: ٢-٥).
يتحدّث بولس هنا عن رغبته في أن يظل على قيد الحياة حتى يأتي المسيح ثانية، إذ حينئذ لن يكون مضطرًا إلى أن يموت بالجسد ويختبر انفصال الجسد عن الروح، وهي حالة يشير إليها بكلمة “عراة” (عدد ٣)، أو بكلمة “نخلع” (عدد ٤). بل كل ما كان يفضّله، لأسباب مفهومة، هو أن ينضم مباشرة إلى الرب في جسده المقام والممجّد.
في ٢ كورنثوس ٥: ٢، هذا العدد الذي تكرر مرة أخرى وبتوسع إلى حد ما في عدد ٤، يمزج بولس بين صورته البلاغيّة عن اللبس أو الارتداء وبين صورة البناء. لكن الأمر كان يتجاوز مجرد ارتداء ثوب ما، بل هو ارتداء ثوب فوق آخر. فإن الجسد السماوي، الذي يشبه ثوبًا خارجيًا أو معطفًا، يتم ارتداؤه ولبسه فوق الجسد الأرضي الذي يكسو الرسول في الوقت الحالي. وبهذا فإن الجسد الممجّد السماوي لا يغطي الجسد الأرضي فحسب، بل أيضًا يبتلعه ويغيّره (انظر فيلبي ٣: ٢٠-٢١؛ ١ كورنثوس ١٥: ٥٣).
فإن ظل بولس (أو نحن) على قيد الحياة حتى مجيء المسيح ثانية، فهو سيُوجد من قبل الرب لابسًا جسدًا (الجسد الأرضي الحاضر)، وليس في حالة غير ماديّة. فأن توجد دون جسد هو أن توجد “عاريًا” (٢ كورنثوس ٥: ٣). ومن الواضح أن بولس كان يتخيّل هنا حالة غير جسديّة توجد في الفترة ما بين الموت الجسدي والقيامة العامة (قارن كلمة “نخلع” في عدد ٤).
لكن ما هي الضمانات التي لنا من الله بأنه حقًا سيهبنا جسدًا ممجّدًا وأبديًا غير قابل بعد للتدهور والمرض الذي نختبره الآن؟ الإجابة البسيطة هي: الروح القدس! فإن تصريح بولس في ٢ كورنثوس ٥: ٥ يذكّرنا “بأن ’عربون الروح‘ ليس مجرد وديعة راكدة، بل هو العمل النشط والمفعم بالحيويّة للروح القدس بداخل المؤمن، مانحًا إيّاه الضمان بأن جوهر القوة ذاته الذي أحدث قيامة المسيح يسوع من الأموات موجود وعامل فيه أيضًا، كي يعد جسده المائت لإتمام الفداء بتمجيد جسده”.[9]
إذن، ليس الموت بالنسبة للمؤمن شيئًا ينبغي أن يخشاه. فإننا نعلم أنه مهما كان المرض أو الوهن الذي يعترينا الآن، ومهما كانت درجة الألم والمشقّة التي لابد وأن نواجهها، فإن لنا وعد من الروح بمسكن ممجّد، مشابه للمسيح، متغير، وأبدي تمامًا، وعد بجسدٍ لن يُوجد به مرض، أو ألم، أو حرمان، أو فساد. وربما يكون أفضل سيناريو لهذا كما يقول بولس هو أن نظل أحياء حين يأتي المسيح ثانية. وبهذا، ينتقل المؤمن في الحال من “مسكنه” (أي جسدنا المادي الحالي) إلى ذلك “الثوب” الممجّد (الذي هو جسدنا المقام والذي سيظل هكذا إلى الأبد). فإن بولس يفضل ألا “يخلع”، بل أن يلبس مسكن الأبديّة فوق مسكن الزمن بحيث يفتدي الأول الأخير ويغيّره.
وكان الرسول حريصًا أيضًا على الربط بين قيامة المؤمنين وتمجيدهم الأخير وبين إبطال ونقض اللعنة الواقعة على الخليقة الطبيعية:
فَإِنِّي أَحْسِبُ أَنَّ آلاَمَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِالْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا. لأَنَّ انْتِظَارَ الْخَلِيقَةِ يَتَوَقَّعُ اسْتِعْلاَنَ أَبْنَاءِ اللهِ. إِذْ أُخْضِعَتِ الْخَلِيقَةُ لِلْبُطْلِ لَيْسَ طَوْعًا، بَلْ مِنْ أَجْلِ الَّذِي أَخْضَعَهَا عَلَى الرَّجَاءِ. لأَنَّ الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضًا سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ. فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعًا إِلَى الآنَ. وَلَيْسَ هكَذَا فَقَطْ، بَلْ نَحْنُ الَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ الرُّوحِ، نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ التَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا. (رومية ٨: ١٨-٢٣)
وبهذا فإن عتق الخليقة الطبيعيّة أو فداءها مرتبط ارتباطًا وثيقًا بعتق أولاد الله وفدائهم. فحين يُستعلن أبناء الله (رومية ٨: ١٩)، ستختبر الخليقة نفسها فداءها. ولهذا يتم تشخيص الخليقة وكأنها تنتظر و”تتوقّع اسْتِعْلاَنَ أَبْنَاءِ اللهِ”.
فإن الخليقة تتوقّع وتتنظر بتلهف وقلق مجيء المسيح ثانية وتمجيدنا، إذ حينها هي أيضًا ستُعتق من “عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ” إلى “حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ” عينها (عدد ٢١). فإن الخليقة تتوقع استعلان أبناء الله (عدد ١٩) إذ إلى تلك الحرية ذاتها ستعتق الخليقة أيضًا (عدد ٢١). بكلمات أخرى، إن الخليقة وأبناء الله متشابكان تشابكًا وثيقًا في كل من الأنين والألم الحالي وأيضًا في المجد المستقبلي. وكما كان هناك تضامن وتكافل في السقوط، هكذا أيضًا في الاسترداد.
فإن الفداء الذي سنختبره عند مجيء المسيح ثانية يمثل الإبادة التامة والقاطعة لكل خطية، ولكل أثر للفساد في الروح وفي الجسد الذي كان لنا حتى تلك اللحظة. فإن بولس كان يقصد أن الخليقة الطبيعيّة تتوقّع ذلك اليوم لأنها فيه ستكون بالمثل مفتداة ومعتقة تمامًا. فإن كانت الخليقة سيعوزها على نحو ما العتق التام من فسادها الحالي، فإن ملء وكمال فدائنا حينئذ سيعتل على نحو جاد.
ونظرًا لأن العالم الطبيعي سيدخل إلى “حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ”، فإن أي خلل قد يختبره لابد أن يظهر في حالة المؤمنين أيضًا. إلى الدرجة التي بها إن لم يُفتدى النظام المخلوق تمامًا وبالكامل، فإننا لا نُفتدى بالكامل وتمامًا. وهكذا، فإن فداء الخليقة ومجدها موازٍ ومتزامن مع فدائنا ومجدنا.
الدينونة:
تم التأكيد على يقين الدينونة الأخيرة من قبل الرسول في ٢ كورنثوس ٥. فإن بولس يصر على أننا “نَحْتَرِصُ أَيْضًا مُسْتَوْطِنِينَ كُنَّا أَوْ مُتَغَرِّبِينَ أَنْ نَكُونَ مَرْضِيِّينَ عِنْدَهُ. لأَنَّهُ لاَبُدَّ أَنَّنَا جَمِيعًا نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِالْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْرًا كَانَ أَمْ شَرًّا” (٢ كورنثوس ٥: ٩-١٠).
ويفترض السياق الأكبر للإصحاحين الرابع والخامس من الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس أن المؤمنين فقط هم موضوع هذا النص. وقد أشار موري هاريس إلى أنه أينما يتحدث بولس عن المجازاة، بحسب الأعمال، لكل الجنس البشري (كما في رومية ٢: ٦)، “نجد وصفًا لفئتين متنافيتين من البشر (رومية ٢: ٧-١٠)، وليس إشارة إلى نوعين من الأعمال [مثل “خَيْرًا كَانَ أَمْ شَرًّا” في ٢ كورنثوس ٥: ١٠]، يمكن أن ينسبا إلى جميع البشر”.[10]
فإن المصير الأبدي لم يكن هو صلب موضوع هذه الدينونة، بل المكافأة الأبدية (يوحنا ٣: ١٨؛ ٥: ٢٤؛ رومية ٥: ٨-٩؛ ٨: ١؛ ١ تسالونيكي ١: ١٠). ليست هذه الدينونة معيَّنة لتقرير الدخول إلى ملكوت الله، بل لتقرير البركة، والمكانة، والسلطان داخل هذا الملكوت. لم يكن بولس واضحًا بشأن زمن وقوع هذه الدينونة. أهي في لحظة الموت الجسدي، أم ربما في أثناء الحالة الوسطيّة، أو ربما لن تحدث إلا عند المجيء الثاني للمسيح؟ لكن كل ما يمكننا أن نتيقّن بشأنه هو أنها ستحدث بعد الموت (انظر عبرانيين ٩: ٢٧).
وبعد أن ذكرنا هذا، نقول إن البراهين تفترض أن هذه الدينونة ستتم عند المجيء الثاني للمسيح (انظر متى ١٦: ٢٧؛ رؤيا ٢٢: ١٢)، في ختام التاريخ البشري، وعلى الأرجح بالتزامن مع تلك المحاكمة الأوسع والأشمل التي ستتضمن جميع غير المؤمنين، والتي يطلق عليها دارسو الكتاب المقدس اسم دينونة العرش الأبيض العظيم (انظر رؤيا ٢٠: ١١ وما يليه).
ويسلّط بولس الضوء بوضوح على فرديّة (“كل واحد”) الدينونة الأخيرة. وبقدر أهمية التركيز على الطبيعة الجماعيّة والتكافليّة لحياتنا كجسد المسيح، إلا أن كل فرد سيُدان وحده، بلا شك، وعلى الأقل جزئيًا، فيما يخص إلى أي حد كان أمينًا تجاه مسئولياته الجماعيّة: “فَإِذًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا سَيُعْطِي عَنْ نَفْسِهِ حِسَابًا للهِ” (رومية ١٤: ١٢).
أما بالنسبة لشكل ووسيلة هذه الدينونة، فإننا لن “نظهر” فحسب لكننا سنتعرّى وننكشف أمامه. كما قال بولس في ١ كورنثوس ٤: ٥، إن الرب “سَيُنِيرُ خَفَايَا الظَّلاَمِ وَيُظْهِرُ آرَاءَ الْقُلُوبِ”. وقد أصاب موري هاريس في قوله إنها “ليست مجرد ظهور وفحص ذاتي، بل الأهم من هذا أن الفحص والكشف الإلهي هما التمهيد اللازم لنوال المجازاة الملائمة”.[11]
ألا نستفيق حين نفكر في أن كل فكرة عشوائيّة، وكل شرارة من البر، وكل صلاة سريّة، وكل عمل خفي، وكل خطية صارت منسية منذ مدة طويلة، وكل عمل رأفة، سينكشف ويظهر في العراء كي نعترف به وكي يديننا الرب بمقتضاه؟ ولكن يتم تذكيرنا أن كل هذا دون أي شيء من “الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ” (رومية ٨: ١).
غالبية المؤمنين اليوم قد صاروا على دراية بالمصطلح المستخدم في ٢ كورنثوس ٥: ١٠ والذي يترجم “كرسي” الدينونة (البيما). فإن استخدام هذه الكلمة “كان مثيرًا بصورة خاصة لذكريات بولس وأهل كورنثوس، بما أن بولس قد وقف أمام كرسي ولاية غاليون في مدينة كورنثوس قبل أربعة سنوات من كتابته لهذا الكلام (في عام ٥٢ م)، حين أسقط الوالي التهمة التي اتهم بها بولس بانتهاك القانون الروماني (أعمال الرسل ١٨: ١٢-١٧). وقد تعرّف علماء الآثار على هذا البيما الكورنثوسي الذي يقع في الجانب الجنوبي من الأغورا (السوق) [المترجم: مكان تجمع للمحاكمات والقضاء والمناقشات الفلسفيّة]”[12]
إن المسيح هو نفسه الديّان، وهذا يتوافق مع ما نقرأه في يوحنا ٥: ٢٢ حيث مكتوب أن “الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَدًا، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلابْنِ”. أما معيار الدينونة فهو “مَا كَانَ بِالْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْرًا كَانَ أَمْ شَرًّا”. والإشارة إلى “الجسد” تشير إلى أن الدينونة تختص بما نصنعه في هذه الحياة، وليس بما يمكن أن يُصنَع أو لا أثناء فترة الحالة الوسطيّة. فإننا سننال من الرب “ما نستحقه”.
بكلمات أخرى، وإلى حد ما بشكل حرفي، إننا سندان “بحسب” أو ربما “بما يتناسب مع” الأعمال التي صُنعت. هذه الأعمال تتميّز إما بأنها “خير” (أي التي “ترضي” المسيح، كما جاء في ٢ كورنثوس ٥: ٩) أو “شر” (أي التي لا ترضيه).
وأخيرًا، لم تُذكَر نتيجة هذه الدينونة بوضوح لكننا نجدها بكل تأكيد ضمنيًا. فإن الجميع “سينالون” كل ما تستحقّه أعمالهم. إذ توجد مكافأة أو مجازاة. وقد كان بولس أكثر تحديدًا إلى حد ما في ١ كورنثوس ٣: ١٤-١٥، الذي كتب فيه: “إِنْ بَقِيَ عَمَلُ أَحَدٍ قَدْ بَنَاهُ عَلَيْهِ فَسَيَأْخُذُ أُجْرَةً. إِنِ احْتَرَقَ عَمَلُ أَحَدٍ فَسَيَخْسَرُ، وَأَمَّا هُوَ فَسَيَخْلُصُ، وَلكِنْ كَمَا بِنَارٍ”. إن المكافأة أو الأجرة ليست معروفة، والأرجح هو أن الخسارة التي يتم خسارتها كانت هي المكافأة التي من المفترض أن تؤخَذ عن الطاعة.
ويذكر يسوع أجرًا عظيمًا في السماء لكنه لا يقدّم عنه تفاصيل دقيقة (متى ٥: ١٢). وفي مثل الوزنات (متى ٢٥؛ قارن لوقا ١٩: ١٢-٢٧)، يشير إلى سلطان أو سيادة من نوع ما، لكن على من أو على ماذا؟ يقول بولس إن “مَهْمَا عَمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَيْرِ فَذلِكَ يَنَالُهُ مِنَ الرَّبِّ” (أفسس ٦: ٨). ووفقًا لما جاء في ١ كورنثوس ٤: ٥، أن بعد الدينونة “حِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَدْحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ اللهِ”. ويشير كل من رومية ٨: ١٧-١٨ و٢ كورنثوس ٤: ١٧ إلى مجد محفوظ للقديسين في السماء.
وبالطبع لابد أن نضع في اعتبارنا الوعود الكثيرة الموجودة في الرسائل السبعة للكنائس في رؤيا ٢-٣، على الرغم من صعوبة معرفتنا إن كانت هذه الوعود ستُعطى الآن، أم في أثناء الحالة الوسطيّة، أم فقط فيما بعد المجيء الثاني، أو إن كانت تعطى بدرجات مختلفة بحسب الخدمة والطاعة أم يتم توزيعها بالتساوي بين أبناء الله (انظر رؤيا ٢: ٧، ١٠، ١٧، ٢٣؛ ٣: ٥، ١٢، ٢١؛ قارن أيضًا متى ١٨: ٤؛ ١٩: ٢٩؛ لوقا ١٤: ١١؛ يعقوب ١: ١٢).
ومن المناسب الآن أن نذكر تعليقين ختاميين: أولاً، إن أعمالنا لا تقرّر خلاصنا بل تبرهن عليه وتبيّنه. فهي ليست جذور أو أساس موقفنا مع الله، بل ثمره، ذلك الموقف الذي قد تم بلوغه بالفعل بالإيمان فقط بالمسيح وحده. وتعد الأعمال الصالحة هي البرهان المنظور لإيمان غير منظور، وهذه الأعمال ستنكشف وتُعلَن أمام كرسي دينونة المسيح.
ثانيًا، لابد ألا نخشى من أنه، عند كشف أعمالنا وتقييمها، قد يفسد الندم وتأنيب الضمير نعيم السماء. فإن ذُرفت دموع حزن وأسف لأجل فرص ضائعة، أو دموع خزي لأجل خطايا قد اقترفت، فإن الرب سيمسحها (رؤيا ٢٠: ٤أ). فإن الفرح الفائق الوصف بنعمة الغفران سيبتلع أي حزن أو أسف، وجمال المسيح سيعمينا عن أي شيء آخر سوى عظمة شخصه وعظمة ما قد أتّمه بالنعمة عنّا.
الجحيم والعقوبة الأبديّة:
ربما يكون الوصف الأكثر وضوحًا للجحيم وللعقوبة الأبديّة موجود في رؤيا ١٤، الذي فيه نقرأ:
ثُمَّ تَبِعَهُمَا مَلاَكٌ ثَالِثٌ قَائِلاً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَسْجُدُ لِلْوَحْشِ وَلِصُورَتِهِ، وَيَقْبَلُ سِمَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ أَوْ عَلَى يَدِهِ، فَهُوَ أَيْضًا سَيَشْرَبُ مِنْ خَمْرِ غَضَبِ اللهِ، الْمَصْبُوبِ صِرْفًا فِي كَأْسِ غَضَبِهِ، وَيُعَذَّبُ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ أَمَامَ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ وَأَمَامَ الْخَرُوفِ. وَيَصْعَدُ دُخَانُ عَذَابِهِمْ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. وَلاَ تَكُونُ رَاحَةٌ نَهَارًا وَلَيْلاً لِلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِلْوَحْشِ وَلِصُورَتِهِ وَلِكُلِّ مَنْ يَقْبَلُ سِمَةَ اسْمِهِ». (عدد ٩-١١)
لقد صارت هذه القضية ساحة معركة إنجيليّة. هل عذاب الخطاة هو اختبار واعٍ لا ينتهي قط؟ أم العقوبة هي نوع من التلاشي، حيث بعد فترة من الألم الذي ستقاسيه النفس بما يتناسب تمامًا مع الخطايا التي اقترفتها، سينتهي وجودها؟ هل يشير دخان عذابهم الصاعد إلى اختبار واعٍ لا نهاية له من الألم الذي سيقاسونه؟ أم يدل على تأثير دائم لا رجعة فيه من العقوبة الواقعة عليهم، التي فيها سيتلاشون؟ أولئك الذين يتجادلون لصالح الرأي الأخير يؤكّدون على أنه لا تكون راحة نهارًا وليلاً من العذاب في أثناء استمراره أو بقدر دوامه. لكن دوام هذا إلى الأبد أم لا، فهذا لابد من تحديده بناء على أسس أخرى.[13]
حيث أن المساحة لا تسمح لنا بالتفاعل مع الحجج من كلا الجانبين بشأن هذا الجدل، يكفي أن نقول إنه توجد براهين كتابيّة كثيرة جديرة بالاعتبار تدعم ما يؤكّده إقرار الإيمان عن وجود عقوبة أبديّة واعية. على سبيل المثال، لابد أن نضع في اعتبارنا أن مجموعة الكلمات التي تتعلق بكلمة “يبيد” ومفرداتها مستخدمة بمختلف الطرق، وبعض هذه الاستخدامات لا تستلزم أو حتى تلّمح إلى توقف الوجود. فإن الاستخدام يشير إلى أن الإبادة يمكن أن تحدث دون فناء الوجود. وقبل أن نستنتج أن “نار” الجحيم تأكل بل و”تبيد” تمامًا من يتعرّض لها، غير تاركة شيئًا، لابد أن نقر أن هذه تعد صورة بلاغيّة، وهكذا لابد ألا نجبر الكلمات أن تبرهن على شيء ما عن مدة دوام الجحيم، لم تقصد الكلمات قط أن تنقله.
فإن الجحيم في العهد الجديد يُوصف بأنه ظلام دامس وبحيرة نار. وكيف يمكن لهذين الوصفين التواجد معًا في آن واحد إن كانا حرفيين بكل معنى الكلمة؟ وهكذا، لابد أن نحترس من استخلاصنا لاستنتاجات عقائديّة صلبة حول “الدور” الذي من المفترض أن تؤديه النار في الجحيم. ولكن، لا يسعنا سوى أن نتساءل بشأن متى ١٨: ٨، الذي يتحدّث عن أولئك الذين يُطرَحون إلى النار الأبديّة. كما يقول دي. أ. كارسون: “يحق لنا بالتأكيد أن نسأل لماذا تشتعل النار إلى الأبد، ولماذا لا يموت الدود [قارن مرقس ٩: ٤٧-٤٨]، إن كانت هناك نهاية للغرض منهما”.[14]
علينا أن نلاحظ أيضًا أن النصوص التي نجد فيها أن كلمة aión، والتي تترجم عادة “عصر” (age)، تعني “أبدي”، مساوية أيضًا للنصوص التي فيها تشير الكلمة إلى فترة محدودة من الزمن. هذه الحجة غير حاسمة من جانبي الجدل على حد سواء. أيضًا علينا أن نحترس من صنع أحكام عاطفية بشأن ما نعتبره نحن، البشر المحدودون، جزاءً عادلاً عن ضخامة خطايانا. وقد أصاب كارسون حين سأل إن كان عِظم خطايانا يتحدّد من خلال حالنا نحن أم “من خلال درجة الإساءة التي لحقت بالله المتسيّد والمتسامي”.[15] لكن الشيء الأساسي، كما يقول جون بايبر، هو أن “درجات استحقاق تلقّي اللوم لا تنتج عن طول مدة إساءتك لصاحب الجلالة، بل عن مقدار سمو الجلالة التي تسيء إليها”.[16] فخطايانا تستحق عقوبة غير محدودة بسبب المجد غير المحدود لذاك الذي تم اقتراف الإثم في حقه.
لكن أن نفترض، كما يفعل البعض، أن العذاب الأبدي يعني أن الله لا يحقّق النصرة التامة والنهائيّة على الخطية وعلى الشر، فهذا بمثابة إخفاق في إدراك أن الخطية التي تمر دون عقاب هي وحدها التي تشير إلى خلل في العدل وإلى إحباط لقصد الله. فإن الوجود الدائم للجحيم ولقاطنيه سيعكس بشكل أكبر مجد قداسة الله ومعارضته البارة والعادلة للشر، بدلاً من أن يعكس أيّة ثنائيّة كونيّة مفترضة.
ربما تكون فكرة عقوبة لا نهائية أقل إزعاجًا إذا وضعنا فكرة ارتكاب الخطية دون توقف في الاعتبار. فإن لم يتوقّف من هم في الجحيم قط عن ارتكابهم للخطيّة، فلمَ ينبغي أن يتوقّف عذابهم على الإطلاق؟[17] فإن البعض يتجادلون في أن البشر يسدّدون ثمن خطاياهم بالكامل في الجحيم، ثم يتوقّفون عن ارتكاب الخطية في مرحلة ما، فلمَ في تلك الحالة لا يمكن أن يُؤتى بهم إلى السماء (وبهذا يحوّلون الجحيم إلى مطهر)؟ ولكن إن لم يتم تسديد ثمن خطاياهم بالكامل في الجحيم، فعلى أي أساس تسمح لهم العدالة بأن يتلاشوا؟
وأخيرًا، لابد لنا أن نفسّر نصي متى ٢٥: ٤٦، ورؤيا ٢٠: ١٠-١٥. فبغض النظر عمّا يمكن أن نعتقده بشأن هويّة الوحش والنبي الكذاب، إلا أنه لا يوجد إنجيلي واحد ينكر كون إبليس كائنًا يفكر بل ويختبر عواطف وأحاسيس. وهكذا فإن أمامنا هنا “شخص” واحد على الأقل يقاسي بصورة واضحة عذابًا أبديًا واعيًا. “ربما لا نشعر بالقدر نفسه من التعاطف تجاهه كما نشعر تجاه البشر، وربما نصر بابتهاج على أنه أكثر شرًا من أي إنسان، ولكن على الرغم من ذلك، سيكون من الصعب أن نرى أن الحجج المستخدمة ضد فكرة العذاب الأبدي الواعي للبشر الخطاة تكون أقل إقناعاً إن كانت تتعلّق بالشيطان”.[18]
السماء على الأرض:
إن الرجاء الأخروي للمؤمن هو رجاء أرضي لا محالة في طبيعته. فإن هدف الله النهائي من فداء شعبه لطالما شمل رد الخليقة الطبيعيّة إلى وضعها الأول. وكما ذكرنا فيما سبق، فإن “ملكوت الله” يشير في الأساس إلى ملك أو حكم الله لشعبه. وهكذا فإن إيماننا بهذا الملكوت ونوالنا وقبولنا إيّاه، يعني خضوعنا تحت نير سيادة الله. على الصعيد الآخر، إن حكم الله يظهر ويتحقّق في عالم زمني أرضي خاص. ولذلك، لا يمكننا أن نتحدث حديثًا مفهومًا عن ملكوت الله بمعزل عن وعد الأرض الذي أُعطي أولاً للآباء.[19]
البعض يصرّون على كون هذه الأرض رمزيّة، أي نوعًا نبويًا من البركات السماويّة أو الروحيّة التي إمّا يجري تحقيقها الآن من خلال الكنيسة أو أنها ستتحقّق في الدهر الآتي. وهكذا، لم تكن كنعان الأرضيّة مصممة قط كي تُمتلك حرفيًا كميراث أبدي، بل كانت نموذجًا لبركة مستقبليّة، وسماويّة، وروحيّة في طبيعتها.
لكن كما يذكّرنا لاد على نحو يفيدنا كثيرًا: “إن فكرة الفداء الكتابيّة دائمًا ما تشمل الأرض”.[20] يتصوّر الكثير من الإنجيليّين أن تحقّق البعد الأرضي لوعد ملكوت الله سيكون في فترة تتألّف من ألف سنة، تلي المجيء الثاني للمسيح، وتسبق بداية الحالة الأبديّة (رؤيا ٢٠: ١-١٠)، وأن هذا العصر الألفي سيكون هو الزمان والمكان (على الأقل في البداية) الذي فيه ستتحقّق وعود العهد القديم بحكم الله الأرضي لشعبه. وهكذا، على هذا النحو أيضًا، سيُمكن لملكوت المسيح أن يُستعلَن في الزمن، كشهادة على نصرته التامة على قوات الخطية والظلمة.
ويؤمن آخرون بأن الوعد النبوي للعهد القديم بحكم الله لشعبه في الأرض سيتحقّق في الأرض الجديدة، التي ستبدأ الحالة الأبديّة. ووفقًا لهذا الرأي، سيتحقّق وعد العهد القديم من خلال حكم مسياني بين شعب الله في الأرض حرفيًا. لكنه سيتحقّق ليس على الأرض الحاليّة، التي لم تُفدى وتُعتَق، بل على الأرض الجديدة الموصوفة في رؤيا ٢١-٢٢.
ويعد النص الرئيسي المتعلّق بالسماوات الجديدة والأرض الجديدة في العهد القديم هو نص إشعياء ٦٥: ١٧-٢٥ (انظر أيضًا ٦٦: ٢٢). ومن الجدير بالذكر أن هذا النص يفرض مشكلة أمام جميع الآراء الأخرويّة، سواء كانت قبل ألفيّة، أو بعد ألفيّة، أو لا ألفيّة. فإن الصعوبة التي نواجهها موجودة في العددين ٢٠ و٢٣. نقرأ فيهما أنه في هذه السماوات الجديدة والأرض الجديدة “لاَ يَكُونُ بَعْدُ هُنَاكَ طِفْلُ أَيَّامٍ، وَلاَ شَيْخٌ لَمْ يُكْمِلْ أَيَّامَهُ. لأَنَّ الصَّبِيَّ يَمُوتُ ابْنَ مِئَةِ سَنَةٍ، وَالْخَاطِئُ يُلْعَنُ ابْنَ مِئَةِ سَنَةٍ” (عدد ٢٠). كما يبدو أن العدد 23 يفترض أن البشر خلال ذلك الوقت سيلدون أطفالاً. فإن كان إشعياء يصف أمورًا تتم في الحالة الأبديّة، وإن بدت إشارته إلى السماوات الجديدة والأرض الجديدة أنها تشير إلى أن الحال سيكون هكذا، فإن جميع المؤمنين، وليس أولئك المنتمين إلى منظور أخروي معين، لابد أن يقدموا تفسيرًا لاختبار شعب الله غير المكتمل بعد.
قد نجد مساعدة في تناول هذه المشكلة من خلال الحديث عن وسيلة محتملة لتفسير الأدب النبوي:
تتضح النبوة على نحو خاص وفقًا للفهم المحدود للشخص الذي أُعطيت له. وهذا يعني أن لغة النبوة مشروطة ومحدّدة بالوضع التاريخي والثقافي الذي فيه وجد النبي والشعب أنفسهم… [وهكذا] فإن الملكوت المستقبلي كان يُنظَر له على أنه امتداد وتمجيد للحكم الثيؤقراطي، الذي يتمثّل بأوضح صورة في فترتي حكم داود وسليمان. ووفقًا لهذا، فإن أفق المستقبل يتم تصويره بمفردات الماضي المثالي، أي بمفردات مألوفة ومرضيّة لمن عاصروا النبي. هذه الظاهرة لُقّبت باسم “الأخرويات المُلخَّصة” (recapitulation eschatology)، أي أن المستقبل يتم تصويره على أنه تلخيص أو تكرار لمجد المملكة الماضي”.[21]
ما يقصده جارلينجتون هنا هو أن كتبة العهد القديم ربما، في بعض الأحيان، كانوا يتحدّثون عن المستقبل بمفردات، وصور، ومفاهيم مُقترَضة ومُستعارة من العالم الاجتماعي والثقافي الذي كانوا هم والمعاصرون لهم على دراية جيدة به. وبما أن النبي لم يكن بإمكانه استيعاب كيفيّة تحقّق كلماته في زمن بعيد، وفي عالم جديد تمامًا يتغير بمجيء المسيح، فإنه كان يكسو مقاصد الله الأخرويّة، بما في ذلك مجد السماء الجديدة والأرض الجديدة، بمعتقدات مستلميها الأصليين، ومخاوفهم، وآمالهم. وهكذا، فحين يتحدّث الأنبياء عن المستقبل، فهم ربما كانوا يختارون استخدام ألفاظ ومصطلحات وحقائق موجودة في خبرتهم الماضية والحالية، كالأرض، والناموس، ومدينة أورشليم، والهيكل، ونظام تقديم الذبائح، والكهنوت.[22]
ينبغي أن نذكر أيضًا أن تحقّق تلك النبوات، التي تظهر بمفردات تلك الحقائق المُعاصرة التي كان المستمعون الأصليون مُلمّين بها، كان في الأغلب يفوق تلك الحقائق أو يسمو فوقها بكثير. ففي الأغلب يوجد عنصر التصعيد أو التفاقم في تتميم أي وعد معين.
وهكذا، فإن إحدى الوسائل التي كان يمكن للكاتب الأصلي لهذه النبوة أن ينقل بها المجد المستقبلي الحقيقي للسماء الجديدة والأرض الجديدة لأناس كانوا محدودين بالضرورة بتدرج الإعلان حتى تلك المرحلة من الزمان هي من خلال تصويره في ألفاظ مُفرطة أو مُبالغ فيها لحاضر مثالي.[23] ويمكننا أن نتخيّل الانطباع الذي كان لدى المستمعين الأصليين الذين كتب لهم إشعياء عن عصر فيه يعتبر الإنسان الذي يموت عن عمر يناهز المائة عام طفلاً، وفي عصر يصبح فيه وجع الولادة المألوف جيدًا دربًا من دروب الماضي.
ويتوسّع العهد الجديد كثيرًا في حديثه عن موضوع السماوات الجديدة والأرض الجديدة باعتباره محور موضوع رد الله لكل شيء. وهذا يمكننا أن نراه بأوضح صورة في عبرانيين ١١، ثم في رؤيا ٢١-٢٢. في النص الأول، نقرأ أن إبراهيم حين بلغ أخيرًا أرض الموعد، فقط تغرّب هناك، كغريب ونزيل، “كَأَنَّهَا غَرِيبَةٌ” (عبرانيين ١١: ٩، ١٣). وإن أثير هذا السؤال: كيف يمكن أن نقول إنه حصل على هذه الأرض ميراثًا في حين لم يكن له الحق في امتلاكها؟ يسرع النص في الإجابة على هذا ويقول: “لأَنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُ الْمَدِينَةَ الَّتِي لَهَا الأَسَاسَاتُ، الَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا اللهُ” (عدد ١٠).
تلك هي المدينة التي أعدّها الله لهم (عبرانيين ١١: ١٦)، والتي ورد ذكرها ثانية في عبرانيين ١٢: ٢٢ باعتبارها “مَدِينَةِ اللهِ الْحَيِّ، أُورُشَلِيمَ السَّمَاوِيَّةِ”. ثم نقرأ ثانية في عبرانيين ١٣: ١٤ أن “لَيْسَ لَنَا هُنَا [أي على هذه الأرض] مَدِينَةٌ بَاقِيَةٌ، لكِنَّنَا نَطْلُبُ الْعَتِيدَةَ”. وهذا يشير بالطبع إلى أورشليم السماويّة المذكورة في عبرانيين ١٢: ٢٢، أي المدينة التي لها الأساسات (عبرانيين ١١: ١٠).
وتوجد صلة هنا بين هذا وبين رؤيا ٢١، حيث نقرأ أن يوحنا رأى “الْمَدِينَةَ الْعَظِيمَةَ أُورُشَلِيمَ الْمُقَدَّسَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ” (عدد ٩-١١). والسبب إذن في أن إبراهيم كان غريبًا ونزيلاً في كنعان هو أنه رأى تلك الأرض الماديّة رمزًا للأرض/الوطن السماوي والحقيقي. فقد كان تركيز وعد العهد القديم بالأرض هو، بالتأكيد، على الأرض، لكنها الأرض السماويّة (أو “الوطن”، عبرانيين ١١: ١٦)، أي الأرض الجديدة بسمتها الرئيسيّة، أورشليم الجديدة.
وهكذا، فقد توقّع إبراهيم، الذي كان الوعد بأرض كنعان له في الأساس، تتميم هذا الوعد تتميمًا نهائيًا وأبديًا في أورشليم السماويّة. فإن إبراهيم كان وارثًا، ليس لكنعان فحسب، بل للعالم (رومية ٤: ١٣). بل ووفقًا لعبرانيين ١١: ٩-١٠، كان إبراهيم ينتظر البركة الدائمة والكاملة في المدينة السماويّة مما مكّنه من الخضوع بصبر للعقبات والإحباطات التي واجهته في أثناء سياحته وتغرّبه في كنعان.
وقد تأكّد هذا مرة أخرى في عبرانيين ١١: ١٣-١٦. فإن الآباء أنفسهم “أَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ غُرَبَاءُ وَنُزَلاَءُ عَلَى الأَرْضِ” (عدد ١٣)، فقد مات هؤلاء وهم لم ينالوا المواعيد، بل فقط نظروها من بعيد. فإن رجاءهم التام لم يكن متمركزًا حول أي ميراث على هذه الأرض، بل كما يبيّن عدد ١٦، حول “وَطَن أَفْضَلَ، أَيْ سَمَاوِيّ”.
وتنكشف الحياة الممجدة في السماوات الجديدة والأرض الجديدة في صورة أكثر حيويّة في رؤيا ٢١-٢٢. لكن المساحة هنا لا تسمح سوى فقط بإيجاز بسيط لأمجاد مصيرنا الأبدي في محضر الله.
وتعد العلاقة بين هذه الأرض الحالية والأرض الجديدة علاقة استمراريّة وعدم استمراريّة على حد سواء، كالعلاقة بين أجسادنا الحالية القابلة للفساد، وأجسادنا المستقبليّة، الغير قابلة للفساد، والممجَّدة. فإننا سنكون في السماء الأشخاص ذاتهم الذين نحن عليهم الآن، ولكننا سنتغير. إلا أن السماء والأرض العتيدتين يُقال عنهما أيضًا كلمة “جديدة” (kainos)، وهي كلمة تشير عادة إلى جدّة أو تجديد من حيث النوع والخصائص، وليس من حيث الزمن.
ومن عناصر عدم الاستمراريّة هو غياب البحر في الخليقة الجديدة، والذي كان يُعتبر عادة رمزًا للشر، والفوضى والتشويش، وللقوات المضادة للملكوت التي لابد أن يُصارع معها يهوه (انظر أيوب ٢٦: ٧-١٣؛ إشعياء ١٧: ١٢، ١٣؛ ٢٧: ١؛ ٥١: ٩-١٠؛ ٥٧: ٢٠؛ إرميا ٤٦: ٧-١٢؛ رؤيا ١٧: ٨؛ ٢١: ١). وكما أبدى لاد ملاحظته، أنه في العصور القديمة كان البحر “يمثل عالم الظلمة، ويمثل شيئًا غامضًا، وغادرًا” (قارن مزمور ١٠٧: ٢٥-٢٨؛ حزقيال ٢٨: ٨؛ دانيال ٧: ٣).[24] هذه كانت الطريقة التي استخدمها يوحنا ليقول بها إن كل هذا الشر، والفساد، وعدم الإيمان، والظلمة ستتبدّد في الخليقة الجديدة.
إن ملء حضور الله وسط شعبه يتطلّب بالضرورة تبديد وزوال أي صورة وكل صور الألم المتعلّقة بالخليقة العتيقة. فإن نتائج الخطية الرديئة ستمضي إلى الأبد (رؤيا ٢١: ٣-٤). وستمضي الدموع التي تسبّب فيها الحزن والألم والإخفاق الأدبي (تتميمًا لإشعياء ٢٥: ٨). كما سيمضي الموت، لأن مصدره، أي الخطية، سيبيد. وسيمضي النوح، والبكاء، والألم. فإن جميع هذه الاختبارات مرتبطة “بالأمور الأولى” التي الآن قد “مضت”.
ويُقال إن أورشليم الجديدة سيكون لها “مَجْدُ اللهِ” (رؤيا ٢١: ١١). وفي حين كان الهيكل المادي في العهد القديم هو موضع سكنى مجد الله واستعلانه، لكن في الخليقة الجديدة سيستقر حضور الله في شعبه ومعهم. ويشير غياب “الليل” (رؤيا ٢١: ٢٥ب) إلى الدخول دون عائق إلى محضر الله البرّاق، بالإضافة إلى غياب أي ظلمة قد تعتم وتشوّش على بريق العظمة الإلهيّة. بل وكما تشير رؤيا ٢٢: ٥، إن غياب الظلمة يرجع إلى الضياء المستمر التي يوفّره الله نفسه.
في رؤيا ٢٢: ١، نجد أولى الأمثلة المتعدّدة التي فيها يربط يوحنا بين نهاية الزمان وبدايته. ففي اكتمال كل شيء نجد بعض الملامح التي كانت تميّز بدء الزمان. ليس الأمر وكأن النهاية هي نقيض البدء، “بل يُنظَر إلى ظروف البداية على أنها تنبؤيّة عن طبيعة قصد الله في التاريخ. ولكن، من جميع النواحي، تفوق الأمور الأخيرة الأمور الأولى بمقدار ساحق، كما نرى في هذه الفقرة”.[25] فإن كان تكوين ٣ يروي قصة فقدان فردوس، فإن رؤيا ٢٢ يروي قصة استرداد فردوس. فإن السماء (على الأرض) ليست سوى النهاية المجيدة لقصد الله الأول لجنة عدن.
وماذا سنفعل في السماء؟ سنخدم الله (رؤيا ٢٢: ٣). وسنرى الله (عدد ٤أ؛ انظر خروج ٣٣: ٢٠؛ متى ٥: ٨؛ يوحنا ١٧: ٢٤؛ ١ تيموثاوس ٦: ١٦؛ ١ يوحنا ٣: ١-٣). وسنتمتع بأعماق الحميميّة معه والقرب الوثيق منه (رؤيا ٢٢: ٤ب). وسنعاين جمال وجاذبيّة حضوره (عدد ٥أ؛ قارن سفر العدد ٦: ٢٤-٢٦). وسنملك إلى أبد الآبدين (رؤيا ٢٢: ٥ب).
ختام:
إن ما اعتاد المسيحيون أن يشيروا إليه بأنه “السماء” هو، كما رأينا، الحياة إلى الأبد في محضر الله على الأرض الجديدة. وهناك، كما يبيّن إقرار الإيمان، “سيكون الله الكل في الكل، وسيُسبى شعبه بآنية قداسته الفائقة الوصف، وسيصير كل شيء لمدح مجد نعمته”. ولا يمكننا أن نقوم بما هو أفضل من أن نختم حديثنا بكلمات جوناثان إدواردز:
إن كان من الممكن أن نتعلّم أي شيء من الكتاب المقدس عن حالة السماء، فهو أن ما سيختبره القدّيسون هناك من محبة وفرح هو شيء عظيم وشديد بما يفوق الوصف، يبهر القلب بأعتى المشاعر وأكثرها حيويّة، كما أن له حلاوة ولذّة لا يمكن التعبير عنها، تؤثّر فيهم، وتنعشهم، وتمتّعهم، جاعلة إيّاهم كشعلة من النار. وإن لم نعتبر هذه المحبة وهذا الفرح مشاعر، فإن كلمة “مشاعر” إذن تصير بلا استخدام أو نفع في اللغة. أيمكن أن يقول أحدهم إن القدّيسين في السماء، إذ ينظرون وجه أبيهم، ومجد فاديهم، وإذ يتأمّلون في أعماله العجيبة، وبالأخص في بذله لحياته لأجلهم، لا يتأثّرون عاطفيًا، ولا تتحرك قلوبهم، بكل ما ينظرونه أو يتأملون فيه؟”[26]
[1] N. T. Wright, Jesus and the Victory of God (Minneapolis: Fortress Press, 1996), 204.
[2] Ibid., 223.
[3] George Eldon Ladd, The Presence of the Future (Grand rapids, MI: Eerdmans, 1974), 139.
[4] Ibid., 151.
[5] Ibid., 165.
[6] Ibid., 227–29.
[7] George Eldon Ladd, Crucial Questions about the Kingdom of God (Grand rapids, MI: Eerdmans, 1952), 131–32.
[8] يوجد سببان لهذا. أولاً، “البناء” أو “البيت” في عدد 1ب يوجد في علاقة توازي مع “البيت” المذكور في عدد 1أ. وبما أن الأول يشير إلى جسدنا الترابي غير المُمجّد فيبدو من المعقول أن نستنتج أن الأخير يشير إلى جسدنا السماوي المُمجّد. ثانيًا، يعد الوصف الموجود في عدد 1ب (“غير مصنوع بيد”، “أبدي”، و”في السماء”) ملائمًا بشكل أكبر للجسد المُمجَّد (انظر بالأخص 1 كورنثوس 15: 35-49). فإن قصد بولس إذن هو أن جسدنا السماوي غير قابل للموت، وغير معرض للتحلل أو الفساد أو الفناء.
[9] Philip Edgcumbe Hughes, Paul’s Second Epistle to the Corinthians (Grand rapids, MI: Eerdmans, 1973), 174.
[10] Murray Harris, The Second Epistle to the Corinthians (Grand Rapids, MI: Eerdmans, 2005), 406.
[11] Ibid., 405.
[12] Ibid., 406.
[13] يتم تناول هذه القضية بشكل مختصر ولكن مفيد للغاية في الكتاب التالي:
- A. Carson, The Gagging of God (Grand Rapids, MI: Zondervan, 1996), 515–36.
[14] Ibid., 525.
[15] Ibid., 534.
[16] John Piper, Let the Nations Be Glad! The Supremacy of God in Missions, 2nd ed., rev. and exp. (Grand Rapids, MI: Baker Academic, 2003), 122.
[17] انظر نص رؤيا 22: 10-11. ويعلق دي. أ. كارسون على هذا النص الأخير قائلاً: “إن كان الأتقياء ومن يفعلون الصواب يستمرون في تقواهم وفعلهم للصواب، انتظارًا لأن يحيوا ويمارسوا القداسة الكاملة والبر الكامل في الأبديّة، ألا ينبغي علينا نحن أيضًا أن نستنتج استمرار الأشرار في شرهم انتظارًا لأن يحيوا الشر ويمارسوه في كل الأبدية؟” (Gagging of God, 533).
[18] Ibid., 527.
[19] انظر الوعد كما قُطع لإبراهيم (تكوين 12: 1-3؛ 13: 14-17؛ 15: 7؛ 17: 8)، ثم لإسحاق بدوره (تكوين 26: 1-5)، ويعقوب (تكوين 28: 13-14؛ 35: 12)، وموسى (خروج 6: 4، 8؛ 13: 5-11؛ 32: 13: 33: 1؛ عدد 10: 29؛ قارن عدد 11: 12؛ 14: 23؛ 32: 11؛ تثنية 12: 8-11).
[20] Ladd, The Presence of the Future, 59.
وفي هذا الشأن انظر بالأخص متى 5: 5 ورؤيا 5: 10.
[21] Donald Garlington, “Reigning with Christ: Revelation 20: 1-6 and the Question of the Millennium”, in Reformation and Revival Journal, vol. 6, no. 2 (1997).
[22] هذا رأي كريستوفر رايت في مقالته،
“A Christian Approach to Old Testament Prophecy Concerning Israel”, in Jerusalem Past and Present in the Purposes of God, ed. P. W. L. Walker (Cambridge: Cambridge University Press, 1992).
[23] يذكرنا جي. ك. بيل بالآتي: “إن تدرّج الإعلان يكشف معاني أوسع وأكبر لنصوص كتابيّة سابقة، كما يفسّر كتبة الكتاب المقدس اللاحقون الكتابات القانونيّة الأولى بطرق توسع من معاني نصوص سابقة. هذه التفسيرات اللاحقة قد تصيغ معاني ربما لم يكن الكتبة الأوائل على وعي بها، لكنها لا تنافي قصدهم الأساسي الأول بل ربما “تضيف” عليه. هذا يعني أن المعاني الأولى والأصلية لديها محتوى “عميق” على الأرجح لم يكن الكتبة الأصليون على دراية تامة (كما الله) بالمدى الكامل له. وفي هذا الشأن، كان التتميم عادة ما “يجسّد” النبوة بتفاصيل حتى النبي نفسه ربما لم يكن مدركًا لها”.
The Temple and the Church’s Mission: A Biblical Theology of the Dwelling Place of God (Downers Grove, IL: InterVarsity, 2004), 381.
[24] George Eldon Ladd, A Commentary on the Revelation of John (Grand rapids, MI: Eerdmans, 1972), 276.
[25] G. R. Beasley-Murray, The Book of Revelation (Greenwood, SC: Attic Press, 1974), 330.
[26] Jonathan Edwards, Religious Affections, The Works of Jonathan Edwards, ed. John E. Smith (New Haven, CT: Yale University Press, 1969), 2: 114.